تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 164
إلى صفحة: 183
النص الكامل للبحث: PDF icon 180424-132848.pdf
خلاصة البحث:

مازال سيبويه يمدّنا بفكره الرصيد وتأمله العميق بمسارات دقيقة نعمل بها على إعادة فهمنا له,وفهمنا للكيفية التي تحلّل بها أنماط الاستعمال اللغوي, وقد وجدنا أنّ محوراً من محاوره المهمة في التحليل النحوي كان استعماله للفظة المنزلة وهو يحاول أنْ يقدّم تصوّره أو تصوّر أستاذه الخليل في هذا الموضع أو ذاك من كلام العرب. ولقد كان تردد هذه اللفظة من الكثرة بمكان أنْ يلفت الانتباه ,فعمدنا إلى تخصيص بحث مستقلّ للكشف عن المفهوم السيبويهي الذي أراده فيها ليحملها رؤيته التحليلية للكلام ومكوناته الصغرى .وقد وجدنا أنّ مفهوم هذه اللفظة قد اقترن بمسار حجاجيّ قدّمه سيبويه بين يدي متلقيه في إثبات حجته وراجحة ما انتحاه.

وقد استقرّ تناول موضوع بحثنا على ثلاثة مباحث:

الأول:الأساس الأصولي(المعرفي)في استعمال المنزلة.

الثاني:(المنزلة والتمثيل )قياس في الافتراض الدلالي للكلام ومكوناته.

الثالث:الأساس التداولي في استعمال المنزلة.

وجرى تقسيم ما اخترناه من موارد استعمال المنزلة على هذه المباحث طبقاً للمفهوم الذي يمكن فهمه من هذه اللفظة.

ديباجة البحث.

شيء لا يغفل عن ذكره...

((لا يؤلف أحد كتاباً إلّا في أقسام سبعة لايمكن التأليف في غيرها,وهي إمّا  أنْ يؤلّف في شيء لم يُسبق إليه فيخترعه,أو شيء ناقص يتمّمه,أو شيء مستغلق يشرحه,أوطويل يختصره دون أنْ يخلّ  بشيء من معانيه ,أو شيء مختلط فيرتّبه,أو شيء أخطأ فيه مصنّفه يُبيّنه,أو شيء مفرق يجمعه))([1]).

وحسبنا المفرق لنجمعه فالمعاني المقنعة قد تكون ممتعة إذا توشحت بالتخييل والتصوير والمعاني الممتعة قد تكون مقنعة إذا استنبطت بقوة الفكرة وثاقب النظرة,فهذا تفسيرنا للمنزلة,ولنستمدّ من جمع قراءتنا قراءة سيبويه لها.

 

[1]- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشرص5.

البحث:

مهاد:

تنضوي  تحت  أساس البحث العلمي  حقيقة  مفادها, أنّه لا علم إلّا بالبرهان ,ولا برهان إلّا بالانبناء على مقدمات ومبادئ ضرورية.ويمكن الكشف عن ذلك بوضوح في معالجة سيبويه  بناء كتابه  بوسائل وآليات عملت على توليد المعرفة وإنتاجها ,بإقامة الدليل بطريقة منهجية سليمة يمكن أن نصفها بالانبنائية الأمرالذي دفع للكشف عن النظر في بناء نصوصه بما فيها من معارف مختلفة ,ومضامين متنوعة .

إنّ  رصدنا  بنية  نصوص  الكتاب جعلتنا نستوحي صوراً خاصة منه لتقديم مختلف المعلومات التي تُحدّد العلاقات الاستدلالية.([1])  بين التراكيب بوصف (آلية الاستدلال )نسقاً منطقياً تداولياً يُبنى بها الخطاب الطبيعي من حيث إنّ الاستدلال((انجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب ,أي متواليات من الأقوال والجمل بعضها بمثابة الحجج وبعضها الآخربمثابة النتائج التي تُستنتج منها))([2]) .

وقد سعى سيبويه  إلى تحصيل الاستدلال عبر مفهوم المنزلة,  ذلك المفهوم الذي يشترك فيه ,علم أصول الفقه,وعلم الكلام والنحو,والبلاغة بوصفه مفهوماً تفسيرياً ([3]),من حيث إنّ هذه العلوم متفاعلة فيما بينها مما يشي بالقول إنّ نصوص سيبويه جاءت محققة لأغراضها ومؤثرة في خالفيها (متعلمين وناقدين),فالاشتغال بمثل  هذه  الآليات  جعل  نصوصه  منظمة  ومعلّلة  ؛ لأنّها مبنية بناءً  استدلالياً  معتمداً  الضوابط العقلية,وأحياناً النقلية ؛لإقامة الحجة بهدف الإقناع .

إنّ نزوع سيبويه إلى تلك المركزية في كتابه إنّما هو إحداث لتغييرات في الأفكارأوتوجيهها على نحو صحيح ويستنبط من ذلك ,أنّ الوصول إلى إثبات صدق قضية أو تفنيدها في برهنة جدلية هو ما ينماز به الاستدلال الحجاجي ,بحيث تفضي المقدمة إلى النتائج وتخدم النتائج المقدمة ,وهذه الطريقة التي اتبعها سيبويه تنمّ عن أنْ يكون الإقناع هدفاً وسيلته (المنزلة),وأنّ امتلاك الإقناع  لحدّ((هو حمل النفوس على فعل شيءأو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده))([4]) .يُعمّق وصف المنزلة أنّها فعل متعدد الصور يسعى لإحداث تأثير, أو تغيير, إمّا بفعل, أو ترك, ويوجب أن يمتلك المقنع كفاية تواصلية واقناعية تتميّز هذه الكفاءة بمهارات هي:

  1. مهارة التحليل والابتكار.
  2. مهارة العرض المنظم للأفكار.
  3. مهارة فهم دوافع تساؤلات واعتراضات المتلقي.

إنّ الإيماء إلى  هذه المهارات ليس من باب التصنيف, بقدرما هي إطارلم يفت سيبويه اتخاذه هيكلاً يبني عليه حججه على وفق مرجعية ثقافية سائدة ومشتركة بينه وبين متلقيه بعيداً عن المغالطات الوصفية.

إنّنا ههنا لا نرتجل القول  بنجاح سيبويه في الاقناع المرتدّ إلى الاستدلال, بقدر ما تكفّلت به رؤيته في تحديد ذلك الإقناع المرتكز على وسيلة تصريفية لغايته وهي (المنزلة).([5]) ويُفهم من ذلك أنّه اعتمد أسساً لبيانها يراها المتمعّن في:

  1. النصوص نفسها :من حيث إنّ لها عمقاً ومكوّنات لايمكن أنْ تفهم من دون التعريف بها وتعيينها ووصفها ببيان العلاقات الممكنة فيها.
  2. المعرفة النظرية:التي تعود إلى التصورات التي يمتلكها سيبويه ,عن الوقائع الخاصة بالدلالة وسبل إنتاجها والمواد الحاملة لها, فقراءته  التحليلية إنّما جاءت معُزَّزة بالمعرفة الإنسانية من أجل  وصف المعنى.
  3. ثقافة المتلقي وقدرته على استحضار مرجعيات النصوص, سواء أكانت ثقافية أم اجتماعية, أم تأريخية ,أم نفسية, وقدرته على الربط بين ما هو معطى بصورة مباشرة ومعارفه الموسوعية ,والأشياء القادرة على استحضار أمور قد لا تتجلّى مباشرة في ظاهر النصوص ؛بل تسلك مسلك الظل يدركها المتلقي إدراكه  لمن هي ظل له,فهاهو يصبّ معطيات أسسه الاقناعية في تصميم نصّه في باب "حتى" إذ يقول :((فحتى ههنا بمنزلة إذا وإنّما هي ههنا كحرف من حروف الابتداء ...ويدلّك على "حتى"أنّها حرف من حروف الابتداء أنّك تقول:"حتى انّه ليفعل ذاك",كما تقول:"فإذا انّه يفعل ذاك"... ومثل ذلك:"مرض حتى يمرُّبه الطائر فيرحمه))([6]) .فقد أسفر النص السيبويهي عن استيعاب وإدراك  لغوي وظّف له أداة( المنزلة ) وعكست ثنائية اللغة والكلام ,فقد حدّد القيمة اللغوية لـ"حتى"بتعيين سماتها  التمييزية بأنّها للإبتداء منطلقاً من هذا المنظور الوصفي إلى مرتكزات خارجية يحدّدها النظام العرفي والتداولي للغة في المواقف الواقعية في إفادة معنى المبالغة ,فهو يتلقى الرحمة مما يمرّ به من طائر, واستناداً إلى مبدأ ثنائية اللغة والكلام نرى أنّ لمنهجية (المنزلة)آلية حجاجية تبنّاها سيبويه في تناول الأفكار اللغوية في صياغة تداولية للإقناع أتخذت بعدين:

-الأول :بعدٌ يعكسه المبنى.

-والآخر: بعدٌ حواري (بآليتيه التشخيص والمقام).إذا ما أُخذ بالحسبان أنّ الحوار تفاعل الذوات مع محيطها الخطابي بوصفه خاصية تداولية,للخطابات الحجاجية.يبدو أن الجامع بين البعدين هو تشبيه قول بقول آخر بينهما مشابهة ليُبيّن أحدهما الآخر ,ويصّوره في برهانية تترك أثرها في المتلقي بتغيير المنظور الأول, واستحداث منظورجديد غيرإ أنّ المشابهة في المنزلة ههنا تعلو قيمتها على مفهومها المستهلك بين اشياء ما كان لها أنْ تكون مترابطة أبداً,ومن ثَمّ عُدّت عاملاً أساسياً في عملية الإبداع باستعمال سيبويه لها حجاجاًمقارنياً ,إمّا عن طريق عرض معادلة صورية خالصة ,وإمّا عن طريق الانطلاق من التجربة بهدف إفهام  الفكرة سعياً لأن تكون الفكرة مقبولة بنقلها من مجال إلى مجال مغاير.

فالمنزلة جمعت بين التأثير النظري ,والتأثير السلوكي العملي, وهي رؤية جديدة بالفعل فكان الاستدلال الحجاجي بها انجازاً لعملين ,عمل التصريح بالحجة من جهة ,و عمل الاستنتاج من جهة أخرى ,انطلاقاً من محاولة إثبات  وجود شيء مُعيّن عبر النموذج الثنائي المتضاد(بمنزلة-ليس بمنزلة).ذلك أنّ معنى الإثبات يقتضي مثبتاً ومثبتاً له وكذا حال النفي إذ يقتضي منفياً ومنفياً عنه ,ومن ثمّة يكون هناك إثبات عدم وجود ذلك الشيء المنفي , ففي كلتا الحالتين يقع الإثبات, وهو ما دعاه إلى أنْ يظلّ مخلصاً لطريقته الخاصة في البحث عن إجابات ,لاتلبث أنْ تثمر هي الأخرى عن تساؤلات جديدة بطرق منهجية,بماأكسب بحثه اللغوي توجّهات فكرية تحاول قراءتنا للمنزلة أنْ تكشف عن العقل الكامن وراء النظام.

ويظهرأنّ سيبويه قد أقام المنزلة في ظل أنْ تكون في صلب الجهاز التواصلي لإدراك  الكلام وإقامة الحجج .

المبحث الأول:الأساس الأصولي (المعرفي) في استعمال المنزلة.

ونعني به البعد الذي يبحث في اللوازم الذهنية العامة التي تتطلبها عملية إنتاج الكلام ((فمن دون تلك العمليات العقلية تفقد المكوّنات اللغوية قدرتها الأدائية في الاستعمال))([7]).

.إنّ عائدية النظام اللغوي الاجتماعية لجماعة بشرية مُعيّنة, تؤسّس عند سيبويه على افتراض أنّ للغة نظاماً محكماًمن الضروري اكتشافه,وأنّ هذا النظام ليس ابتكاراً لشخص بعينه, بل هو نظام للجماعة اللغوية , فيتلاءم معيار المنزلة ههنا والمبدأ التفسيري ,ذلك المبدأ الذي يجعلنا نصنّفه حين ترتبط دلالة المنزلة به إلى:

1-التفسير بالمنزلة للإيضاح:  وهو مبني على أساس دلالي يُزيل المعنى الثاني الإبهام في المعنى الأول إلّا أنّه ليس من قبيل التكرار بقدر ما هو إيضاح وإثارة للقدرة المعرفية في المتلقي جاء في هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين)قوله:(( وانْ قلت:رأيتُ,فأردتَ رؤية العين ,أو وجدتُ ,فأردتَ وجدان الضالة,فهو بمنزلة ضربتُ,ولكنّك إنّما تريد بوجدتُ,علمتُ,وبرأيتُ ذلك أيضاً ألا ترى أنّه يجوز للأعمى أنْ يقول:رأيتُ زيداً الصالحَ. وقد يكون علمتُ ,بمنزلة عرفتُ,لا تريد إلّاعلم الأول ,فمن ذلك قوله تعالى:"   وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ"([8]).وقال سبحانه:" وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ"([9]).فهي ههنا بمنزلة عرفتُ ,كما كانت رأيتُ على وجهين))([10]).إنّ المقاربة بين العلم والمعرفة-عند سيبويه- ربما فرضها النمط النحوي المقتضي حدود قوة التعدّي المتفاوتة في الفعلين إلّاأنّ خلفية علم الكلام لا تتوارى ههنا.([11]) مما يشي بالقول إنّ نزوع سيبويه نحو تفسير كلام العرب وتركيباته وآلية فهمه ,لم تكن عند تخوم النظر النحوي فحسب.

2- التفسير بالمنزلة للتعليل:  وهو أنْ يُسوّغ ما بعد المنزلة للمُشكل قبلها ,من حيث إنّ الأصل في الأحكام التعليل ونركن إلى نص سيبويه إذ يقول: ((وقد جاء من الفعل ما قد أُنفذ إلى مفعول ولم يقوَ قوة غيره مما قد تعدّى إلى  مفعول وذلك قولك:امتلأتُ ماءً وتفقأت شحماً,ولا تقول:امتلأتهُ,ولاتفقأتهُ ولا يعمل في غيره من المعارف ,ولا يقدّم المفعول فيه ,فتقول :ماءً امتلأتُ, كما لا يُقدّم المفعول فيه في الصفة المشبهة ,ولا في هذه الأسماء؛لأنّها ليست كالفاعل ,وذلك ؛لأنّه فعل لا يتعدّى إلى مفعول ,وإنّما هو بمنزلة الانفعال لايتعدى إلى مفعول نحو :كسرتُهُ فانكسر ودفعته فاندفع))([12]).

إنّ للعامل قيمة كبرى جعلته يقارب بين الصفة المشبهة ومجموعة محددة من الأفعال بناءًعلى مشابهة شكلية في عملهما فالأفعال المذكورة في النص السيبويهي هي أفعال لا تتعدى إلى مفعول به وهو يقرنها (بمنزلة الإنفعال ).ويستقطب سيبويه مصطلح (المفعول فيه) ليدلّ على أنّ نصبها للمفعول إنّما هو نفاذ غير مباشر فهو مفعول كمفعول الملحقات بالفعل ؛لأنّهاليست كالفعل في القوة ,ولعمري أنّ أبا بشر أحدث توازناً بصورة تلقائية بين علاقة العنصر والموقع والوظيفة فجاءت علاقة منتجة في إطار حجاجي محتوعلى مقدمات ظنية قابلة للمناقشة وصولاً إلى  إثبات صدق القضية .إذ التعليل النحوي أمر احتمالي يقوم على الفرض ووظيفته تسويغ النمط الاستعمالي للكلام يُؤازر ذلك قول الخليل:  

((إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها, وعرفت مواقع كلامها ,وقام  في عقولها علله ,وإنْ لم يُنقل ذلك  عنها,واعتللت أنا بما عندي أنّه علة لما اعتللته منه,فانْ أكن أصبتُ العلة فهو الذي التمستُ,وانْ لم تكن هناك علة له,فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم ,دخل داراًمحكمة  البناء عجيبة النظم والأقسام,وقد صحّت عنده حكمة بانيها  بالخبر الصادق ,أو بالبراهين الواضحة ,والحجج اللائحة ,فكلّما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال:إنّما هذا هكذا,لعلة كذاوكذا,ولسبب كذا وكذا,سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك, فجازأنْ  يكون الحكيم الباني للدارفعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار,وجائز أنْ يكون فعله لغير تلك العلة,إلّا أنّ ذلك مما ذكره هذا الرجل,محتمل أن يكون علة لذلك.فانْ سنح لغيري علة لما اعتللته في النحو,فهو أليق مما ذكرته بالمعلول فليأت بها)) .([13]) فبالعلل تتجلى صورالفرضيات ,ويُكشف عن الظواهر,وبمثل هذا الطرح يتبيّن مقدار حاجة النحو إلى هذاالنهج من التفكير.

3-التفسير بالمنزلة للتضمين:وهو التفسير الذي يقترب مما يسمى في اللغويات الحديثة بمبدأ(الانضواء) ([14]) .الدال على احتواء عنصر بنيوي على دلالة ضمنية, نستقرؤه من نص سيبويه:((تقول:لاتأتيني فتحدّثني لم تُرد أنْ تُدخل الآخرفيما دخل فيه الأول فتقول:لا تأتيني ولاتُحدّثني,ولكنّك لمّا حوّلت المعنى عن ذلك تحوّل إلى الاسم كأنّك قلت:ليس يكون منك إتيان فحديث ,فلمّا أردت ذلك استحال أنْ تضمّ الفعل إلى الاسم , فأضمروا "أنْ " ؛لأنّ"أنْ"مع الفعل بمنزلة الاسم ,فلمّا نوَواأنْ يكون الأول بمنزلة قولهم:لم يكن اتيان.استحالوا أنْ يضمّوا الفعل إليه ,فلّما أضمروا أنْ حسُن؛لأنّه مع الفعل بمنزلة الاسم)).([15])

فالفعل ههنا بمنزلة الاسم بقيام علاقة الاشتمال الضمني –احتوائه الحدث(الإتيان) –فقد رصد سيبويه سلوكاً متمّيزاً لـ(أنْ)الناصبة ومعمولها الفعل ,في أنّها تسلك مسلك التركيبات العباريةمما يجعلهاتقع موقع الاسماء في الجملة ,بمعنى أنّ الحرف(أنْ)وصلته(الفعل)يشغل في الجملةموقع الاسم ,يدلّ على ذلك ما جاء في أحد الأبواب قوله )): هذا باب من أبواب أنْ التي تكون والفعل بمنزلة المصدر.تقول:أنْ تأتيني خيرٌلك.كأنّك قلت:الإتيان خيرٌلك))([16]).وليس معنى ذلك أنّها وصلتها بمعنى الاسم (زيد)و(عمر),بل أراد بها سيبويه الاسمية مفهوماً.

4-التفسيربالمنزلة لتأصيل الأصناف:وهو أّنّ ما بعد المنزلة يوضّح السبب,ومما يؤكّدقيمة هذا الضرب من التفسير بالمنزلة ,أنّ سيبويه يؤصّل تصنيف الفعل عبره بالنظر إلى الحدث بوصفه صنفاً معرفياً قائماً بذاته كمُنَ في الفعل ,يقول)): ألا ترى أنّ قولك :قد ذهب بمنزلة قولك:قد كان منه ذهاب.وإذاقلت:ضرب عبدُالله ,لم يستبِن أنّ المفعول زيدٌأو عمرو,ولا يدلّ على صنف ,كما أنّ ذهب قد دلّ على صنف,وهو الذهاب,وذلك قولك:ذهب عبدُالله الذهاب الشديد,وقعد قِعدة سوء ,وقعد قعدتين. لمّا عمل في المرّة منه والمرتين,ومايكون ضرباًمنه))([17]).

فالحدث عند سيبويه عامل رئيس في البنية التركيبية يحيل على ذلك قوله):عمل في المرة والمرتين)

فهو يدعم هذه الفكرة بالمستويات التمثيلية,بقوله:((وما يكون ضرباً منه ,فمن ذلك :قعدالقرفصاء واشتمل الصمّاء ورجع القهقرى؛لأنّه ضربٌ من فعله الذي أُخذ منه))([18]).ويُبيّن سيبويه سبب رؤيته هذه,فالمسألة ههنا تخضع لتصنيفات –وهي تصنيفات تكون في بُعدها الأول محاكية لحركة الفعل وقد تمتدّ لما هو أبعدمن ذلك-ذات بُعد احالي مباشر ومرتبط بقيم التركيب والترابط الحاصل بين أجزاء هذا التركيب فالفعل عند سيبويه أخذ ((من لفظ أحداث الأسماء ))([19]) .فالذهاب في (ذهب) حالة تمثيلية خاصة بالفعل بأسبقية متصوّرة.

ويتوغّل سيبويه في أبعاد هذا التفسير ضمن نص آخر قائلاً: ((الاترى أنّك إذا قلت:ضاربٌ رجلاً , أومأخوذ بك ,وأنت تبتدئ الكلام احتجت ههنا إلى الخبر ,كما احتجت إليه في قولك:زيدٌ وضاربٌ, ومنك بمنزلة شيء من الاسم في أنّه لم يُسند إلى مسند وصاركمال الاسم ,كما أنّ المضاف إليه منتهى الاسم وكماله))([20]) .

فسيبويه ههنا يظهر قضية مهمة جداً,وهي أقلّ ما يتألف منه الكلام بحثاًعن نواته التي هي عبارة عن وحدات غير قابلة للتحليل تُشكل البنية الأساس للنظرفي وحدات التركيب للكلام العربي,وإيضاح السبب ,ويلحظ من توظيف المنزلة ههنا إيماءة منه إلى أنّ فهمه للنواة بوصفها((مستوى تجريدي في فهم الجملة, يكون من الناحية اللغوية قبلياً عن انشاء الكلام ,وتتخذ فيه الجملة نمطاً مثالياً لها وقد يظهر هذاالنمط عند الاستعمال ,وقد لا يظهر ويتمّ عن هذا النمط أوهذه البنية تحقّق نمطين أساسيين سيصبحان "البنية الاعمق"وستكون هذه الأنماط ممثلة للبنية العميقة للجمل المتحققة لهذه الأنماط)).([21])

ومقياس الانتقاء  يجعلنا إزاء نص  آخر يقول   سيبويه  فيه )):ومما يُختار فيه النصب لنصب الأول,ويكون الحرف الذي بين الأول والآخر,بمنزلة الواو والفاءوثُمّ,قولك:لقيتُ القوم كلّهم حتى عبدَالله لقيته,وضربتُ القومَ حتى زيداً ضربتُ أباه,وأتيتُ القومَ أجمعين حتى زيداًمررتُ به,ومررتُ بالقوم حتى زيداًمررت به ,فـ"حتى"تجري مجرى الواووثُمّ وليست بمنزلة أمّا؛لأنّها إنّما تكون على الكلام الذي قبلها ولا تبتدئ))([22]).إنّها لفتة ذكية من سيبويه حين يولي بعض الحالات عناية ,بأنْ يكون الجوارفيها أقوى من البناء ,ومن مواضعها ماأورده مع "حتى"موضّحاً سبب ذلك مشابهتها لحروف العطف(الواو والفاء),فجمع في نصّه تنوعات نمطية لها بأنّ(عبد الله) في المثال الأول قد حُمِل على اللفظ المجاور(القوم) فالعامل عمل في مضمر يربط الاسم بالمفعول المتقدّم احالياً, ويتفق (زيد) في المثال الثاني مع (عبد الله) في الحمل على الجوار إلّا أنّ العامل عمل في مضمر على نحو غير مباشر بوقوعه على شيء من سببه ,وحُمِل المفعول على المفعول المجاور في المثال الثالث ,إلّاأنّ الفعل يعمل في مضمر على نحو غير مباشر ,أي :وصل إليه عبر الحرف .أمّا المثال الأخير فقد حُمِل المفعول على موقع المجاور وليس من لفظه.ولأبي بشر شأنٌ في الإبداع ههنا, في أنّه يُحفّز متلقيه ,بتكرار متتاليات لغوية تقتضي عدداً من الملامح البارزة ,أتت في مقدمتها أنّ عمليات تكوينها تتجه بصفة خاصة إلى الجانب الدلالي ,فالنصوص المنظمة عن طريق النحو والدلالة تفرض نفسها على الذاكرة, فتكون قابلة للاستمرار فيكفل التكرار- حينما يكون الطابع البنيوي نفسه([23]) سبيل   الحفظ والاسترجاع ,وهو ما يمكِّننا من القول إنّ سيبويه اعتمد استراتيجية تعليمية تقوم على التكرار.

وجدير بالتنويه أيضاً أنّ الأنماط  التي ذكرها  سيبويه  تتساند إلى  مبدأي  التسوية والتعديل,من حيث إنّ المادة اللغوية واحدة (حتى) ,إلّا أنّ ما بعدها يشتمل على الانسجام مع ما قبلها بآثارها السماعية,عن  طريق أخذ  العلامة الإعرابية نفسها.فانبناء الهاجس اللغوي ,إنّما يرتدّ  إلى مرجعيات نفسية  تكيّفها لاختيار ترميز مشابه  لما قبل الأداة (حتى)  ,فالتنويعات البنائية  يكسوها سيبويه بعداً صوتياً لسانياًوليد الانفعال.ويبدو أنّ هذا الجانب مسكوت عنه في الكتاب , وهو جانب يُشخّص  قيم التفاعل النفسي المنطوية عليه فاعلية هذه العناصرالبنائية نطقاً ,بأنْ تكون معيارية إيقاعية تحتفظ في عباراتها بكثير من الامتيازات الإيقاعية , وكأنّ سيبويه يوحي إلى نشاط لساني يقوم على تداعي العناصر على وفق قانون طبيعي وهو قانون الخفة,بتتابع الحركات ,يجدُ لَهُ مصداقية بالغة في نصوصه تمنحه أهلية الاختيار الإيقاعي المبرَّر نفسياً ولسانياً  وسماعياً فيكون ذلك سبيله المنزلة في فهم آليات قانون الاستخفاف الذي يتمّ بالمجاورة.

5-التفسير بالمنزلة للإجمال:وفيه يوسّع سيبويه دائرة معالجته التحليلية للمكوّنات اللغوية فعلى الرغم من تطبيق المسلك التفكيكي في تحليلاته إلّاأنّه يُجمل بالحكم بما هو بعد المنزلة, فقد عرّج على(أم) المنقطعة مقدِّماًمسحاً شاملاً ,في أنّها تأتي بعد الخبر ,وبعد الاستفهام,وفي مظهر مُجمل هو(الانقطاع),فيقول: ((ويدلّك على أنّ هذا الآخر منقطع عن الأول ,قول الرجل:إنّها لإبلٌ ثمّ يقول:أم شاءٌ يا قومِ.فكما جاءت أم ههنا بعد الخبر منقطعة ,كذلك تجيء بعد الاستفهام...وبمنزلة أم ههنا قوله عزوجل: "الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ"([24])...ومثل ذلك:" أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ "([25])

كأنّ فرعون قال:أفلا تبصرون أم أنتم بصراء ؛لأنّهم لو قالوا:أنت خيرٌمنه ,كان بمنزلة قولهم:نحن بصراء عنده ,وكذلك :أم أنا خيرٌ,بمنزلته لوقال:أم أنتم بصراء))([26]).ويؤكِّد هذا الإجمال بالاستشهاد بمواضعَ قرآنية لها ,زيادةً في الكشف وتتميماً للبيان؛لأنّ آياته برهان صدق ينطلق منها إلى تفسير تحليلي يُثبت فيه أنّها تبقى منقطعة على الرغم من وقوع التغاير لمجيئها,خبراًواستفهاماً. ولا يقتصر الإجمال على الأداة ,بل أنّ بنيته التفسيرية تتسع لتشمل أنماط الكلام,وتبرز هذه المسألة في بعض الأنماط الخبرية التي قد تنزل منزلة أنماط الأمر والنهي بالارتكان إلى بنيتها العميقة المعدولة عن دلالتها الإخبارية إلى دلالة طلبية ,وقد عالج سيبويه هذه الازدواجيةفي((باب الحروف التي تنزل منزلة الأمر والنهي؛لأنّ فيها معنى الأمروالنهي)).ممثلاً لذلك بـ((حسبُك ينم الناس .ومثل ذلك :اتقى الله امرؤٌ,وفعلَ خيراً يُثبْ عليه؛لأنّ فيه معنى ليتقِ الله امرؤٌ,وليفعل خيراً,وكذلك ما أشبه هذا)).([27])فقد جعل سيبويه المعنى عاملاً جوهرياً في تفسيرالنحو, ويشرع في وضع ضوابط تفسّرنظام الإعراب من حيث إنّ القول بالعمل ههنا –أعني عمل العناصر اللغوية بعضها ببعض- ليس على وجه الحقيقة ,بل على وجه العلاقات المطردة الثابتة بينها في تلازمها((والقول بالعمل افتراض في التحليل الداخلي  أعانهم  على تفسير كثير من الظواهر في الإعراب وما يتعلق به))([28]) .فالعنصر الإخباري"حسبك"في قول العرب:"حسبُك الحديثُ ينَم الناس".تتحدّد دلالته بـ"اكفف",واختيار هذه الدلالة ,إنّما جاء لورود العنصر الفعلي الثاني "ينَمْ" مجزوماً؛ لعدم استغناء تحقيقه عن تحقق مضمون العنصر الأول المدلول عليه بالنمط الإخباري([29]) .

واخال أنّ علاقة التداعي بين أنواع التفسير والمنزلة يؤكِّد ضرورة ملاءمة المفسِّر للأمر المفسَّر,ولا يخرج عمّا به حاجة إلى تفسير بما يضيف جديداً يوضّح الأول.ولولا ذلك لما كان هناك مسوّغ  لتوظيفه .

ونشير إلى أنّ دقة استعمال سيبويه لمفهوم المنزلة ههنا أوجب خلق بنية علمية هرمية لها قاعدتها الاستقرائية ,وتقنياتها التحليلية , ووسائلها التفسيرية؛لأنّ التفسير نظرية تفسِّر الاستقراء والتحليل أي الوصف والقانون ,فيكون بذلك أسمى أهداف المشروع العلمي.

المبحث الثاني:المنزلة والتمثيل قياس في الافتراض الدلالي للكلام ومكوناته.

يصف الخطاب العلمي ,المحتوى المعرفي المبني بناءً محكماً,بأنّه تقنية تفسيرية منظمة تجمع بين مفاهيم تدلّ على مجال البحث,والبراهين التي يتمّ تقديمها في إطارالظواهر المدروسة,فتكون للخطاب العلمي وظيفة ,هي نقل هذا المحتوى .ولمّا كان الحجاج النظري عند سيبويه يسير باتجاهين:

-الأول :في إثبات شيء على وجه الترغيب.

-الثاني:في إبطال شيء على وجه التنفير.

فانّ التمثيل كان واحداً من سبل الحجاج ,له مرتكزات ذهنية أولية يأتي به إيضاحا للقاعدة وإيصالها إلى المتلقي فهو ليس برهاناً أو دليلاً قاطعاً على قدر ما يكون حجة مقنعة, وقد خضعت المنزلة مع التمثيل لمنهجية علمية بوصفها إفرازاً دالاً للغة ,حينما صيّرها سيبويه موضوع بحث عقلي يُنمّى على أساس تجريدي فكانت وسيلة ناجحة في متابعة البحث عن المبادىء التفسيرية التي تنفذ إلى عمق الظاهرة النحوية.وقد تحكّم سيبويه في تنظيم الهيكل التنفيذي للمنزلة مع التمثيل بذكر وضعين لهما:

-الأول :علمي من جهة تقرير الحقائق.

-والآخر:فني من جهة التصوير والتخييل.

فإذا كان التمثيل عنده احتجاج عقلي –وفي هدي الإدراك لحدّ(المثال)أنّه:((اللفظ الدال على المعنى المجرّد في الذهن عن كلّ ما من شأنه أنْ يقترن به فهو النموذج أو الجزئي الذي يُذكر لإيضاح القاعدة))([30])-فحينئذ تتجلى لنا حقيقة أنّ اعتماد المقايسة الجدلية تجعل مناقشة القضايا اللغوية مناقشة علمية .ومن أبرز نصوص الكتاب التي تُفصح عن ذلك قول سيبويه في باب التعجب:((هذا باب ما يعمل عمل الفعل ,ولم يجرِمجرى الفعل ولم يتمكّن تمكّنه ,وذلك قولك:ماأحسن عبدَالله. زعَم الخليل أنّه بمنزلة قولك:شيء أحسن عبدَ الله,ودخله معنى التعجب ,وهذا تمثيل ولم يُتكلّم به))([31]) .

إنّ محاولة سيبويه ترجمة لغة التجربة إلى لغة افتراضية في باب التعجب -أفادها من الخليل (شيء أحسن زيداً),-إنّما هي محاولة لتحديد العلاقات بين الظواهر اللغوية وصياغتها صياغة رمزية مجردة في تكامل خلّاق بين العقل والتقنية(النظرية والواقع). مما أنتج نحواً صورياً في صورة مخالفة للوصف الصوري الخالف ,من حيث إنّ الأخير يمتنع عن وصف المحتوى الدلالي للمقولة النحوية ,إلّا أنّ  الدرس النحوي الصوري عند أبي بشر يقوم على وصف العلاقات الكامنة بين رموز اللغة-موضع الدراسة-ولكن من دون تجريد للتأويل ,فجاءت نظريته متفردة في وصف القواعد اللغوية ببعدها عن الغموض من جهة , واظهار الملامح الدلالية في الدراسة من جهة أخرى وهو ما يُحيل عليه قوله: "ودخله معنى التعجب".فالتمثيل بمفهوم المنزلة عند سيبويه يجعلنا أمام  نوعين من النماذج اللسانية ,الثانية نماذج مُمثّلة-عبر معالجة علاقتها مع الشكل والمعنى- للنماذج الأولى التي تهتمّ بالتأليف بين أجزائها الأساسية,ومر يقود التأمل فيه إلى مسألة مهمة ,هي أنّه إذا كان الكلام عند سيبويه نشاطاً معرفياً ,فانّ مقابلته بين مفهوم المنزلة ,ومفهوم تمثيل ولم يُتكلّم به

إنّما جاء ضرورة ًلمراعاة القدرة على امتلاك اللغة واستعمالها في تحليل افتراض  الممكن في البنية الأصلية لتأويل البنية المنجزة.وليس هناك أدقّ من تعبير "تمثيل ولم يتكلّم به".للدلالة على الطابع الافتراضي([32]).لرؤية سيبويه المنهجية للبنيةالعميقة ,ويسحب هذه الرؤية إلى أنْ يُقدّم عبرها اجتهادات دقيقة للتفريق في المستوى اللساني بين التجريد والاستعمال الخطابي ,في محاولة منه للسيطرة على الظاهرة اللغوية المخترقة للقاعدة النحوية بإيجاد الحلول المناسبة بوصف تلك الحلول نتائج تتمثّل بالتأويل والتقدير.([33])ونجد ذلك بالأرتكان إلى موضع آخر في كتابه يكشف لنا عن منهجيته العميقة في إطار القبلية اللغوية إذ يقول:))...ونظير جعلهم لم آتِك ولاآتيك وما أشبهه بمنزلة الاسم في النيّة حتى كأنّهم قالوا:لم يكُ إتيان,إنشاد بعض العرب قول الفرزدق:([34])

مشائيمُ ليسوا مُصلحين عشيرةً                           ولاناعبِ إلّا ببَيْن غُرابها([35])

....لمّا كان الأول تستعمل فيه الباء ولا تغيّر المعنى ,وكانت مما يلزم الأول نوَوها في الحرف الآخر, حتى كأنّهم قد تكلّموا بها في الأول ,وكذلك صار" لم آتِك "بمنزلة لفظهم بـ"لم يكن إتيان" ؛لأنّ المعنى واحد.واعلم أنّ ما ينتصب في باب الفاء ,قد ينتصب على غير معنى واحد...فالنصب ههنا في التمثيل ,كأنّك قلت:"لم يكن إتيان فأنْ تُحدِّثَ",والمعنى على غير ذلك,كما أنّ معنى عَلِمَ اللهُ لأفعلَنَّ,معنى:رَزَقَ اللهُ))([36]).إذن إيراد المنزلة لا يشترط  فيها  وحدة المعنى ,ما يعني  أنّها   تقترن بالمستوى الافتراضي الفعلي القائم على تصورات هيكلية للنمط المدروس.

حاول سيبويه عقد مواءمة بين الصيغتين(لم يفعل ويفعل),أي:(لم آتِك ولاآتيك),و(أتى وأُحدِّث),وهما مختلفان في الدلالة الزمنية,إلّأ أنّ ضابطاً أساساً حلّ محلّ هذا التباعد باشتمال الفعلين (لم آتِك وأتى)في بنيتهما المجرّدة على الحدث وهو(الإتيان)فكان تقدير(أنْ)الناصبة إظهارا للحديث ليتشاكل مع ظهور الحدث السابق(الإتيان) بوصفه موضوعاً اسمياً ويتضح ذلك في النص السابق عند قوله: ((كأنّك قلت:لم يكن إتيان فأنْ تُحدِّثَ والمعنى غير ذلك)).أي أنّ المعنى المراد في التمثيل هو(فحديث).فالقول بإضمار(أنْ)قبل الفعل ,إنّماهو مسألة تركيبية في البنية العميقة إلّاأنّها مسألة دلالية في المنطوق الظاهر ,فسيبويه يقيم تصوراته التحليلية  انطلاقاً من العقل الباطن وعلاقته الجدلية واللغوية بالوعي ,بما أسهم في اضاءة محتوى النص والكشف عن مضمونه بتوضيح قوانين إنتاجه ؛لإدراكه أنّ هناك مستوى آخر من المعنى يفارق مستوى المعنى الناتج من تفاعل العلامات اللغوية مع معاني النحو,وهو تنظيرأسّس له بتركيب مفهوم المنزلة مع مفهوم (تمثيل ولم يتكلّم به). وهونوع من تأسيس المعرفة والعلاقة مع الخارج ولكن انطلاقاً من الداخل ,إذ يتمّ انتقاء المناسب من الألفاظ للتعبير عن المعنى المقصود في محاولة ربط المعاني الذهنية برموز حسيّة حيث تتحوّل تلك المعاني إلى أشكال لغوية وهو ما يحيل عليه قول سيبويه"لأنّ المعنى واحد",و"المعنى على غير ذلك",و"كما أنّ معنى",فكانت منهجيته في التركيز على المعاني الذهنية والوجود الذهني -بوصفه مرحلة تسبق الكلام عبر قناة اللغة –طريقة واعية تعكس فيها ملكة الخيال أثراً في ترتيب المعاني وتركيبها وإحداث التناسب بينها .وبذلك لا تكون المعاني في الذهن مجرّد انعكاس للمدركات ,بل هي عامل جوهري في التفسير.

ويحتكم سيبويه إلى موضع آخر في كتابه يكشف لنا عبره,أنّ سبيل التمثيل تحوّل إلى الجانب الدلالي من أجل البحث عن تركيب أصل للألفاظ يُكوّن بناءها العميق ,إذ يقول: ((وكأنّ قوله :عمرَك اللهَ,وقِعدك اللهَ بمنزلة نشدك اللهَ,وانْ لم يُتكلّم بنشدَك اللهَ,ولكنْ زعم الخليل-رحمه الله-أنّ هذاتمثيل يمثّل به))([37]).

فالمصادر (عمَرك اللهَ),و(قِعدك اللهَ) دخل على تركيبهما معنى اليمين المفهوم من التمثيل بـ"نشدك الله",بمعنى (نشدتُك اللهَ),فاليمين معنى كساهما به الاستعمال ,وما محاولة التشبيه بين (عمرك اللهَ وقِعدك اللهَ) ,إلّاتبيان أنّ الأصل في التركيب غير ذلك.

فالقواعد النحوية العلمية في مفهوم (تمثيل ولم يتكلّم به),بغض  النظر عن مهمّتها التفسيرية أو الوصفية ,إنّما هي محاولة لفهم الأنجاز الكلامي عن طريق الكشف عن قوانين ظواهره ,وصياغتها صياغة  رمزية  تكفل ثبات العلاقة  بين الظواهر.وقد  طبّق    سيبويه رؤيته  التحليلية بربط(التمثيل)بـ(المنزلة),فهي تماثله بوصفها أداة للكشف عن نسق منطقي تفسيري لجملة من الأنماط المنجزةنطقاً,لا تكون الغاية منها تقديم تفسير للظواهر فحسب ؛بل ؛لأنّها تعبّر بكيفية مُرضية عن مجموعة من القواعد ,فتكون وظيفتها اقتصاد المجهود الذهني واضفاء النظام على الأنماط المنجزة .

هذا من جانب, ومن جانب آخر أنّ محاولة تفسير الظواهر, بالكشف عن عللها يسمح بتوسيع معرفتنا عن طريق توقّع أنماط ,أو التنبؤ بها ,إذ يورد سيبويه نماذج يحللها في ضوء منهج موازن بين الهيأة الأصل والهيأة المستحدثة المتولَّدة ,مرتكناً إلى السيرورة المعرفية عند المتكلّم في ((باب الترخيم في الاسماء التي كلّ اسم منها من شيئين كانا بائنين,فضُمّ أحدهما إلى صاحبه,فجُعلا اسماًواحداً بمنزلة عنتريس وحَلَكوك ,وذلك مثل حضرموت...ومثل عمرويه,فزعم الخليل –رحمه الله-أنّه تُحذف الكلمة التي ضُمّتْ إلى الصدررأساً ,وقال:أراهُ بمنزلة الهاء))([38]).ويُفهم من ذلك أنّ سيبويه ابتكر ضرباً من التجويز العقلي ,تأتّت موضعيته في الكتاب من رصف مفهوم المنزلة إلى جانب مفهوم التمثيل,مستنداً في صواب الحكم المعياري بهما إلى اتحاد مقدمتين معياريتين:

-أولاهما:الانتقال المنظم المبني على الترابط وإمكانية البرهنة بين خطوات البحث,أي صحة العلاقات بين خطوات البحث, من جهة خطوات البحث العلمي والتفكير السليم.

-وثانيتهما:صحة المعلومة أي :صحة القانون أو القاعدة التي تضبط كلّ خطوة على حدة((فالتفكير العلمي ينبغي أن يتصف بصواب المنهج وصواب المعلومة معاً)).([39])

وترتفع نسبة طاقة التمثيل ؛لاستيحاء لون آخر من الاجراءات الأسلوبية,يُقدّم فيه سيبويه وصفاً للشروط المكوِّنة للصورة,عبر الكيفية التي يستطيع عن طريقها تخيّل شخص ما من دون وجوده,وهو تمثّل يقوم بإشباع الانتظارات المتولدة عن التعرف , وهي قراءة ذهنية سيبويهية ليست بسيطة ,فقد نظر إلى الصورة المتخيّلة باعتبارها لحظة حية ليس لهاأيّ موقع في مكان آخر إلّا في تأمّلات الذهن ,وتلك مسألة اخالها عميقة في تفكير سيبويه, في محاولة تمثيل ما لا يمكن أنْ نراه كما يبدو في الواقع,بما يكسب هذه الصورة طابعاً خاصاً يكشف عن مظاهر كان من الممكن أنْ لايلتقطها الإدراك المباشر,وهو مايجعلنا نؤكِّد أنّ سيبويه ميّزبين الإدراك والتمثيل ,من حيث إنّ الإدراك يفترض بشكل قبلي وجود الشيء,أمّا التمثيل فهو مرتبط استناداً إلى نمط تكوّنه إلى عنصر غائب غير معطى ,لايمكن أنْ يظهر إلّابوجود النشاط التمثيلي ,يدلّك على ذلك قوله: ((انتهِ يافلانُ أمراً قاصداً,إلّا أنّ هذا يجوزلك فيه إظهارالفعل ,فإنّما ذكرتُ لك ذا؛لأمثّل لك الأول به؛لأنّه قد كثُر في كلامهم ,حتى صار بمنزلة المثل فحُذف كحذفهم مارأيتُ كاليوم رجلاً))([40]).

ويُنتج من هذه المحاولات التأليفية  للعناصر المعرفية حضور شيء لم يكن موجوداً في تلك اللحظة,بتقديم ضمانات لعناصرغير موجودة ,يعمل التمثيل على استحضارها.

إنّ براعة مايقدّمه سيبويه ههنا باستناده إلى هذه المعارف ,أنّه يعتمد تقديم عناصر ينفتح بها الوعي على الموضوع,على الرغم من أنّها ليست عناصر داخل الوعي,وهو ما يقود إلى تشكّل دلالي للنصوص يُشرك فيه سيبويه متلقيه بتحقيق البنية التي تقدّم له من أجل الكشف عن المعنى ,وإرساء دعائم إبلاغ ما ,وهو أفق واسع تموضع ضمن منظور معرفي سيبويهي ,انطلاقاً  من أنّه في أفكاره يستحضر أفكارالآخرين,فيعمد إلى صوغ أفكارفي عالمه الذهني تنتمي إلى عالم ذهني آخر ,وتبدو معالجة سيبويه تلك في نصّه)):ومما يُضمر؛لأنّه يفسِّره ما بعده ,ولا يكون في موضعه مظهر,قول العرب:انّه كرامٌ قومك ,وانّه ذاهبة أمتك,فالهاء إضمار الحديث الذي ذكرت بعد الهاء ,كأنّه في التقدير([41]).وانْ كان لا يُتكلّم به قال:إنّ الأمر ذاهبة أمتك,وفاعلة فلانة,فصار هذا الكلام كلّه خبراً للأمر,فكذلك ما بعد هذا في موضع خبره,وأمّا قولهم:نِعْمَ الرجلُ عبدُ الله,فهو بمنزلة ذهب أخوه عبد الله.عمل نِعْمَ في الرجل,ولم يعمل في عبد الله,وإذا قال:عبدُ الله نِعْمَ الرجل.فقيل له: مَن هو؟فقال:عبدُ الله.وإذا قال:عبدُ الله,فكأنّه قيل له:ما شأنه؟.فقال:نِعْمَ الرجلُ))([42]).فالسؤال ههنا ليس له قيمة وصفية بقدر ما له قيمة حجاجية,ففعل السؤال يعكس هاجس اللغة التي بها الحوار ,وبها السؤال ,وبها الجواب فسيبويه يريد أنْ يضمن التفاعل واستمرارية التخاطب بينه وبين مخاطبه المتمثّل افتراضاً, فأزاح التمثيل ههنا إلى المستوى الحواري,حينما استنطق سيبويه مخاطبه المفترض من أجل الاهتداء والاسترشاد العلمي-العملي,على وفق سبل استدلالية متنوعة تجرُّ إلى الاقتناع برأي المحاور؛ليكون ذلك أساساً يرتكز عليه سيبويه ,وقد كمُنَ عنده في بنية اللغة ,ولم يكن صفة عرضية تميّزت بها طروحاته,فاكتست طابعين:

-الأول: الطابع الاجتماعي,وهي تقنية سيبويهية بامتياز ,إذ عمد إلى أبراز خطابية اللغة باستحضار مساهمات متكلّميها  لتحقيق أغراض معينة.

-والآخر :الطابع الجدلي القائم على الإقناع .ولمّا كان الإقناع لبّ العملية الحجاجية ,بوصفه أثراً مستقبلياً يرجى تحققه بعد التلفظ بالخطاب ,فقد كان من بين الوسائل المستعملة في عملية الإقناع المتميّز بتوظيف التفكير في ثنايا عملية التواصل.

فثمّة خيط رهيف شفاف يفصل بين الحالتين ,الحالة الذهنية ,وهي حالة نفسية تجعل وجود الصور في الأذهان حالة تجريدية, لم تتشكّل بهيأة الدال والعبارة.والحالة الثانية ,حالة الفهم ,وهي حالة عقلية ولحظة معرفية تصير نتيجة ارتباط اللفظ بصورة المعنى.وتمثّل رؤيته هذه وقفة مهمة في تأمل الظاهرة اللغوية ,وعمل النفس والعقل معاً فيها؛لتشكيل العملية الإدراكية والمعرفية.

يُستقرى مما تقدّم ,أنّ الخيال لم يكن نشاطاً عقلياً فحسب؛بل نجده عند سيبويه نشاطاً فعّالاً يبتكر صوراًجديدة ويقيم علاقات بين أشياء لايربطها في الواقع أدنى مشابهة.

وبناءً على ما تقدّم فقد اهتدى سيبويه إلى جعل المنزلة تتجه نحو مخيلة الإبداع بتجاوز اللغة وحدود الواقع ,فيُستهدى إلى المعنى عن طريق تحريك الذهن مما يتطلب معالجة دينامية وابداعية.

المبحث الثالث:الأساس التداولي في استعمال المنزلة.

يكتمل الفضاء الاستدلالي عند سيبويه بقيام لسانيات المحاور إلى جانب لسانيات الظواهر,من حيث إنّ الخصائص الصورية للنماذج تجعل بعضها ذا واقعية بكفايتها التجريبية.وننوّه بهذا الخصوص إلى فكرة القيمة القانونية ,التي تقدّم  قولاًما,بما  له من سلطة معينة ترتبط بشكل وثيق بالفرضية .ومن هنا فانّ مدار بحثنا سيكون ضمن المجال الخطابي الذي يتموضع فيه المتكلّم والمخاطب باعتماد المنزلة ,وسيلة لتقديم الحجج,بما يؤدّي إلى نتيجة معينة ,فالحجاج بالمنزلة يتمثّل في سلسلة استنتاجية(متواليات الأقوال),فتكون الحجة بالمنزلة في ضوء هذا الإطارعبارة عن عنصر دلالي يقدّمه سيبويه لصالح عنصر دلالي آخر بمختلف هيئاته(لفظ,أو جملة,أومشهد,أوسلوك غير لفظي)ّ.

ولمّا كان فعل الحجاج يفرض على المخاطب نمطاً معيّناً من النتائج بوصفه الاتجاه الوحيد الذي يمكن أنْ يسير فيه الحوار,فانّ الأداءات الحوارية-المباشرة وغير المباشرة-جاءت في كتاب سيبويه متنوعة ,تبعاً لتغاير العلاقات التخاطبية بالإفادة من المقام ,فترى السبيل الاحتجاجي يترجّح فيه العمل على النظر.

إنّنا نقف على هذه الحقائق الحوارية الاستدلاليةفي الكتاب عبر (المنزلةوالسؤال)؛إذ يُعدّ استعمال أسلوب الاستفهام من الآليات اللغوية التوجيهية؛لأنّها توجّه المتلقي نحو محتواها ؛للإجابة عنها.وقد آثرسيبويه أحياناً أنْ يعرض للمسائل في هيأة جوابات يسألها للخليل تقوية لموقفه الحجاجي بسَوْق كلام من يحظى باحترام علمي يقول )):وسألته عن قوله:ما تدوم لي أدوم لك,فقال: ليس في هذا  جزاء , من قبل أنّ الفعل  صلة لما,فصاربمنزلة الذي,وهو بصلته كالمصدر ,ويقع على الحين ,كأنّه قال:أدوم لك دوامك لي.فما ودمتُ بمنزلة الدوام ,ويدلّك على أنّ الجزاء لايكون ههنا أنّك لا تستطيع أنْ تستفهم بما تدوم على هذا الحدّ))([43]).

يستعين سيبويه بسؤال الخليل لا لمجرد الاسترشاد,فتعزيز الجواب بسرد للأدلة تكاتُلُ ذلك يكون ردّاً لاعتراض أو أشكال قد يُثيره جوابٌ مثل (ليس في هذا جزاء)؛لأنّه بمنزلة (الدوام).فالجزاء لا يقع في الاسماء ويربطه بالاستفهام قائلاً((أنّك لا تستطيع أنْ تستفهم))؛لأنّ الأصل فيه أنْ يدخل على الأفعال.

لقد بنى سيبويه نصه في صورة استدلالية مجتمعة إلى أوثق اجتماع ,فقد طوى مقدمات للوصول إلى نتيجة أنّه لا يجوز الجزاء ههنا ,مسخّراً الاستفهام كآلية لبلوغ القصد من الخطاب ,وتنبعث المنزلة من نصه لتكون بمثابة معادل موضوعي في ذهن المحاور,لمل يدور من تساؤلات في ذهن المتلقي.

وتترآى مسألة تتعلق بالطبيعة المقصدية للسؤال,أنّ سيبويه قد يوظّف الاستفهام لا لينتظرإجابة من المتلقي, وإنّما لحصول التوجيه في مخاطبه ,قصد النظر في المسائل التي عرضها عليه ,وهي متصلة بخدمة المقصد الذي أراده,يقول)): وتقول: أين تُرى عبدَالله قائماً؟وهل تُرى زيداً ذاهباً؟لأنّ هل وأين كأنّك لم تذكرهما  ؛لأنّ ما بعدهما ابتداء, كأنّك قلت:أ تُرى زيداً ذاهباً؟وأتظنُّ عمراً منطلقاً؟.فانْ قلت:أين وأنت تريد أنْ تجعلها بمنزلة فيها إذا استغنى بها الابتداء([44]). قلت:أين تُرى زيدٌ,وأين تُرى زيداً))([45]). ويعدّ هذا الإجراء بتطويع مفهوم المنزلة مع الاستفهام في بناء الخطاب وإنتاج المعرفة ضرباً من الإبداع ؛لإدراكه أنّه إزاء لغة طبيعية لا صورية.

ويشكّل قانون الإضافة أحياناً قيمة جوهرية ,فنضيف عبره اضطلاع المحاوِر بالقيام بوظيفتين في الوقت نفسه ,فيكون مرة عارضاً,ومرة معترضاً مُنشأً معرفةً تناظرية, وطريق هذه المرتبة حمولة الاستفهام والمنزلة.فيتألق مسلك سيبويه باستعمالها جدلاً في نصه اذ يقول :(( وإنْ زعم زاعم أنّه يقول: مررتُ برجل مخالط بدنه داءٌ,ففرق بينه وبين المنوّن. قيل له: ألستَ تعلم أنّ الصفة إذا كانت للأول فالتنوين وغير التنوين سواءٌ,إذا أردتَ بإسقاط التنوين معنى التنوين ,نحو قولك: مررتُ برجل ملازم أباك,ومررتُ برجل ملازم أبيك ,أوملازمك.فإنّه لايجد بُدّاًمن أنْ يقول:نَعَمْ.وإلاّ خالف جميع العرب والنحويين ,فإذا قال ذلك قلت: أفلست تجعل هذا العمل إذا  كان منوّناً ,وكان لشيء من سبب الأول, أوالتبس به بمنزلته إذا كان للأول ؟فإنّه قائل: نَعَم.وكأنّك قلت:مررتُ برجل ملازم ,فإذا قال ذلك ,قلت له:ما بال التنوين وغير التنوين استويا حيث كانا للأول ,واختلفا حيث كانا للآخر, وقد زعمتَ أنّه يجري عليه إذا كان للآخر كمجراه إذا كان للأول...))([46]).قد يقتضي الجانب التعليمي عند سيبويه الرّد على بعض القضايا باستعمال بعض المقولات من قبيل "يقول-قيل-قائل...الخ"تُبنى على اعتراضات مفترضة من  معترض هو نفسه العارض,فيقدّم أدلته وحججه على تلك الاعتراضات مستدرجاً متلقيه إلى مجاراته وإلّا أُتهم بمخالفته جميع العرب والنحويين حتى ينساق لما أراده قائلاً:(نَعَم) .وهذه الطبيعة البنيوية للجواب الراجعة إلى طبيعة المخاطب ,احتاجت من المجيب أنْ يقدّم  عدداً من المقدمات تكفي لحصول الفهم والإدراك,وهومبدأ تتحكم به مقتضيات التداول فالمقاصد لها أطرها في ذهن سيبويه,يتمّ توصيلها إلى المتلقي عن طريق مراعاة اللغة ,وهو ما يُظهر أهمية المخاطب لدى سيبويه فيتجاوز بالإسناد  الوظيفة النحوية إلى المعيار التداولي , بتوظيفه لضمير المخاطب  (أنت)  مع  الفعل (تعلم)ليجسّد به تواصلاً مع مخاطبه,وهو ما يشي بالقول إنّه بنى خطابه في الكتاب على ملمح مقاصدي افترض فيه وجود متلق لرسالته ,وهو ما يظهر في استعماله ضمير المخاطب (أنت) المضمر في الفعل (تعلم). وكثُر مااستعمل سيبويه الأمر من هذا الفعل؛ إذ يرى المتمعن أنّ خصوصية سيبويهية  تأتت له من بين الصيغ الفعلية؛لأنّ هذا الفعل يصنّف ضمن الأفعال التوجيهية ,فيخرجه سيبويه عن دلالة الأمر إلى قصد إعمال الذهن عند المتلقي  إليه ,وتقرير الحكم له من  دون ممارسات وجوب الأمر عليه , فالإخبار يكون بأسلوب العرض لا الوجوب ؛ليُحدِث التأثير في المتلقي  وبالتالي انجاز فعل معين في مرحلة تالية إذ يقول:

((واعلم أنّ من العرب مَن يرفع سلاماً ,إذا أراد معنى المبارأة,كما رفعوا "حنان".سمعنا بعض العرب يقول لرجل :لا تكونَنَّ مني في شيء إلاّ سلامٌ بسلام,أي:أمري وأمرك المبارأة والمتاركة وتركوا لفظ ما يرفع,كما تركوا فيه لفظ ما ينصب ؛لأنّ فيه ذلك المعنى ؛ولأنّه بمنزلة لفظك بالفعل)).([47])

ترتسم مظاهر التضامن في النص أعلاه بين فعل الأمر (اعلم)ومفهوم(المنزلة),بوصفهما مكوّنين حجاجيين تُعرض عبرهما الفكرة ويشرحها بتمعّن, موّجهاً إيّاها  نحو المتلقي , فيتحقق التواصل والانتفاع   بين الطرفين.ويعي أبو بشر ما يمكن أنْ يوجّه إلى  قوانينه المبنية على الاستقراء من انتقاد فينصُّ على وثاقها بقول:"سمعنا بعض العرب". فالنص على معايير السلامة حماية للقاعدة النحوية ,ومثله قوله:((واعلم أنّ ناساً من العرب يجعلون هلُمّ بمنزلة الأمثلة التي أُخذت من الفعل يقولون:هلُمَّ وهلُمّي وهلُمّا وهلُمّوا))([48]).

لقد اهتدى سيبويه إلى إجراء موازنات تقابلية  بين المنزلة والأمر, فكانت المنزلة رابطاً حجاجياً يسهم في ترابط  منطوقات فعل الحجاج (الاستفهام والأمر)في الدفاع عن  الدعوى المعروضة ؛ليتبع هذا  المحور التقابلي مخاطبات ,يعرض فيها آراءه على وفق:

1-مخاطبة برهانية:يدور الكلام فيها بين معلم ومتعلم.

2-مخاطبة جدلية:بعرض فيها المتحاورَينِ للآراء الذائعة والمشهورة ,ويحاولان الكشف عن التناقضات التي تتضمنها لحلّها معاً.

3-مخاطبة مغالطية :يوهم فيها سيبويه محاوره بأنّه انطلق من مقدمات يقينية ,إلّا أنّه يستبطن فيها أموراً مغايرة لما يظهره ,فيعود إلى تفنيدها.  

نتائج البحث :

عوّل سيبويه كثيراً على مفهوم (المنزلة ) على نحو يُلفت الانتباه ,مماجعلنا نتتبع توظيفه لها عبر نصوص الكتاب لنخرج بنتائج أبرزها:

1-لقد كانت المنزلة نفساً حجاجياً يتمّ بها الاستدلال على المسائل اللغوية.

2-تجلى الإبداع  الحقيقي السيبويهي في رؤيته إلى المنزلة من منظور, أنّها  تقنية مركبة تعتمد الرمزية في ترجمة ما في التفكير الباطن وملمحه المميّز للرمزأنّ معناه لا يتغيّر من جانب ,وتعتمد التداعي من جانب آخرفي أنّ التثبيت للمعنى لا يستبعد إمكانية تعدّده.

3-المنزلة بناء لغوي شيّده خيال سيبويه ,فتجاوزت عنده وظيفتها الأولية(المشابهة) إلى أنْ تكون إطاراً تقع فيه الأحداث,فهو بها يقيم قضية بعد قضية ,ويخوض  في مسائل اللغة عرضاً وتحليلاًواستنتاجاً في مقاربات بين العقل والنقل تنمّ عن بعد نظر ودقة ملاحظة.

4-استعماله لمفهوم المنزلة بهدف الإقناع بناه على اقتراحات سابقة بشأن المعرفة اللغوية والإدراك المتوقع وعناصر السياق(المتكلّم والمخاطب والمقام).فالتوصل إلى إدراك المقصد الحقيقي حينما يخرج القول عن معناه الحقيقي ,لا بدّ فيه من مراعاة هذه الأمور.

5-لقد كانت المنزلة مفهوماً:

أ-للاكتشاف :استعان بها سيبويه في تطبيق الاجراءات المحدّدة على النصوص اللغوية بصفة آلية مكّنته من بناء نحو اللغة.

ب-للتقرير:بوصفهاطريقة عملية استعملها سيبويه في بيان مقبولية النحو المقترح للمادة المعروضة.

ج-لبيان القيمة :فإزاء المادة اللغوية ووصفها أبَانَ لنا سيبويه عن معرفة النحو الأليق عبر رصد ظواهره.

والحمد لله ربّ العالمين .

ثبت المظان.             

-القرآن الكريم.

-الأسس الأبستمولوجية والتداولية للنظر النحوي عند سيبويه-د.أدريس مقبول-عالم الكتب الحديث-عمان-ط1-2006م.

-الإيضاح في علل النحو- الزجاجي تـ(-337هـ ) –تحقيق د.مازن المبارك –دار النفائس -بيروت -ط4- 1402هـ-1982م.

-البحث الدلالي في كتاب سيبويه-د.دلخوش جار الله حسين-أطروحة دكتوراه –كلية الآداب –جامعة بغداد.

-التفكير العلمي في النحو(الاستقراء –التحليل-التفسير)-د.حسين خميس الملخ-دار الشروق والتوزيع-عمان –الأردن -2002م.

-الخصائص-ابن جني تـ(-392هـ)-تحقيق:محمد علي النجار-دار الشؤون الثقافية-بغداد-ط4-1990م.

الخطاب والحجاج-أبو بكر العزاوي –الدار البيضاء-ط1 -1427هـ-2007م.

-ديوان الفرزدق-ضبط وشرح إيليا الحاوي –منشورات دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة-بيروت-لبنان-ط1-1983م.

-سلطة الكلام وقوة الكلمات (بحث)-أبو بكر العزاوي-مجلة المناهل-العدد(62)-منشورات وزارة الثقافة المغربية.

-الشاهد الشعري في النقد والبلاغة (قضايا وظواهرونماذج)-عالم الكتب الحديث-اربد -عمان-2010م.

-شرح الأشموني على ألفية ابن مالك-أبو الحسن الأشموني-تحقيق:محمد محيي الدين عبد الحميد-دار الكتاب العربي-بيروت-لبنان-ط1-1375هـ-1955م.

-علم المعاني –د.عبد العزيز عتيق-دار النهضة العربية للطباعة والنشر –بيروت 1974م.

-عناصر النظرية النحوية في كتاب سيبويه محاولة لإعادة التشكيل في ضوء الاتجاه المعجمي الوظيفي –سعيد حسن بحيري –مكتبة الأنجلو المصرية-1989م.

الكتاب-سيبويه تـ(-180هـ)-تحقيق: عبد السلام محمد هارون –عالم الكتب- بيروت –ط3 -1403هـ.

-كليات المعرفة اللغوية عند الفلاسفة المسلمين في ضوء اللسانيات-أطروحة دكتوراه-كريم عبيد عليوي- الجامعة المستنصرية-كلية التربية-2012م.

اللسانيات والبيداغوجيا نموذج النحو الوظيفي(الأسس المعرفية والديداكتيكية-علي آيت أوشان-ط1-مطبعة النجاح الجديدة –دار الثقافة-الدار البيضاء-1998م.

-مدخل إلى علم اللغة –لوريتو تود-ترجمة:د.مصطفى التوني –منشورات الهيأة المصرية العامة للكتاب-1994م.

-مغني اللبيب عن كتب الأعاريب-ابن هشام تـ(-761هـ)-دار الكتب العلمية-بيروت -ط1-1998م.

-المفصّل في تاريخ النحو العربي –د.محمد خير الحلواني-مؤسسة الرسالة-بيروت –ط1-1399هـ-1979م.

-مفهوم الجملة عند سيبويه-د.حسن عبد الغني الأسدي-دار الكتب العلمية-بيروت-لبنان-1428هـ-2007م.

-المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع-أبومحمدالأنصاري السجلماسي-تحقيق:عادل الغازي-مكتبة المعارف- الرباط-ط1-1401هـ-1981م.

-منهاج البلغاء وسراج الأدباء-حازم القرطاجني-تحقيق:محمد حبيب الخوجة-دار الغرب الأسلامي-بيروت ط3-1986م.

-نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث-د. نهاد الموسى- المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت-ط1 -1400هـ-1980م.

 

[1]- من أمثلة العلاقات الاستدلالية علاقة الشرط,والاستلزام,والسببية,والتفسير ,والقياس,والاستنتاج.ينظر الخطاب والحجاج ص17.

[2]- سلطة الكلام وقوة الكلمات ص142.

[3]- وظّف سيبويه هذا المفهوم في التفسير المرتكز على استدلال يتصل بعلم من علوم القرآن يُسمّى المكي والمدني ,من ذلك ما نقله عن أبي الخطاب قائلاً:"وزعم أبو الخطاب أنّ مثله قولك للرجل:سلاماً. تريد تسلّماًمنك,كما قلت:براءة منك...وزعم أنّ هذه الآية "وإذا  خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً."بمنزلةذلك,لأنّ الآ فيما زعم مكية ولم يِؤمر المسلمون يومئذ أنْ يُسلّموا على المشركين , ولكنّه على قولك براءة منكم وتسلّماً لاخير بيننا وبينكم ولاشرّ".الكتاب1/324-325 ,والآية الفرقان/63.

[4]- منهاج البلغاءص20.

[5]- مثلت المنزلة عند سيبويه قانون الاستقراء اللغوي مما مهّد لظهور القياس المنطقي بعد ذلك,يتضح هذا الأمرعبر إحصاءموارد ذكرها إذ ورد ذكرها(1797) مرة في الكتاب:

-في الجزء الأول ذُكرت(594)مرة.

-في الجزء الثاني ذُكرت(699)مرة.

-في الجزء الثالث ذُكرت(486)مرة.

-في الجزء الرابع ذُكرت(18)مرة.وهذا العدد قليل بإزاء الأجزاء الأولى ,مما يقودنا إلى القول بظنِ منا أنّ الإحاطة بدلالاتها قد تبيّنت سلفاً,فلم يُحتج إلى التكرار ,فتجنّب بها الإعادة؛لأنّها وسيلته في الإحالة على مواضع متقدمة.هذا من جانب ومن جانب آخر أنّه  تعامل في الأجزاء الأولى مع التراكيب فلها دلالات تحتاج معها إلى تمثيل ,أو عرض مشابهة ,أومساواة,أو نفي تلك المساواة مما تطلّب معه الكثرة في استعمالها لحاجة التحليل ,أو التعليل,أوالإيضاح .وننوّه إلى أنّ استعمال هذه المفردة قد اختفى بعد سيبويه عند النحاة الخالفين إلّا في إشارات قليلةورد ذكرها ,منها إشارة ابن جني في الخصائص في حديثه عن عدم جواز تقديم المستثنى على الفعل الناصب في2/384-385 و1/249,وإشارة ابن هشام في حديثه عن السين المهملة, وكلتا الإشارتين في معنى (موضع النزول),أي: المكان.وان ْ زاد ابن هشام معنى آخر ,وهو(المشابهة) في حديثه عن (سيّ) في (لاسيّما),فهو مشابه لـ(مثّل) وزناًومعنى.ينظر المغني1/275و1/276.      

[6] - الكتاب3/18-19.

[7] - كليات المعرفة اللغوية عند الفلاسفة المسلمين في ضوء اللسانيات ص26.

[8] - البقرة/65.

[9] - الأنفال/60.

[10] - الكتاب 1/40وأورد سيبويه زعْمَ الخليل في بيت الأسود بن يعفر:

                   أحقاً بني أبناء سلمى بن جندلِ        تهدّدكم إيّاي وسط المجالس.

                   أنّ التهدّدهنا بمنزلة الرحيل بعد غد,ينظر الكتاب3/136.

[11] - ذهب د.إدريس مقبول إلى أنّ مذهب سيبويه في ترادف العلم والمعرفة هو نفسه مذهب المعتزلة مستدلاًعلى ذلك بالنص أعلاه.ينظر الأسس الابستمولوجية والتداولية للنظر النحوي عند سيبويه ص199وص201.

[12] -الكتاب1/204-205 وينظر1/90-91.

[13] -الإيضاح في علل النحوص66.

[14] -يُقصدبالانضواء تضمّن عنصر بنيوي دلالة ضمنية ثانية ,ينظرمدخل إلى علم اللغة(تود)ص96,واللسانيات والبيداغوجياص141وص172وعلم المعاني(عتيق)ص140.

[15] -الكتاب3/28.

[16] -الكتاب3/153.

[17] -الكتاب 1/34-35.

[18] -الكتاب 1/35.

[19] -الكتاب1/12.

[20] -الكتاب 3/328-329.

[21] -مفهوم الجملة عند سيبويه ص222.

[22] -الكتاب1/96.

[23] - نعني بالطابع البنيوي ههنا نسق (حتى) مع الاسم المنصوب بعدها في المتتاليات المذكورة في النص السيبويهي.

[24] -السجدة 1و2.

[25]- الزخرف51و52.

[26] -الكتاب 3/173.

[27] -الكتاب3/100.

[28] -نظرية النحو العربي ص24.

[29] -ينظرشرح الأشموني3/569-570وعناصر النظرية النحوية ص173والبحث الدلالي في كتاب سيبويه ص257-258.

[30] -المنزع البديع ص168,وينظر الشاهد الشعري في النقد والبلاغة (قضايا وظواهر ونماذج )ص32.

[31] -الكتاب1/72.

[32] -ذكر الأستاذ الحلواني أنّ"الافتراض أسلوب فقهي معروف كان عليه أبوحنيفة وشيوخه خاصة من رجال الدين وقد أفاد منه النحاة في زمن مبكر"ينظر المفصّل في تاريخ النحو العربي 1/169.ولعلّ في هذه المسألة ما يتكأ عليه سيبويه في إرسال معرفته العميقة بالفقه حينما يوظّفه بجدارة في مقاربة بين التخييل والتصديق.

[33] -التقدير:"هو نيّة الشيء وتصوّر وجوده,وكثيراًمايُستعمل في المواطن التي يقع فيها الحذف,أو التي تحتاج فيها الكلمات إلى  ما يكمل معانيها"ينظر معجم المصطلحات النحوية والصرفية ص182.

[34]- ديوان الفرزدق ص23.

[35] -استشهد به سيبويه على حمل جر(ناعب) على معنى تقدير الباء الزائدة في (مصلحين) في النيّة ,ينظر هامش الكتاب 3/29.

[36] -الكتاب3/29-30.

[37] -الكتاب 1/323.

[38] -الكتاب2/267.

[39] -التفكير العلمي في النحو ص18.

[40] -الكتاب1/284.

[41] -تعطي دلالة التقدير ههنا دلالة التمثيل نفسها,يدلّك على ذلك قول سيبويه"وانْ كان لا يتكلّم به".

[42] -الكتاب2/176-177وينظر4/308.

[43] -الكتاب3/102.

[44] -يعني وقعت خبرا للمبتدأ .ينظر هامش الكتاب 1/121.

[45] -أي :على الألغاء والإعمال ,كقولك:"قائمٌ ظننتُ زيدٌ",و"قائماً ظننتُ زيداً".ينظر هامش الكتاب 1/121.

[46] -الكتاب2/19-20.

[47] -الكتاب 1/326,وينظر 1/381و1/457و2/124,و2/139و2/252.

[48] -الكتاب1/252.