mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 40.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

لا نزال نحدثكم عن السمات الاجتماعية ونعني بها السمات التي تتطلب إقامة علاقات اجتماعية على مختلف الصعد التي يتعامل فيها الفرد مع الأطراف الأخرى، وقد بدأنا ذلك بالحديث عن الإشارة إلى أن أهم ما يميز العلاقات الاجتماعية بين الناس ظاهرتان هما: الحب أولاً والتوافق الاجتماعي ثانياً، أي المطلوب من الشخصية الإسلامية أن تصدر عن نزعة الحب حيال تعاملها مع الآخرين وثانياً يعني أن الشخصية الإسلامية ينبغي أن تتوافق اجتماعياً مع الأطراف الأخرى التي تتعامل وإياها، وقد تحدثنا عن جملة من مصاديق السلوك الذي ينبغي أن يسلك من قبل الشخصية حتى تستطيع أن تحقق مفهوم الحب أو مفهوم التكيف الاجتماعي حيث عرضنا بعض المصاديق المتصلة بالتعبير اللفظي عن الحب وبممارساتٍ نحو السلام أو التحية ونحو ذلك من أشكال السلوك الاجتماعي الذي يحقق مفهوم الحب ومفهوم التكيف وأما الآن فنواصل حديثنا عن أمثلة هذه المظاهر التي تعمّق أو بالأحرى التي تدرّب الشخصية على أن تتنامى فيها نزعة الحب نحو الآخرين وأن تتنامى فيها عملية التكيف الاجتماعي، نقف عند عنوان هو: (التعبير الحركي عن الحب) مع ملاحظة أننا في المحاضرات السابقة تحدثنا عن التعبير اللفظي عن الحب وقدمنا أمثلة على ذلك تتصل بما يمارسه اللفظ من عمليات لفظية يستطيع من خلالها أن يحقق مفهوم الحب والتوافق أو التكيف، أما الآن فينتقل الحديث بنا عن التعبير الحركي وليس التعبير اللفظي فحسب، وهو أمر سنقف الآن عنده ونحدثكم عنه بشيء من التفصيل إنشاء الله..

التعبير الحركي عن الحب

ان التعبير الحركي عن الحب يقصد به الممارسات التي تضطلع بها قسمات الجسم من طلاقة الوجه والمصافحة ونحوهما من الحركات الجسمية التي تعبر عن مكنون الشخصية وانعكاسها على الآخرين في عملية التوافق الاجتماعي.

إن أمثلة هذه الممارسات لا يعنى بها علم النفس الأرض أو التربية الأرضية إلا نادراً إلا أنها في التصور الإسلامي تظل ذات فاعلية ضخمة في التدريب على السلوك السوي، إنها تماماً كالإعلان اللفظي والسلام والكلمة الطيبة تسهم جميعاً في تنمية مشاعر الإحساس بالاستقلال والثقة وفي تنمية مشاعر الحب وفي تحقيق التوافق الاجتماعي.

ومن هذه المظاهر كما قلنا العنوان الآتي الذي سنحدثكم عنه وهو (طلاقة الوجه).

من الحقائق التي لاحظها جمع من المشتغلين في حقل العلاج النفسي أن ثمة علاقة عضوية بين بعض الحركات التي تظهر على قسمات الوجه وبين السلامة النفسية أو المرض مثل تقطيب الجبين وزم الشفاه وتقليص الجفن ونحو ذلك.. ومع أن الوراثة العضوية تلغيها إلا أن انعكاس الدلالات النفسية على القسمات المذكورة لا يمكن تجاهلها أيضاً في هذا الميدان، فمثلاً عبوس الوجه قد يكون نتيجة تراكمات زمنية حفرت آثارها أزمات نفسية عميقة بحيث أصبحت جزءاً من الملامح الحركية التي لا يمتلك الشخص أية فاعلية حيالها لمسح ذلك، إلا إذا درّب ذاته على أن يستجيب استجابات جديدةً تقوم على الحب والثقة والتفاؤل وما إلى ذلك..

وأما فيما يتصل بانعكاساتها على الآخرين فأمرٌ أوضحته التوصيات الإسلامية التي تطالبنا بأن نغيّر استجاباتنا الحركية وهذا مثل قول المعصوم (عليه السلام) في تقريره العيادي القائل: (الانقباض من الناس مكسبة للعداوة)، وقوله (عليه السلام): (حسن البشر يذهب بالسخيمة)، والحق أن كسب الكراهية التي أشارت التوصية الإسلامية إليها لا تعكس فاعليتها على الآخرين فحسب؛ بقدر ما تعكس آثارها على المريض ذاته، فالآخر عندما ينفر من المريض نتيجةً لعبوسه وتقطيب جبينه، وتحسسنا أننا أمام كائن ضعيف عندئذ فإن هذه الاستجابة النافرة ستزيد من عقدة الشخصية المريضة وتعمّق إحساسه بكراهية الناس وبكراهية ذاته طالما نعرف وهذا موضع اتفاق علماء الشخصية أن هناك تأثيراً متبادلاً بين نظرة المرء عن نفسه ونظرة الناس عنه، فإذا أحسسنا ذواتنا بأنها كريهة ومنبوذة من قبل الآخرين فإن هذا النبذ ينسحب على نظرتنا حول أنفسنا بحيث تتنامى مشاعر النبذ لذواتنا وتنعكس من ثم على نظراتنا حيال الآخرين من حيث استتلاءها للنزعات العدوانية حيالها.

والحق أن التدريب على طلاقة الوجه حتى لو كان مفتعلاً والمفروض أن يصطنع الإنسان ذلك نقول يفرز فاعليته على الشخصية تدريجاً من خلال التدريب، بحيث تبدأ الشخصية بتعلم جديد ينطفئ من خياله التعلم القديم، وتتحول الشخصية إلى كائن جديد مثير بالمحبة لذاته وللآخرين، وقد مر بنا العلاج السلوكي الذي يشير الإسلام إلى بعض مفرداته من نحو قول المعصوم (عليه السلام): (إذا لم تكن حليماً فتحلم) فيما يفضي هذا التعلم الجديد للحلم ومثل ذلك سائر فعاليات السلوك يفضي إلى طبع بدلاً من التطبع.

على أية حال يظل التوافق الاجتماعي موضع مطالبة المشرع الإسلامي من خلال مطالبته بأن تتجنب الشخصية كراهية الآخرين وذلك بتدريب ذاتها على حسن البشر وطلاقة الوجه بالنحو الذي أكده الإمام علي (عليه السلام) في توصيته المعروفة القائلة: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه)، حيث تلحظون مدى تشدده (عليه السلام) في ظاهرة التوافق الاجتماعي التي أشرنا إليها، والآن إذ نتابع سائر مفردات السلوك التي يطالب بها المشرّع الإسلامي في حقل التوافق الاجتماعي نجد أن مفرداتٍ من نحو المصافحة والالتزام والمعانقة وتقبيل الجبين ونحو ذلك، تظل موضع مطالبة لافتة للانتباه بحيث لا نجد أية إشارة من البحوث الأرضية إلى أمثلة هذه الممارسات التي تسهم جميعاً في تدريب الشخصية على الإحساس بكفاءتها من جانب وعلى تنمية مشاعر الحب من جانب ثانٍ، وعلى تحقيق التوافق الاجتماعي من جانب ثالث، وعلى تحقيق الإشباع للآخرين من جانب رابع.

فلنقف إذاً عند بعض هذه المفردات من السلوك التي يطالبنا المشرّع الإسلامي بممارستها ومنها ظاهرة المصافحة؛ المصافحة ظاهرة تجسد موضع تأكيد بالغ بالنسبة إلى التوصيات الإسلامية حيث تشير هذه التوصيات إلى فاعلية المصافحة في ميدان التوافق بحيث نلحظ ذلك في توصيات متنوعة من أمثلة قولهم (عليهم السلام): (تصافحوا فإنها تذهب بالسخيمة)، بل نجد توصيات تقول عليكم حتى بالنسبة إلى الأعداء أن تصافحوهم، لاحظوا (عليه السلام): (صافح عدوك وإن كذب)، إن إشارة المعصوم (عليه السلام) إلى أن المصافحة تمسح العداوة والضغينة بالنسبة إلى التوصية الأولى وبالنسبة إلى التوصية الثانية التي تقول إن العدو حتى إذا كره المصافحة ينبغي أن لا تحملكم ذلك على ترك المصافحة ثم ملاحظة ما لأنماط السلوك التي يصدر عنه المشرع الإسلامي كما ورد عن أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يقول عنه أحد الرواة: ما صافح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً قط فنزع يده من يديه حتى يكون الرجل هو الذي نزع يده.

هذه ملاحظة من سلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنها قطعاً غائبة عن تصورات البحث الأرضي.

وإليكم التوصية الثانية أو التقرير الآتي عن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول أحد أصحابه أيضاً: (كنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو - الظاهر أنهما كانا في سفر- فإذا استوينا - يقول الراوي أو الصاحب - سلّم وسائل مساءلة رجل لا عهد له بصاحبه وصافح).

ومثل هذا النقل ما نلحظه في رواية أخرى عن أحد أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً يقول: (فناولته يد فلمزها حتى وجدت الأذى في أصابعي)، إن أمثلة هذه التوصيات لا تشكل مجرّد آداب اجتماعية بقدر ما تشكل تدريباً وعلاجاً في ميدان السلوك وتعديله، إنه علاج تربوي فعّال في علاج السلوك وتعديله، فالمصافحة بنحوٍ عام إعلان عن الحب؛ وهذا وحده يكفي للإفصاح عن صاحبه - أي صاحب المصافحة - من حيث صدوره عن نزعة سوية هي المسالمة أو الحب بدلاً من العدوان أو الحقد، كما أن المطالبة بتنفيذ هذه الوصايا تشكل تدريباً على تعلّم الحب بدلاً من الحقد، وعلى صياغة نظرة إيجابية للذات بدلاً من سلبيتها، وعلى تدريب الآخرين على هذه النزعة أيضاً، بل إن مصافحة العدو الذي يكره مصافحتك يظل في الصميم من عمليات التعلم للآخرين وللذات أيضاً.

فعدوّك الذي يتوجس منك خيفة عندما تحسسه من خلال مصافحتك بأنك تحبه عندئذ ستتغير استجابته حيالك وستنقشع غيوم الشك التي نسجها عنك، وسيتحوّل إلى كائن محب بعد أن كان عدواً.

أما بالنسبة إلى المصافِح فإن حمله على أن يصافح شخصاً كرهه يظل تدريباً على الحب وعلى التوافق وعلى الثقة بالذات وعلى نبذ الذات وعلى الإيثار.. الخ، إنكم لو تجرّبون ذلك يومياً حينئذ ستتلمسون مدى فاعلية هذه الممارسة من حيث تدريبكم على الحب والتوافق والثقة بالذات ونبذ الذات وعلى الإيثار.. الخ.

وأما استمراريتكم على المصافحة وعدم نزع يدكم قبل الآخر فأمر واضح من حيث فاعليته في الإعلان عن الحب، كما لاحظتم ذلك في سلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان لا ينزع يده من المصافح الآخر حتى يكون الآخر هو الذي ينزع يده أولاً لكي يحسسه بأنه لا يزال يحبه ولا يود مفارقته.

إن الشخص الذي تصافحونه وهو مستمر في ممارسة هذه الحركة لا ينزع يده عنكم سيترك لديكم استجابة واضحة لا سبيل إلى التشكيك بها ألا وهي أنه يحبكم للدرجة التي لا يريد من خلالها أن يضع حداً لهذا الحب وحينئذ ستتحسسون بالتوافق وبالتوازن الداخلي لشخصياتكم، كم ستشعرون بثقتكم بذواتكم وبأنها موضع التقدير والأمر ذاته حينما تجدونه يغمز أكفكم، أي يضغط عليها إلى الدرجة التي تتحسسون الأذى من خلال هذا الضغط، ولكنه ضغط جميل أو أذى جميل مفصح عن ضخامة الحب والتقدير والمشاعر التي حملها المصافح إليك، ولا أدلّ على ذلك من الإمام الباقر (عليه السلام) كما لاحظتم وهو الحريص على عدم إيذاء أي شخص، نجده يغمز كف صاحبه بنحو تحسس صاحبه أذى ذلك الغمز ولكنه غمز مفصح عن الحب كما هو بيّن.

المهم إن أمثلة هذا السلوك التي قد تعد في نظر الملاحظ العادي مجرد عمليات مفصحة عن الحب التقليدي أو مصطنعة لدى البعض أو مجرد عرف اجتماعي.. الخ، نقول لو نقلنا هذه الممارسات من مجالها الاجتماعي الذي اكتسب سمة العرف إلى غرف العلاج النفسي المعاصر وأحطناها برعاية المعالجين المعاصرين وخططنا لها برنامجاً تربوياً لتنفيذه بخاصة أن أمثلة هذا السلوك لا تقترن بصعوبات أو دفاعات من المريض حينئذٍ لكانت من أيسر طرق العلاج لإزاحة توترات القلق والاكتئاب والعدوان والمخاوف ذات الارتباط بمواجهة الآخرين وسواها من أعراض المرض.

والآن لنتابع التوصيات الإسلامية الأخرى في هذا الميدان من حيث تعامل الشخص مع الآخرين بالنسبة إلى المظاهر الحركية في مختلف اللقاءات التي تتيحها مثلاً زيارات هادفة أو لقاءات عابرة أو مجلس خاص أو مجلس عام وانعكاس هذه المظاهر الحركية على استجابة الشخص ذاته أو استجابة الآخرين أيضاً، فمثلاً ينقل لنا مؤرخ حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه - تقول الرواية - لا يثبت بصره في وجه أحد يجلس حيث ينتهي به المجلس، لا يجلس إليه أحد وهو في صلاته إلا خفّف صلاته، إذا قام معه أحد أو جالسه في حاجة لم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف، كانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراهيته، يعطي كلاً من جلسائه نصيبه حتى لا يحس جليسه أحداً أكرم عليه منه، ما رؤي مقدماً رجليه بين يدي جليس له، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أين هو حتى يسأل!..

هذا جانب من سلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكله سلوك حركي كما تلاحظون، وينقل لنا مؤرخ حياة الإمام علي (عليه السلام) وقد أشرنا إلى ذلك أنه صاحب ذات يوم ذمياً فصاحبه هنيهة إلى الطريق الذي عدل به الذمي ولما سئل عن ذلك قال (عليه السلام): هذا من تمام الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه، وعندما فارقة، وهنا عندما لاحظ الذمي أمثلة هذا السلوك أسلم. ويقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ملاحظة عيادية أخرى: (من حق الداخل على أهل البيت أن يمشوا معه هنيهة إذا دخل وإذا خرج فهو أمير حتى يخرج).

والآن وقد وقفتم على ما تقدم لنتقدم ونقف عند هذه المظاهر الحركية المتنوعة متمثلةً في انتقاءكم أحداً من الناس صديقاً لكم أو غريباً عنكم شخصاً أو جماعةً، جمعتكم الصدفة أو الموعد رسمياً كان ذلك أو عادياً.. ،عندئذ لا تفارقون هذا الشخص حتى يكون الشخص هو المنصرف قبلكم وستشيّعونه داخلاً إلى مجلسكم أو خارجاً من مجلسكم أو مصطحباً إياكم في الشارع، ستمنحونه رعاية خاصة تتوزع على الجميع إذا كان لقاءكم مع جماعة، وستخففون من صلاتكم إذا كان قد توجّه إليكم أحد بزيارة ودية، أو طلب منكم مساعدة، وستجلسون بين أصحابكم بنحوٍ لا يشي بتعالٍ كما لو كنتم تحتلون موقعاً اجتماعياً بل ستجلسون أدنى المجلس لو كنتم في مجلس سواكم، وسوف لن تمدوا أرجلكم أمام جلساؤكم وسوف لن تثبتوا بصركم في وجهه.. الخ، نقول إن تدريب ذواتنا على هذا النمط من الممارسات الحركية سوف يحقق من عمليات التوافق الاجتماعي ذروة ما يمكن تصوّره في هذا الميدان، فالتقدير والمحبة التي نكتسبها من خلال هذه الممارسات يظل أمراً لا سبيل إلى التشكيك به أبداً، لقد بلغ الأمر بالذميّ الذي شيّعه الإمام علي (عليه السلام) إلى أن يسلم في نهاية الأمر لا أقل فإنه سيحمل مشاعر ودية حيال المشيّع وكفى بذلك تحقيقاً لعملية التوافق في أحد أشكالها.

وعندما ننقل أمثلة هذا السلوك لشخصيات ريادية مستقاة كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام) حين ننقل هذا السلوك للشخصيات المشارة إليها وهي شخصيات ريادية مصطفاة إلى شخصيات بشرية عامة حينئذ فإن ممارستها لأمثلة هذا السلوك الذي لاحظناه عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعند الإمام علي (عليه السلام) وعند الإمام الباقر (عليه السلام) ستجعل من الشخصية الممارسة نموذجاً للسلوك السوي في أكمل درجاته فهي ستكتسب محبة وتقديراً من الآخرين لا حدود لتصورها بما سيلحظه الطرف الآخر من التعامل من تشييع له وهو داخل إلى بيوتكم وتشييع له وهو خارج منها، واهتمام به يبلغ درجة تخفيفكم للصلاة من أجله وجلوسكم أمامه بشكل بالغ المدى بحيث لا تمدون أرجلكم مثلاً ولا تحدون بصركم في وجهه ولا تشيحون بوجهكم عنه لو قدّر أن يضمكم مجلس شخص ثالث أو أكثر.

ثم إذا قدرتم أن تصطحبوه في الشارع بحيث يحاول كل منكم أن ينصرف إلى شؤونه فلا تدعونه منصرفاً إلا بتشييعكم إياه عند الطريق الذي يتجه إليه، نقول إن أمثلة هذه الرعاية لزميلكم ستقلّب كل موازينه النفسية حيالكم بحيث يتحوّل إلى كتلة من الحب والتقدير لكم.

كما أنه سيتحسس بقيمة كبيرة لا حدود لها بالنسبة إلى ذاته وستتغير نظرته لذاته إذا كان من النمط الذي ينسج تقديراً سلبياً حولها بحيث يتحول إلى كائن آخر يتحسس بجدارة ذاته وكفاءتها، وهذا كله فيما يتصل كما تلاحظون بالطرف الآخر من التعامل، أما الشخص نفسه فيكفي أن يقوده مثل هذا التدريب على تشييع صاحبه وعدم انصرافه عنه وتخفيف أعماله من أجله، إلى آخر ما لاحظتموه، يكفي أن يقوده إلى أن يتحسس بمتعة التقدير الذي يتسمه جواباً من الطرف الآخر فضلاً عن نسيانه لمشاكله الخاصة في غمرة اهتمامه بالطرف الآخر وفضلاً عن تحسسه بقيمة ذاته وقدرتها على أن تمنح الآخرين ما يفتقرون إليه، وفي ذلك كله ما فيه من تحقيق للتوازن الداخلي وخفض التوترات المختلفة التي يواجهها من هنا أو هناك.

إذن أمكننا الآن أن نلاحظ جانباً من المظاهر الحركية وقبل ذلك جانباً من المظاهر اللفظية والآن نتقدم لنلاحظ بعض الجوانب المتصلة بالمظاهر العامة للسلوك أعم من أن تكون لفظية أو حركية.. الخ، وهذا ما ندرجه ضمن عنوان (المظاهر العامة) أي المظاهر التي تفضي إلى تحقيق الحب والتوافق الاجتماعي.

نقول إن كلاً من الظاهرة اللفظية والحركية تشكل جزءاً من ظواهر عامة في التعبير عن الحب والتوافق، والآن إذا تابعنا سائر الظواهر الاجتماعية أو سائر المظاهر الاجتماعية أو سائر الممارسات الاجتماعية التي تسهم في تدريب الشخص على الحب والتوافق للاحظنا أن المشرع الإسلامي يقدم لكل مظهر اجتماعي نمطاً من التوصية بحيث تتناول كل المظاهر الاجتماعية، بدءاً من أصغر وحدة اجتماعية وهي العائلة مروراً بما يسمى باللغة الاجتماعية بالجماعات المحلية من جيران وأصدقاء وانتهاء بأوسع المؤسسات الاجتماعية كالدولة والأمة حتى أن التوصيات الإسلامية لا تكتفي بمجرد الوقوف عند الخطوط العامة للوحدات أو المؤسسات الاجتماعية المذكورة بل تدق في أوسع التفصيلات التي تتصل بهذا النطاق، ففي ميدان العائلة مثلا ترسم التوصيات الإسلامية نمط التعامل بين الزوجين بدءاً من الخطبة مروراً بأدق التفصيلات المرتبطة بالسلوك الزوجي من مختلف جوانبه الحيوية والنفسية وانتهاءً بتفصيلات الوفاة والطلاق وما إلى ذلك.

والأمر ذاته فيما يتصل بنمط التعامل بين الأبناء والآباء والأخوة فيما تعرض التوصيات لمختلف المظاهر النفسية والاقتصادية والعبادي وو.. الخ، حيث تسهم هذه التوصيات بشكل ملحوظ في تدريب الشخصية على الحب وعلى التوافق بنحوٍ يتطلب تناول كل من ذلك دراسة مستقلّة لا تسعها محاضراتنا بطبيعة الحال، وإذا تجاوزنا نطاق العائلة إلى ما هو أوسع منها ونعني القرابة حينئذ نجد التفصيلات ذاتها وفي مقدمتها التوصية بصلة الرحم بحيث يرتب المشرع الإسلامي آثاراً ضخمة من التوعّد بالعقاب لأية شخصية تتراخى في ذلك، بل تطالب التوصيات حتى في حالة مقاطعة الأقرباء للشخصية تطالبها بسلوك مضاد هو التواصل، أي صلة الرحم، ومن البين أن تشدد التوصيات بالنسبة إلى القرابة ينطوي على جملة من الدلالات النفسية المهمة من حيث انعكاساتها على الصحة النفسية للشخص، ولعل تحسيس الشخصية بضرورة أن تصدر حبها منطلقة في ذلك من استثمار الإحساس السلالي أو النسبي وهو أحد ممتلكات الذات التي تتسع، أي الذات الفردية للإنسان هي ذات فردية تتسع كما لاحظ ذلك جمع من علماء الشخصية تتسع إلى أن تتجاوز ذاتها إلى نطاق أوسع كالقرابة والمؤسسة والدولة والأمة، أي انتساب الذات الفردية إلى واحد من هذه المؤسسات يظل في الواقع جزءاً من الذات الواسعة للشخصية واستثمار مثل هذا الإحساس بأحد ممتلكات الذات وهم القرابة سوف يقتاد الشخصية إلى أن تنمي أحاسيس حبها لديها والتدريب على تصدير الحب حتى في حالة عدم الاستجابة الطيبة من قبل الأقرباء بصفة أن التدريب على ما تنفر منه الشخصية يفضي إلى تنمية النزعة التي تضادها وهي الحب على نحو ما ألمحت إليه توصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما كررنا الإشارة إليها منذ بدء محاضراتنا عندما قلنا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال مواصلة أو التدريب على عمل الخير يفضي أو يستتلي كراهية الشر.

المهم بالنسبة إلى القرابة لاحظنا التوصيات المشيرة إلى هذا الجانب والأمر نفسه بالنسبة إلى الوحدة الاجتماعية الأخرى، وهي الجيران بحيث تمثل التوصيات مرحلة ثالثة في نمط العلاقات الاجتماعية المباشرة، أي من حيث درجة الوثاقة في الصلاة الاجتماعية بصفة أن العائلة من حيث الأبوين والأولاد والأخوة.. الخ، يمثلون الدرجة الأولى والأقارب يمثلون الدرجة الثانية والجيران يمثلون الدرجة الثالثة بصفتهم أقرب أشكال العلاقة المباشرة بعد العائلة والأقارب نظراً لرابطة المكان المتجاور الذي يفرض مثلا هذه العلاقة وتبعاً لذلك نجد أن التوصيات الإسلامية لا تكتفي بمجرّد تحذيرنا من أن نؤذي جيراننا بل تطالبنا بأن نصبر على أذى هؤلاء الجيران أيضاً، وأدنى تأمل لأمثلة هذه التوصية يفصح عن مدى دقّة الملاحظة العيادية فيها من حيث منعكساتها على السلوك السوي، فالجار بحكم الموقع المكاني الذي يحتله يتطلب نمطاً من التعامل القائم على الحب والتوافق أكثر مما يتطلبه أي موقع آخر، وإن مجرد التوصية بأن لا نؤذي جيراننا كافٍ بأن يحسس الشخصية بأنها حيال طرف على مقربة من ذاتها، فيما يحسسها بضرورة أن تلتفت إليها، أما المطالبة بالصبر على إيذاء الجار فتعد تصعيداً لممارسة الحب والتحسيس بأهمية العلاقة البشرية بين الشخص وجاره، بصفة أن الصبر على ذلك تحسيس بضرورة مراعاة هذه العلاقة التي تتحكم فيها المباشرة، أي الملاقاة وجهاً لوجه في مكانٍ متجاور طالما ندرك بأن تصدير الحب يتضخم حجمه بمقدار سعة المنبه الذي يتطلبه، وتجيء أخيراً الصداقة مرحلة رابعة في نوع العلاقات الاجتماعية المباشرة، أي إن درجة الوثاقة في الصلاة الاجتماعية تبدأ من العائلة ثم الأقارب ثم الجيران ثم الأصدقاء.

إذن ثمة مرحلة رابعة من حيث نمط العلاقات الاجتماعية كما أنها من جانب آخر تشكل نمطاً لاستقلاله في الواقع عن الصعيد النسبي والمكاني والعائلي، وتبعاً لذلك نجد أن التوصيات العيادية في هذا الميدان تأخذ نمطاً آخر من التشدد يتصل بمجمل العلاقة الوظيفية بين الآدميين.

ولعلكم تتذكرون مدى تشدد التوصيات الإسلامية بالنسبة إلى الأصدقاء في محاضرات سابقة جاءت مناسبة للحديث عن الصداقة حيث لاحظتم في حينه انعكاس الصداقة من حيث معطياتها على سلوك الشخصية فيما ألمحت التوصيات إلى أن الأصدقاء ينفعون في الدنيا من حيث إشباعهم لحاجات الشخصية وينفعون في الآخرة من حيث الإشباع الأخروي الذي يمتد بجذوره إلى نمط الصداقة الدنيوية ذاتها بصفة أن إشباع الحاجة الأخروية كالشفاعة في اليوم الآخر تقوم على أساس دنيوي من الصداقة وهذا ما يفصح عن أهمية الملاحظة العبادية التي رسمها الإسلام في هذا الصدد من حيث تشدده في ضرورة كسب الأصدقاء، وإشارته إلى أن أعجز الناس من فشل في كسب الصديق وإن الأعجز من ذلك من ضيع صديقاً اكتسبه.

على أية حال إن هذه الملاحظة النفسية لها خطورتها في ميدان التشخيص المرضي للشخصية الفاشلة في كسب الصديق، فإذا أدركنا وفقاً لمعايير علماء النفس والتربية أن تصدير الحب من جانب والتكيف مع الآخرين من جانب آخر هو الذي يسم الشخصية بطابع الصحة أو السواء، أدركنا حينئذٍ دلالة ما ألمح الإمام (عليه السلام) إليه حينما وسم الشخصية العاجزة في أن تكتسب صديقاً وسمها بالعجز ثم وسم الشخص الذي يضيع صديقه بأنه أشد عجزاً من سابقه، سرّ هذه التوصية في الواقع هو أن العاجز وهو واحد من أنماط الشخصية التي لا تتحسس بكفاءتها سوف ينسحب فشلها في تقويم ذاتها على تصديرها للحب بالنسبة إلى الآخرين، أما إذا قدّر للشخص أن يتخطّى هذا العجز ويكتسب صديقاً أي يمارس حياله عملية تصدير للحب، حينئذ فإن فقدانه للصداقة المذكورة بسبب عجزه عن استمرارية التكيف يعد أشد عجزاً من الحالة السابقة، لأن العجز يعد ارتداداً إلى ما هو أشد شذوذاً هذا من نحو من يجني مالاً ثم يضيع ذلك المال، حيث أن عملية التضييع أشد سوءاً من عملية البحث الفاشل عن المال.

وأياً كان فإن سمة العجز التي أشارت التوصية الإسلامية إليها تظل من نصيب الشخصية المريضة بحيث تنتابها مشاعر الضعف وانعدام الثقة ولكن تملك إمكانات التصدير للحب وإذا عجزت حينئذ عن اكتساب هذا المنبه الذي تستجيب له بالحب، ونعني به الصديق، فهذا يعني أن هذه الشخصية عاجزة عن أن تمارس الحب أساساً وهو ما يفسر لنا أهمية تشدد الإسلام في ضرورة أن نكسب صديقاً.

وقد قطعت التوصيات الإسلامية مدىً أبعد في هذا الصعيد حينما ميزت بين أشكال الصداقة وانصبابها في روافد متنوعة من الحب والتوافق، فألمحت مثلاً إلى أن الصداقة الحقة مثل الجناح والأهل والكف، وان توفر الأطراف المجسدة لهذا المفهوم يتطلب الإخلاص في أبعد مستوياتها التي تردم الفوارق بين الأطراف المتصادقة، كما ألمحت إلى أن بعض الأطراف لا يتوفر لديها مثل هذا التجسيد للحب وحينئذ لا تخلو هذه الأطراف من أحد نمطين إما أن يسمها بعض الطوابع الإيجابية كالعلم أو الكرم مثلاً، حينئذ لا مناص من أن نتكيف مع أمثلة هذا النمط حتى ننتفع من علمهم أو كرمهم، ومن البين أن أمثلة هذه التوصية تعد أدق تجسيد لمفهوم التكيف الاجتماعي ومعطياته المتنوعة، فالشخصية المتكيفة مع العالم أو الكريم حتى لو كانت تختلف وإياها في المظاهر العامة ستحقق إشباعاً لحاجاتها المشروعة كالعلم أو الكرم بما يسهمان فيه من استكمال سمة الاستواء لدى الشخصية، كما أن المعطى الآخر لمثل هذا التكيف يتجسد بوضوح من خلال السمعة الاجتماعية التي تكتسبها الشخصية، أي تحقيق نمط السعيد الآخر من سمة السواء وهو انتزاع المحبة من الآخرين وليس أن تصدر الحب وحده، علماً بأن انتزاع المحبة من أطراف غير متكافئة يعد أكبر تكيفاً من مجرد التكيف مع الأطراف التي يجمعها خيط فكري واحد.

أما النمط الآخر من الأطراف غير المتكافئة فتمثل غالبية الأشخاص الذين لا يملكون جهازاً قيمياً كما لا يملكون جهازاً قيمياً أو غير ذلك حينئذ فالتوصيات الإسلامية تتعامل معها في التشدد في أهمية التكيف تطالبنا أيضاً بأن نقيم العلاقة الطيبة معهم تحقيقا لإشباع حاجاتنا الاجتماعية التي تتطلب التكيف وذلك كالمعاملات الرسمية مثلاً أو الاقتصادية فيما تتطلب مواجهة الأطراف المعنية بهذا الشأن أن نجاملهم حتى تنجز معاملاتنا، أكثر من ذلك ثمة نمط ثالث من الأطراف الاجتماعية وهم الأعداء الذين نتصادم معهم فكرياً أمثلة هؤلاء تطالبنا التوصيات الإسلامية بحضور جنائزهم ومواصلتهم حتى تكتسب الشخصية موقعاً اجتماعياً طيباً هو انتزاع المحبة التي تعد وجهاً آخر للشخصية السوية.

على أية حال إن الحديث عن ظاهرة تصدير الحب من جانب وممارسة التكيف من جانب آخر تستدعي حديثاً اكثر مما قدمناه الآن وهو أمر نؤجل الحديث عنه إلى محاضرة لاحقة إنشاء الله..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..