mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 006.doc

التنشئة الربانية والشخصية المتكاملة

لم تكن الظروف الاجتماعية والبيئة المتخلفة في الجزيرة العربية لتسمح بنشأة رجل منقذ يتسامي على القيم القائمة في المجتمع ويصل إلى الذروة الإنسانية في الخلق والفضيلة وإلى قمة الاعتقاد والايمان، ولم يكن وجود رجل كمحمد (صلى الله عليه وآله) ممكناً في الجزيرة العربية لولا الرعاية الالهية التي حلت مع اللحظة الأولى في اللقاء الذي تم بين فتى بني هاشم وبين عروسة بني زهرة آمنة بنت وهب فقد كانت يد الرعاية الالهية تمس ذلك النبي العظيم وهو بعد لم يكن سوى نطفة في صلب عبدالله ثم جنين في أحشاء آمنة ثم وليداً، فقبل ان يرى الوليد النور توفى والده عبدالله أثناء رحلة له إلى الشام لغرض التجارة.

وقد حز في نفس الزوجة الوفية ان يولد مولودها دون ان يرى لنفسه والدا يرعاه لكن كانت الرعاية الالهية مرافقة لمحمد (صلى الله عليه وآله) ولربما كان هذا هو السر وراء موت عبدالله فقد ترك موته المجال أمام إرادة الله لأن تحتضن محمد (صلى الله عليه وآله) إليه الآية الكريمة {أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى}.

لقد تجلت الرعاية الالهية منذ اليوم الأول من ولادته فقد قذف الله حب محمد (صلى الله عليه وآله) في قلب جده عبد المطلب الذي راح يختار له بين الأسماء أجملها فسماه محمداً على غير عادة العرب يومذاك وعندما اعترض عليه رجالات قريش هذه التسمية قال لهم أردت ان يكون محموداً في السماء لله وفي الأرض لخلقه.

وراح عبد المطلب يقدم محمداً على أولاده ويضاعف من اهتمامه به فاخذ يترقب المرضعات على عادة أشراف قريش ولم يتوان في البحث عن مرضعة مناسبة لوليده مستهيناً بتكاليف ذلك وما يحمله من أعباء مادية.

وجاءت المرضعات إلى مكة وانصرفن عن محمد (صلى الله عليه وآله) لأنهن كن يرتجين البر من الأباء. فليس هناك ما يثير حماسهن لإرضاع اليتيم إلا حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية التي أعرضت عن محمد أول الأمر ثم اضطرت ان تعود إليه لأنها لم تحصل على وليد و كانت ضعيفة الحال. وعند الانطلاق إلى البادية التفتت آمنة إلى زوجها الحارث قائلة له ؛ والله أني لأكره ان أرجع مع صواحبي ولم آخذ رضيعاً والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم ولآخذنه.

وجاءت بالطفل إلى الصحراء ترافقها بركات من السماء منذ اللحظة الأولى من الحركة نحو البادية فقد سمنت غنمها وزاد لبنها. وظل محمد (صلى الله عليه وآله) في الصحراء حتى الخامسة من عمره وهي فترة حرجة من حياة الإنسان لأن في هذه الفترة تنشأ اللبنات الأولى في كيان الفرد فإذا كانت لبنات سليمة أصبح الفرد سليماً في جسمه وروحه وعقله.

لقد نهل محمد (صلى الله عليه وآله) في السنين الخمسة الأولى من عمره من جو الصحراء الطلق نسيم الحرية واستنشق عبير الإرادة القوية ووجد في هواء الصحراء وخشونة العيش ما يقوي عوده ويسرع في نموه ويزيد من تفتح عقله وفصاحة لسانه. لقد حمل محمد (صلى الله عليه وآله) في هذه السنوات الخمس أجمل ذكريات الطفولة وأصبح يتذكر تلك الأيام كلما التقى بمرضعته حليمة فقد أكرمها عندما انتشرت المجاعة في البادية فأقبلت حليمة إلى محمد (صلى الله عليه وآله) بعد زواجه من خديجة فأكرمها بأربعين رأس من الغنم وبعير يحمل الماء وكانت الشيماء ابنتها وأخته في الرضاعة بين من اسر مع بني هوازن بعد حصار الطائف فلما جيء بها إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وعرفها أكرمها وردها إلى أهلها على رغبتها.

وبعد عودته من الصحراء كانت أمه بانتظاره لتأخذه معها في أول رحلة له إلى يثرب. وفي الطريق إلى يثرب مرت العائلة الكريمة بقبر عبدالله فكان أول لقاء بين الابن والوالد الراحل عن الحياة.

وكم كان هذا اللقاء مثيراً لأحزان آمنة التي أخذت تقص لولدها قصة ذلك الأب الذي كان مقرراً ان يموت قبل ان يتزوج وقبل ان تنجب.. لكن شاءت إرادة الله ان يتأخر موعد رحيله من أجل ان يخرج من صلبه نبي عظيم.

لقد استحضر الفتى قصة والده من البداية حتى النهاية وهو يتلمس تلك القوة الغيبية التي كانت وراء تكوينه والتي كانت معه اشهر السنوات التي قضاها في الصحراء وهي لا زالت معه، والتي كانت معه أيضاً عندما فقد والدته وتدفن في الإيواء ليواجه محمد (صلى الله عليه وآله) يتماًُ أخر أشد من الأول لأنه يتم شاهده بأم عينه وعلى خلاف المتعارف فقد زادت هذه المصيبة من تألق شخصية الفتى وأصبح يسمو على ألم الفراق بالتحلق إلى السماء ويرنو بعينيه إلى رحمة الله الواسعة عليه وعلى غيره من العباد.

وتضاعف اليتم مرة ثالثة بوفاة كفيله ومن كان يحنو على تربيته جده عبد المطلب فتكفله عمه أبو طالب الذي كان يكد طويلاً من أجل ان يوفر لأبنائه الكثير من الحياة الكريمة، كان أبو طالب يشتغل في التجارة وفي إحدى رحلاته إلى الشام تعلق به محمد (صلى الله عليه وآله) وهو حينذاك ابن أثنى تسع سنين أو عشر سنين ولم يفكر أبو طالب في أخذ ابن أخيه معه خوفاً عليه من متاعب السفر لكنه استجاب له عندما وجد فيه الإصرار والرغبة الكبيرة.يقول الطبري لم تهيأ للرحيل واجمع السير صب به رسول الله فرق له أبو طالب فقال : والله لاخرجن به معي ولا يفارقني ولا افارقه ابداً.

وكانت هذه الرحلة تجريه عملية مع الحياة اكتسب فيها محمد (صلى الله عليه وآله) وهو لا يزال فتى الكثير من الدروس فقد مر أثناء سفره بآثار الأمم السالفة التي ذاقت عذاب الله لأنها أصرت على الطغيان والكفر.

لقد وفر جو الصحراء والسماء الصافية في الليل فرصاً للتأمل وتدبر الحقائق بالأخص في حياة تلك الأمم التي اندثرت والتي لم يبق منها إلا الأطلال التي تلوح تحت أشعة النجوم المتألقة في السماء.

وفي بصرى جنوب الشام تعرف محمد (صلى الله عليه وآله) على أخبار الروم وتنصرهم وارتقابهم لنبي سيظهر بدين جديد وكان من أهم تلك الحوادث التي شاهدها أو سمعها ما كان بينه وبين عمه أبو طالب وبينهما وبين الراهب بحيرى الذي شاهد على محمد (صلى الله عليه وآله) إمارات النبوة كما تدل عليه كتب النصرانية.

لقد كان محمد (صلى الله عليه وآله) أثناء رحلته هذه في عُمرٍ يسمح له بالتأمل الطويل والتفكير المديد وقد ساعده رجحان عقله وعظمة روحه وذكاءه الحاد على التفكير في كل الذي رآه وسمعه ولم يكتف بمجرد الرؤية أو السماع، فكانت هذه الرحلة رحلة إلى أعماق التاريخ غاص فيها محمد (صلى الله عليه وآله) في أعماق الوجود مستخلصاً منها الحقيقة الخالدة.

وكانت هذه الفترة الهامة من عمره فترة أعداد وتكامل لعناصر بنائه النفسي والروحي وبعدها استطاع محمد (صلى الله عليه وآله) ان يدخل الحياة بقلب مطمئن وإرادة مستقيمة لا يخاف على نفسه من التلوث من البيئة الجاهلية.

فقد قضى فترة شبابه وهو يسمع الكثير من الشعر والخطب والكلمات من اليهود والنصارى الذين كانوا يدعون الناس لدينهم وكان يشارك قومه في الخروج إلى الأسواق كسوق عكاظ وسوق مجنة وسوق ذي المجاز وهو يستمع إلى المعلقات فيأخذ النافع منها ويعرض الرديء على بصيرته فتلفظ ما لا تسيغ وفي هذا العمر أيضاً شاهد محمد (صلى الله عليه وآله) ما يفعله شباب مكة من فعال سيئة وكيف يقضون أوقات فراغهم في اللهو والغناء والجواري  فلم تدن نفسه للانخراط معهم وهو شاب مثلهم ولم يكن ما يحول دون ذلك السبب الذي ذكره بعض المستشرقين الذين حاولوا الطعن في عفة محمد (صلى الله عليه وآله) معللين عدم انخراطه مع الشباب بسبب ما يعانيه من فقر وفاقة.

لم يكن الفقر مانعاً عن المشاركة مع شباب مكة الذين كانوا ينظرون إلى محمد (صلى الله عليه وآله) نظرة تقدير وإعجاب ويتمنون مشاركته لهم، بل السبب هو النفسية العالية التي امتلكها محمد (صلى الله عليه وآله) والتي جعلته ينصرف عن مثل هذه الملذات إلى اللذة الحقيقية وهي لذة التأمل والتفكير في سر الحياة وسر الخليقة.

ولقد وجد المجتمع المكي المتفسخ في محمد (صلى الله عليه وآله) شاباً منصرفاً عن الملذات والأهواء الشاذة لكنه لم يكن منصرفاً عن الحياة الاجتماعية والحياة المعاشية.

فقد شارك محمد (صلى الله عليه وآله) قومه في العديد من الفعاليات العسكرية والسياسية والاجتماعية فعلى صعيد المشاركة العسكرية حمل محمد (صلى الله عليه وآله) السلاح إلى جانب أعمامه في حرب الفجار وهو إذ ذاك ابن عشرين عاماً وقد نشبت هذه الحرب بين هوازن وقريش ويعود السبب في نشوبها، ان النعمان بن المنذر كانت له تجارة في كل عام يرسلها من الحيرة إلى سوق عكاظ وهي محملة بالمسك ويشتري بثمنها جلوداً وحبالاً وأقمشة ثمينة مزركشة وكان يوكل أحداً لقيادة القافلة ففي تلك السنة عرض البراض بن قيس الكناني نفسه عليه وعرض عروة الهوازني نفسه أيضاً فاختار النعمان عروة فغضب البراض فأوقع بغريمه فقتله واخذ منه القافلة فأثار ذلك حفيظة هوازن التي سارعت لمحاربة قريش وهي في عكاظ وقبل ان تدخل الحرم  لكن قريش تراجعت ولاذت بالحرم، فأنذرتهم هوازن الحرب بعكاظ العام المقبل وظلت الحرب أربع سنوات انتهت بالصلح وسميت بحرب الفجار لأنها وقعت في شهر رجب إحدى اشهر الحرم وكان لرسول الله موقفاً هاماً في هذه المعركة دفاعاًَ عن المظلومين ففي رواية اليعقوبي إن قريشاً قالت لمحمد (صلى الله عليه وآله) يا ابن مطعم الطير وساقي الحجيج لا تغب عنا فأنا نرى بحضورك الغلبة والظفر.

فقال: إذا اجتنبتم الظلم والعدوان والقطيعة والبهتان فأني لا أغيب عنكم فعاهدوه على ذلك ويذكر إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد طعن أبا البراء (ملاعب الأسنة) فأرداه عن فرسه.

وكان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مشاركة فعالة في ميدان آخر من ميادين الانتصار للمظلومين هو في حلف الفضول الذي عقد نتيجة ما آل إليه الوضع الأمني في مكة بعد حرب الفجار. فقد سلبت هذه الحرب الأمن والاستقرار. فاستغل البعض تدهور الأوضاع الأمنية فأعتدوا على أموال الناس سيما الغرباء مما أثرت تأثيراً كبيراً على حركة التجارة والسوق في مكة وما حولها.

إذ ذاك دعا الزبير بن عبد المطلب ومعه أبو طالب القبائل القرشية إلى الاجتماع فاجتمع بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبدالله بن جدعان فصنع لهم طعاماً فتعاقدوا وتعاهدوا بالله المنتقم ليكونن مع المظلوم حتى يعود إليه حقه وقد حضر محمد (صلى الله عليه وآله) هذا الحلف وكان يقول لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً احب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت.

وأستطاع هذا الحلف ان ينهي حالة الاعتداء على أموال وأعراض الناس وان يوفر لمكة وضعا أمنيا يناسب مكانتها الدينية والتجارية، ومن بين الحوادث التي وقعت بعد عقد هذا الحلف حادثة الاعتداء على القتول ابنة خثعم أحد الوافدين على مكة وكانت من اجمل نساء العرب فاختطفها نبيه بن الحجاج وغيبها عن أبيها فقال الخثعمي من يعديني على هذا الرجل فقيل له عليك بحلف الفضول فذهب إلى أعضائه واستجار بهم فاجتمعوا على نبيه واجبروه على إرجاعها إليه قبل ان يمسها.لقد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حضور فاعل ومؤثر في كل قضية فيها دفاع عن المظلوم وفيها استرداد لحقوق الغير.

وأستطاع الرسول (صلى الله عليه وآله) ان يكسب من خلال هذه المشاركة مكانة مرموقة لدى المجتمع المكي فاصبح رجلاً مهاباً محترماً لدى الجميع وسموه الأمين لاستقامته وسمو روحه وعلو نفسه.

وربما لم تجد قريش كلمة تعبر عن شخصية محمد (صلى الله عليه وآله) بأفضل من هذه الكلمة التي تحمل معاني كبيرة في مجتمع جاهلي يتطاول فيه الواحد على الآخر ولا يتحسس فيه الفرد نعمة الآمان والطمأنينة على ماله وعرضه ودمه.

فقد جسدت كلمة الأمين معالم شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة حسبما يراها أفراد المجتمع المكي.

ولم تكن أمانته لتقتصر على أموال الناس بل سموه الأمين لاستقامته واتزانه لانهم لم يلاحظوا شططا في حياته ولم يشاهدوه يوماً من الأيام في مكان غير لائق بمثله ولم يروه في حالة شاذة عن سيرة الصلحاء ، لقد أوجدت صفاته النبيلة قوة خارقة في جذب الناس.. فكان كل من اقترب إليه يزداد انجذاباً إليه فعلي عليه الصلاة والسلام يتعلق بمحمد (صلى الله عليه وآله) ويصبح كظله الذي يسير معه منذ ان التحق به وهو في السادسة أو السابعة عندما هبت عاصفة المجاعة على مكة فتقاسم بنو عبد المطلب أولاد أبي طالب فوقع اختيار محمد(ص) على علي عليه السلام وهو صبي في السادسة أو السابعة ومنذ ذلك العمر كان علي إلى جانب ابن عمه ولم يعرف التاريخ حتى الآن علاقة رفاقية أقوى من تلك العلاقة التي كانت بين محمد وعلي وكانت تزداد قوة ومتانة في الملمات وأثناء المواجهة الحاسمة مع طغاة قريش ففي اللحظات الحرجة ليس هناك شيء أحوج إلى القائد من وجود رفيق مخلص يقف إلى جانبه ليذود بروحه عن قائدة، فلقد كان علي هو رفيق الدرب الذي ما ترك قائدة لحظة من اللحظات.

والنموذج الآخر للعلاقة الاجتماعية في حياة محمد علاقته بزيد الذي اشترته خديجة من ماله ليكون عبداً لمحمد (صلى الله عليه وآله) ولم يمكث زيد طويلاً كعبد فقد قرر محمد (صلى الله عليه وآله) عتقه فما ان سمع والده بتحرر ابنه حتى سارع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) يطالب بإعادة ولده إليه. ولم يسع لمحمد (صلى الله عليه وآله) الذي يقدر للأب هذا الحق إلا ان يعطى الوالد أذنه عندما سمع ولده وهو يقرر البقاء مع محمد (صلى الله عليه وآله) رافضاً عودته إلى أسرته وأبويه، ان علماء التربية ليمرون على هذا الحادث بكثير من التأمل لأنه يثير فيهم الاستغراب وتستثير فيهم تأملات لاحد لها فأية جاذبية كان يمتلكها محمد (صلى الله عليه وآله) حتى أصبح الابن بفضل البقاء معه على البقاء مع والده. ان هذا النموذج وغيره من النماذج التاريخية الأخرى لتؤكد بان محمداً كان على قدر كبير من الجاذبية إلى صنعتها خلقيته العالية وتعامله الإنساني مع الأفراد حتى قال عنه ربنا سبحانه وتعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فقد تعلقت به النفوس الطاهرة وتأثرت به حتى النفوس الملوثة فكانت هذه الجاذبية عوناً له في الدعوة إلى الله.

ولم يعش محمد (صلى الله عليه وآله) كلاً على أحد فمنذ نعومة أظفاره وهو يعمل فقد اشترك في الحياة الاقتصادية ليوفر لنفسه ما يحتاج إليه من مال ولتعطيه هذه الحياة المزيد من الخبرة والمزيد من القدرة على مواجهة الأعباء، فقد ابتدأ حياته الاقتصادية راعياً للأغنام ومنحته هذه المهنة فرصة للتأمل وإطالة النظر في الخلق وفي المخلوقات.

وبعد ان كبر اشتغل في التجارة وهي كالرعي لأنها تقتضي التنقل من مكان لأخر وفي التنقل يكسب المرء الكثير فالتنقل رياضة لتنمية الجسد.. يعطي صاحبه صفة الخشونة لتنمية النفس وترويضها على الصعاب ويستثير في الإنسان التفكير ويخلق لديه الاستعداد للتأمل والغوص في أعماق الأمور فيأتي تفكيره منطقياً متسلسلاً حتى يصل إلى الحقائق وهو أيضاً يمنح الإنسان الكثير من المعلومات عن حياة الأمم وعن تاريخها وعن الحضارات التي قامت على الأرض ففوق كل شبر من الأرض آثار لبني الإنسان فقد سار على هذا الشبر أناس كثيرون على مدى التاريخ وسكن فوقه أناس كثر.

ان التنقل يفتح العيون أمام أحداث وقعت يستطيع الإنسان ان يتخيلها إذا ما ملك القدرة على التخيل الواقعي.

لقد اختار الرسول مهنة الرعي في سنينه الأولى ومن ثم مهنة التجارة في سنينه الأخيرة قبل البعثة لا لكي يستعين بهما لتوفير حاجاته المعاشية فقط بل لكي يستفيد منهما في حاجاته الأخرى النفسية والروحية والعقلية فكان حريصاً كل الحرص على كل عمل يقوم به حريصاً على الوقت من ان يذهب سدى وهو في تلك الصحراء التي يضحى فيها الزمن لا معنى له.

وكانت خطوته الأولى في ميدان التجارة هي المقدمة لحياة جديدة فقد ضم محمد (صلى الله عليه وآله) إلى حياته شريكاً جديداً ملأ فراغاً في حياته وتحمل جانباً من أعباء الحياة ولم يكن زواجه إلا ثمرة قوة جذبه عليه الصلاة والسلام. كانت خديجة بنت خويلد افضل نساء القرشيين والمكيين في خلقها وخلقها وجميع مواهبها والى جانب ذلك كانت ذات ثراء كبير فقد أصبحت السيدة الأولى في مكة وإذا عرفت ان هذه السيدة هي التي اختارت محمداً للزواج وهي التي خططت لهذا الزواج فعند ذاك سندرك ما كان يحتله محمد من جاذبية وسمعة طيبة في الجزيرة العربية وهي الجاذبية التي لم يحصل عليها النبي من مال أو أب فقد جاء إلى الحياة يتيماً وعاش يتيم الأب والام ولم يمتلك قيراطاً واحداً كان يفتقد لا بسط مقومات النفوذ الاجتماعي بحسب الأعراف القائمة يومذاك لكن بشخصيته القوة وبأخلاقه الفذة طرح قيما جديدة في التعامل الاجتماعي واصبح بتلك المقومات العالية التي يمتلكها افضل رجل في المجتمع المكي يعرفه الجميع ويحبه الجميع ويحترمه الصغير والكبير.

وعندما جرفت السيول الكعبة قررت قريش تجديد بنائها وكان محمد (صلى الله عليه وآله) في مقدمة المشاركين في العمل وعندما بلغ البناء تمامه أختلفت القبائل حول من يضع الحجر الأسود في مكانه لما لهذا العمل من فضل وشرف لدى العرب وتخاصم القوم وكاد ان يقع بينهم القتال وتقوم بينهم الحروب التي لا يعلم منتهاها سوى الله فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً وتعاقدوا مع بني عدي على الموت وادخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة.

وتطاير الشرر من عيون الجميع وفي لحظة من اللحظات تغلب على العصبية صوت العقل عندما سمعوا كبيرهم وهو أبو أمية بن المغيرة بن عبدالله المخزومي وهو يشير إليهم ان يتولى وضع الحجر في مكانه أول وافد من باب شيبة فرضوا بهذا الحكم وكان أول الوافدين من ذلك الباب هو محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) فلما رأوه استبشروا بقدومه وقالوا بأجمعهم بصوت واحد جاء الصادق الأمين وازدادوا إعجابا به لحصافة رأية، وحكمته في حل المشكلة فقد أمرهم بان يأتوا بثوب كبير لتأخذ كل قبيلة بطرف منه فرفع الحجر ووضع فيه ثم التفت إلى شيوخهم وقال لهم لتأخذ كل قبيلة بطرف منه، فاستحسنوا ذلك منه ووجدوا فيه حلاً عادلاً يحفظ للجميع حقوقهم ولا يعطي لاحد امتياز على الآخرين.

لقد ارتسمت هذه الواقعة في أذهان القبائل العربية وظلت ذاكرتهم وهي تحمل صورة طيبة عن محمد (صلى الله عليه وآله) ولم تكن السنوات الخمس التي تفصل بين هذه الحادثة والبعثة بكثيرة إذ ظلت ذاكرة العربي تحتفظ بتلك الحادثة بكامل تفاصيلها.

فشجعت هذه الحادثة البعض على استيعاب حادثة البعثة بالتصديق القلبي إلا أن الأكثرية كانوا يخشون على مصالحهم من الحركة التغييرية التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) والتي قلبت موازين الحياة الاجتماعية لما هو ضد مصالح الطغاة والجبابرة من زعماء قريش الذين قاوموا الرسالة لا إيماناً بعدم صدقها بل قاوموها خوفاً على مصالحهم.

أخذ عمره الشريف يتجه نحو الأربعين فيزيده صفاءاً في الفكر وضياءاً في الفعل فاصبح يتلمس حقائق الوجود ويزداد ابتعاداً عن المجتمع الجاهلي الذي كان يغط في جاهلية كثيفة ويسكب برذاذه إلى كل من يعيش تلك البيئة. كان محمد (صلى الله عليه وآله) يتأمل واقع مجتمعه وما يعاني من ترسبات وجاهلية ظلماء فيتحسس ما سيؤول إليه هذا المجتمع من مصير اسود إذا بقي على هذه الجاهلية فيثير فيه ذلك احساساً بالمسؤولية يدفعه إلى التفكير بالمعالجة فكان يشعر بالحاجة إلى الانفراد لوحده في أماكن بعيدة عن صخب الجاهلية ليجد فرصة للتفكير. فكان يخرج من مكة ويلتجأ إلى جبالها وشعابها ووجد في غار حراء التي تبعد بمسافة طويلة عن مكة مكاناً ينشد فيها الوحدة والخلوة مع نفسه.