تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 262
إلى صفحة: 275
النص الكامل للبحث: PDF icon 6-13.pdf
خلاصة البحث:

يتناول البحث سيرة حياة شخصية اندلسية بارزة، عرفت بين المصنفين والباحثين بزعامتها في مجالي الطب والادب، ولا سيما الموشحات، فقد كان ابن زهر الحفيد المتوفي سنة 596هـ طبيبا ماهرا كأسلافه من بني زهر، استمد منهم علمه وخبرته واشتغل بالادب فكانت له اليد الطولى، اذ اتسمت موشحاته بالسلاسة والوضوح والايقاع الجميل، معبرة عن معاني وجدانية شفافة تتصل ببيئة الاندلس وطبيعتها الفاتنة، من خلال صور فنية متخيلة تنبض بالحيوية والحركة، مستخدما لذلك قدراته البارعة في التشخيص والتسليم، فجاءت محببة الى النفس، باعثة على التامل والاعجاب.وقد توزعت اغراضه بين الغزل والخمرة والطبيعة، والحكمة احيانا، غير انه دأب على المزج بينهما، مما جعل موشحاته غنية بالمعاني والصور المتنوعة، اثيرة لدى المتذوقين من العامة، تتداول السنة المغنين في مجالس الطرب.

البحث:

 

المستخلص:

يتناول البحث سيرة حياة شخصية اندلسية بارزة، عرفت بين المصنفين والباحثين بزعامتها في مجالي الطب والادب، ولا سيما الموشحات، فقد كان ابن زهر الحفيد المتوفي سنة 596هـ طبيبا ماهرا كأسلافه من بني زهر، استمد منهم علمه وخبرته واشتغل بالادب فكانت له اليد الطولى، اذ اتسمت موشحاته بالسلاسة والوضوح والايقاع الجميل، معبرة عن معاني وجدانية شفافة تتصل ببيئة الاندلس وطبيعتها الفاتنة، من خلال صور فنية متخيلة تنبض بالحيوية والحركة، مستخدما لذلك قدراته البارعة في التشخيص والتسليم، فجاءت محببة الى النفس، باعثة على التامل والاعجاب.

وقد توزعت اغراضه بين الغزل والخمرة والطبيعة، والحكمة احيانا، غير انه دأب على المزج بينهما، مما جعل موشحاته غنية بالمعاني والصور المتنوعة، اثيرة لدى المتذوقين من العامة، تتداول السنة المغنين في مجالس الطرب.

Abstract

This research tackles the life of a famous Andalusian figure, who was well known among bibliographists and researchers of being an authority in the fields of medicine and literature; especially the "Mowashahat". Ibn Zahr Al-Hafeed (died 596 H.) was a good doctor just like his ancestors of the Zahr family, from which he derived his knowledge and experience. Moreover, he practiced literary writings and was prominent in it. His Mowashahat were characterized with clarity, elegance, and beautiful rhythm, expressing delicate, passionate meanings related to the Andalusia environment and its charming nature, using images charged with vitality and powerfulness, employing his outstanding skill in personification and imagery building and the result arouses admiration and satisfaction.

His poetic themes vary from flirtation, to wine description, nature and sometimes wisdom, mixing sometimes among them; a thing that made his Mowashahat rich in meanings and imagery, his poems are favored by the common readers and are circulated among singers.

مقدمة

ابن زهر الحفيد واحد من ابرز شعراء الاندلس، الذين نظموا الموشحات، وطوروا هذا الفن الشعري الذي استحدث في اواسط القرن الثالث الهجري، بل يعده بعضهم صاحب مدرسة في فن التوشيح هي مدرسة الطبع والبساطة، التي كان اثرها فيمن تبعه من الوشاحين.

وعلى الرغم من براعته في نظم الشعر، وتميزه في فن التوشيح، فضلا عن تفوقه في علوم الطب التي ورثها عن اسلافه، واتقن صنعتها، فغطت شهرته القرن السادس الهجري وما بعده، الا انه لم يدرك الحظوة الكافية لدى الباحثين ومؤرخي الادب في الكشف عن خصائص شعره، عدا دراسة الدكتور فوزي سعيد القيمة، التي هدتني ودفعتني الى تتبع ذكره في مصادر الشعر الاندلسي، لاقف على جانب من مظاهر تميزه من غيره، واتعرف حقيقة منزلته الادبية، فضلا عن الافادة من نتائجها الطيبة عبر رؤية معاصرة.

لقد ظهر لي – بعد وقوفي على قدر لابأس به من جوانب حياته وشعره – ان اقيم خطتي للبحث على ثلاثة فصول، يسبقها تمهيد وجيز اعرض من خلاله شيئا عن حياة بني زهر العلمية والادبية، فقد عرفت بزعامتها في علوم الطب واشتغالها بالادب في الاندلس.. ثم انتقل الى الفصل الاول فاتناول فيه حياة ابن زهر وثقافته ومنزلته الادبية، على حين يتناول الثاني موضوعات شعره وموشحاته، فيما يتناول الفصل الثالث دراسة فنية لموشحاته، ثم الحقته بخاتمة الخص فيها ابرز سمات التميز الذي عرف بها ابن زهر الحفيد في مجال الادب، وما توصلت اليه من نتائج اخرى.

ولي – بعد ذلك – ان التمس العذر عما رافق دراستي المتواضعة هذه من اخطاء غير معتمدة..

ومن الله العون، انه مجيب الدعاء.

تمهيد:

عرفت اسرة بني زهر – التي ينتمي اليها ابو بكر بن زهر الحفيد – من الاسر الاندلسية العريقة، التي توارثت زعامة الطب على مدى ستة اجيال، بدءا بعميدهم الاكبر محمد بن مروان ابن زهر الايادي / تـ / 452 وانتهاء بابي محمد عبد الله بن ابي زهر / تـ 602هـ، وقد كانت جهود اسرة بني زهر في الطب تتويجا لجهود اطباء اندلسيين سبقوهم، من اشهرهم ابو الوليد بن رشد صاحب كتاب ( الكليات ) في التشريح ووظائف الاعضاء، ثم آلت الى بني زهر رئاسة الطب فتوارثوها جيلا بعد جيل، وحظوا بمكانة كبيرة لدى الخلفاء والامراء، ولم يقتصر الاشتغال بالطب على رجال بني زهر وحدهم بل شاركتهم نساؤهم، فاشتهرت منهم أخت ابن زهر الحفيد وابنتها..[1].

واذا ماتتبعنا مجهودات كل واحد منهم الفينا ان محمد بن مروان بن زهر، وهو على رأس عائلة بني زهر والجد الاكبر لابن زهر الحفيد، وشهرته ابو بكر، اشتغل بعلم الحديث، وكان عالما بالراي حافظا للادب فقيها متقنا للعلوم، توفي سنة 422 هـ، فخلفه ابنه عبد الملك الذي يعد اول من اشتغل بصناعة مهنة الطب في اسرة بني زهر، ولذلك يعده بعضهم العميد الفعلي لبني زهر [2]، وقد رحل الى المشرق وتطبب به زمنا، وتولى رئاسة الطب ببغداد، ثم بمصر، ثم القيروان ثم قفل الى الاندلس واستوطن مدينة ( دانية ) واشتهر في الاندلس كلها بالتقدم في علم الطب حتى تفوق على اهل زمانه، وحظي بمكانة مرموقة في بلاط مجاهد العامري ملك دانية. ثم يليه في وراثة التطبيب ابنه ( ابو العلاء زهر بن عبد الملك بن زهر ) وهو جد ابي بكر بن زهر ( الحفيد )، وقد روي عن ابيه فنون العلم التي جلبها من المشرق، وكان قد اشتغل بصناعة الطب وهو صغير في ايام المعتضد بالله، واشتغل بعلم الادب، وهو حسن التصنيف، جيد التاليف [3]، وكان ابن زهر هذا، الذي اصبح وزيرا تحت حكم المرابطين راس اسرة كاملة من اطباء بارزين[4]

وقد فاقت براعته حدا جعل ابن بسام يخصه في ذخيرته بترجمة طويلة، اشار من خلالها الى انه نشا بشرق الاندلس والافاق، تتهادى عجائبه، والشام والعراق تتدارس بدائعه وغرائبه، ومال الى علم الابدان [5] وقد حظي في ايام المرابطين بمنزلة رفيعة، ولكنه ظل على وفائه للمعتمد في اثناء اعتقاله، فكان ذلك باعثا لان يخاطب المعتمد ابا العلاء قائلا:

جزيت ابـا العـلاء جـزاء بـر
سيسلى الكل عما فات علمي
 

 

نوى برا وصاحبك العلاء
بـان الكـل يدركــه الفنــاء
 

واجابه ابو العلاء بابيات من بينها:

تنافست المـراتب فيـك حتى
ولكــن الزمـان بلــؤم طبــع
ومثلك عز قدرك عن مثيلا
وغايـة كل شيـئ لانتهـــــاء
 

 

حللـت العسـر اذ نحـب الشقاء
على الحر الشريف له اعتـداء
يؤمــل ان يطــول لــه البقــاء
وانت لغايـــة المجــد انتهـــاء
 

ولابي العلاء بن زهر هذا تآليف كثيرة انتسخت عام 526هـ منها كتاب ( الخواص )وكتاب حل شكوك الرازي على كتب جالينوس، وكتاب النكت الطبية. وبعد وفاته انتقلت زعامة الطب الى ابنه عبد الله بن زهر بن عبد الملك بن زهر، وهو والد شاعرنا ( ابي بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر )، وقد اخذ عبد الملك هذا علم الطب عن ابيه ابي العلاء. ويرى بعض المؤرخين ان ابا مروان بن زهر يعد اعظم بني زهر جميعا في صناعة الطب، فالف الى جانب كتاب الاقتصاد كتابا في الاغذية والادوية، وكتاب التيسير اهداه الى ابن رشد، الذي يعد خير ما الف في الطب العلمي [6] وقد توفي ابو مروان بن زهر والد ابن زهر الحفيد سنة 557 هـ بمراكش ودفن في اشبيلية في مقبرة بني زهر، وكان الحفيد قد اوصى ان تكتب على قبره هذه الابيات التي تشير الى معاناته:

تامــــل بحقـــك يـا واقفـــا
تراب الضريح على وجنتي
أداوي الانام حذار المنــون

 

ولاحظ مكانــا دفعــنا اليـــــه[7]
كاني لــم أمش يومـا عليـه
وها انا قد صرت رهنا لديه
 

الفصل الاول: حياته وثقافته ومنزلته الادبية

اسمه ونسبه:

هو محمد بن عبد الملك بن زهر بن عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الايادي، وينحدر من اصل عربي عريق حيث ينتمي الى قبيلة إياد.

ولادته:

ولد ابو بكر بن زهر في مدينة اشبيلية سنة 507 هـ، وهو من ابرز اعيان بيت ابن زهر، الذي كان منهم العلماء والحكماء والوزراء، ونال المراتب العالية لدى الملوك والامراء [8].

وقد انفرد ابن زهر الحفيد بالامامة في علم الطب بعد ان اخذ الصناعة عن ابيه عبد الملك، وعن جده ابي العلاء زهر بن عبد الملك، اذ كان ابوه قد تعهد بالرعاية والتوجيه منذ صغره، وكان استاذه المباشر في صناعة الطب، فبرع في صناعته حتى نال تقدما وحظوة عند السلاطين، وحمل الناس عنه تصانيفه وكان يلقب بشيخ الطب وجالينوس العصر [9].

ثقافته:

لم تقتصر ثقافة ابن زهر على مجال الطب حسب، بل تعددت الى ميادين اخرى، فقد نال شهرة واسعة في علوم اللغة والادب، فكان حافظا للقرآن، ولاشعار العرب، وقد سمع الحديث النبوي الشريف، وقيل انه كان يحفظ صحيح البخاري كله، فضلا عن حفظه للقران الكريم والشعر.. فثقافته كما يتضح تنوعت بين الطب والادب واللغة والحديث والفقه، لذلك يقال في وصفه:

( الوزير الطبيب الرئيس الاديب الفقيه ) [10].

وقد اخذ عنه بعض المشاهير مثل ابي علي الشلوبين وابن دحية صاحب ( المطرب ) وهو من أجل تلاميذه، وكان لابن زهر تصانيف حملها الناس عنه منها ( طب العيون ) و ( الترياق الخمسيني ) الذي الفه المنصور الموحدي، وهما في الطب.

اما في الادب فقد اعجب معاصروه بطريقته التي انفرد بها في التوشيح،التي تقوم على البساطة والطبع وعدم التكلف، فحظيت بشهرة كبيرة في المغرب والمشرق على السواء، وكان لابن زهر منتدى ادبي يقصده الادباء تدور فيه المساجلات والمناقشات والاحكام وغير ذلك من

بدرتم شمس ضحى غصن نقا مسك شم

ما اتـم ما اوضحـــى ما اورقـا ما انـــم

لا جرم مــــن لمحـــا قد عشقـا قد حرم

وهذا يشير الى ان ابن زهر كان موضع التقدير والاجلال من ادباء عصره، فهو امام الصناعة والمقدر فيها، يعتد بآرائه واحكامه. (( اذ ان الموشحات التي نالت استحسانه مثلت وجهة نظره في النموذج الاعلى للموشح متمثلا ببساطة المعاني وعذوبة الالفاظ والسياق المسترسل والموسيقى الهزازة والخرجة الطريفة المباشرة، مما هيأ له زعامة وشاحي عصره، وان يكون صاحب طريقة في التوشيح يقتدي بها كثير من الوشاحين )) [11]، اما سائر شعره التقليدي فان القصائد القليلة التي اثرت عنه لا تسمح لنا باطلاق حكم فني دقيق بشانها.

شيئ عن نشاته وسيرته:

عرف ابي بكر بن زهر الحفيد – بين المؤرخين وارباب التراجم، بانه كان قوي الدين ملازما للامور الشعرية، محبا للخير، ومهيبا، قوي النفس، جريئا سمحا جوادا، فقد كان لوالده اثر كبير في نشاته وتربيته تربية صالحة فقد روي عنه ذلك الكثير في اصحاب التراجم، ولاسيما ابن ابي اصيبعه والمقري.. وتشير احدى الروايات الى ان الاب كان دؤوبا على متابعة جهود ابنه لاسيما في مجالات الادب، فكان يستمع الى ما نظمه من موشحات، وعندما سمع موشحة ابن زهر التي يقول فيها:

( وفداه بابي ثم بي.. )

علق عليها بما يشير الى خفة ظله، وميله الى النكتة والنادرة فقال (( يفديه بالعجوز السوء امه، واما انا فلا....! ؟ )) وقد نال ابن زهر الحفيد من المكانة المرموقة بين حكام الاندلس ما جعله يتسلم المناصب العالية، مثل رياسة بلدة، وادرك دولة المرابطين واستمر في خدمتهم مع ابيه حتى سقطت دولتهم، فاتصل بالموحدين حتى مات ابوه في خلافة عبد المؤمن بينما ظل هو في خدمة عبد المؤمن وابنائه ابي يغقوب يوسف ثم ابنه يعقوب المنصور، وكان يصحبه في حله وترحاله، وظل على هذا الحال من التقدير، حتى بعد وفاته.

وفاتــــه:

تتفق معظم التصانيف على ان وفاة ابن زهر الحفيد كانت سنة 595هـ، فيما يرى ابن ابي اصيبعة ان وفاته حدثت سنة 596 هـ، نتيجة سم دس له في طعامه، بمكيدة دبرها له ابو زيد عبد الرحمن بن يوجان وزير المنصور، حسدا منه بسبب علو منزلته وعظيم علمه [12] وقد خلف بعده ولده ابا محمد عبد الله الذي كانت له مكانة مرموقة لدى الناصر بعد وفاة والده، بسبب منزلته العلمية والادبية، وقد كانت ولادته سنة 577هـ في اشبيلية، ووفاته مسموما كابيه سنة 602هـ، وقد ولد لابي محمد هذا ولدان: ابو مروان عبد الملك، وابو العلاء محمد، اللذان اعتنيا بصناعة الطب، واقاما في اشبيلية حتى وفاتهما [13].

الفصل الثاني: موشحاته: نشاتها وموضوعاتها

الموشحات كما عرفها الدكتور محمد مهدي البصير – " ضرب من الكلام المنظوم تتعدد اوزانه وتتنوع قوافيه تبعا لرغبة قائله وقدرته على التصرف في افانين الكلام " [14]. ولم يثبت على وجه التحقيق كيف نشات الموشحات، ومن هو اول من نظمها، ومتى استقرت على قواعدها وما عدد اوزانها، فالباحثون على خلاف في هذا الامر، فمنهم من ينسب اقدم موشح الى ابن المعتز في المشرق في القرن الثالث للهجرة، وهو موشح ( ايها الساقي اليك المشتكى ) [15] ومنه من ينسبه الى المغرب، فيجعل الموشح نفسه لابن زهر، وان اول من ابتدع الموشح هو مقدم بن معاقى القبري شاعر الامير عبد الله بن محمد المرواني في الاندلس، فقد ذكر ذلك ابن خلدون في قوله " واما اهل الاندلس، فاستحدث المتناظرون منهم فنا سموه الموشح " [16] وقد اكد نسبة موشحة ( ايها الساقي ) لابن زهر تلميذه "بن دحية وابن سعيد وابن الخطيب والصفدي وياقوت الحموي وابن ابي اصيبعة والنواجي " [17] وعلى اية حال فاننا مع من ذهب الى ان الموشحات نشات متاثرة بالانماط العربية المشرقية كالمسمطات والمخمسات والفنون الشعرية الاخرى كالمواليا والرباعيات والكان وكان.." وساعدت البيئة الاندلسية المنعمة لمجالس الطرب والغناء والموسيقى على تطورها وانتشارها.

ومهما يكن من امر ما يهمنا ان ابن زهر ( الحفيد ) عد من ابرز الوشاحين في عصره، نظم في معظم اغراضها، فموشحاته – كما يرى مصطفى الشكعة، (( من ارق ما كتب في هذا الفن على الاطلاق، وهو مكثر عددا، متنوع فنا وموضوعا، مبدع صوغا ومعنى )) [18]، ولاسيما الغزل الذي استاثر بمعظم موشحاته، مما يدل على ابتعاده عن التكسب، وانما جاء استجابة لطبعه وتعبيرا عن احساسه، بعيدا عن التكلف والتعقيد مؤثرا السهولة والوضوح وايراد الايقاعات الغنائية الخالصة. (( وقد كان مقتدرا، ذا سلطان عليها، يستدعي معانيها فتجيبه، ويدعو قوافيها فتنقاد اليه، وكثيرا ما كان يمزج ما بين الاغراض، ولاسيما الغزل والخمريات والطبيعة، فيرق ويفتن )) [19] مثل قوله:

شاب مسكَ الليل كافورُ الصباح ووشت بالروض أعراف الرياح

* * *

فاسقنيهـــا قبــل نـور الفلــق

وغنــــاء الـورق بين الـورق

كاحمرار الشمس عند الشفق

ويتسم غزله بالطابع العذري مرددا معانيه الوجدانية العميقة، فيقول:

هــام قلبــي في معذبـــه

وانـا اشكــــو لمطلبــــه

وان كتمت الحب مت به

واذا ما صحــتُ واكبــدا فرح الاعداءُ وانتقدوا

ويكثر ابن زهر من الرموز والصور والاشارات والالفاظ المتصلة بمهنة الطب، كقوله:

قلب قريح وفي الفؤاد كلوم ابدا تدمي

وثمة ظاهرة اخرى في غزله وهي تضمينه معانيَ الحكمة والامثال، لتكون قريبة من الناس وتفكيرهم ولغتهم المالوفة، ولا سيما في المطالع، كقوله:

مسلم الامر للقضا فهو للنفس انفعُ

- اما خمرياته، فقد اتسمت بالرقة والعذوبة، وان كانت ممزوجة مع غيرها من الاغراض، وبخاصة الغزل والطبيعة، كما مر بنا في موشحة:

( شابَ مسكَ الليل كافورُ الصباح ). او قوله:

يا مــــــن تعاطينـــــا الكؤوس على اوكاره

وقضــــى علــــى قلبي فلـــم ياخـــذ بثـــاره

واقر احكــــام، القصــــــاص على اختياره

ان أقل حسبـــــي فالجور تاباه الطباع [20]

ولعل من اجمل موشحات الخمر واشهرها موشحة ابن زهر، التي يتغزل بها بالساقي ويصفه وصفا بديعا يدل على مهارة واقتدار، مما جعلها تحضى بشهرة واسعة تناقلتها الاجيال، حيث يقول فيها:

ايها الساقي اليك المشتكى كم دعوناك وان لم تسمع

* * *

نديـــــم همــت في غرتــه

وشربت الراح من راحته

كلما استيقظ من سكرتــه

جذب الزق اليه واشتكى وسقاني اربعا في اربع

- وتاتي الطبيعة في موشحاته حافلة بالجمال والمعاني الشفافة، بتلقائية ممتعة، مما يؤكد ((ان ابن زهر فتح بموشحاته باب الطبيعة لغيره من الوشاحين، كما بدت عليه موشحته السابقة ))

( شاب مسك الليل كافور الصباح ووشت بالروض اعراف الرياح )[21]

وله كذلك موشحات قليلة خص بها الامراء، اتسمت بالصدق والابتعاد عن التكسب، وانما جاءت اعترافا بحسن الصنيع، منها قوله في مدح الامير ابي حفص الموحدي:

يابن الناصـر المنصور
انت الامـن للمذعــــور
فكـــم جــــذل مســرور
ابو حفص هـ سلطــاني
هـ آمـنـــي هـ اغـانـــي

 

يابن المجـد اجمع
ممـــــا يتوقــــــع
يقــــول ويسمـــع
الله يحـــــرز لـي
هـ بلغــن سولــي
 

0 اما موضوعات شعره التقليدي، فعلى الرغم من قلة قصائده ومقطوعاته في هذا الضرب – على اجادته فيه – فقد تنوعت اغراضها بين الغزل والخمريات وموضوعات اخرى، منها قوله يتغزل من ( الكامل ):

يامــن يذكرنــي بعهــــد احبتــي

معــد الحديث علي مـن جنبـاتــه

ملأ الضلوع وفاض عن احنائها

مـا زال يضـرب خافقــا بجناحه

 

طاب الحديث بذكرهم ويطيب
ان الحديث عن الحبيب حبيب
قلــب اذا ذكــر الحبيب يـذوب
ياليت شعري هل تطير قلوب
 

وينطوي غزله على بعض الجوانب الحسية، وهو يمزج بين الغزل والخمرة – كما فعل في موشحاته – فها هو يقول من (البسيط):

ولي حبيب مليح الدل ذو غنج

فـان تعــذر او عزت مطالبـه

 

حلــو الشمــائل ما في لثمــه بـاس

فالكاس والكيس وسواس وخناس
 

ويتسم شعره الذاتي بالرقة ومسحة من الحكمة، لاسيما في مرحلة شيخوخته فنراه يصف حاله والشيب قد غزا راسه ((ومدى تاثير فكرة الصيرورة والتحول القديمة فيه)) [22]:

اني نظرت الى المرآة اذ جليت
رايت فيها شُييخا لست اعرفــه
فقلـت اين الذي مثواه كان هنــا ؟
استجهلتني وقالت لي وما نطقت
هــون عليــك فهـــذا لابقـــاء لـه
 

 

فانكــرت مقلتـاي كـل مــا راتـــا
وكنت اعـرف فيهـا قبـل ذاك فتـى
متى ترحل عن هذا المكان ؟ متى ؟
قـد كـان ذاك وهـذا بعـد ذاك اتــى
امـا تـرى العشـب يفنـى بعدما نبتا

ومهما يكن من امر فان قليل شعره التقليدي كان – كما ذهبنا في موشحاته – سلسا رقيقا شجي الايقاع، معبرا عن احساسه المرهف ومشاعره الصادقة. وان شاب بعضه طابع التصنع احيانا.

الفصل الثالث: دراسة فنية

الموشحات فن طريف من فنون القافية، وكان له دور كبير في تاريخ الادب العربي، ولاسيما في الاندلس، وهو – كما عرفه ابن سناء الملك – كلام منظوم على وزن مخصوص، يتالف في الاكثر من ستة اقفال وخمسة ابيات، ويقال له التام، وفي الاقل من خمسة اقفال وخمسة ابيات ويقال له ( الاقرع ).. وقد سمي هذا الفن بالموشح لما فيه من ترصيع وتزيين وتناظر وصنعة، فكانهم شبهوه بوشاح المراة المرصع باللؤلؤ والجوهر[23] فالموشح إذن بناء هندسي له قوانينه الخاصة، فهو يبدا بالمطلع اذا كان تاما، يليه الدور الذي يتالف من عدة اجزاء متخذة الوزن والقافية وعدد الاجزاء، وتتوالى بعد ذلك الادوار والاقفال حتى تصل الى الخرجة في ختام الموشح، الذي يتالف في الغالب من خمسة ابيات.. و ( البيت ) في مصطلح الموشح غيره في القصيدة التقليدية، فهو في الموشح يتكون من الدور والقفل، ويسمى ( البيت الدوري ).

*- البنية: وفي موشحات ابن زهر الحفيد تتنوع انماط البنية، فقد تاتي في ابسط انواعها من غير ترصيع، وقد ياتي بالدور مزدوجا مصرعا، وكثيرا ما يستخدم الترصيع في الاقفال والادوار، فضلا عن استخدامه ( التضمين ) في بنائها، والذي يحقق من خلالها الترابط والتلاحم والانسجام بين اجزاء الموشحة، او من خلال تعليق القوافي حتى لا يستقل جزء بمعناه، ويجذب انتباه الناس او السامع اليه، مثل قوله:

ياطلعة الشمس اما جعلت قربي حلمــا
ولـم نعــرج كلمـــا
وقـام للوجــد دليــل
اخذت في قتل بري

 

أصلحت ذاك الخلقا
هيجت جسمي حرقا
جئتك اشكو الارقـــا
بالســر مني اخبرك
ولــم تـحقق نظــرك
 

*- اللغة: اما لغة موشحاته، فتتميز بالرقة والبساطة وعدم التكلف بما يجعلها قريبة من لغة الكلام ومنثورة... وهي مطالب اساسية للمغنين، كقوله:

يافؤادي عزاء كلما الله شاء هل ترد القضاء فلتول الدعاء

ان يرد القطار فيعود المزار

وكثيرا ماكان يسكن اواخر الكلمات في الفقرة لتلائم الغناء، كما ظهر في المثال السابق، وكان يكثر من استخدام الاساليب الانشائية مثل حروف الاستفهام وصيغ النداء، كقوله:

( يامن يطيل من الصدود كفاكا استمع مني.. )

*- الصور الفنية: اما صوره الفنية، فتشكل عنصرا اساسيا في شعره، فهي تخضع لتلك السمات العامة التي تتنيز بها مدرسته المتمثلة بالبساطة والوضوح، مع اقتران بالخيال الخصب، وكثيرا مايستعين بعنصر الحركة في رسم لوحاته، فتاتي الصور نابضة بالحياة كهذه الصورة:

مقلــة جادت بما ملكت

عرفت ذل الهوى فبكت

وشكــت مما بهـا ورثت

وفؤادي هام ابدا ما عليه للسلو يد

لقد استحالت اعضاء الجسد الى شخوص متحركة متحدثة، ومن بين صوره الفنية البسيطة الشائعة ما يعرف بتراكم التشبيهات، كقوله:

يوسفي الحسن عــذب المبتســم

قمـري الوجـه ليــلـي اللـــمم

عنتــري الباس علــوي الهـمــم

غصنــي القـــد مهضوم الوشاح

ما دري الوصل طائـــي السمـاح

وبهذا السياق كان ابن زهر ينوع في طبيعة صوره المتخيلة، فيضمنها تراكيبه اللغوية السهلة الواضحة، مما اخفق غيره من الوشاحين.

*- الوزن: وقد اشتملت موشحات ابن زهر على نوعين من العروض:

الاولى: ما يجري على الاوزان الخليلية التقليدية دون تغيير او حذف او اضافة كموشح:

( ايها الساقي اليك المشتكى)، فهو من بحر (الرمل): (فاعلاتن فاعلاتن فاعلن) مكرر، وقد تتنوع لديه مظاهر التجديد في الاوزان، فيعتمد الى التجزئة في الوزن، كما فعل في موشحته:

لأتبعــن الهــوى الى اقــاصيــه

حتى يقول فريق رقت حواشيه

فقد جزأ تفعيلات بحر البسيط، فجاءت ( مستفعلن مستفعلن × مستفعلن مستفعلن )

وتتغير صور المنشرح في موشحته:

هات ابنة الطيب × واشرب

فياتي وزنها على هذا النحو:

(مستفعلن مفعو × لات فع )

وقد يستعمل الوزن مقلوبا، مثل قوله من مقلوب البسيط، مع الحذف:

صادني و / لم يدر ما / صادا

فجاء وزن الدور: ( فاعلات مستفعلن فعلن )

فهو كما نلاحظه يعنى كثيرا بموسيقى شعره، وتطوير اوزانه وتطويعها للغناء، بما لم يدعها تخرج عن اطار العروض العربي.

*- اما ( الخرجة ) التي تشكل الجزء الاخير من الموشح، فتتاثر باهتمام ابن زهر، اذ كثيرا ما يوردها عامية كما درج عليه الوشاح، توخيا لمبدئه في البساطة والوضوح والاقتراب من الكلام العادي، والتي غالبا ما تكون ماخوذة من اغان شائعة مثل:

( رد الســلام يــا صبـــي بالنبي ) او

( رب يا رب هذا الحبيب اجمعني ماع ) [24]

وهي كما نلاحظها بارعة في الصياغة على الرغم من بساطتها ووضوحها وارتباطها بمنثور الكلام العادي (( ولا سيما عندما ياتي بها ساكنة )) [25]

*- انموذج: وهذا انموذج من موشحاته من مقلوب البسيط، ذي الخرجة العامية، ودوره: (فاعلاتن مستفعلن فعلن ) [26]

1) صادني ولم يدر ما صـادا

شـادن سبي الليث فانقــادا

واستـخف بالبـدر او كـــادا

ياله قد ضم بالغصن ازراه

وبالحقف زناره

* * *

2) لــو اجــاز حكمــي عليه

لاقترحــت تقبيــل نعليــه

لا اقــــول الثــم خــديــــه

انا من يعظم والله مقداره

ويلزم اكباره

* * *

3) ياسماك حسبـك او حسبـي

قد قضيت في حبكـم نحبـي

واحتسـبت نفسـي في الحب

انها نفسي لذا الحب مختاره

وبالسوء امارة

* * *

4) عارض الفــؤاد باشجـانــه

ومضى على حكم سلطانه

فانبريت في بعض اوطانه

تارة اقبل في الترب اثاره

واندبه تاره

* * *

5) أيـهــــا المــدل بــاجفـــانــــه

كــم وفيت والغــدر من شــأنه

واقــول في بــعض هجرانــه

وعليش حبيب قطعت الزيارة

وعينيك سحارة

* * *

الخاتمة:

في الصفحات المتقدمة طالعتنا سيرة حياة شخصية اندلسية بارزة، عرفت بين المصنفين والباحثين بزعامتها في مجالي الطب والادب، ولا سيما الموشحات، فقد كان ابن زهر الحفيد المتوفي سنة 596هـ طبيبا ماهرا كأسلافه من بني زهر، استمد منهم علمه وخبرته واشتغل بالادب فكانت له اليد الطولى، اذ اتسمت موشحاته بالسلاسة والوضوح والايقاع الجميل، معبرة عن معاني وجدانية شفافة تتصل ببيئة الاندلس وطبيعتها الفاتنة، من خلال صور فنية متخيلة تنبض بالحيوية والحركة، مستخدما لذلك قدراته البارعة في التشخيص والتسليم، فجاءت محببة الى النفس، باعثة على التامل والاعجاب.

وقد توزعت اغراضه بين الغزل والخمرة والطبيعة، والحكمة احيانا، غير انه دأب على المزج بينهما، مما جعل موشحاته غنية بالمعاني والصور المتنوعة، اثيرة لدى المتذوقين من العامة، تتداول السنة المغنين في مجالس الطرب.

اخيرا ارجو ان اكون قد وفقت في نقل صورة متواضعة عن تلك الشخصية المهمة، املا ان اجد لدى القارئ الكريم العذرعما رافق هذه الدراسة المتواضعة من قصور غير متعمد.. والله المستعان على بلوغ الصواب.

انه سميع الدعاء..

اهم المصادر والمراجع

1. الادب الاندلسي: موضوعاته وفنونه: د. مصطفى الشكعة: دار العلم / بيروت، طبعة 3 / 1975.

2. ابن زهر الحفيد: وشاح الاندلس: د. فوزي سعيد عيسى: منشأة دار المعارف بالاسكندرية / 1983.

3. الذخيرة في محاسن اهل الجزيرة: ابن بسام: تحقيق د. احسان عباس: بيروت / 1979.

4. شذرات الذهب: ابن العماد الحنبلي: مجلد 2 ج 3: دار الكتب العلمية: بيروت / بدون تأريخ.

5. فن التقطيع الشعري: د. صفاء خلوصي: بيروت / 1961م.

6. في الادب الاندلسي: د. جودت الركابي: دار المعارف بمصر / 1975.

7. معجم الادباء: ياقوت الحموي: دار المشرق: بيروت: لبنان / بدون تأريخ.

8. نفح الطيب: المقري: تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد: القاهرة / 1367هـ.

الدراسات:

ابن زهر الحفيد الاندلسي: د. محمد مجيد السعيد: مجلة المورد العراقية: عدد 2 لسنة 1980.

الهوامش

 


 

[1] - ينظر: عيون الانباء في طبقات الاطباء: ابن ابي اصيبعة: تحقيق د. نزار رضا، مكتبة الحياة، بيروت / 521 – 528.

[2] - ينظر: نفح الطيب: المقري: تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، لبنان: 3/ 16 – 20.

[3] - ينظر: طبقات الاطباء / 522 – 523.

[4] - ينظر: تاريخ الادب العباسي: نيكلسن: ترجمة وتحقيق د. صفاء خلوصي: بغداد 1967 / 254.

[5] - ينظر: الذخيرة في محاسن اهل الجزيرة: ابن بسام: تحقيق د. احسان عباس: بيروت: 1979 / 219 – 220

[6] - انظر: ابن زهر ( الحفيد ) وشاح الاندلس: د. فوزي سعيد عيسى: منشاة المعارف بالاسكندرية: 17 - 22

[7] - معجم الادباء: ياقوت الحموي: دار المشرق: بيروت: بدون تاريخ /18/225.

[8] - طبقات الاطباء / 526 – 527

[9] - ينظر: شذرات الذهب: ابن عماد الحنبلي، المجلد 2: جزء 3: دار الكتب العلمية: بيروت / 148.

[10] - نفسه / 24.

[11] - انظر: ابن زهر الحفيد / 122 – 123.

[12] - انظر: طبقات الاطباء / 524.

[13] - نفسه / 528

[14] - الموشح في الاندلس وفي المشرق: د. محمد مهدي البصير: مطبعة المعارف: بغداد، سنة 1948 / 8.

[15] - فن التقطيع الشعري: ىد. صفاء خلوصي: بيروت: 1961 / 302 – 303.

[16] - مقدمة ابن خلدون: ط بولاق /.

[17] - ابن زهر الحفيد / 41 – 42.

[18] - الادب الاندلسي، موضوعاته وفنونه: د. مصطفى الشكعة: دار العلم للملايين: بيروت: 1975 / ط3 / 417.

[19] - نفسه / 419 – 420.

[20] - ابن زهر الحفيد / 62 – 64.

[21] - الادب الاندلسي / 420.

[22] - ابن زهر الحفيد الاندلسي: د. محمد مجيد السعيد: مجلة المورد: عدد 2 لسنة 1980 / 18.

[23] - ينظر: في الادب الاندلسي: د. جودت الركابي: دار المعارف بمصر: 1975 / 293.

[24] - ينظر: ابن زهر الحفيد: 101 – 105.

[25] - ينظر: ابن زهر الحفيد الاندلسي / 23.

[26] - ابن زهر الحفيد: / 173.