من صفحة: 259
إلى صفحة: 271
النص الكامل للبحث: PDF icon 170624-103437.pdf
البحث:

 

المقدمة

يختلف النظام السياسي من دولة لأخرى، والأصل أن لكل مجتمع نظاماً سياسياً معيناً يميزه عن غيره من المجتمعات. هذا النظام يتأسس من الواقع من أيدولوجية خاصة فلسفية وتاريخية وحضارية ودينية معينة.... ألخ، هي في مجموعها وغيرها تؤثر في المجتمع وتشكل في النهاية نظامه السياسي القائم، والذي قد يتغير ويتبدل أو يتطور أيضاً، وفقاً لتطور هذه المؤثرات وتفاعلها مع غيرها من المؤثرات الأخرى، التي تطرأ على فكره وتراثه وثقافته، فضلاً عن تغايره عن سائر المجتمعات الأخرى.

ولا يخفى أن هذا التغاير والاختلاف إنما مرجعه الأساسي - فضلاً عما يبق - يعود إلى تصارع القضايا التي تهم مجتمع ما. وتباين الأفكار والحلول بصددها، واختلاف مفاهيم وحدود هذه القضايا من مجتمع لآخر، بالإضافة إلى ذلك التصارع المستمر بين السلطة والمحكومين في نطاق الحقوق والحريات المسموح بها.

أما النظام الإسلامي فإنه يختلف تماماً عن غيره من الأنظمة السياسية الوضعية ويتباعد عنها، فله فلسفة معينة في نظام الحكم، وتحديد قوى السلطة وأهدافها، فالإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، أتى بمبادئ كلية عامة - وهي خالدة بحق - تصلح لكل زمان ومكان، وليس معنى هذا أن القرآن الكريم قد نص على التفاصيل والجزئيات، وإنما أتت الشريعة الإسلامية بمبادئ عامة وكلية تصلح لكل زمان ومكان. أما الجزئيات والتفاصيل فإنها تركت الرأي العام والاجتهاد، بشرط أن تتواءم والمبادئ الكلية الثابتة.

والحقيقة الواضحة أنه لابد من اختلاف الزاوية والمنظور إذا ما تعرضنا لدراسة أسس النظام السياسي الإسلامي عنه إذا ما تعرضنا لدراسة أسس النظام السياسي الإسلامي عنه إذا ما تعرضنا لدراسة أي نظام سياسي آخر من وضع البشر، فالإسلام ليس ديناً فقط وإنما دولة ونظام جامع بين العقيدة والشريعة.

قد أتت الشريعة الإسلامية بمبادئ كلية خالدة تصلح لكل زمان ومكان وفي مقدمتها: العدل، المساواة، والشورى، والتي على ضوء منها أمكن رسم النظام السياسي الإسلامي منذ البداية. فهي تقررت و رسخت منذ اللحظة الأولى في تاريخ الإسلام، وهي بحق ضوابط وأسس غدت في الواقع الدعائم الثابتة لكل نظام. وإذا كان القرآن الكريم قد اقتصر على أمهات المسائل والمبادئ العامة المقررة فإن السنة النبوية قد فصلت تلك المبادئ على أحسن تفصيل، وإذا كان الرسول6. على دور المبلغ الأمين إذا قال تعالى، فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر([1]).

وبعد وفاة الرسول الكريم6 بدت بوادر المشكلة التشريعية، وأن كان الصحابة قد تغلبوا عليها بالرجوع للقرآن الكريم، ثم للسنّة، وأخيراً للمشاورة والاجتهاد والرأي. والحقيقة أن الدولة الإسلامية الأولى - وهي حقيقة مسلمة - قد عرفت ثلاث وظائف أساسية وهي التشريع، والتنفيذ، والقضاء، وهي الوظائف الأساسية في العصر الحديث، و إنما وفقاً لمبادئ أصولية وفلسفية متميزة عن تلك المفاهيم الحديثة. ولقد أستنتج ذلك أن ظهرت فكرة الدولة القانونية. ذلك أن مقتضى الحكم في الإسلام أن يخضع جميع المواطنين في الدولة، من حكام ومحكومين على السواء لحكم القانون، أو بمعنى أدق لحكم الشريعة الإسلامية. فالحاكم مقيد في ممارسته لسلطاته بإحكام الشريعة الإسلامية، وهو نفس الحال بالنسبة إلى الأفراد. إذ قال تعالى (وما أتاكم الرسول فخذوه ن وما نهاكم عنه فانتهوا) ([2]). ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون([3]). وقول الرسول6 (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فالإسلام لم يعرض لنظام تفصيلي في شكل الحكومات أو طريقة تنظيم سلطاتها أو كيفية اختيار الحاكم، إنما اكتفى بوضع الأسس الثابتة، تاركاً تطبيقاتها التفصيلية والجزئية تتطور وظروف الأمة في كل عصر وزمان،

لكي تحقق صالح المجتمع الإسلامي ورفاهيته في ظل من الإلتزام بالشريعة الإسلامية. وفيما يلي نتناول الموضوع من مطلبين:

المطلب الأول: الإسلام دين العدل والمساواة

المطلب الثاني: المظاهر العملية لإهتمام الإسلام بالرأي العام

المطلب الأول: الإسلام دين العدل والمساواة

العدل ركن أساسي في الإسلام، وهو نظام كل شيء، وميزان الحق والقسط. فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت واستقامت وهدت، ومتى لم تقم بعدل انهارت وهوت وضلت. والعدل المقصود هو حق الله تعالى، وهو ممتد وشامل لمجالات الحياة في المجتمع وعلاقة الأفراد فيما بينهم من ناحية، وفيما بينهم وبين السلطة الحاكمة من ناحية أخرى، وهو إطار الإسلام وهدفه في إقامة الحياة العادلة لإسعاد الناس، وتحقيق مصالحهم وحاجاتهم.

ويقول الحق تبارك وتعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين) ([4]) وقال تعالى (إنا اعتدنا للظالمين ناراً ) ([5]) وقال (بئس مثوى الظالمين) ([6])

وقال (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون) ([7]) أما عن العدل في إطار العلاقة بين الحاكم والمحكومين فقد قال تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله) ([8]). وقال عز وجل (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ([9]). وقال تبارك وتعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) ([10]) وعلى ضوء ذلك يمكن رسم العلاقة بين الحاكم والمحكومين في النظام السياسي الإسلامي، حيث أوجب الشارع الكريم الطاعة فهي خير أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتطيع الله ورسوله وأولي الأمر. وأوضح سبحانه وتعالى حدود هذه الطاعة وهي العدل الذي هو غاية الحكم.

السياسة العادلة يجب أن تمارس في إطار من الوسائل الشرعية المشروعة، فلا يكفي أن يكون هدف الممارسة مشروعاً والوسيلة أو الأداة المستخدمة غير مشروعة بل يجب أن تتطابق الوسيلة مع الشريعة دون معارضة، فالغاية الشريفة في الإسلام يستتبعها وسيلتها الشريفة أيضاً و المشروعة([11]). ما أن السياسة العادلة أيضاً لا تفرق بين شخص وآخر، حاكم ومحكوم، غريب أو حسيب، ويجب أن تمارس وتقام بميزان قسط لا يميل مع الحب والكراهية، ولا يختل مع أصحاب المواقع والمراكز، ولا تفرق بين قريب وبعيد، أو تستند إلى التمييز والتفريق لأي سبب، والعدل بهذا المفهوم يؤثر فيا لنفوس فيبعث الطمأنينة فيها، ويدخل على النفس الشاردة صحوتها ويزيل عنها غشاوتها، ويقيم النظام الإسلامي على جسور متينة من الحب والثقة، و وحدة الأمة وتماسكها، ورسم سياسيتها العادلة بمتانة وصدق وهدى. كما أن المساواة في الإسلام أصل وأساس، فالناس سواسية أمام الله تعالى، لا امتياز لأحد على غيره، وهي لا تعني استواء الجاهل الفاسق بالعالم الملتزم،

ولا تساوي بين الجهد والعرق المبذول وبين الكسل والقعود، ولا تساوي بين العمل الواحد إذا تفاوت إنتاجه وتوحدت قدرته. وإنما المساواة في الإسلام تبدأ بنقطة أساسية تتفق وإنسانية الإنسان، فهي تنطلق من مفهوم وحدة الأصل الآدمي و وحدة الأخوة([12]).

فالناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة ومن تراب إذ قال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) ([13]) وقوله عز وجل (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ن وجعلناكم شعوباٌ وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ([14]).

كما جاء في خطبة الوداع للرسول6 قوله. يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب ويقول6 أيضا: الناس متساوون كأسنان المشط.

ولهذا سنتناول الموضوع من فرعين:

الفرع الأول: علاقة الفكر الإسلامي بالمفاهيم السياسية الحديثة.

الفرع الثاني: موقف الإسلام من الرأي العام.

الفرع الأول: علاقة الفكر الإسلامي بالمفاهيم السياسية الحديثة

لاشك أن الإسلام دين الكمال والخلود، قد حوى العديد من الأفكار والمفاهيم السياسية الحديثة، إنما وفق ضوابط متميزة، لقد بات من الأمور المسلمة أن الفكر السياسي الإسلامي قد سبق الفكر الحديث في تقرير العديد من الأسس والقواعد التي استقرت في وجدان الشعوب الحديثة.

نعرض لبعض المفاهيم الحديثة لنبين علاقة تلك المفاهيم مع الفكر الإسلامي السامي وذلك على النحو التالي:

أولاً: السيادة الشعبية:

الحقيقة أن هذا المبدأ الهام الذي رسخ في وجدان الشعوب الحديثة قد تقرر و تأسس في الفكر السياسي الإسلامي منذ اللحظة الأولى. فالأمة في الإسلام هي صاحبة السيادة، ولها ان تباشرها بنفسها أو أن تنيب عنها بعضاً من أفرادها لممارستها. بيد أن اجتماع الأمة  بأسرها صعب أو مستحيل. لذا جاءت فكرة الإنابة وقد تمثلت هذه الفكرة فيمن أطلق عليهم أهل الحل والعقد أو أهل الاختيار الذين يضطلعون نيابة عن الأمة. بمسؤولية اختيار الخليفة. ودليلنا في ذلك أيضاً أن اختيار الخليفة من جانب أهل الحل والعقد لا يعدوا في الواقع أن يكون ترشيحاً فقط، و لا يصير هذا الترشيح نهائياً إلا بعد رضاء الأمة وموافقتها([15]). كما يتبنى على ذلك أيضاً أن الخليفة الذي اختاره الشعب لا يمكنه أن يزاول سلطاته باعتبارها حقاً شخصياً له. فالأمة صاحبة السيادة ومصدر السلطات، وإنما باعتباره ممثلاً للشعب أو نائباً عنه.

ثانيا ً: الحكومة الدستورية أو القانونية (المقيدة):

ونتيجة لكون الشعب (الأمة) صاحب السيادة، فإنه يتعين أن تكون الحكومة مقيدة. فالحاكم لا يزاول سلطة مطلقة من كل قيد أو شرط، وإنما سلطته مقيدة، والإيجاز للأمة صاحبة السيادة أن تسحب الوكالة عنه، وأن تعزله من منصبه. فالعلاقة بين الأمة والحاكم علاقة عقد اجتماعي سماه المسلمون (المبايعة)  وجعلوها حقيقة لا افتراضاً. وهذا هو الفهم الصحيح للسيادة في العصر الحديث ([16]) وانطلاقاً فإن نظام الحكم في الإسلام إنما يقوم على أساس من التقيد بالقوانين والشريعة الإسلامية تعتبر الدستور الأعلى الذي يخضع له الحاكم والمحكوم على السواء. لذا وجب الالتزام بما تقرره من قواعد وأحكام، فضلاً عن استهداف الحاكم في تصرفاته تحقيق الصالح العام للأمة بأسرها.

ثالثاً: السلطة التأسيسية:

والسلطة التأسيسية في الدول الحديثة (عادة) يتولاها الشعب. وهو الذي يملك سلطة التشريع، أي التعبير عن الإرادة الشعبية ممثلة في البرلمان، ولهذا فإن الانتخاب هو السبيل الطبيعي في اختيار النواب، ويتأسس ذلك من كون الشعب هو صاحب السيادة، يقرر ما يشاء من تشريعات يخضع لها برضاه ورغبته. إلا أن الأمر مختلف في الفكر السياسي الإسلامي، فالتشريع في الإسلام يعني استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة) وهذه المهمة لفئة معينة (المجتهدون)،  والمجتهد هو الذي يمكنه استنباط الأحكام العملية من أدلتها الشرعية. لذا فإن الرأي في التشريع يجب أن يدور في نطاق ما تقرر من أحكام خالدة. حيث أن للتشريع معنين:

1. إيجاد شرع مشروع وهذا في الإسلام لا يكون إلا لله تعالى

2. بيان حكم تقتضيه قائمة وهذا هو المعنى في الإسلام([17]).

ولو تركنا ما يثار حول مصادر الشريعة الإسلامية من خلاف ونظرنا إليها في مجموعها لوجدنا أن مصادر الشريعة الإسلامية يمكن ردها إلى ثلاث وهي القرآن، والسنة، والرأي. وجرياً وراء الغاية التي نستهدفها فإننا يمكن أن نعتبر القرآن والسنة بمثابة التشريعات الدستورية، أما المبادئ التي تستقي من غيرها من المصادر والتي تجمع تحت تسمية الرأي فإنها بمثابة التشريعات العادية وفي رأينا ان مجال الاجتهاد مفتوح ومتسع لكي يسمح بمواجهة متطلبات وحاجات الأفراد وطموحاتهم وآمالهم في كل عصر وزمان. وما يصل إليه المجتهدون في عصر ما، وحصل على تأييد ومبايعة الجماعة آنذاك لا يمكن أن يقيد الأجيال اللاحقة متى تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال.

رابعاً: الفصل بين السلطات

لقد ارتبط مبدأ الفصل بين السلطات بالمفاهيم الحديثة للدولة الديمقراطية، فهو في تفسيره وتطبيقه الصحيح قاعدة من قواعد فن السياسة، يمنع الاستبداد ويصون الحرية، ويحمي الشرعية، ويضمن خضوع الدولة (في كافة مظاهر نشاطها) للقانون، ذلك فضلاً عن المزايا التي تترتب على توزيع وتقسيم العمل. فتركيز السلطة شر محض ممهد للبطش بالحقوق والحريات. لذا فقد استقر هذا المبدأ الهام في الفكر الدستوري المعاصر.

أما في الفكر السياسي الإسلامي، فإن الإسلام قد عرف ثلاث وظائف متميزة. بيد أنه لم يعتبر السلطة القضائية وظيفة مستقلة عن السلطة التنفيذية، وبالرغم من ذلك فإن الأهداف التي يتوخاها مبدأ الفصل بين السلطات لا يمكن أن تكون غريبة عن نظام الدين الإسلامي. وإذا كان الوازع الديني وخشية الله قد أغنت المسلمين في فجر النظام، عن تلمس ضمانات تنظيمية ضد التعسف والانحراف، فإن ضعف الوازع الديني بعد ذلك، قد وصل بالمسلمين عملاً إلى نوع من الحكم المطلق، لا يكاد المواطن يجد فيه ضماناً لنفسه أو ماله. مما أدى إلى إنشاء قضاء المظالم للضرب على يد الظالمين من ذوي السلطة ([18])

وفي رأينا ان ما جاء بمبدأ الفصل بين السلطات من ميزات وضمانات وضوابط لا يمكن أن يتنافى مطلقاً مع ما جاء به الفكر السياسي الإسلامي، فالاسلام قد درأ الأسباب التي تؤدي إلى التناحر والانقسام. وإذا كان الإسلام قد فصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، واعتبر السلطة القضائية وظيفة متداخلة مع السلطة التنفيذية، إلا أن ذلك لم يكن له أي تأثير من قريب أو بعيد على استغلال القضاة في مباشرتهم لعملهم وممارستهم لاختصاصاتهم على نحو لا يتوافر لذويهم في الدول الحديثة([19])

الفرع الثاني: موقف الإسلام من الرأي العام

أن النظام السياسي الإسلامي له طبيعة خاصة، وفلسفة معينة في نظام الحكم، وتحديد قوى السلطة وأهدافها، فضلاً عن انطلاقه من خلال مبادئ وقواعد أساسية خالدة وثابتة وصالحة لكل زمان ومكان، وبصفة عامة فالاسلام لم يهمل أساساً أو أصلاً فاضلاً إلا وطده وشيده، ولا قاعدة نظامية أو ضرورية في حياة البشر إلا وضعها و أكدها وقررها.  وانطلاقاً فإن الاسلام وقف من الرأي العام موقفاً واضحاً وقويماً باعتبار الرأي العام من موضوعات الحياة ونواحيها، فالإسلام لم يترك في سبيل النهوض بالأمم شاردة أو واردة، صغيرة ولا كبيرة، من المقاصد العظيمة، والوسائل القويمة. فكلمة الرأي العام وأن لم ترد في القرآن الكريم، ولا في الحديث الشريف (فهو اصطلاح حديث)، ولكن لها مدلول عظيم في

الإسلام، وينابيعها فيه  فياضه، فشرائع الإسلام مليئة بالمعنى والروح، وغنية بالمدلول دلالة واضحة([20]).وهو ما سنحاول تبنيه على النحو التالي:

أولاً الاسلام دين عالمي

فرسالة الإسلام رسالة عالمية، للناس كافة دون تمييز، والإسلام لا يخص شعباً دون آخر، و لا قطراً دون غيره، لذلك وضع للرأي العام أساساً عاماً يناسب عمومه، ففرض على المسلمين في جميع بقاع الدنيا إقامة قاعدة قيادية عامة ذات شعبتين عظيمتين من أهل العلم بهذا المهم الأعظم. الشعبة الأولى عالمية تعمل على  تكوين رأي عام عالمي مستضيء بنور الإيمان فتشرح مقاصد الإسلام للأمم غير الإسلامية، وتدعوهم إلى السير على هداه، لتكوين رأي عام مؤمن تسوده القيم الروحية، والأخلاق الفاضلة، والشعبة الثانية تعمل داخل المجتمع الإسلامي ذاته، تهيب بالمنحرفين من المسلمين إلى إلتزام حدود دينهم،و الأمر بالاستقامة وفعل المعروف وترك المنكر([21]).

ثانياً: الإجماع في الإسلام

والإجماع في الإسلام له مكانته العظيمة في الشريعة الإسلامية، فهو أحد أدلة الأحكام فيها، وليس الإجماع إلا الرأي العام في معناه وفحواه، مما يؤكد اهتمام الإسلام بالرأي العام وكذلك العرف القويم، الذي له اعتبار في بعض المسائل الدينية، فما هو إلا صدى للرأي العام بل يمكن القول أنه الرأي العام عينه، لأن العرف هو ما عرف بين الناس وانتشر بينهم وفيهم، حتى اعتادوه وألفوه وعقدوا منه السبيل والطريق.

ثالثاً: الشورى في الإسلام

والاسلام يحث على الشورى، خاصة في أمور الدولة وشؤون السياسة والحكم وينهي عن الاستبداد بالرأي. فقد أمر الله سبحانه رسوله6 بأن يشاور أصحابه أولي الرأي في الأمور التي لا نص فيها سواء كانت أمور دينية أم دنيوية فقال تعالى (وشاورهم في الأمر) ([22]).

والله سبحانه وتعالى أمر النبي6 بصفته رئيساً للدولة الإسلامية، ومن ثم وجب على جميع رؤساء الدولة الإسلامية، وأولي الأمر أن يشاوروا أصحاب العقول النيرة، وأرباب العقول المستبصرة. وقد أمتدح الله المؤمنين الذي يستجيبون لديهم، ويقيمون الصلاة، ويكون أمرهم شورى بينهم، وينفقون مما رزقهم الله تعالى فقال الله تعالى (والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) ([23]) وقد أفادت هاتان الآيتان وجوب إبداء  الرأي لأنهما دلتا بطريق الإشادة - كما يقول علماء الأصول - أو دلتا بالكتابة كما يقول علماء البلاغة - على طلب إبداء الرأي كثمرة لهذين النصّين، وقد قصد الله سبحانه وتعالى عندما أمر رسوله6 بالتشاور أن ينصرف على آراء المستشارين فوجب على أهل الشورى أن يبدوا آرائهم دون إجبار أو إكراه وأن يخلصوا لله ولرسوله في النصيحة([24]). فالشريعة الإسلامية عنيت - من بين ما عنيت بالرأي العام، وليس أدل من ذلك من مسلك الرسول6 حال إدارته للأمور، وهو ما تؤكده السيرة النبوية الشريفة، غني بالحث على المشورة، فقال الرسول6 استعينوا على أموركم بالمشورة وقوله أيضاً ما تشاور قوم قط إلا هدوا لا رشد أمرهم. والثابت في الإسلام أن الشورى كانت تتم من خلال المجالس الإسلامية التي كانت في انعقاد مستمر في المساجد، ويحضرها اعداد كبيرة من المسلمين، يتم عرض الأمر عليهم وتبدى بصدده كافة الآراء وذلك على نحو أفضل وأحكم مما تتم عليه الأمور في المجالس الخاصة المتعلقة بالدول الديمقراطية الحديثة، كالمجالس النيابية ومجالس الشورى([25]) وللإسلام على هذا النحو درأ الأسباب التي تؤدي إلى الصراع بين الحاكم والمحكومين فغاية الشورى الخير والصالح و وظيفتها الإرشاد والتوجيه، ومنح القرار الخاطئ قبل صدوره أو رده إلى الصواب، والشورى نظام وأساس والتزام وهدى.

رابعاً: دور الرأي العام في اختيار الخليفة:

لم يتطرق القرآن الكريم لبيان طبيعة الحكم و لا لطرق انتخاب ولي الأمر (رئيس الدولة) ولا لكيفية انتخاب أهل الشورى ولا لكل ما يتغير بتغير الحياة فيما يتعلق بالنظام الدستوري([26]) وجدير بالذكر أن الإسلام لم يقتصر على أمور الدين من توحيد الله والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره بل أن الإسلام أضاف إلى هذا نظماً أخرى وشرع شرعاً وأنزل قانوناً ينظم أمور الدنيا، ومن هنا كان لابد من حاكم أو هيأة توضح للمسلمين أمور دينهم وشؤون دنياهم، وتقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا كما قررتها هذه القوانين، ومباشرة الأشراف على حسن تنفيذها وقد كان سيدنا محمد6 أول من أدى هذه المهمة بالإضافة إلى مهمته الدينية كرسول([27]). ومن بعده الأئمة الأطهار: وبرز بعد وفاة الرسول الكريم6 نظام الخلافة والخليفة ومساعدوه يكونون الحكومة الإسلامية، وهذه الحكومة تتولى الإشراف على تنفيذ القوانين الإسلامية بدقة. والخلافة هي رئاسة الدولة الإسلامية وقد عرفها علماء الفقه الإسلامي بأنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي6، ومن ألفاضها المرادفة الإمامة، وإمارة المؤمنين، وجميع هذه الألفاظ ومرادفاتها تقترب من المصطلحات الحديثة كرئيس الدولة([28])

وتعتبر الخلافة في الدولة الإسلامية  الأولى المحور في النظام السياسي لها، فهي أساس نظام الحكم الإسلامي. وإذا ما دققنا النظر فيما دأب عليه. المسلمون الأوائل في مجال اختيار الخليفة نجد أن الطريق الوحيد الذي عرفه الإسلام هو الانتخاب، وأن الخلافة ما هي إلا عقد بين الإمام والمسلمين يرتب لطرفيه حقوقاً والتزامات محددة منذ البداية وان السلطات المخولة للخليفة مستمدة من سلطة الأمة ما دامت هي التي تتولى انتخابه([29]).

وإذا تتبعنا طرق اختيار الخلفاء الراشدين - على ما بينها من خلاف - نجد أنها تلتقي بحسب الأصل إلى معنى واحد هو أن الخليفة لا يشغل المنصب إلا بعد نظرة عامة  من المسلمين وعن محض إرادتهم الحرة([30]) الأمر الذي يؤكد اعمال الرأي العام واحترامه في مسألة من أدق المسائل سوى الامامه المنصوصه عند الاماميه.

ويتضح من ذلك كله أن الفكر الإسلامي لا يحرم أفراد الأمة من حق اختيار من يرتضونه حاكماً عليهم باعتبار أن هذه المسألة تغنيهم جميعاً، وهو الأمر الذي يؤكد أن الرأي العام مكفول منذ البداية في النظام السياسي الإسلامي.

خامساً : الحريات والحقوق الإنسانية في الإسلام.

المتأمل في تاريخ الإسلام، يجد أن  الدعوى الإسلامية قامت إنطلاقاً من مبدأ حرية العقيدة والفكر والرأي، إذ قال تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ([31]) فضلا أن الإنسان قد خلق مكرماً لقوله عز وجل (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) ([32]) كما ان حرية الإنسان مكفولة وثابتة، بل أن الله تعالى جعل من الإنسان خليفة في الأرض إذ قال تعالى (وإذا قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة قالوا اتجعل من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال أني أعلم ما لاتعلمون) ([33])

كذلك أقر الإسلام للأفراد  أن يفكروا ويبدوا رأيهم في حرية كاملة، فالعقل خاصة الإنسان وميزته عن غيره من المخلوقات. لذا بات التفكير والرأي فريضة اسلامية أمرت بها الشريعة الإسلامية الغراء وحثت عليها إذ قال تعالى (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير) ([34])

وقال عز وجل (قل انظروا ما في السموات والأرض) ([35]). فهذه الآيات وغيرها تحث على التفكير والنظر وأمعان العقل والذهن والتأمل في كل شيء وتدين التقليد والتكاسل وإغلاق العقول فالعقل في الإسلام مناط التكليف ودعامة المؤمن، يقدر عقل المؤمن، تكون عبادته([36]). وعلى ذلك فإن المبادئ الأصولية في الإسلام تتنافى كلية مع أي حجر أو مساس بالإنسان وحرياته وحقوقه، ولم تكن المساجد إلا منابر لأعمال الفكر والرأي أدت ولا تزال تؤدي دورها كبرلمان يناقش فيه المسلمون أمور دنياهم وآخرتهم. ومن ناحية أخرى فالحرية السياسية وحق المشاركة وحق تقرير المصير في النظام السياسي الإسلامي مكفولة أيضاً، فالأفراد يشاركون في مسؤولية الحكم، وتوجيه سياسة الدولة، ومراقبة الحكام، والشعب هو صاحب الكلمة العليا وله حق تقويم الحاكم إذا أخطأ، كما كفل الإسلام حق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار النظام الذي يرتضونه لأنفسهم دون ضغط أو اعتداء، فالإسلام لم يعرف التمييز بسبب الدين أو الجنس أو اللون.

والحقيقة أن هذه الحريات والحقوق إنما تعني مشروعية النقاش والجدل الهادف للوصول إلى الفكر الصائب والرأي السليم. ولقد قامت الدعوة الإسلامية على أساس من النقاش ومخاطبة العقل، وبهذا أكد الإسلام للإنسان أمور عظيمة طالما حرم منها، وهي: استقلال الإرادة، وحرية الرأي والفكر القول، وهي ما يطلق عليه بلغة العصر، حقوق الإنسان وحرياته. فإنسان القرآن هو إنسان القرن الواحد والعشرين وما قبله وما بعده([37]) ومن ناحية أخرى فإنه إذا كانت القاعدة هي - الحرية - الا أنها حرية مقيدة وتقوم ممارسة الحرية في الإسلام على عاملين إيماني وشرعي، أما العامل الايماني فينبسط سلطانه من داخل الإنسان فيتحكم في شهواته ويقف امام نزواته وشرور نفسه خشية لقاء ربه، أما العامل الشرعي فهو التزام الإنسان المسلم ليبسط سلطاته من خارجه.

المطلب الثاني: المظاهر العملية لاهتمام الاسلام بالرأي العام:

إن أبرز العوامل التي لعبت دوراً مؤثراً في حياة الشعوب، وتشكيل الرأي العام بها، هو عامل الدين ولقد بات واضحاً أن كلمة الرأي العام لها مدلول عظيم في الإسلام، بغض النظر عن أن الكلمة نفسها - كاصطلاح - لم ترد صراحة في القرآن الكريم، ولا في الحديث الشريف، ذلك أن الاصطلاح ذاته حديث نسبياً لم يعرف إلا نهاية القرن التاسع عشر.

والحقيقة أن الاسلام قد اهتم بالرأي العام اهتماماً بالغاً ومنحه حقوقاً رقابية هامة وسنحاول في هذا المطلب أن نعرض لبعض من المظاهر العملية لاهتمام الإسلام بالرأي العام وذلك على النحو التالي في فرعين:

الفرع الأول: الإعلام الإسلامي

الفرع الثاني: رقابة الرأي العام في الاسلام

الفرع الأول: الإعلام الإسلامي

إن الاسلام رسالة عالمية، لا تخص شعباً دون آخر لذا فقد وضح أن الاسلام وضع للرأي العام أساساً عاماً يناسب عمومه، وفرض على المسلمين نشر دعوتهم، وشرح مقاصد الإسلام لتكوين رأي عام عالمي، ومن ثم فإن الإعلام يمكن اعتباره قواد الدين الاسلامي وقاعدته الراسخة، بل بات جسراً يمكن أن تعبر من خلاله الرسالة الخالدة إلى الناس كافة([38]).

أولاً: مفهوم الإعلام الاسلامي:           

بدءً يمكن القول أن الاعلام الاسلامي يعني نشر الرسالة الاسلامية بمختلف الوسائل المتاحة بغرض تكوين رأي عام صائب يدعو إلى الالتزام بتعاليم الدين الاسلامي وكل ما أمرت به الشريعة الاسلامية الغراء وترك كل ما نهت عنه. وعلى الرغم من أن الاعلام بأجهزته و وسائله ونظرياته الحديثة كان غير معروف وقت نزول الوحي على صاحب الرسالة6،

إلا انه بتطبيق المقاييس العلمية الحالية على الدور الملقي على عاتق الدعوى الاسلامية نستطيع أن نقول أن الاعلام كان ولا يزال أداة هذا الدين ودعامته الأساسية. ولن نتجاوز الحقيقة إذا سمينا الأشياء بمسمياتها الصحيحة حيث نقول. أن الدين الاسلامي دين دعوة والدعوة عمل اعلامي يخاطب العقل ويستند إلى المنطق والبرهان([39]).

والاسلام حافل بالعديد من المواقف والأحداث التي تؤكد اهتمامه بالاعلام بمعناه الحديث (الدعوة الاسلامية) ويؤكد ذلك قوله تعالى (يا ايها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بأذنه وسراجاً منيرا) ([40]) ويؤكد ذلك قوله تعالى (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) ([41]) وما على ذلك من الايات القرآنية العظيمة التي أوجبت الدعوة وحثت على الاعلام والتبشير والابلاغ كما لا يخفى على احد تلك الحياة الاعلامية الحافلة التي عاشها الرسول الأمين6 والتي اضطلع  بأمانتها فأوفاها حقها وعمل على نشرها بشتى الطرق. وتتاكد لنا المكانة السامية التي يتبوؤها العمل الاعلامي في الاسلام أيضاً إذا ادركنا أن المهمة العالمية لم تكن قاصرة على صاحب الرسالة وحده أو على الدعاة المتخصصين والمتفرغين لشؤون الدعوة الاسلامية فقط، ولكن هذه المهمة تمتد لتشمل المسلمين جميعاً، ذلك أن الله قد كلف كل مسلم عاقل فالاسلام إذن هو موضوع الدعوة وحقيقتها([42])

ثانياً: وسائل الإعلام الإسلامي

أما وسائل الاعلام  الاسلامي فهي عديدة ومتنوعة وقد لعبت ولا تزال تلعب دوراً هاماً في نشر الدين الاسلامي، فهنالك الوسائل التقليدية التي كانت سائدة قبل التبشير كالقصائد الشعرية، والخطابة والاسواق، حيث اهتم بها الاسلام وعمل على تطويرها بشكل بالغ، وهنالك أيضاً الوسائل الاعلامية الخاصة بالاسلام وهي وسائل يكاد ينفرد بها مثل خطبة الجمعة، دروس الوعظ والارشاد، والاذان وإقامة الصلاة، والمكتبة الإسلامية، و وسائل الاتصال الشخصي الاسلامي، والقدوة الحسنة

ثالثاً : علاقة الرأي العام بالإعلام الإسلامي   

الرأي العام هو المجال الذي يعمل في نطاقه أي عمل اعلامي، وقد اهتمت الرسالة الاسلامية بجماهير الرأي العام اهتماماً كبيراً، كما حفل القرآن الكريم في كثير من آياته بالرأي العام. وفي هذا الشأن يمكن القول أن الاسلام يعترف بوجود محكمة غير مركزية وغير رسمية في المجتمع، مهيبة الجانب وهي محكمة الرأي العام. وهذه المحكمة هي التي تصدر الاحكام التي ترفع أناساً وتخفض آخرين وهي صوت الأمة([43]) هذا ويؤكد الاسلام على ضرورة الرجوع إلى الرأي العام للإستغاثة به في مختلف الأمور، حيث جعل حكم الرأي العام على المؤمن شريكاً لحكم الله ورسوله في تقويم أعمال المسئولين ومحاسبتهم، وقد نهج الرسول الكريم هذا المنهج فكان يرجع إلى أصحابه وقادة الرأي ويتعين بهم، بل ويرجع عن خططه إذا وجد في رأيهم صواباً([44]).

الفرع الثاني: رقابة الرأي العام في الاسلام

الحقيقة أن الرأي العام يتمتع بدور فعال في مجال الرقابة والهيمنة على مجريات الأمور في الحياة السياسية والدستورية - خاصة - أنه لسان حال الشعوب صاحبة السيادة والسلطان. ويثور التساؤل عن الدور الرقابي للرأي العام في الاسلام فقد منح الاسلام الرأي العام حقوقاً رقابية هامة، بيد أن الرأي العام - ذاته - حق يجب اتباعه في الاسلام وهو ما سنحاول ايضاحه على النحو التالي.

أولاً: الرأي العام حق يجب اتباعه.

إن الرأي العام في الاسلام هو ذلك المسمى في عرف رجال الفقه الاسلامي بالاجماع، وهو كما ذكروا، اتفاق أهل الحل العقد على أمر من الأمور الشرعية أو العقلية أو العرفية. لذا فقد بات الرأي العام حق يجب اتباعه، وأمر ثبت صوابه، فوجب على الأمة إظهاره، والأخذ به والجري على سنته ومما يدل على ذلك قول الرسول الكريم6 (لا تجتمع أمتي على خطأ) فإجماعها على أمر إنما يدل على أنه صواب وحق يجب امتثاله والنسج على منواله فاتباع الرأي الجماعي أمن وسلام للإنسان و وقاية له من شدائد الدنيا وعذاب الآخرة([45]).

ثانياً: رقابة الرأي العام دائمة وجادة:

أيضاً فإن رقابة الرأي العام دائمة وجادة، وهي أيضاً حاسمة حيث يجب على المؤمن لأخيه المؤمن الصفاء الذي لا تشوبه شائبة، والإخلاص غير المحدد، والمراقبة الكاملة([46]) مصداقاً لقول الرسول الكريم6 (المؤمن مرآة المؤمن) والمؤمن اخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه. أي يعاونه في معاشه وحاله.

ثالثاً:  ثورة الرأي العام على المنكر وجهاده في إزالته.

يكاد ينعقد الرأي العام في الاسلام على مقاومة المنكر، و وجوب الثورة عليه ومحاربته، ومحوه بكل ما يمكن من طاقة وبذل وجهاد المنكر واجب على المسلمين جميعاً كل بقدر ما يستطيع، ذلك لأن المنكر وباء إذا غفل عنه استشرى في الأمة، واستعمى علاجه، ولهذا فإن الاجماع على وجوب تغييره وإزالته بمجرد ظهوره([47]) قال تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذي ظلموا منكم خاصة واعلم وأن الله شديد العقاب) ([48]). ففي هذه الآية الكريمة اوجب الله تعالى على المؤمنين أن يأخذوا على أيدي الظالمين، ويمنعونهم من الاستمرار في الظلم، كما ذكر عن الرسول الكريم قوله (من رأى منكم منكراً فليغيره فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وفي هذا القول يتضح لنا مدى المهمة الوجبة على كل مسلم - حسب قدرته وطاقته - ومن ناحبة أخرى فقد نشأة في الاسلام وظائف تعتبر ذات طبيعة قضائية، فقد أفاض في شرحها وبيانها الدكتور سليمان الطماوي([49]) وهي ولاية المظالم والحسبة فوالي المظالم يختص باختصاصات كثيرة منها حسم المنازعات التي يعجز القضاء عن نظرها، وبسط سلطان الحق والقانون - خاصة - على كبار الولاة ورجال الدولة، وله في ذلك استدعاء الشهود من تلقاء نفسه سؤالهم عن الخصومة وابعادها وشهادتهم فيها بينما يختص المحتسب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  تصديقاً لقوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت لناس وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) ([50])

فيأمر المحتسب بالمعروف إذا ظهر تركه، وينهى عن المنكر إذا ظهر فعله، وهو يبحث عن المنكرات بنفسه ليعزز ويؤدب على قدرها، ويلزم الكافة بتعاليم الدين الاسلامي.

رابعاً: عقاب الخارجين والمنافقين ومروجي الإشاعات:

والخارجون على إجماع الأمة بعد قيام دلائل الحق الواضحة هم داء في جسم الأمة ينخر عظمها، ويهدد امنها وسلامتها، لذا فقد أوجب الاسلام عقابهم ومجازاتهم إما إذا تمادوا وسعوا في الارض فساداً فلا غرابة أن يدعوا الاسلام إلى بترهم من جسم الأمة إذ قال تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، الا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) ([51]) أما المنافقون الذين يبطنون غير ما يفعلون ويتظاهرون، وكذا مروجي الاشاعات الكاذبة بقصد بلبلة الرأي العام، وإثارة الفتنة فقد كفل الاسلام كيفية مواجهتهم وكبح جماحهم إذ قال تعالى (يا ايها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)([52]) وقال سبحانه (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً) ([53]) كما حذر الاسلام هؤلاء الذين يلبسون الحق بالباطل، ويقلبون الحقائق للاستيلاء على عقول العامة، و اوعدهم بعقاب شديد، فالاسلام يقدس الكرامة، ويدعوا إلى حرية الفكر واستقلال الرأي([54]). وخلاصة القول إن الاسلام اهتم اهتماماً بالغا ً   بالرأي العام و وضع له أساساً عاماً يناسب عمومه وعالميته، وصيرورته خالداً يصلح لكل زمان ومكان. وقد ساهم الاسلام في تربية وتنشئة الرأي العام وتوجيهه ورعايته، وحث على احترامه والعمل به، وخوله من السلطات الرقابية ما يسمح له بمواجهة الانحراف في السلطة، أو انتهاك حقوق وحريات الأمة، فضلاً عن تقويمه للخارجين عليه والمعتدين على أحكام الشريعة الغراء.

الخاتمة

إن ظاهرة الراي العام، بعد إن جذبت اهتمام المفكرين والباحثين في مجال العلوم الاجتماعية والتأريخية والنفسية، بدأت تجذب اهتمام الكثير من رجال القانون وعلماء السياسة، بالنظر لتوغلها الشديد في مجال الفكر الدستوري، بيد أن هذه الدراسة عسيرة وشاقة فهي من ناحية لم ترق بعد إلى مرتبة النظرية المنضبطة القواعد والاحكام والضوابط، ومن ناحية أخرى فإنها دراسة دقيقة تعتمد في الغالب على الحس و الملاحظة والتأمل.

ولا توجد حتى الان نظرية متفق عليها لتفسير ظاهرة الرأي العام، ولا ينتظر الوصول إلى مثل هذه النظرية في المستقبل القريب. إلا أننا نستطيع القول بأن الاسلام كدين ودولة مثالية قد أتى بجميع جوانب الرأي العام المعروفة اليوم، و إذا ما أردنا أن نبني نظرية لتفسير ظاهرة الرأي العام والكشف عن غموضها والوصول إلى تعريف محدد للرأي العام أن نرجع للشرعية الإسلامية الغراء في البحث عن ذلك وخاصة بأن الاسلام أعطى لكل فرد في المجتمع الاسلامي سواء كان ذكرُ أو أنثى، إذا كان بالغاً عاقلاً، ان يكون له رأي في مصير الدولة لأنه منعم عليه بنصيبه من الخلافة العمومية، ولم يحض الله عز وجل تلك الخلافة بشروط خاصة من الكفاءة والثروة، بل هي مشروطة بالايمان والعمل الصالح فحسب، فالمسلمون سواسية كأسنان المشط في جميع الحقوق.

إن المجتمع السياسي لا يمكن تصوره بدون سلطة حاكمة تنظمه وتتولى إدارته وتسيير شؤونه، وأن لكل نظام سياسي فلسفة معينة وثمة دراسة ونظام سياسي ما، لا تعتمد على القواعد الموضوعية بقدر ما تلزم دراسة تولي اهتماماً أكبر بالجانب الاجتماعي والواقع العملي. وأن النظام الاسلامي يختلف عن غيره من الأنظمة السياسية الوضعية ويتباعد عنها فله فلسفة معينة في نظام الحكم وتحديد قوى السلطة وأهدافها. فالاسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، أتى بمبادئ كلية عامة وهي خالدة تصلح لكل زمان ومكان. فالاسلام ليس ديناً فقط وانما دولة ونظام جامع بين العقيدة والشريعة وإن الشريعة الاسلامية عنيت - من بين ما عنيت - بالانسان وكرامته وحقوقه وحرياته على خير ما يكون، فالاسلام قد درء الأسباب التي تؤدي إلى الصراع بين الحاكم والمحكومين فضلاً عن اقراره للحقوق والحريات الاساسية خاصة حرية الرأي والفكر والقول.

المصادر

القرآن الكريم

2) د. صبحي عبده سعيد، السلطة والحرية في النظام الاسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1992.

3) د. محمد أنس قاسم، الوسيط في القانون العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995.

4) د. فؤاد العطار، النظم السياسية والقانون الدستوري، دار النهضة العربية، القاهرة،1999

5) د. سليمان الطماوي، السلطات الثلاث في الدساتير وفي الفكر السياسي الاسلامي، دار الفكر 

    العربي، القاهرة، 1979.

6) د. محمد أنس قاسم، النظم السياسية والقانون الدستوري، دار النهضة العربية، القاهرة،1999

7) د. اسماعيل ابراهيم البدوي، دعائم الحكم في الشريعة الاسلامية والنظم الدستورية المعاصرة، دار 

    النهضة العربية، القاهرة، 1994.

8) د. حسن أحمد علي ضمانات الحريات العامة وتطورها في النظم السياسية المعاصرة، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق جامعة القاهرة، 1978.

9) د. عبد الله بلقزيز، الدولة في الفكر الاسلامي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية،

     بيروت 2000.

10) د. بطرس بطرس غالي و د. محمود خيري، المدخل في علم السياسة، مكتبة الأنجلو

      المصرية، القاهرة، 1979. 

11) د. سعيد السراج، الرأي العام مقوماته وأثره في النظم السياسية المعاصرة، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، القاهرة، 1978.

12) د. محي الدين عبد الحليم، الاعلام الاسلامي وتطبيقاته العملية، مكتبه الخانجي، القاهرة،      1984

13) د. كريم يوسف كشاكش، الحريات العام في الأنظمة الدستورية المعاصرة، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1987.

14)د. محمد عبد الرؤوف بهنسي، الرأي العام في الاسلام، مؤسسة الخليج العربي، القاهرة،

      1987.

 

[1]- سورة الغاشية الآية (21 - 22)

[2]- سورة الحشر الآية (7)

[3]- سورة المائدة الآية (44)

[4]- سورة النساء الآية (135)

[5]- سورة الكهف الآية (29)

[6]- سورة آل عمران الآية ( 151)

[7]- سورة النحل الآية (90)

[8]- سورة آل عمران الآية (110)

[9]- سورة النساء الآية (59)

[10]- سورة النساء الآية (58)

[11]- د. صبحي عبده سعيد، السلطة والحرية في النظام الإسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1992، ص80.

[12]- د. محمد أنس قاسم جعفر، الوسيط فيا لقانون العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995، ص 254 وما بعدها.

[13]- سورة النساء الآية (1)

[14]- سورة الحجرات الآية (13)

[15]- د. فؤاد العطار، النظم السياسية والقانون الدستوري، دار النهضة العربية، القاهرة، 1999 ص94.

[16]- د. فؤاد العطار،  المصدر نفسه، ص 94 - 95

[17]- د. سلمان الطماوي، السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة،1979، ص31.

[18]- د. سلمان الطماوي، المصدر نفسه، ص 37.

[19]- د. محمد أنس قاسم، النظم السياسية والقانون الدستوري، دار النهضة العربية، القاهرة،  

    1999، ص 96 وما بعدها.

[20]- د. محمد انس قاسم، المصدر نفسه، ص 97 وما بعدها.

[21]- د. محمد أنس قاسم، النظم السياسية والقانون الدستوري، مصدر سابق، ص 97.

[22]- سورة آل عمران الآية (159)

[23]- سورة الشورى الآية (38) 

[24]- د. اسماعيل ابراهيم البدوي، دعائم الحكم في الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية المعاصرة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1994، ص234 وما بعدها

[25]- د. حسن أحمد علي، ضمانات الحريات العامة وتطورها في النظم السياسية المعاصرة، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق جامعة القاهرة، 1978، ص 173.

[26]- د. حسن أحمد علي، المصدر نفسه

[27]- د. حسن حمد علي، المصدر نفسه، ص1975.

[28]- د. عبد الله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،2000، ص217.

[29]- د. بطرس بطرس غالي، د. محمود فخري عيسى، المدخل في علم السياسة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1979،  ص7.

[30]- د. فؤاد العطار، مصدر سابق، ص93 وما بعدها.

[31]- سورة البقرة الآية 265.

[32]- سورة الإسراء الآية 70.

[33]- سورة البقرة الآية (30)

[34]- سورة العنكبوت الآية (20)

[35]- سورة يونس الآية (101)

[36]- د. صبحي عبده سعيد، مصدر سابق، ص295.

[37]- د. سعيد السراج، الرأي العام مقوماته وأثره في النظم السياسية المعاصرة، رسالة دكتوراه كلية الحقوق جامعة القاهرة، 1978،ص104.

[38]- د. محمد أنس قاسم، النظم السياسية والقانون الدستوري، مصدر سابق،ص108ومايعدها.

[39]- د. اسماعيل ابراهيم البدوي، مصدر سابق، ص209 وما بعدها.

[40]- سورة الاحزاب الآية (45 -46)

[41]- سورة الرعد الآية (40)

[42]- د. محي الدين عبد الحليم، الاعلام الاسلامي وتطبيقاته العملية، مكتبة الخانجي، القاهرة،1984، ص151.

[43]- د. كريم يوسف كشاكش، الحريات العامة في الانظمة السياسية المعاصرة، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1987، ص295 وما بعدها.

[44]- د. كريم يوسف كشاكش، المصدر نفسه، ص260 وما بعدها.

[45]- د. محمد عبد الرؤف بهنسي، الرأي العام في الاسلام، مؤسسة الخليج العربي، القاهرة، 1987، ص46.

[46]- د. محمد عبد الرؤوف بهنسي، المصدر نفسه،  ص39.

[47]- د. محمد عبد الرؤوف بهنسي، المصدر نفسه، ص39

[48]- سورة الأنفال الآية (25)

[49]- د. سليمان الطماوي، مصدر سابق، ص447.

[50]- سورة آل عمران الآية (110)

[51]- سورة المائدة الآيتين (33 -34)

[52]- سورة الحجرات الآية (6)

[53]- سورة النساء الآية (145)

[54]- د. محمد عبد الرؤوف بهنسي، مصدر سابق،ص31 وما بعدها