mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 20.doc

ويذكر المجلسي عن حبة العرني قال سمعث حذيفة اليماني يقول: لما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادي أمير المؤمنين (عليه السلام): لايبدأن أحد منكم بقتال حتى آمركم.

قال: فرموا فينا فقلنا: يا أمير المؤمنين قد رمينا فقال كفوا ثم رمونا فقتلوا منا، قلنا يا امير المؤمنين قد قتلونا، فقال: احملوا على بركة الله، قال: فحملنا عليهم فأنشب بعضنا في بعض الرماح حتى لو مشى ماشي لمشى عليها ثم نادى منادي علي (عليه السلام) عليكم بالسيوف فجعلنا نضرب بها البيض فثنوا لنا، قال فنادى منادي أمير المؤمنين عليكم بالأقدام قال فما رأينا يوماً كان أكثر قطع أقدام منه، قال ثم نادى منادي أمير المؤمنين عليكم بالبعير فانه شيطان قال: فعقره رجل برمحه وقطع احدى يديه رجل آخر فبرك ورغا وصاحت عائشة صيحة شديدة فولى الناس منهزمين فنادى منادي أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تجيزوا على جريح ولا تبتغوا مدبراً ومن أغلق بابه فهو أمن ومن ألقى سلاحه فهو أمن(1). وعندما لم يجد الإمام بداً من القتال عمل على انهاء الحرب بأسرع وقت وبأقل الضحايا فوضع خطة قتالية لتحقيق هذا الهدف السامي.

الخطوة الأولى عليكم بالسيوف.

الخطوة الثانية عليكم بالأقدام.

الخطوة الثالثة عليكم بالبعير.

ولولا هذه الخطة الحكيمة لطالت الحرب اياماً وأسابيع ولكثر عدد ضحاياها لأكثر من العدد الفعلي.

فهذا علي رجل السلام حتى في الحرب رجل الرحمة حتى في لحظة تشابك السيوف والرماح عند قيام الحرب يقف أمير المؤمنين بين أصحابه ليقول لهم إعلموا أيها الناس إني قد تأنيت هؤلاء القوم وراقبتهم وناشدتهم لكي يرجعوا ويرتدعوا فلم يفعلوا ولم يستجيبوا وقد بعثوا الي أن أبرز الى الطعان وأثبت للجلاد وقد كنت وما أهدد بالحرب ولا أدعي اليها. وقد أنصف القارة من راماها منها فأنا أبو الحسن الذي فللت حدهم وفرقت جماعتهم فبذلك القلب ألقى عدوي وأنا على بينة من ربي لما وعدني من النصر والظفر وإني لعلى غير شبهة من أمري. ثم يواصل ذكره للموت.

الا وأن الموت لايفوته المقيم ولا يعجزه الهارب ومن لم يقتل يمت فإن أفضل الموت القتل والذي نفس علي بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش(2).

فالموت حق. ولافخر بعدد من يقتل في الحرب.

صحيح ان أمير المؤمنين انتصر في معركة الجمل.. لكن نصره الكبير هو انتصاره لمبادئه انتصرت فيه الأخلاق، قبل أن تنتصر له السيوف والرماح إن أكبر إنتصار لعلي إن اعداءه كانوا راضين عنه مع انه هزمهم في المعركة إن أكبر انتصار لعلي(عليه السلام) هو هذا الموقف.

يسمع اثنان يتفوهان على عائشة قال أحدهما جزيت عنا أمنا عقوقاً. وقال الآخر يا أمي توبي فقد أخطأت فبعث القعقاع بن عمرو الى الباب فأقبل بمن كان عليه فأهالوا على رجلين فقال أضرب أعناقهما ثم قال لأنهكنها عقوبة، فضربهما مائة مائة وأخرجهما من ثيابهما(3).

 

القائد المربي في الشدائد

لم ينس الامام دوره في تربية الأمة في أشد الساعات حيث تتشابك ألسنة الرماح وتتطاحن السيوف فيما بينها.

لم ينس ان الامامة تعني الهداية وهي تشمل القيادة الروحية والقيادة السياسية والامام الذي يريد تركيز قيم الحق في الأمة لابد وأن يكون هو أول من يتمسك بها، ولا شيء يمر بباله إذا كان ملتزماً بالحق حتى لوكان فيه مصلحة الحكم فهو يضحي بالكرسي من أجل أن يضع للحق قيمة.

فكم من مرة انبرى أحد أصحابه ليوجه التهم والسباب الى خصمه؟!

لو كان علي حاكما همه الكرسي لقرب اولئك الذين ينالون من خصمه ولأجزل لهم العطاء مثلما يفعل اليوم بعض الحكام الذين يهبون الأموال والهدايا للصحفيين والسياسيين الذين يتبارون في مدحهم.

فهذا هو الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) يأتيه الحارث بن حوط الزاني في يوم الجمل وهو في وسط المعركة فيقول: واجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل.

لو كان السامع لهذه الكلمة هو قائذ آخر غير الامام علي (عليه السلام) لقدم للحارث نوط الشجاعة على عبارته تلك، فكل قائد بحاجة الى عبارات من هذا القبيل لرفع معنويات جنوده. لكن علي(عليه السلام) نوع آخر من القادة. قائد لا يقول الا الحق، ولا يسمع الا الحق. ولا يسمح لأحد أن يتجاوزالحق. ادار الامام وجهه الى الحارث وقال له:

ياحارث إنه ملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس ولكن إعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف من أتاه(4).

فالامام يبحث عن أية فرصة لكي يربي الناس، فمع كل موقف هناك مبدأ أو قاعدة اعرف الحق تعرف أهله.

قاعدة ذهبية جديرة بالتأمل تضاف الى المنهج السياسي والتربوي للامام ولم تكن لتخلد هذه القاعدة لو لم يترجمها الامام بصورة حرفية في سيرته الذاتية وفي تعامله مع الآخرين سواء أعدائه أو الموالين له.

 

في مواجهة معاوية

اختلف أرباب التاريخ والحديث والرجال حول معاوية بن أبي سفيان بين قادح ومادح وحتى نتفهم خلفية الصراع الذي دار بينه وبين الامام علي وابعاد المواجهة العسكرية في صفين كان لابد في البداية من تحديد الموقف من معاوية بن أبي سفيان.

ولنترك ما قيل وما تناقلته الألسن من روايات وأحاديث حول معاوية وهي تعج في الكتب، ولنأخذ برأي من عاصره وعايشه معايشة المشارك له في السلطة.

فهذه الآراء لحدما تستطيع أن ترسم لنا ملامح هامة عن شخصية معاوية. وهي اراء يمكن الإعتماد عليها لأنها صادرة عن اناس لازموا معاوية في فترة من الزمن.

 

1- رأي عمرو بن العاص

في أول لقاء عمل بين معاوية وعمرو بن العاص أخذ معاوية يضع اللمسات الأولى لاعلان الحرب على الامام علي (عليه السلام).

قال معاوية: نلزمه دم عثمان.

فأجابه عمرو: واسوأتاه إن أحق الناس الا يذكر عثمان لأنا ولأنت .

وقال معاوية: ولم؟

فقال عمرو: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام. واستغاثك فابطأت عليه، وأما أنا فتركته عياناً- وهربت الى فلسطين.

قال معاوية: دعني من هذا، هلم فبايعني، فقال عمرو: لا والله لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك، قال معاوية: صدقت، سل تعط، قال عمرو: مصرطعمة.

فغضب مروان بن الحكم، وقال: ما بالي لا أشتري فقال معاوية: أسكت

يا ابن عم فانما يشترى لك الرجال فكتب معاوية لعمرو مصر طعمة(5).

 

2- رأي عبد الله بن عمرو بن العاص

ارسل معاوية كتاباً الى عمرو بن العاص يطلب منه أن يقدم الى الشام ليكون معه في الحكم فاستشار عمرو ولده عبد الله، فأشار اليه عبد الله بما يلي: أقم في منزلك، فلست مجعولاً خليفة، ولاتزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أوشكتما أن تهلكا فتستويا فيها جميعاً(6).

ويعني انك لن تقبض من معاوية شيئاً يذكر.. فهو سيعطيك القليل ويأخذ منك الكثير.

 

3- رأي سعد بن أبي وقاص- وكان على الحياد

بعث اليه معاوية برسالة جاء فيها.

أما بعد فإن أحق الناس بنصرة عثمان أهل الشورى، والذين أثبتوا حقه واختاروه على غيره، وقد نصره طلحة والزبير وهما شريكاك في الأمر والشورى ونظيراك في الاسلام وخفت لذلك أم المؤمنين. فلا تكرهن ما رضوا. ولا تردن ما قبلوا، فإنما نردها شورى بين المسلمين

فاجاب سعد بن أبي وقاص: أما بعد فإن أهل الشورى ليس منهم أحق بها من صاحبه غيران علياً كان في السابقة ولم يكن فينا ما فيه، فشاركنا في محاسننا، ولم نشاركه في محاسنه وكان أحقنا كلنا بالخلافة، ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه حيث شاء لعلمه وقدرته وقد علمنا أنه أحق بها منا ولكن لم يكن بدّ من الكلام في ذلك والتشاجر، فدع ذا وأما أمرك يامعاوية، فانه أمر كرهنا أوله وآخره، وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيراً لهما- والله تعالى يغفر لعائشة أم المؤمنين(7)

 

4- رأي محمد بن مسلمة

وكتب رسالة مماثلة الى محمد بن مسلمة فأجابه في طلبه.

ولعمري يامعاوية ما طلبت الا الدنيا، ولا اتبعت الا الهوى ولئن كنت نصرت عثمان ميتاً. لقد خذلته حياً(8).

 

5- رأي أبي الدرداء وابي هريرة

وذكروا ان أبا هريرة وأبا الدرداء قدما على معاوية من حمص وهو بصفين فوعظاه وقالا له: يامعاوية علام تقاتل علياً وهو أحق بهذا الأمر منك في الفضل والسابقة؟ لأنه رجل من المهاجرين الأولين السابقين باحسان، وأنت طليق وأبوك من الأحزاب(9).

 

6- رأي المغيرة بن شعبة (وهو من قماش معاوية)

أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن المطرف بن المغيرة بن شعبة ما مختصره، قال كان أبي يجتمع بمعاوية ثم يأتيني فيكثر في المدح، وفي ليلة أمسك والدي عن العشاء مغتما فسألته عن سبب ذلك.

فقال يابني جئت من أكفر الناس وأخبثهم فقد خلوت به وقلت له: قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلأ وبسطت خيراً فقد كبرت ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم.

فقال: هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه، ملك أخوتيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، الا أن يقول قائل: أبو بكر ثم ملك أخو عدي مما عدا أن هلك حتى هلك ذكره الا أن يقول قائل: عمر وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمداً رسول الله فأي عمل يبقي وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك، لا والله الا دفناً دفناً(10).

وإذا كان كلام معاوية يثير اشمئزاز من هو مثل المغيرة فالى أي مدى بلغه معاوية اذن وهو يومذاك يدعى خلافة المسلمين فأية خلافة تلك وأي مسلمين أولئك!

 

7- رأي الحسن البصري

أربع خصال في معاوية لو لم تكن فيه الا واحدة منها لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف، واستخلافه من بعده سكيراً خميراً، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الوالد للفراش وللعاهر الحجر وقتله حجراً وأصحاب حجر(11).

ما سبق هوشيء يسير مما قيل عن معاوية بن أبي سفيان ولوأردنا أن نحصي كل ما قيل عنه وما ارتكبه من أعمال منافية للاسلام لاحتجنا الى فصول عديدة لكن حصراً للفائدة رأينا الاقتصار على تلك الشخصيات المؤشر لها في التاريخ التي لم تحسب على جبهة علي (عليه السلام) والتي كانت على الحياد أو متعاونه مع معاوية، وكان معاوية يسعى من أجل اقناعها بالتعاون معه فرأيهم في معاوية له اعتبار ويؤخذ به سيما وانه منقول من مؤرخ محايد هو ابن قتيبة وابن عقيل وهما ليسا من مؤرخي الشيعة وأيضاً انهم قالوا رأيهم وجهاً لوجه معاوية.

المهم ان تلك الاشارات تكفي اختصاراً في رسم بعض ملامح معاوية. فهي ترسم لمعاوية صورة الحاكم الذي همه السلطة بالدرجة الأولى. وهو على استعداد لأن يضحي بكل شيء من أجل السلطة. كما وانه على استعداد لأن يتوسل بكل الوسائل لتمشية سياسته، وانه جمع حوله أصحاباً على اساس المنفعة المتبادلة وان همه الأول هو أن يؤسس حكومة تقوم على الدنيا وليس على الدين

فشخصية بهذه الأبعاد كيف يتمكن علي بن أبي طالب اقراره والياً على الشام فيلتصق اسمه باسمه، فيعرفه التاريخ انه أحد ولاته!!

كيف يمكن لمطلع بأحوال المسلمين وعارف بالاسلام أن يلوم علياً عند خلعه لمعاوية؟ وعلى فرض ان الامام ترك معاوية وشأنه. فهل كانت الشام بكافيه لتملأ عيون معاوية وتشبع شهوته للسلطة؟

الاجابة على هذا السؤال تبدو واضحة للمتتبع لأحداث التاريخ. فمعاوية كان يعمل من أجل الحرب بقصد التوسع، فالشام لم تعد الا وجبة صغيرة على مائدة أطماعه وتعددت أطماعه مع قيام معركة الجمل حيث كان في تصوره ان المعركة قد أنهكت قوات الامام علي (عليه السلام). وان الفرصة الذهبية قد سنحت للهجوم على عاصمة الدولة الاسلامية وتصفية الامامة الشرعية المتمثلة بالامام علي (عليه السلام).

ونلمس هذه الرغبة في الحرب عند معاوية من رده المستمر للوسائط التي كانت تعمل على تضييق الفجوة بين الشام والكوفة. كان رد معاوية:

انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم الا السيف(12).

 

الغرور الأعمى

استلم معاوية بن أبي سفيان إدارة شؤون الشام منذ عهد الخليفة عمر الذي ولاه الشام. واستمرت ولايته على عهد عثمان حتى قيام الثورة ومجيء الامام علي(عليه السلام) الى دست الخلافة.

وخلال هذه العقود استطاع معاوية أن يوجد لنفسه نفوذاً واسعاً في أوساط الشاميين، وتمكن أن يؤسس دولة شبه مستقلة خصوصاً في فترة حكم عثمان فبسبب انشغال الخليفة عثمان بمشاكله. تفرد معاوية في حكم الشام فاتبع سياسة الترغيب والترهيب للهيمنة على الناس وتمكن ان يوجد لنفسه قوة عسكرية ضاربة وشيئاً فشيئاً أخذ يقتطع الشام عن الجسد الاسلامي مكوناً لنفسه مستعمرة كبرى. وجلس ينتظر الفرصة الذهبية التي يستطيع فيها أن يستخدم امكاناته لنقل الخلافة الى دمشق، وعندما قامت الثورة على عثمان قويت آماله بالخلافة. فهو لم ينس بعد وصية أبي سفيان تلقفوها يابني أمية تلقف الكرة. فها هي الكرة ترمى الى ملعبه كان يرى في نفسه الكفاءة والقدرة على استلام منصب الخلافة. لذا كان متباطاً في الدفاع عن عثمان إذ كان يبطن الرغبة في انقلاب الأمر على عثمان ليكون المرشح الأقوى للخلافة إن ظل الأمر بايدي الجماعة الأموية الملتفة حول عثمان. لكن شاءت الأقدار غير ذلك حيث أنتخب الامام علي (عليه السلام) للخلافة.

وقد تلقى معاوية خبر انتخاب أمير المؤمنين بشيء من الامتعاظ لكنه لم يفقد الأمل، فقد كان يرى في نفسه وأهل الشام القوة القادرة على دحر أمير المؤمنين والأستيلاء على العاصمة الاسلامية.

 

معاوية يخطط للحرب

لم تكن المنازلة مع علي وجيشه بأمر هين، صحيح ان معاوية يمتلك قوة عسكرية منظمة وامكانات مالية كبيرة، وصحيح ايضاً ان علي بن ابي طالب حديث العهد بالخلافة وان ترتيب البيت الداخلي قد يستغرق وقتاً طويلاً لكنه كان يمتلك التأييد الشعبي الواسع ومؤازرة أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الأمر الذي لا يمتلكه معاوية بن ابي سفيان فالمعركة مع علي كانت تعني فتح جبهة عريضة مع الأمة ومع صلحائها وزعمائها الذين سيقفون حتماً مع علي في مواجهة معاوية وحتى الذين لم يؤازروا عليآ في معركة الجمل سيقفون الى جانبه ضد معاوية.

فالأحنف بن قيس الذي وقف على الحياد في معركة الجمل بطلب من أمير المؤمنين لم يستطع أن يستمر في موقفه في معركة صفين. فقد وقف قبال أمير المؤمنين ليقول له: إن يك بنوسعد لم ينصروك يوم الجمل فلن ينصروا عليك غيرك وقد عجبوا ممن نصرك يومئذ، وعجبوا اليوم ممن خذلك لانهم شكوا في طلحة والزبير ولم يشكوا في عمرو ومعاوية(13).

فاذا شك البعض في اصحاب الجمل فانه ليس هناك من يشك في معاوية الا أهل الشام الذين كانوا يعيشون في عزلة وتعتيم ثقافي واعلامي والمستبدون يخافون الاعلام أكثر مما يخافون من السيف لأن الاعلام يفضحهم ويكشف عوراتهم لذا وجدنا كيف عمل معاوية على تبعيد ابي ذر يوم جاء الى الشام وأخذ يطلق دعواته الاصلاحية على الملأ من الناس، لقد آل معاوية على نفسه ألا يدخل معركة سافرة مع الامام علي (عليه السلام) فبدأ بخطة حربية.

ا- فاتح عدداً من القادة الذين كانوا يقودون المعارك في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وزمن الخلفاء الراشدين وكان معاوية على يقين ان هؤلاء ليسوا على استعداد للعمل معه وتفضيله على علي بن أبي طالب إلا بأن يقدم لهم المغريات.

وقد وصف ابن قتيبة لقاء عمرو بن العاص ومعاوية بهذه الكيفية.

ذكروا ان عمرو بن العاص لما قدم الى معاوية وعرف حاجته اليه باعده عن نفسه وكايد كل واحد منهما صاحبه فقال عمرو لمعاوية: أعطني مصر فتلكأ معاوية، وقال: الم تعلم أن مصر كالشام؟ قال: بلى ولكن انما تكون لي إذا كانت لك، وإنما تكون لك إذا غلبت علياً على العراق، وقد بعث أهلها بطاعتهم الى علي، فدخل عتبة بن ابي سفيان على معاوية فقال: أما ترضى أن تشتري عمراً بمصر إن هي صفت لك؟(14).

شراء الذمم في مقابل الكرسي.

هذه هي خلاصة سياسة معاوية. وعبر هذه السياسة استطاع أن يؤثر على بعض الضعاف من أصحاب الامام أمير المؤمنين(عليه السلام). لكنه لم يفلح مع اولئك الذين عجنوا بالايمان الصادق. وكان الامام يعمل على فضح أساليب معاوية، فخطب في أصحابه يوماً.

وقد دخل في هذا العسكر طمع من معاوية، فضعوا عنكم هم الدنيا بفراقها وشدة ما اشتد منها برجاء مابعدها، فإن نازعتكم أنفسكم الى غير ذلك فردوها الى الصبر، ووطنوها على العزاء، فوالله ان أرجى ما أرجوه الرزق من الله حيث لانحتسب، وقد فارقكم مصقلة بن هبيرة، فآثر الدنيا على الآخرة، وفارقكم بسر بن أرطاة فاصبح ثقيل الظهر من الدماء، مفتضح البطن من المال وفارقكم زيد بن عدي بن حاتم، فاصبح يسأل الرجعة، وأيم الله لودت رجال مع معاوية انهم معي فباعوا الدنيا بالاخرة ولودت رجال معي انهم مع معاوية فباعوا الاخرة بالدنيا(15).

يذكر ابن الأثير ان معاوية بعث الى زياد بن خصقة فخلا به وقال له: يا أخا ربيعة إن علياً قطع ارحامنا وقتل امامنا وآوى قتلة صاحبنا وإتي أسألك النصر عليه بعشيرتك ثم لك عهد الله وميثاقه لأني أوليك إذا ظهرث أي المصريين أحببت(16).

وسعى معاوية الى احتضان العناصر غير المرغوب فيها في معسكر الامام علي (عليه السلام)، فذكر ابن الأثير ان علياً استعمل على الري يزيد بن حجية التيمي فكسر من خراج الري ثلاثين ألفاً فكتب اليه علي يستدعيه، فحضر فسأله عن المال وقال: ما أخذت شيئاً فخفقه بالدرة خفقات وحبسة ووكل به سعداً مولاه، فهرب منه يزيد الى الشام، فسوغه معاوية بالمال. فكان ينال من علي. وبقي بالشام الى أن اجتمع الأمر لمعاوية فسار معه الى العراق فولاه الري(17).

2- سياسة التأليب على الامام علي (عليه السلام) بعث معاوية برسائل خاصة الى بعض أصحاب أمير المؤمنين يؤلبهم فيها على الامام منها رسالته الى ابن عباس ورسائله التي كتبها الى أهل الأمصار والمدن..

كتب معاوية الى أهل مكة والمدينة..

أما بعد فإنه مهما غاب عنا فانه لم يفت أن علياً قتل عثمان، والدليل على ذلك ان قتلته عنده وانما نطلب بدمه حتى يدفع الينا قتلته، فنقتلهم بكتاب الله تعالى فإن دفعهم الينا كففنا عنه وجعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عمر بن الخطاب فأما الخلافة فلسنا نطلبها، فأعينونا يرحمكم الله وانهضوا من ناحيتكم(18) إلا ان محاولاته ذهبت أدراج الرياح فهو لم يتمكن أن يؤلب ضد علي الا أهل الشام فقد كلف أهل المدينة ومكة المسوّربن مخرمة للرد على معاوية، فكتب اليه. اما بعد فانك أخطأت خطأ عظيما. وأخطأت مواضع النصرة وتناولتها من مكان بعيد وما أنت والخلافة يامعاوية. وأنت طليق- وأبوك من الأحزاب فكف عنا، فليس لك قبلنا ولي ولا نصير(19).

وكان يفترض بمعاوية بعد سماعه لهذه الردود أن يكف عن سياسته الهوجاء التي لو فكر فيها ملياً لوجد انها ستطيح به في نهاية المطاف. لكن اصراره على الحكم واطلاق العنان لنفسه لتمارس شتى صنوف الألاعيب السياسية جعلته على أمل متواصل في الانتصار على الامام علي (عليه السلام). وهكذا حال المستبدين في كل زمان ومكان فهم يتوسلون بكل وسيلة للبقاء في الحكم ولا يعيرون آذانهم لصوت الأمة ولما تريده من حكامها.

3- سياسة التضليل:

فقد كانت الحقيقة كلها مع علي وأصحاب علي. وكان معاوية يواجه سيلاً من علامات الاستفهام من أهل الشام الذين عمل على تضليلهم والذين كانوا بالتدريج يصطدمون بالحقيقة فيرونها رأي العين فماذا سيكون جواب معاوية وأصحاب معاوية.

هل كان هناك شيء آخر سوى التضليل وقلب الحقائق.

فهذا هو هنيء وهومولى لعمر بن الخطاب- كما ذكره ابن سعد في طبقاته بيده شهادة مهمة على سياسة التضليل التي كان يمارسها معاوية.

قال هنيء: كنت أول شيء مع معاوية على علي، فكان أصحاب معاوية يقولون: لا والله لا نقتل عماراً أبدا، إن قتلناه فنحن كما يقولون. فلما كان يوم صفين ذهبت أنظر في القتلى فاذا عمار بن ياسر مقتول فقال هنيء فجئت الى عمرو بن العاص وهو على سريره، فقلت: ابا عبد الله قال: ما تشاء؟ قلت: أنظر أكلمك فقام الي، فقلت: عمار بن ياسر ما سمعت فيه؟ فقال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تقتله الفئة الباغية، فقلت: هو ذا والله مقتولا، فقال: هذا باطل، فقلت بصر به عيني مقتولاً، قال: فانطلق فأرينه. فذهبت به فأوقفته عليه فساعة رآه انتقع لونه. ثم أعرض في شق وقال: إنما قتله الذي خرج به وهذه اساءة أخرى لعمار، وكأنه خرج لا يدري لماذا خرج مع علي، أو انه كان مخبراً على الخروج مع علي. لكن هل يمكن لهذه التخرصات التائهة أن تقنع أحداً غير البلهاء من الناس. أو أصحاب المنافع الذين يصمّون آذانهم عادة حتى لا يسمعوا الحقيقة لأنها مرعبة. وحتى لو سمعوها أداروا ظهرهم لها فهي لا تسوى شيئاً عندهم.

 

 

الهوامش:

1- المجلسي بحار الأنوار 32/ 86 1- 87 1.

2- المجلسي بحار الأنوار 32/188- 189.

3- الطبري 4/540- الكامل في التاريخ 3/ 257.

4- سارة حنفي جار الله سيرة الامام ص 88.

5- ابن قتيبة الامامة والسياسة ص 98.

6- المصدر نفسه ص 96.

7- المصدر نفسه ص 100.

8- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 101.

9- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 108.

10- ابن عقيل النصانح الكافية ص 124 (وكان والده أبو سفيان يستخدم هذه العبارة كما جاء في ا لأ غا ني 6/ 348).

11- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 487.

12- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 286.

13- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص86.

14- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص97.

15- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 114.

16- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 290.

17- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 288.

18- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 99.

19- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 99 وقد نسب ابن ابي الحديد هذا الرد الى عبدالله بن عمر ألظر شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد الجزء ا الصفحة 258.