من صفحة: 267
إلى صفحة: 272
النص الكامل للبحث: PDF icon 180420-232137.pdf
البحث:

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

       الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق محمد وآله الطاهرين، وبعد

فالعربية زاخرة بالاساليب والفنون البلاغية، التي تثري النص، وتشظي الدلالة، والطباق أحد هذه  الفنون، ومن هنا ارتأينا ان ندرس هذا الفن في كتاب (الصحيفة السجادية) للإمام زين العابدين عليه السلام ، لنتبين كيفية توظيف هذا الفن، وأثره في الدلالة، وقد قسم البحث على فقرات عدة؛ بدأناها ببيان معنى الطباق، ومن ثم دراسة تحليلية لنماذج تطبيقية من أقوال الإمام عليه السلام ، تلاها ملاحظ احصائية حول الطباق في الصحيفة، وختمنا ذلك بخلاصة ثم اهم نتائج البحث.

وبعد، فلم يدّع باحث قبلا لبحثه الكمال، وما كان لنا ان ندعيه لبحثنا هذا، ومن الله التوفيق

 

الطباق

الطباق احد فنون علم البديع، وهو "علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة". ([1])

والبديع على قسمين: بديع يحسن به الكلام من جهة المعنى، فهو معنوي، وبديع يحسن به الكلام من جهة اللفظ فهو لفظي. والى البديع المعنوي يرجع الطباق([2]).

وقد ورد في العين ان الطباق لغة من قولهم "طابقت بين الشيئين : جمعتهما على حذو واحد، وألزقتهما"([3])، اي ان الطباق له دلالة الموافقة بين الشيئين. اما اصطلاحا فهو على العكس من ذلك، "الجمع بين لفظين متضادين (متقابلين) في الكلام"([4]). كالبياض والسواد، والعلم والجهل، والحق والباطل، الخ. ورأى البعض ان الطباق له دلالة المشقة، بدلالة قوله تعالى "لتركبن طبقا عن طبق"([5]) اي مشقة بعد مشقة، ولما كان الجمع بين الضدين شاقا سمي الكلام الذي يجمع بين الضدين وطباقا([6]).

وللطباق أسماء أخرى عدة منها: المطابقة، والتطبييق، والتضاد([7])

والطباق من الاساليب العربية المعروفة، اغرم بها الادباء، وارودوها في نصوصهم للتدليل على تمكنهم من اللغة، وتبحرهم في المفردات، وقدرتهم على الامساك بناصية المعاني، كما زخر القران الكريم بباقات من هذا الاسلوب البلاغي.

ويتجلى تاثير الطباق في انه يجمع بين الاضداد فيخلق بذلك صورا ذهنية ونفسية متعاكسة يوازن فيما بينها عقل القارئ ووجدانه فيتبين ما هو حسن منها، ويفصله على ضده.

ولتوضيح الكلام نقرأ قول الامام عليه السلام :

 "أللَهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ ... وَمِنْ نَار نورُهَا ظُلْمَة.... وَبَعِيدُهَا قَرِيبٌ"([8])

فقد اجرى الآمام طباقا بين النور والظلمة، وبين البعد والقرب، والتقابل بين هاذين الزوجين من الوحدات موجود في المعجم ويمكن اجراءه في الكلام على وجوه عدة، وايراد الطباق هنا يحدث اثرا دلاليا يقوم عليه وجه من وجود الادبية؛ لأن الامام لم يجعل كل من الوحدتين متضادتين دلاليا، بل متطابقتين، أي أن النور نفسه هو ظلمة، ومعروف ان للنار نور، لكن الإمام يتحدث عن نار خاصة هي نار الآخرة، ليس لها نور بل تشع ظلمة، أو قل إن نورها هو ظلام.

والنار التي يتحدث عنها الإمام لا يقاس بعدها بالزمن الفيزيائي المعروف، بل بزمن الآخرة؛ لذلك وصفه بالقرب،  مستثمرا الخزين القرآني (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا)([9])  فالقرب والبعد في  ظاهر اللفظ متقابلان، ولكن التمعن يبيّن أنّهما مترابطان ترابطا منطقيا يجعلهما وجهين لعملة واحدة

أنواع الطباق:

للبلاغين مذاهب عدة في انواع الطباق، نأخذ منها التقسيم الأشهر وهو:

  1. طباق الأيجاب: "وهو طباق موجود في المعجم يتقابل طرفاه على وجه الضدية"([10])، مثل قريب و بعيد، في المثال السابق.
  2. طباق السلب: "وهو طباق يكون التقابل فيه بين وجهين للفظ الواحد مذكورا في الكلام مرتين مثبتا ومنفيا"([11])، مثل:

"يَا مَنْ يَرْحَمُ مَنْ لا يَرْحَمُهُ الْعِبَادُ"([12])

ضادّ الإمام بين الرحمة وعدمها، ولم يلجأ الى دال لفظي مغاير للجذر اللغوي الأول، مثل (يقسو عليه، ينبذه، يظلمه... الخ) مما هو شائع في العربية، بل لجأ الى التضاد باستعمال النافية (لا)، وهذا يجعل القارئ للدعاء يردد كلمة الرحمة مرتين، (يرحم، لا يرحمه)، فإذا اخذنا بالاعتبار مناسبة الدعاء وهي (يوم عيد الفطر بعد انصرافه من الصلاة، وفي يوم الجمعة) نجد ان المناسبة جمعت ملائمات الرحمة والمغفرة: عيد الفطر فيه رحمة للصائم، وصلاة الجماعة فيها رحمة للمصلين، ويوم الجمعة وهو يوم الرحمة والاستغفار كما ورد في بعض الآثار، لذا جاء مفتتح الدعاء مؤكدا على رحمته تعالى، وحين انتقل الى نقيض ذلك عند العباد، اكد دلالة الرحمة بنفيها عن العباد، كما انه ندب اليها، بشكل غير مباشر، اذ تكرار كلمة الرحمة من الداعي او السامع يجعل المعنى راسخا في ذهنه، اي ان الطباق جاء من نوع طباق السلب لغرضين؛ الاول مباشر: وهو تأكيد صدور الرحمة من الله مقابل انتفائها عند الناس، والثاني غير مباشر، وهو الندب اليها عن طريق ترسيخها في ذهن المتلقي حين يتلقاها مرتين.

ويدخل الامر والنهي في طباق السلب كقوله عليه السلام :

"واحملني بكرمك على التفضل، ولا تحملني بعدلك على الاستحقاق"([13])

فهنا امر ونهي نابعان من جذر لغوي واحد هو الحمل.

ومثله:

"اللهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَكِدْ لَنَا وَلا تَكِدْ عَلَيْنَا، وَامْكُرْ لَنَا وَلاَ تَمْكُرْ بنَا، وَأدِلْ لَنَا وَلاَ تُدِلْ مِنّا"([14])

يعاقب الإمام هنا بين ثلاثة ثنائيات من الأمر والنهي، هي (وَكِدْ/َلا تَكِدْ)، و(امْكُرْ/لاَ تَمْكُرْ)، و(أدِلْ،لاَ تُدِلْ)، ويتلو كل من الوحدة الاولى من الثنائيات بالجار والمجرور (لنا)،  بينما يتنوع الجار والمجرور المرافق للوحدة الثانية (علينا، بنا، منا)

المقابلة:

وهي "أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ثم بما يقابلهما أو ييقابلها على الترتيب"([15])، وهناك خلاف في كون المقابلة من مباحث الطباق، او هي اسلوب مستقل عنه، ونؤيد ما ذهب اليه القزويني في كونها احد اساليب الطباق، لأنها قائمة على التضاد، مثلها مثل الطباق، ولا يتعارض ذلك مع كونها اعم منه، وقيل ان الطباق يكون في المتضادين، اما المقابلة فتكون في المتضادين وفي غيرهما([16]).

ومن أمثلة المقابلة في الصحيفة، قول الإمام: 

"حتى لا أحب شيئا من سخطك، ولا اسخط شيئا من رضاك"([17])

فقد قابل هنا بين زوجين من الوحدات الدلالية المتضادة (احب/ اسخط)، (سخطك/ رضاك) ، ومثل:

"أَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ اللَّيْلَ مُظْلِمَاً بِقُدْرَتِهِ، وَجآءَ بِالنَّهارِ مُبْصِراً بِرَحْمَتِه"([18])

والمقابلة هنا تقوم على توكيد حمد الله تعالى على كل ما ينعم به فيقترن الحمد بكل وقتي اليوم(الليل والنهار) والحالين الذين هما عليهما(الإظلام والإبصار)، والمصدر الفاعلية(القدرة والرحمة) زيادة على فعلي الإذهاب والمجيئ، فاجتمعت في العبارة مقابلة رباعية:

اذهب/ جاء

الليل/ النهار

مظلما/ مبصرا

بقدرته/ برحمته

انواع المقابلة: جرى تصنيف المقابلة حسب عدد الأزواج المتقابلة فيها:

1. المقابلة الثنائية: ما قامت على زوجين من المقابلات، مثل:

"أجْزِلْ لَنَا فِيهِ مِنَ الْحَسَناتِ وَأَخْلِنَا فِيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ"([19])

2. المقابلة الثلاثية: ما قامت على ثلاث وحدات متقابلة على التوالي، مثل قوله:

"وَاقصَى الادْنَيْنَ عَلَى جُحُـودِهِمْ ، وَقَرَّبَ الاقْصَيْنَ عَلَى اسْتِجَابَتِهِمْ لَكَ"([20])

فالمقابلة هنا بين (اقصى/ ادنى)، و(الادنين/ الاقصين)، و(جحود/ استجابة)

3. المقابلة الرباعية، أن تذكر اربع معان ثم يأتي بما يقابل تلك المعاني،  مثل قوله:

 "قَلّ عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر علي ما ابوء به من معصيتك"([21])

فقد قابل بين فعلي (قل وكثر)، ثم تلا ذلك مقابلة بين الظرف (عندي) والحرف (علي) وهذا المقابلة لسيت معجمية، بمعنى ان (عند) لا تتضاد معجميا مع (على) لكن السياق النصي يشحن (عندي) بمدلولات ايجابية منها امتياز الامتلاك، في حين يحمّل (على) دلالات الضدية، أي كثر ضدي ما ابوء به من معصيتك، تلا ذلك التقابل بين فعلي (اعتد وابوء)، ومن ثم جاء باسمي (الطاعة والمعصية).

ولم نجد في الصحيفة مقابلة تزيدعلى الرباعية.

نظرة احصائية:

في ضوء دراستنا للصحيفة السجادية وجدنا:

ان أكثر ما استعمل الإمام من الطباق هو طباق الإيجاب، فقد ورد قرابة 230. تليه المقابلة، فقد وردت نيف وخمسين مرة، في حين لم يرد طباق السلب اكثر من 25 أو نحو ذلك

وقد خلت بعض أدعيته عليه السلام من الطباق مثل دعائه في الصلاة على حملة العرش([22])، ودعائه أذا قتر عليه رزقه([23])، دعائه اذا ابتلي أو رأى مبتلى([24])، كما خلت مناجاتيه عليه السلام المعروفتين بمناجاة المحبين([25])، ومناجاة الزاهدين([26]) من الطباق أيضا. 

واكثر الوحدات اللغوية المستعملة في الصحيفة هي الثنائيات القرآنية، فقد ورد الزوج اللفظي (سماء/ أرض) بتنويعاته المختلفة (سماء، السماء، ارض الارض، سماؤك، سماوات، ... الخ) 15 مرة، كما وردت ثنائية (دنيا/ آخرة) بتنويعاتهما 15 مرة ايضا، يلي ذلك ثنائية (ليل/ نهار) اذ جاءت 13 مرة، ثم (معصية/ طاعة) فقد وردت 11 مرة، يلي ذلك ثنائيات اقل استعمالا مثل (سيئة/ حسنة) , و(رضا/ غضب)، و(موت/ حياة)، و(عفو) مع مقابلات عدة مثل (نقمة، وعقاب، وسخط).

الخلاصة

 ورد في العين ان الطباق لغة من قولهم "طابقت بين الشيئين : جمعتهما على حذو واحد، وألزقتهما"، اي ان الطباق له دلالة الموافقة بين الشيئين. اما اصطلاحا فهو على العكس من ذلك، الجمع بين الشيء وضده في الكلام، كالبياض والسواد، والعلم والجهل، والحق والباطل، الخ. ورأى البعض ان الطباق له دلالة المشقة، بدلالة قوله تعالى "لتركبن طبقا عن طبق" اي مشقة بعد مشقة، ولما كان الجمع بين الضدين شاقا سمي الكلام الذي يجمع بين الضدين مطابقة وطباقا.

والطباق ينقسم على اساس الاثبات والنفي قسمين رئيسين:

  1. طباق إيجاب: إذا اجتمع في الكلام لفظين مثبتين متضادين، مثل قوله عليه السلام: "عز سلطانك عزا لاحد له باولية، ولا منتهى له باخرية"، فقد جمع في الكلام بين الاولية، والاخرية.
  2. طباق سلب: هو أن يجمع بين لفظين أحدهما مثبت، والآخر منفي ، أو أحدهما أمر و الأخر نهي ، مثل : "اللهم يا من يرحم من لايرحمه العباد، ويا من يقبل من لا تقبله البلاد"، فهنا طباق بين يرحم ولا يرحم، والفعل هو نفسه، نفي بلا، وقوله "واحملني بكرمك على التفضل، ولا تحملني بعدلك على الاستحقاق" فهنا امر ونهي نابعان من جذر لغوي واحد هو الرحمة.

 

المقابلة:

وهي احد مصاديق الطباق، تعني أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.

 

النتائج

ويمكن اجمال ابرز نتائج البحث بالنقاط التالية:

  1. غلبة طباق الايجاب على طباق السلب الذي قل استخدامه، في حين تموضعت المقابلة في موضع بين الاثنين من حيث الكم.
  2. خلت بعض الادعية من اسلوب الطباق.
  3. ان الطباق لم يكن اسلوبا زخرفيا، زائدا، بل جاء لاغراض دلالية، منسجما مع السياق النصي، غير اجنبي ولا دخيل عليه.
  4. ان اكثر المقابلات الواردة في الصحيفة هي مقابلات ثنائية وثلاثية، ووردت مقابلات رباعية في حين انعدمت المقابلات الخماسية أو أكثر.
  5. ان اكثر المفردات الداخلة في الطباق هي ثنائيات دينية (دنيا/اخرة)، (حسنات سيئات) ، (هدى/ضلال) وتاتي المفردات الاخرى في المرتبة الثانية مثل (ليل/نهار)، ( سماء/ارض)، ونرى انها الثنائيات القرآنية نفسها.

قائمة المصادر والمراجع

  1. القران الكريم
  2. أنوار الربيع في أنواع اللبديع ، ابن معصوم المدني، تحقيق شاكر هادي شكر، النجف، 1968.  
  3. الإيضاح، الخطيب القزويني، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، القاهرة.
  4. دروس البلاغة العربية- نحو رؤية جديدة، الأزهر الزناد، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1992.مفتاح العلوم، السكاكي، القاهرة.  
  5. الصحيفة السجادية الكاملة، الإمام زين العابدين عليه السلام، دار العلوم، بيروت، ط1، 2008.
  6. العين، الخليل بن احمد الفراهيدي، القاهرة، 1966.
  7. مفتاح العلوم، السكاكي، القاهرة، 1960.

 

 

 

([1]) الإيضاح، الخطيب القزويني، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، القاهرة : 334.

([2]) على ذلك اجماع البلاغيين، وشذّ عنهم السكاكي إذ أدخل الطباق والمقابلة في المحسنات اللفظية. ظ: مفتاح العلوم، السكاكي، القاهرة، 1960 ما بعد ص200.  

([3]) العين: مادة طبق  

([4]) دروس البلاغة العربية- نحو رؤية جديدة، الأزهر الزناد، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1992: 172.

([5] ) الانشقاق:19.

([6] ) ظ: أنوار الربيع في أنواع اللبديع ، ابن معصوم المدني، تحقيق شاكر هادي شكر، النجف، 1968: 2/32.  

([7] ) ظ: دروس البلاغة العربية- نحو رؤية جديدة،: 172.

([8]) الصحيفة السجادية الكاملة، الإمام زين العابدين عليه السلام، دار العلوم، بيروت، ط1، 2008: 138.

([9]) المعارج: 6-7.

([10]) دروس البلاغة العربية- نحو رؤية جديدة: 173.

([11]) ظ: دروس البلاغة العربية- نحو رؤية جديدة: 174.

([12]) الصحيفة السجادية: 184.

([13]) الصحيفة السجادية: 64.

([14]) الصحيفة السجادية: 64.

([15]) الإيضاح: 336.

([16]) الإيضاح: 336.

([17]) الصحيفة السجادية: 95.

([18]) الصحيفة السجادية: 256.

([19]) الصحيفة السجادية: 47-48.

([20]) الصحيفة السجادية: 33.

([21]) الصحيفة السجادية: 133.

([22]) ظ: الصحيفة السجادية: 35.

([23]) ظ: الصحيفة السجادية: 122.

([24]) ظ: الصحيفة السجادية: 140.

([25]) ظ: الصحيفة السجادية: 277.

([26]) ظ: الصحيفة السجادية: 189.