mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 45.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

بدأنا في محاضراتنا السابقة بالحديث عن التربية العبادية أو السمات العبادية حيث قصدنا بذلك مجموعة الشعائر أو الطقوس التي تمارس إسلامياً ومدى ما تختزنه هذه الشعائر من معطيات نفسية وعبادية لها أهميتها الكبيرة في ميدان السلوك، وقد اقتصر حديثنا في هذا المجال على جملة من الشعائر كالصوم والصلاة والحج والجهاد حيث وقفنا عند ظاهرة الجهاد ومهّدنا لها ببعض الحديث وفيما نواصل الآن حديثنا عن هذا الجانب حيث كنا قد انتهينا من الإشارة إلى أن الجهاد أو ما أسميناه بالتربية العسكرية، هذا الجانب يظل من الظواهر الإسلامية التي ينبغي أن نتناولها بشيء من التفصيل نظراً لما يتسم به الجهاد نفسه، أو هذه السمة بما تتسم من سلوك خاص يختلف عما رسمناه من سمات الشخصية وما رسمناه من السمات العبادية حيث قلنا أن أهم معلم من معالم الشخصية العبادية السوية هو أنها تعنى بالحب من جانب، وتعنى بالتكيف الاجتماعي أو التوافق الاجتماعي أو التواصل الاجتماعي من جانب آخر، وقلنا أيضاً أن الجهاد قد يبدو وكأنه يتصادم مع هذين المبدأين؛ مبدأ الحب ومبدأ التكيف أو التوافق بصفته ممارسة تنتسب إلى ما يسمى في لغة علم الاجتماع إلى ممارسة التناقض وليس التعاون.

إلا أننا أثبتنا أن الجهاد بمعناه الإسلامي أو بخطوطه الإسلامية أو بتصوراته الإسلامية يصب في نفس الاتجاه المتميز بكل من الحب والتوافق وسائر الدلالات الإنسانية التي يستهدفها الإسلام، وبدأنا نوضح هذا الجانب في نهاية محاضرتنا السابقة وانتهينا منها إلى أن كلا من حاجة البشرية إلى الأمن وحاجة البشرية إلى الحياة تتطلب نمطاً من السلوك يوفر إشباعاً لهاتين الحاجتين المهمتين، وقلنا أن التصورات الأرضية والإسلامية تتفق جميعاً على ضرورة مراعاة هذه الجوانب، وذلك لسبب واضح وبسيط جداً هو أن البشر بما أنهم يصدرون في كثير من أنماط سلوكهم عن نزعات شهوانية حينئذ فلابد من عملية ضبط لهذا السلوك، وهو ما يطلق عليه في اللغة الاجتماعية بالضبط الاجتماعي، وانتهينا من ذلك كله إلى أن مبادئ الجهاد في التصور الإسلامي مع كونها تتفق مع الاتجاهات الأرضية من حيث الخطوط العامة المرتبطة بالضبط الاجتماعي، إلا أن نفس هذه الخطوط بما فيها من تفصيلات أو تفريعات تظل في الواقع متفاوتة من حيث التصور الإسلامي وافتراقه عن التصور الأرضي، وانتهينا من ذلك كله إلى أن الدلالة الإنسانية في أبعد ذراها تتحقق في الواقع من خلال المبادئ المرسومة في الجهاد بحيث يختلف التعامل العسكري عبر التصور الإسلامي عن التعامل العسكري عبر التصورات الأرضية.

وقلنا أيضاً أن التصور الإسلامي للتربية العسكرية لا تنسحب معطياته على الطرف الإسلامي فحسب بل تنعكس معطياته أيضاً على الطرف الآخر المعادي حيث أن الطرف الآخر المعادي سوف يتحسس بمدى إنسانية التربية العسكرية التي يواجهها.

من هنا فإن الحديث عن الدلالات الإنسانية في التربية العسكرية من خلال وجهة النظر الإسلامية نبدأ ونحدثكم عنها على النحو الآتي:

أولاً: إن أبرز دلالة إنسانية من ممارسة الجهاد يمكننا أن نتبينها بوضوح في مدى تشدد الإسلام على وجوب أن يدعو العدو قبل أن يقدم على قتاله إلى الإسلام ذاته بلغة مسالمة، وفي هذا المجال يمكننا أن نستشهد بمقولة الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول: (بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن فقال: يا علي لا تقاتلنّ أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت).

لاحظوا أن هذه التوصية تفصح عن الهدف الموضوعي الصرف في عملية القتال، فمن الممكن مثلاً أن تمارس الثورات الأرضية أسلوباً مماثلاً قبل الغزو عبر مطالبتها مثلاً بانصياع الطرف الآخر لموقفه الأيديولوجي الذي تصدر الدولة المحاربة عنه، لكن لاحظوا أن الفارق بين المطالبتين الإسلامية والأرضية أن الإسلامية منهما تجعل من ممارستها المذكورة مجرد توظيف للسماء، بما أن السماء هي المالكة للأرض ومن فيها دون أن يكون للذات الفردية أو الاجتماعية أي إسهام في الموقف. كما أن غياب السيطرة والعلو وغيرها ملحوظ تماماً في الممارسة المذكورة.

ويمكننا أن نستشهد بنص آخر للإمام السجاد (عليه السلام) حيث يحدد لنا الأسلوب الذي ينبغي أن نختطه عبر السؤال الموجه إليه وهو عن كيفية الأسلوب التبليغي في الدعوة إلى الإسلام، يقول (عليه السلام): (تقول بسم الله الرحمن الرحيم أدعوك إلى الله عز وجل وإلى دينه وجماعه أمران أحدهما معرفة الله عز وجل والآخر العمل برضوانه وإن معرفة الله عز وجل أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزة والعلم والقدرة والعلو على كلّ شيء، وأنه النافع الضار القاهر لكل شيء الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأن محمداً عبده ورسوله وأن ما جاء به الحق من عند الله عز وجل وما سواه هو الباطل، فإذا أجابوك إلى ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين).

انظروا إلى هذه التوصية فهي نداء خيّر صرف لمعرفة واقع الحياة وتجربة الإنسان في الأرض مماثلة لحرص العالم مثلاً على أن يوصل المعرفة إلى الآخرين دون أن يداخل هذا العالم أي باعث آخر من سيطرة أو التماس التقدير الاجتماعي أو استثمار اقتصادي أو سائر البواعث التي أفرزتها ثورات التاريخ على امتداده فيما لا حاجة إلى تسجيل مفارقاته التي واكبت أهدافها الموضوعية في الآن ذاته.

إن فتح دروب الخير هو الهدف الرئيس للدعوة إلى الإسلام من خلال ممارسة الجهاد، حتى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في توصيته المتقدمة أوضح للإمام علي (عليه السلام) أن هداية رجل على يده خير مما طلعت عليه الشمس، وهذا يعني بوضوح أن كل متاع الحياة مادياً ونفسياً لا قيمة له حيال إنقاذ رجل ونقله من الظلمات إلى النور. كما أن دعوة السجاد (عليه السلام) إلى معرفة الوحدانية والرأفة والرحمة والعزة والعلم.. الخ، تظل تفسيراً لمعنى الهداية التي لوّح بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

إذن ثمة هدف موضوعي خالص لا تشوبه أية رائحة من الذات الفردية يعتزم المجاهد تحقيقه في ممارسته لهذا النمط من السلوك، إنه دعوة خيرة للآخرين ولا باعث آخر سواه. إن من السهولة مثلاً أن يتم الغزو بخاصة في حالات التفوق العسكري من خلال عملية القتل وتتم السيطرة بعد ذلك بما فيها سيطرة المبادئ التي يبشّر بها المجاهد بحيث تجيء في مرحلة متأخرة عن الغزو، ولكن ما دام الهدف هو نشر المبادئ الخيرة وليس الغزو حينئذ تتوهج الدلالة الإنسانية بوضوح في ممارسة الجهاد عبر التصور الإسلامي له، وتتوهج هذه الدلالة الإنسانية بنحوٍ بيّن من خلال تكرار الدعوة إلى الإسلام ومنح الفرص الجديدة للعدو لممارسة التفكير ومعاودة الحساب ومدارسة الأمر أملاً بإمكان التعديل لموقفه وانصياعه للمبادئ الحقة في النهاية.

ولعل فيما نعرف جميعاً ما حدث في معركة الجمل أو الطف أمثلة حية لتكرار الدعوة إلى الخير وتقديم النصيحة للعدو والتفكير بمفارقاته وما يترتب عليها من العقاب كل أولئك يظل تأكيداً للبعد الإنساني في أية ممارسة للجهاد، سواء أكانت ذات طابع دفاعي أو ابتدائي.

إن منح الفرصة للعدو مثلاً من خلال تكرار الدعوة إلى الخير ومن خلال تكرار النصيحة ينطوي فضلاً عن معطياته المتقدمة من إمكانية لتعديل الموقف المعادي ينطوي على معطيات أخرى منها حقن الدم قدر الإمكان،إلاّ بعد اليأس تماماً من إصلاح النفس ومما أتاحت الحرية بنحو أوسع مدى والصدور عن قناعة لا عن إكراه.

وإذا انتقلنا إلى بعد آخر نجد أن ثمة بعداً إنسانياً يأخذ مدى آخر من التصاعد حينما يمنح الفرصة لإمكانية أن يعدل المعادل في موقفه حتى في أثناء القتال، أو التراوح بين فترات القتال التي تتخللها هدن ومواثيق مثلاً، فما دام الهدف أولاً وأخيراً هو نقل البشر من الظلمات إلى النور حينئذ فإن أي إعلان تبتدره الشخصية موشح هذا الإعلان بإمكان أن تعدل موقفها حينئذ يأخذه المجاهد إسلامياً بنظر الاعتبار حتى لو كان ذلك بعد تقديم الحجج عليه من دعاء وتكرار وتقادم الحروب والهدن بما يواكب ذلك من فرضية عدم العدو بملابسات الموقف، ولعلّ الآية الكريمة الآتية تصرّح بوضوح في هذا الميدان من خلال سياق حديثها عن البراءة من معاهدة المشركين وإمهال هؤلاء أربعة أشهر حيث تقول الآية الكريمة: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) في هذه الآية معطيان كبيران فيما يتصل بالدلالة الإنسانية لممارسة الجهاد، فهناك أولاً تجديد الفرصة للتعرف على الحقيقة، وهذا ما ينساق عليه قوله تعالى: (حتى يسمع كلام الله ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)، وهناك ثانياً إكساب النزعة الإنسانية بعداً ضخماً هو الأمان والالتزام به، طالما يتمثل بقوله تعالى: (ثم أبلغه مأمنه).

ولعل نصوص الحديث تلقي إنارة جديدة على ظاهرة الأمان بالنسبة إلى العدو ودلالتها الإنسانية، وهذا من نحو قول أحد المعصومين (عليهم السلام): (لو أن جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل فقال أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به)، إن هذا النص تلاحظون يفصح بوضوح عن الهدف الموضوعي الذي يستبطنه الجهاد من وراء هذه الممارسة الخيرة، ألا وهي تبيين القيم الإسلامية والترحيب بأية مناظرة يجريها العدو مع المجاهد الإسلامي مضافاً إلى تأكيدها ظاهرة الوفاء بهذا الأمان إلى الدرجة التي توضحها توصية أخرى حيث تقول التوصية لو أن قوماً قد حاصروا المدينة فسألوهم الأمان، فقالوا: لا. فظنوا أنهم قالوا نعم فلجأوا إليهم كانوا آمنين.

لاحظوا هذه التوصية تتصاعد إلى الذرى من القيم الإنسانية حينما تتعاطف مع مشاعر العدو الذي خيل إليه بأنه قد أعطي الأمان في حين أن القوم لم يوافقوا على ذلك، إلا أنه توهم خلافه حيث تطالبنا التوصية بأن نقره على التوهم المذكور محققة بذلك وظيفتين مزدوجتين في آن واحد هما مراعاة مشاعره تحسيساً له بالخلق الإسلامي ثم إتاحة المجال للمناظرة التي قد تتم من خلالها هداية رجل تظل خيراً مما طلعت عليه شمس أو غربت.

ولعل البعد الإنساني في أمثلة هذا السلوك يبلغ درجته التي لا تضاهى حينما لا تكتفي التوصيات الإسلامية بمجرد إعطاء الأمان للمستجير فحسب، بل تتوعد المجاهد بتحمّل مسؤولية تصرّفه في حالة نقضه للأمان وهذا ما تحدده التوصية المشددة الآتية:

قال المعصوم (عليه السلام): (من ائتمن رجلاً على دمه ثم خاس به فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول في النار).

لاحظوا كيف أن المشرع الإسلامي يتوعد القاتل الإسلامي بهذه اللغة المرعبة مع أنه يمارس عملية قتال لرجل من أهل النار، ولكن أمثلة هذا التوعد ينبغي أن لا نمر عليها بشكل عابر دون أن نستخلص دلالتها الإنسانية بالغة المدى في تشددها بالنسبة إلى مراعاة أدنى تحرّك عند العدو يشف عن إمكانية تعديل سلوكه، بل حتى لو كان العدو ميؤوساً من إصلاحه مثلاً فإن تحسيسه بأخلاقية المجاهد الإسلامي من خلال التزامه بالعهد يظل موضع تشدد على نحوٍ بالغ الدلالة في استشفاف معنى الإنسان، ونتجه من هذا الجانب إلى الحديث عن الغدر حيث لاحظتم في التوصية السابقة كيف أن المعصوم (عليه السلام) يشير في الواقع إلى ظاهرة الغدر من خلال قوله (عليه السلام): (ثم خاس به) لاحظوا أن مثل هذه الممارسة جعلت الإمام المعصوم (عليه السلام) يبرأ من القاتل المسلم.

إذن عندما تتحدث التوصية الإسلامية عن هذا الجانب فإنها تضع مفهوم الغدر في معرض الاستنكار التام من خلال التصوّر الإسلامي لظاهرة الغدر حتى وهي تجري مع العدو، لذلك يجيء الحديث عن الغدر مصحوباً بتوّعد مماثل في المماثلة الخيرة للجهاد، فإذا كان الهدف من الممارسة المذكورة هو إشاعة مبادئ الخير ومن جملة إشاعة مبادئ الخير هو ظاهرة الوفاء إنها مفردة أخلاقية حينئذ فإن غدر الشخصية الإسلامية بالعدو إذا كانت مع إعلانها مواثيق يعد غدراً وهذا يناقض تماماً مفهوم نشر المبادئ الخيرة التي من جملتها الوفاء، أي إنها لا تتساوق أساساً مع الأخلاقية التي تسم شخصية المجاهد.

طبيعياً يجب أن نصطنع فارقاً من بين الغدر من حيث الاستجابة التي ستلوّن شخصية العدو،مثل هذا السلوك عبر المواقف يستدعيها سياق خاص وبين المواقف التي لا تحكمها أمثلة هذا السياق، ولعلّ التوصية الآتية للإمام الصادق (عليه السلام) تحدد لنا بوضوح دلالة الغدر من حيث كونه سمة لا أخلاقية تترك آثارها على شخصية المسلم التي لا تتعامل إلا وفق معيار له مسوغاته، يقول أحد الرواة:

سألت - أي سأل المعصوم (عليه السلام) - عن قريتين من أهل الحرب لكل واحدة منهما ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزو تلك المدينة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا ولكنهم يقاتلون المشركين).

إن هذا السياق الذي تتحدث التوصية عنه يتمثل في ممارسة عامة لا تحمل مسوّغات التعامل مع طرف غادر أخلاقياً أساساً، إن طرفي الحرب في هذه الواقعة كافران، كلاهما لا يصدر عن موقف فلسفي سليم حيال الحياة مما يعني انعدام المسوغ إلى أن يتعامل مع أحد الطرفين بهذا النمط، إلا إذا كانت المصلحة الخيرة تقتضي نمطاً من الائتلاف المرحلي على نحو ما نعرض له لاحقاً إنشاء الله، ولكن الأمر هنا قد ارتبط بموقف لا أخلاقي هو غدر أحد الطرفين اللذين تصالحا على الهدنة بينهما ولسوف نرى أن الإسلام في نطاق المواثيق التي ينسجها مع العدو يظل بالغ الحرص على أن يلتزم بها أخلاقياً، إلا في حالة ما إذا كان العدو قد نقض هو هذا الجانب من البدء.

لذلك يتعامل الإسلام في مثل هذه الحالة باللغة ذاتها من حيث الالتزام بالعهد فثمة طرف غير ملتزم أحد الملكين غدر بصاحبه في الرواية المذكورة وهذا موقف لا أخلاقي بغض النظر عن الانتماء الأيديولوجي للظالم أو الطرف الآخر فيما يناهضهما الإسلام معاً لأنهما منحرفان أساساً، إلا أن الإسلام ما دام أساساً أيضاً لا يمارس عملية نقض للعهد حينئذ فإن التعاون مع أية جهة تمارس نقضاً للعهد يظل محكوماً بالطابع ذاته، أي رفض التعامل مع هذا الطرف الغادر وهو أمر يفسر لنا بوضوح معنى قوله (عليه السلام) في الرواية المذكورة: (ولا يقاتلوا مع الذين غدروا) انطلاقاً في هذا من المبدأ الإسلامي العام الذي أكده الإمام (عليه السلام) في توصيته المقدمة ألا وهي قوله: (لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا أن يأمروا بالغدر).

إذن ثمة دلالة بالغة الأهمية يشدد فيها الإسلام من حيث اصطناع الفارق بين معايير إنسانية لابد من ممارستها وبين معايير خاصة يأخذ كل من هذين المعيارين بحد ذاته في هذا الميدان، وبكلمة أكثر وضوحاً الإسلام في رؤيته العامة يطرح نمطين من التعامل مع البشر، سواء أكان ذلك في ميدان الجهاد أو سائر ميادين السلوك.

وهناك تعامل عام مع البشر كفاراً كانوا أو مسلمين. ترسم السماء لهم مبادئ الخير وتطالبنا نحن الخاص بالسير على هداه أيضاً عبر تعاملنا مع الآخرين، فمثلاً عندما ترسم السماء مبادئ الصحة الجسمية فإنها تأخذ بنظر الاعتبار أن الإفادة من هذه المبادئ تظل عامة للبشر جميعاً، أي الكافر والمسلم والفاسق والمؤمن يستفيد منها.. الخ، كما تطالبنا نحن الخواص بتمرير هذه الإفادة الطبية على الانتماءات والأنماط البشرية بكل ألوانها، وأما التعامل الآخر فيأخذ سمته الخاصة متمثلةً في الانتماء الإسلامي الصرف بما تحكمه من موازين تحددها مجموعة الأوامر والنواهي التشريعية المختلفة، وتبعاً لذلك فإن المبادئ الأخلاقية بدورها تصب في الرافد المتقدم أيضاً عبر تشطيرها إلى مبادئ عامة كالوفاء والصدق والعدالة ونحوها وإلى مبادئ خاصة بين الملتزمين إسلاميا فحسب حيث يجيء الالتزام بالعهد وعدم التعاون مع الغادر مثلاً واحداً من خطوط التعامل مع المبادئ العامة على النحو الذي أوضحناه.

لكن في سياقات خاصة يمنع المشرع الإسلامي عملية البدء بالقتال تأكيداً لسائر الدلالات الإنسانية في ممارسة الجهاد، وتتجسد هذه الدلالة في أن النزعة العدوانية بعامة بما يواكبها من تفريج لأزمات شخصية وبما يواكبها من الدافع إلى السيطرة والعلوّ، قد تتسرّب خلسة إلى الهدف الموضوعي للمقاتل فيمتزج ما هو موضوعي لله تعالى بما هو ذاتي للمصلحة الفردية، وحينئذ تفقد عملية الجهاد شيئاً من نقاءه الإنساني الصرف الذي يحرص المشرع الإسلامي على تعميقه في النفوس.

أما فيما يتصل بطبيعة الاستجابة الصادرة عن العدو فإن المشرع أيضاً يحرص على أن يحسس العدو بموضوعية المقاتل الإسلامي وإقناعه أخلاقية السماء التي لم تتقدم إلى المعركة لممارسة النزعة إلى القتال أو السيطرة بل من أجل هدف خيّر صرف فيما سيحيط بها العدو علماً وقناعة تامة بذلك، وتوصية الإمام علي (عليه السلام) في هذا المجال يحدد ما أوضحناه حيث قال أحد الرواة:

إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يأمر في كل موطن لقينا فيه عدونا فيقول: (لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم).

من الواضح أن إشارة الإمام (عليه السلام) في قوله: (وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى) تعني من الزاوية النفسية أن العدو يصدر في سلوكه المصدور في الواقع النزعة العدوانية من حيث بدأه بالحرب، كما يعني عدم البدء وهو موقف إسلامي يجسد عكس ذلك تماماً، يجسد صدور المسلم عن نزعة مسالمة خيرة، ولعل الممارسة التطبيقية التي تحدد بوضوح هذا البعد الإنساني في عدم البدء بالقتال تتمثل في موقف الإمام الحسين (عليه السلام) عبر تكراره لدعواته الخيرة حيال القوم الذين استجابوا لدعواته بالرغم من توجيه السهام نحو معسكره حيث اضطر عندها أن يقاتل دفاعاً عن النفس وأن يخاطب أصحابه بما مؤداه: (قوموا رحمكم الله إلى الموت فإن هذه السهام رسل القوم إليكم).

إن هذا الموقف يحدد بوضوح كيفية النزعة الخيرة الصادرة عن الجانب الإسلامي وكيفية النزعة العدوانية الصادرة عن العدو، ولعلّ طلب المبارزة وهي ممارسة عسكرية تمثل البيئة العسكرية.

هذه الممارسة أي طلب المبارزة تمثل أحد أنماط البدء بالمعركة فيما منعها الإسلام وأكد إمكان صدور البادئ بطلب المبارزة عن أن تكون له نزعة عدوانية في هذا الميدان، ولذلك نجد أن الرواية الآتية تحدد ذلك بالقول: دعا رجل بعض بني هاشم إلى البراز فأبى أن يبارزهم، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ما منعك أن تبارزه؟ قال: كان فارس العرب وخشيت أن يغلبني فقال له (عليه السلام): فإنه بغى عليك ولو بارزته لغلبته ولو بغى جبل على جبل لهدّ الباغي.

إن تأشيرة الإمام (عليه السلام) إلى ظاهرة البغي وأن الباغي مهدود أو حسب رواية أخرى أن البغي مصروع، إن هذه التأشيرة لها دلالة واضحة على إمكانية أن يقترن البادئ بإمكان رجوعه من باعث عدواني صرف وإن حصيلة العدوان هي الخسارة ما دام الباعث لم يكن نابعاً من موضوعية في السلوك.

إن أمثلة هذا التأكيد على ضرورة البزوغ عن باعث موضوعي تظل امتداداً للدلالات الإنسانية التي يستهدفها المشرع في ممارسة عملية الجهاد، ومن ثم فإن التلميح إلى ضرورة الإجابة في مقاتلة البادئ تظل محكومة بالطابع الإنساني ذاته، ما دامت تجسد دفاعاً عن النفس أو دفاعاً عن الحق أو المبادئ المستهدفة في عملية الجهاد بنحو عام.

من هنا يجيء الرد على العدوان موضع تأكيد ملحوظ لدى المشرع الإسلامي بصفته تجسيداً للقيم التي يتطلع الإنسان إلى تحقيقها ما دام الدافع إلى الأمن والدافع إلى الحياة يفرضان التفاهم الاجتماعي القائم على إقرار عمليتي الضبط والعقاب الاجتماعيين، فيما أشرنا في محاضرة سابقة إلى أنهما ضرورة لا مناص منها في إشباع دافعي الأمن والحياة، أي تحقيق هذا الدافع للأمن والحياة حيث يجيء الرد على العدوان ممثلاً لعمليتي الضبط والعقاب، والنصوص القرآنية الكريمة تحدد لنا بوضوح مشروعية ردّنا على العدوان كقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وقوله (عليه السلام): (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) هنا لا نجدنا بحاجة إلى أن نعقّب على الدلالة الإنسانية التي تشعّ بها فطرة (لا تعتدوا) وفطرية (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) بصفة أن الأولى وهي (لا تعتدوا) تطالب بعدم الصدور عن العدوانية، والفقرة الأخيرة (فاعتدوا عليه كما اعتدا عليكم) تطالب بسحق النزعة العدوانية، فالأولى تطالب بعدم المقاتلة والأخيرة تطالب بالمقاتلة إلا أن كلتيهما تصبان في رافد واحد هو محو العدوان في نهاية المطاف لأننا إذا لم نعتد حينئذ لا صدور للعدوان منا وحينما نردّ على المعتدي حينئذٍ أيضاً نكون بذلك قد طالبنا بسحق النزعة العدوانية عند العدو فيتحقق ما هو مضاد لها، وهو النزعة المسالمة الخيرة.

على أية حال الدلالات الإنسانية التي أومأنا إليها تظل في نطاق التعامل مع العدو تمهيدياً بدءاً من الدعوة إلى الإسلام وانتهاءً بالدفاع عنه، أما الآن فيجدر بنا أن نلمّ بالمبادئ الإنسانية التي تفرزها عملية الجهاد بذاتها، من حيث مباشرة القتال ونمط التعامل الإنساني مع العدو المقاتل في سوح المعركة، وأول ما ينبغي لفت الانتباه اليه هو التعامل مع ظاهرة القتل ذاتها، فالملاحظ هنا أن التوصيات الإسلامية تشدد في ممارسة القتل بنحو طبيعي دون أن يتخلل هذا القتل أي نمط من التلذذ أو التعذيب أو التفنن في العملية المذكورة وبكلمة أخرى تمنع التوصيات الإسلامية من عملية التمثيل بالقتلى، يقول الإمام علي (عليه السلام) عبر تحريضه الناس على الجهاد: (ولا تمثلوا بقتيل).

كما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشدد في هذا الجانب في جميع توصياته من نحو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا..) ونحو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تغلوا ولا تمثلوا) في نص آخر..

إن الدلالة الإنسانية في النهي عن التمثيل يمكننا أن نتبينها بوضوح حينما ندرك بأن التمثيل يجسد عملاً عدوانياً نابعاً مما يسمى في لغة المرض النفسي بالنزعة السادية، أي التلذذ بتعذيب الآخرين، فالتلذذ بالتعذيب لا تمارسه الشخصية إلا إذا كانت تعاني انحرافاً واضطراباً وتمزقاً ملحوظاً في شخصيتها، أي إن صدور مثل هذه الشخصية عن نزعة إجرامية ملأى بالكراهية وبالحقد، وهذا مما يتأباه الإسلام في حرصه الدائب على صياغة الشخصية المسلمة صياغة سوية متوازنة مسالمة محبة للآخرين، سليمة من الكراهية والحقد.

أيضاً من الواضح أن ممارسة الجهاد في مفهومه الإسلامي ما دامت مستهدفة إشاعة المبادئ الخيرة وتزكية النفوس حينئذٍ فإن المطالبة بعدم التمثيل بالقتلى تظل متواسقة مع المبادئ المذكورة بخاصة أن الهدف من المقاتلة هو إزاحة قوى الشر من الساحة الاجتماعية، حيث يمكن إزاحة هذا الشر بعملية القتل العادية دون أن تكون هناك أية حاجة أو مسوّغ لممارسة التعذيب والتمثيل بالقتيل.

من هنا تتوهّج قيمة البعد الإنساني في عدم ممارسة التمثيل بالقتلى من حيث كونه - أي التمثيل - لا يستلزم التخلص من قوى الشر أي بمعنى أنه عمل زائد عن الحاجة الموضوعية التي يستهدفها المقاتل أولاً، كما أنه ثانياً يجسد كما أوضحنا عملية تلذذ بتعذيب الآخرين تتنافى مع النزعة الخيرة لدى الشخصية المجاهدة في سبيل الله تعالى.

على أية حال إن الدلالة الإنسانية في ممارسة الجهاد بمفهومه الإسلامي تأخذ أبعاداً بالغة الأهمية حينما نتابع سائر التوصيات التي تمنع كل أشكال الممارسات الزائدة عن الحاجة بما يستتليها من شهوة لقتال غير موضوعي.

والآن لنتابع توصيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا الجانب حيث يقول: (لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة)، المرأة والصبي والشيخ بصفتهم نماذج عزلاء لا فاعلية لهم في القتال، وهذا ما يفسّر لنا دلالة هذه التوصية الواردة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم قتلهم، فما دام الهدف هو إزاحة الشر كما كررناه حينئذ لا مسوّغ لمقاتلة عديمي الفاعلية من قوى الشر كالأطفال والنساء، أكثر من ذلك فإن المرأة حتى لو قاتلت مثلاً فإن التوصية الإسلامية تطالبنا بأن نكفّ عن قتلها، وهذا الموضوع يظل تصعيداً بالغ الدلالة في استشفاف البعد الإنساني لأمثلة هذه التوصية.

طبيعياً ثمة فارق بين أن نمارس عملية قتل لا ضرورة لها في إزاحة قوى الشر وبين عملية قتل تتطلب ذلك ما دام الضبط والعقاب الاجتماعيان ضروريين في تثبيت مبادئ الخير وإشاعة هذه المبادئ في النفوس، وما دام الدافع إلى الأمن والحياة لا مناص من إشباعهما في المجتمع البشري حتى يصبح وجود الاجتماع البشري ممكناً، أي يجسد استمرارية المجتمع في الحياة.

والمرأة حينما تحمل السلاح مثلاً تسهم في تأجيج قوى الشر،حينئذ فإن البعد الإنساني يتطلب إزاحتها ضمن قوى الشر أيضاً، لكن مع كل هذا تجيء التوصية الآتية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم قتلها ما أمكن إلا إذا ترتب على ذلك ضرر إنساني، قال الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سئل عن سبب سقوط الجزية عن المرأة معللاً ذلك بقوله: (لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن فإن قاتلن أيضاً فامسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللا) ما يعنينا من هذه التوصية هو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن قاتلن أيضا فامسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللا، هذا يعني أن التوصية الإسلامية أكسبت البعد الإنساني حجماً واسعاً كل السعة عندما منعت قتل المرأة حتى عند ممارستها للشر ما أمكن، أي إذا كان ثمة إمكان لعدم قتلها فالأفضل ممارسة العفو إلا إذا خيف من ذلك ترتب الضرر على المسلمين.

على أية حال سنلقي مزيداً من الإضاءة على هذا الجانب في المحاضرة اللاحقة إنشاء الله لأن الوقت الآن قد أوشك على الانتهاء، من هنا نستودعكم الله سبحانه وتعالى ونلتقيكم إنشاء الله في محاضرة لاحقة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..