المادة: العقائد
الملف: Microsoft Office document icon 036.doc

 الدليل الثاني للقائلين بالجبر:

الدليل الآخر الذي يتمسك به المجبرة لاثبات دعواهم هو إرادة الله، فيقولون:

أن الله إما أن تتعلق إرادته بحركات الإنسان وسكناته وإما أن لا تتعلق. فإن كان قد أرادها وجب أن تقع على طبق إرادته، إذ يستحيل وقوع شيء في العالم على خلاف إرادته تعالى. وإن لم يرد فينبغي أن لا يقع شيء من ذلك، إذ يستحيل وقوع شيء في العالم بدون إرادته تعالى.

إذن فالإنسان لا يملك حرية في أفعاله.

  مناقشة:

لا تعلق للإرادة الإلهية بأفعالنا الاختيارية، وإن كانت جميع أفعالنا خاضعة لإرادته التشريعية من حيث ترتب المسؤولية عليها.

ولتوضيح ذلك ينبغي أن نقول لله إرادتان:

أ- الإرادة التكوينية: وهي تلك المشيئة التي إذا تعلقت بواقعة، كان من المستحيل تخلفها عنا. وعلى سبيل المثال فإن الله أراد ايجاد هذا العالم من أصغر ذراته حتى أعظم مجراته، وإذا كانت هذه الإرادة تكوينية فيستحيل أن لا يوجد.

ب- الإرادة التشريعية: وهذه تصلنا عن طريق الأنبياء (عليهم السلام) ، الذين هم سفراء الله إلينا. إنهم يوصلون إرادة الله التشريعية إلينابصورة الأوامر والنواهي ...

إن الله يريد سعادتنا وكمالنا إرادة تشريعية أي في ظل الأحكام التي بلّغها الأنبياء.

والإرادة التشريعية لا توجد إجباراً في متعلقها مطلقاً. بل مؤداها أن نكتسب الفضيلة الدنيوية والكمال الآخروي إذا اخترنا طريق الرشاد، إذ لو كان أقل إجباراً في إرادة الله التشريعية لم يكن هناك معنى للسعادة والشقاء، لأن ما صدر بالإجبار لا معنى للحسن والقبح فيه.

على أن إنكار الحسن والقبح العقليين إعادة لأنقاض السفسطة من جديد.

ولنرجع إلى القرآن الكريم لنجد الآيات التي تسند الإرادة إلى الله(1)، لا توجد بينها آية واحدة تعيد تعلق الإرادة الإلهية بأفعال الإنسان الاختيارية، ولسهولة الوصول إلى هذه النتيجة نقسم الآيات التي تتحدث عن إرادة الله إلى خمس طوائف.

الطائفة الأولى: الآيات التي تتحدث عن قاطعية إرادة الله في مسألة الخلق. أي أن الله إذا أراد ايجاد شيء فإن إرادته تعمل عملها بصورة حتمية، ولا يستطيع أي شيء أن يقف مانعاً أمام تأثير إرادته.

من ذلك قوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كون فيكون)(2)، في هذه الطائفة لم يذكر ماذا أراد الله وماذا لم يرد.

الطائفة الثانية: الآيات التي تشير إلى بعض مصاديق إرادة الله، كقوله تعالى: (قل فمن يملك من الله شيئاً أن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً)(3) وكقوله تعالى: (قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً أو أراد بكم نفعاً، بل كان الله بما تعملون خبيراً).(4)

هذا النوع من الآيات يختص ببيان سيطرة الله وقدرته، وقد اكتفي فيها ببعض الموارد التي كانت تحرز أهمية خاصة للمخاطبين، ولا دلالة فيها على خضوع جميع حركات الإنسان حتى أفعاله الاختيارية لإرادة الله.

الطائفة الثالثة: الآيات التي تشير إلى أن نتائج إرادات البشر هي مرادة لله كقوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلّنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً. كّلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً).(5)

نجد في هذه الآيات الثلاث موضوعين مهمين:

1- ليس الإنسان مجبراً في إرادته، لكن نتيجة إرادته (وهي الوصول إلى اللذائذ والشهوات الدنيوية أو السعادة الأخروية) مرادة لله، وبعبارة أوضح فإن من يسلك طريقاً باختياره فإن النتيجة الطبيعية لذلك السلوك تقع في حيّز الإرادة الإلهية لا نفس اختياره.

2- كلا النموذجين من أبناء البشر يستفيدون من العطاء الإلهي (كّلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك).

وعلى هذا فليست الآية بعيدة عن اثبات الجبر في أفعال الإنسان فحسب، بل تشير بوضوح إلى حرية الإنسان واختياره.

الطائفة الرابعة: الآيات التي مفادها مطابقة إرادة الله تعالى في التكاليف لمقدار القابليات والقدرات كقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).(6)

الطائفة الخامسة: الآيات التي تنفي إرادة الله للظلم، كقوله تعالى: (وما الله يريد ظلماً للعالمين).(7)

بمراجعة هذه الطوائف الخمس من الآيات نجد أنها خالية من أية دلالة على خضوع أفعالنا لاختيارية - بنفسها لا بنتائجها- إلى إرادة الله التكوينية.

وبهذا ينهار الدليل الثاني للقائلين بالجبر

ــــــــــ

الهامش

(1)- ورد إسناد الإرادة الى الله في القرآن في 43 موضعاً، أما إسناد الإرادة الى الإنسان فقد ورد في 94 موضعاً.

(2)- سورة يس، الآية 82. ومن الواضح أنه لا حاجة لأن يقول (كن) بل هذه الجملة إنما هي لتقريب المعنى الى عقول البشر.

(3)- سورة المائدة، الآية 17

(4)- سورة الفتح، الآية 11

(5)- سورة الإسراء، الآية 18-20

(6)- سورة البقرة، الآية 185

(7)- سورة آل عمران، الآية 108