الحمد لله قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، والصلاة والسلام على اشرف المرسلين، وعلى اله وصحبه أجمعين.

وبعد:-

عندما قرانا خطب الإمام وجدنا فيها أشياء كثيرة من الممكن ان تكون عناوين للبحوث، ومنها التوظيف القرآني في خطبه، إذ انه كان يمثل علامة بارزة، وقد يعود ذلك لنشأة الإمام الدينية، فتابعنا الخطب وكانت نظرتنا فيها فاحصة متأملة، وعندما حصلنا على ضالتنا، فالموضوع يستحق الدراسة، فأفاد الإمام من القران الكريم واضحة وخطبه واضحة بين يدينا. فقراناها لأكثر من مرة. وفي كل مرة اكتشفنا توظيفا قرآنيا في ثنايا خطبه، ووجدنا ان هذا التوظيف يمكن النظر إليه من عدة زوايا، هي محاور البحث التي تمثلت بـ:-

1. التوظيف اللفظي.
2. التوظيف المعنوي.
3. التوظيف العلمي.
4. توظيف الرسل والأنبياء.

ووجدنا ان الأمر يوجب على ان تؤسس أرضية لهذا التوظيف، تكون منطلقا لدراسة هذا الأثر الجليل في خطب الإمام، كي تكون النتائج متطابقة مع المقدمات، ففعلنا هذا في تقديم وسميناه بـ:- (الأثر القرآني). واشفعنا البحث بخاتمة لأهم النتائج.

الأثـر القرآنـي: 

لم تعرف العربية خطابا أعمق من القران مع حسنه، وأناقة لغتـه، وبديع نظمه، وعذوبة إيقاعه، ثقفته أفئدة كثير من أساطين الكلمة النافذة إلى القلوب، منذ مطلع الإسلام، فسكنت اليه نفوسهم، وامتصت من رحيقه عقولهم، وامتزجت به شغاف قلوبهم لا سيما الأدباء من الكتاب والشعراء، ومن ثم أخذت أساليب القرآن المشرقة وطرق نظم عباراته، وفرائد ألفاظه تنتشر فيما ينشئون من كلامهم، وبيانهم من شعر أو خطابة أو ترسل، واخذوا يستمدون منه براعة الفصاحة وجمال الأساليب، وروعة التصوير. لذا أدرك الأديب العربي المسلم منذ نزول الوحي ان هذا الكتاب: )لاَّ يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْن يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ( ([1]).

ومصداقا لهذا اخذ ينظر إلى القرآن نظرة القداسة والتمجيد، وأدرك ان فيه قوام الدين، وروعة البيان، وعظمة النظم، وجلال المكانة، ومن هنا تجسدت النظرة إلى القران الكريم انه أحسن الذكر، وأفضل الكلام، الذي لا مجال للتسامي إلى منزلته العليا، فما كان للإمام علي7 إلا ان يلتمس منه، وإذا اخذ منه بعض تعبيراته أخذها وهو يدرك انه تشع ببهائها في كلامه، وتزين خطبه وتعلي ما يحيط بها من فضاء النص النثري على ما سواه، ولذا وجد نفسه منساقا للأنساق القرآنية من تراكيب الجمل والألفاظ والمضامين.

ومن المناسب هنا ان نذكر ان الأخذ عن القران الكريم عدّه البعض سرقة ([2])، في حين رآه البعض الآخر مجالا فنيا رحبا، لتقوية النص النثري، وهذا ما يشير إليه الثعالبي، (ت 429هـ) في كتابه (الاقتباس من القران الكريم)([3])

ولا يخفى ان (القران الكريم مفخرة العرب في لغته، إذ لم يُتحْ لأمة من الأمم كتاب مثله لا ديني ولا دنيوي من حيث البلاغة والتأثير في النفوس والقلوب) ([4]).

كل ذلك حدا بنقادنا إلى تأكيد أهمية المرجعية القرآنية في شحذ القريحة الفنية الكتابية، وصقلها من خلال حفظ القران الكريم وتأمّل آياته وألفاظه، فهو آلية من آليات علم البيان ([5]).

ومن ذلك ان القرآن الكريم هو فوق كلام البشر، شعراء كانوا أم كتابا، وهو أرقى نص أدبي على الإطلاق، وبذلك يستوي مصدرا يستقى منه الأدباء العرب في كل زمان ومكان، ويوظفون مضامينه وموضوعاته المختلفة، وذلك بهدف بلوغ أعمق مواطن التأثير في المتلقي، فغدا توظيفه صورة متميزة للتناسق الفني، ومظهرا من مظاهر تصوير معانيه، وهو يتطرق إلى كل علم (ان كتابنا القران لهو معجز العلوم ومنبعها ودائرة شمسها ومطلعها...، فترى كل ذي فن منه يستمد، وعليه يعتمد... ويعتبر مسالك البلاغة في صوغ الكلام) ([6]).

ان الإمام علي 7 تلميذ القرآن الذي كان مذهبه في التعليم لأنه أصل العلم وأساسه. لذا يطالعنا الإمام بثقافة واسعة تمثلت بموسوعة متكاملة بنهج البلاغة، والى هذا المعنى بالذات أشار إليه ابن أبي الحديد:- (يعد قي الذروة العليا من النثر العربي الرائع... فجرت على لسانه الخطب الرائعة... والكلمة يرسلها عفو الخاطر، والحديث يلقيه بلا تعجل ولا اعنات فيصبح مثلا، في اداء محكم، ومعنى واضح، ولفظ عذب سائغ) ([7]).

كما راح المسعودي في مروجه يوضح مدى بلوغ خطبه بقوله:-

(يوردها على البديهية) ([8]).

وهذا ما نجده حقيقة ماثلة في خطبه في النهج وهو الذي قال عن نفسه نحن أمراء الكلام([9]) ، وتتمثل ثقافة الإمام بحفظ القرآن الكريم ورواية الحديث والشعـر العربي، وكان كل ذلك منبعا ثرا لانطلاق موهبته النثرية. وهي بالتالي تفصح عن ثقافته الموسوعة في علوم ومعارف عصره، وخصوصا القران، إذ يقول:-

(ذلكَ القرآنُ فاسْتَنْطَقُوهُ، ولَنْ يَنْطِقَ، ولكنْ أُخبرُكم عَنهُ: أَلا إنّ فيه عِلمَ ما يَأْتِي، والحديث عن الماضي، ودواءَ دائِكُمْ، ونظـم ما بَيْنَكُـمْ)([10]).

لقد اتخذ الإمام القرآن الكريم شرعة ومنهاجا، مؤكدا هذا الأمر من خلال فنه الخطابي، إذ يقول:-

(تَعَلَّمُوا القُرآنَ فأَنَّه أحسنُ الحديثِ، وتَفَقَهُوا فيهِ فأِنَّهُ رَبيعُ القُلْوبِ) ([11]).

هكذا كان الإمام متوجها، نحو القران الكريم([12]). ولعلنا في الصفحات القادمة نبين شيئا ولو يسيرا عن التوظيف القرآني في فنه الخطابي بغية الوقوف على الأواصر الحقيقية بينها وبين لغة القران الكريم التي يمكن ان تكون مرجعا لغويا لخطبه.

ولعل من المفيد ونحن نتحدث عن التوظيف في بعض خطب الإمام، ان نقف عند المدلول اللغوي للفظة التوظيف، والصورة الاصطلاحية لنكون على بينة من المدلولين:

تمدنا (المعجمات) اللغوية بالمعطيات التالية:-

فجاء في لسان العرب وظف الشيء على نفسه ووظفه توظيفا: ألزمها إياه، وقد وظفت له توظيفا على الصبي كل يوم حفظ آيات من كتاب الله عز وجل ([13]).

وفي المعجم الوسيط:- (وظـف القـوم تبعهم وظف الشيء على نفسه، ألزمها إياه) ([14]).

وفي المنجد: (وظف الشيء على نفسه: ألزمها إياه. ووظف على الصبي كل يوم حفظ آيات من كتاب الله أي عين له آيات ليحفظها ووظفه: وافقه ولا زمه. استوظف الشيء: استوعبه ([15]).

ومن هذا العرض اللغوي يظهر ان معنى التوظيف هو الالتزام والحفظ والمتابعة والاستيعاب والملازمة. وفي الاصطلاح بوصفه آلية من آليات الإبداع في الحفظ والاستيعاب والملازمة. وهو مما يستعان به في بناء النصوص وإنتاجها، فقد يوظفها المبدع في مستهل نصه أو يضمه وسطه أو قد يرجئ بثه في ختامه، وفقا لإستراتيجية معينة يهدف إلى طرحها كي يصل إلى الغاية (البنائية، الدلالية) المنشودة.

ولا يختلف هذا المعنى الاصطلاحي عن المدلول اللغوي الذي استعملناه، فتلاقى المدلولان في احتوائهما على معنى الآلية التي يتوصل بها المبدع في تشكيل نصوصه الإبداعية من جهتي الرؤيا والأنساق (بنية وإيقاعا) بحسب ما هو مرسوم في القران الكريم، وتعين هذه الآلية القارئ على اكتشاف قسط من مرجعيات ذلك النص المبث المتكئ في إحدى زوايا باطنه أو ظاهره على القران لتكون هذه الآلية مفردة من مفردات النص الجديد.

المبحث الأول:    التوظيف اللفظي ([16])

تميزت اللفظة القرآنية وتفردت بخصائص ومميزات خاصة لا تتوفر في أي كلام آخر، من كلام البشر، فكل لفظة تجد فيها روحا وعذوبة([17]):- (وتجد فيها وفي كل ما يتصل بها من ألفاظ روحا وعذوبة)، فان كلام الله قد تفرد بخصائص كثيرة لا يشاركه فيها كلام البشر أي كان قائله) ([18]).

فكل لفظة في القران الكريم، لها دورها وخصوصيتها من حيث فاعلية التعبير القرآني، فهو (تعبير فني مقصود. كل لفظة بل كل حرف فيه  وضع وصفا فنيا مقصودا) ([19])

وفي النص القرآني جرس يطرق الاذان ويجعلها متأثرة:- (ومع الألفاظ المستحسنة في الاذان وعلى الأفواه، الألفاظ التي تغذي العقول برحيقها الصافي وتشفي القلوب والنفوس) ([20]).

فالمفردة القرآنية تتسم بالدقة في الوضع والاختيار والتناسق، لأنها ناطقة شكلا ومضمونا. والإمام قد وظف اللفظة القرآنية في إطار فني مواكب حتى كأنها قد ولدت معه:- (كل كلمة من كلمات الإمام هي جزء من ذاته، وطبيعته حتى كأنها قد ولدت معه، أو ولد فيها ([21]).

فالناظر في خطبه، يلحظ انه عمد إلى اللفظ القرآني الكريم في اغلب خطبه، لأنه كان على صلة كبيرة بالقران. وقد كان لهذا القران أثره البالغ في لغة الإمام، وأساليبه، ومضامين إنتاجه الأدبي. مما جعلها أفصح ألفاظا، وأسهل تركيبا، وأعذب تعبيرا، واتسعت فيها دائرة الألفاظ.

وسنورد على ذلك أمثلة من الخطب، تبين كيفية توظيف النص القرآني فيها، التي يسعى الإمام إلى التأثير في العقول من خلال اعتماده على الحجج والبراهين، ثم يتخطى ذلك ليحرك العاطفة، ويذكر بالمثل العليا من خلال استخدامه الألفاظ والتراكيب المختارة بحرية تامة، لا تقيدها قافية، ولا ترتهن لإيقاع معين بذاته إلا لماما.

ومنها لفظة (الليل والنهار)، التي وردت في خطبه (الجهـاد باب من أبـواب الجنة)، استهل الإمام خطبته بذكر الجهاد، واصفا أهميته القصوى وقيمته الفضلى التي لا تعادلها قيمة سامية اخرى، فالجهاد تضحية وفداء وبذل لأغلى ما يملكه الإنسان، وهي الروح.

ولذلك عمد إليها الإمام، ووظفها إذ يقول: " وَقَدْ دَعَوْتُكمْ إلى حَرْب هؤلاءِ القَوْمِ ليلا ونهارا " ([22]).

وهنا يوظف قوله تعالى: " قالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمي ليلا ونهارا " ([23]).

والإمام هنا يعقد موازنة بين دعوة نوح إلى عبادة الله جل شانه، وبين دعوته إلى الجهاد الذي يأمر به، ويحث عليه، ويرغب فيه، ويحذر من تركه، وما يتبعه من سوء العاقبة، وهذه الموازنة أفادها الإمام من لفظة " ليلا ونهارا " وانه تفنن في نقل غرضه إلى الآخرين واتبع كل الأساليب التي تمكنه من تصوير ماساته، وليدلك على عظم مصيبته.

ويوظف الإمام لفظة (كُنْ فَيَكُونُ) ، التي وردت في القران الكريم، في قوله تعالى: " إنَّما أَمرُهُ إذا أرادَ شيئا أنْ يَقولَ لَهُ كُنْ فَيَكونُ " ([24]).

حينما يريد ان يتحدث عن صفات الله سبحانه، فيقول:-

(يقولُ لِمَنْ أرادَ كَوْنَهُ: (كُنْ فَيَكونُ)، لا بصوتٍ يَقْرَعُ، ولا بنداءٍ يُسْمَعُ)([25]). وتوظيف الإمام هنا في باب – كُنْ فَيَكونُ – قد أراد به الإسرار ما دام يقول للشيء كن فيكون.

ومن القيم الروحية التي استلهمها الإمام من التعبير القرآني في الصياغة لفظـة

(الصلاة)، والصلاة قيمة روحية عليا تهدف إلى تهذيب النفس وتطهير القلب. ولذلك عمد إليها الإمام، ووظفها في أكثر من موضع، وأكثـر من مناسبـة خطابيـة، حيث يقول: (تَعاهدوا أمْر الصلاة، وحافظوا عَلَيْها، واسْتَكْثروا منها، وتقربُوا بها، فإِنَّها كانتْ على المؤمنينَ كِتابا موقوتا) ([26]).

وقوله أيضا:- (وقد عَرَفَ حقَّها رجالُ من المؤمنين الذين لا تشغلهم عَنْها زينة متاع، ولا قُرّة عين منْ ولدٍ ولا مالٍ)([27]).

فقد نظر في خطابه المتقدم، إلى قوله تعالى: " إنَّ الصلاةَ كانت على المؤمنينَ كتابا موقوتا " ([28]). وقوله تعالى: " رجالٌ لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة " ([29]).

لقد قرن الإمام بين أمر الصلاة والحفاظ عليها، والاستكثار منها، والتقـرب بها، والرجال الذين وجدوا حلاوة الإيمان، وعقلوا أسرارها، وعرفوا أهدافها. وما ذاك إلا انها كانت كتابا مفروضا.

ويوظف الإمام عناصر الوحدانية لامتناع الحدوث عليه توظيفا موحيا بمشاعر الشخصية الخطابية، فضلا عن إيحائه بالدلالة العامة للوحدانية لامتناع مجانسته واحتياجه إلى معين، وفنائه وتوريثه، فيقول:- (لَمْ يُولَدْ سُبحانهُ فيكون في العزِّ مشاركا، ولَمْ يَلدْ فيكون موروثا هالكا) ([30]).

والإمام قد نظر إلى قوله تعالى: " لَمْ يَلدْ ولمْ يولدْ " ([31]).

ومن الألفاظ: (الأمانة، السموات، الارضين، الجبال، أشفقن)، التي وردت في قوله تعالى: " أنا عَرَضْنا الأمانةَ على السموات والأرض والجبال فأبَيْنَ أَن يَحْملْنَها وأشْفَقْن مِنْها وحَمَلَها الإنسانُ إنَّهُ كان ظلوما جهولا)([32]).

يفيد الإمام في قوله: (ثُمَّ أداء الأمانةِ، فقد خاب مَنْ ليس من أهلها، إِنَّها عُرِضَتْ على السماوات المبنية، والارضين المَدْحُوَّة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطولَ ولا اعرضَ، ولا اعلي ولا أعظم منها. ولو اقتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عِز لاّمْتَنعْنَ، ولكن أشفقن من العقوبة، وعَقَلْنَ ما جهلَ مَنْ هو اضعف منهُنَّ، وهو الإنسانُ) ([33]).

وقد كفانا محمد جواد مغنية بالتعليق على قول الإمام بقوله: ان الله سبحانه منح الإنسان القدرة، والعقل، والإرادة، وميزه بذلك عن جميع الكائنات التي نعرفها، وأهله بهذه النعمة لتحمل المسؤولية عن دين الله الذي بينه على لسان أنبيائه ([34]).

ومن اللفظة القرآنية (صِرُّ)، التي وردت في قوله تعالى: " كَمثـلِ ريـحٍ فيها صِرُّ " ([35]). يفيد الإمام في قوله: (قُلتم: أوان قُرِّ وصِرِّ) ([36])

والإمام لم يقتصر على توظيف اللفظة القرآنية (صرُّ) على توظيفها الموضعي المحدود للتعبير عن شدة البرد، وإنما أراد أن يشير إلى ان ترك – الجهاد – والتخلي عن تأديته من المخازي، ومن الذل والهوان، وهذه الموازنة أفادها الإمام من اللفظة القرآنية (صرُّ)، إذ ان نجاح الألفاظ يعود في جزء كبير منه إلى قدرتها التي تولد المواقف المطلوبة، والإفصاح عن المعاني الدفينة التي تجول في نفس الباحث وداخل وعيه، فليست الألفاظ (هدفا لذاتها وانما هي وسيلة نتخذها للتعبير عن الدلالات والخواطر التي تجول في أذهاننا) ([37])

وعندما أراد الإمام، في باب الأمر على فعل الطاعة ان يقدم النصيحة لأبناء جنسه من البشر، لفعل الخير وخصال المعروف، أشار إليه في قوله:- " وتعاونوا على البر والتقوى، وأطيعوا الله فيما فرض عليكم وأمركم به"([38]).

وواضح انه يشير إلى قوله تعالى:- " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ([39]).

ومما لا شك فيه، ان في القران الكريم فلسفة الحث على التعاون، بوصفه قيمة اجتماعية تكفل للمجتمع سعادته، قوامها التكافل والتوازن والتعاطف، ولهذا فالقران وقف على أدق دعائم المجتمع المتكافل والمتعاون وصورها تصويرا دقيقا، ومن ذلك كله أفاد الإمام في قوله.

إلى جانب (التعاون) الألفاظ القرآنية (البر – التقوى)، نجد الألفاظ القرآنية

(التحية)، (ردوها) تأتي على لسان الإمام في شكل توظيف فني له دلالته الخاصة، فهي كثيرا ما تبدو مرتبطة بالآداب التي تزيد المحبة بين أفراد المجتمع: (افشوا السلام في العالم، وردوا التحية على أهلها بأحسن منها) ([40]). ونرى الدلالة ذاتها ممثلة في هذه الآية: " وإذا حُيّيتُمْ بتحيةٍ فحيُّوا بأحسَن منها أو رُدُوها " ([41]).

ولنا ان نقف قليلا عند صورة اللفظة القرآنية (الرياح) التي رسمها لنا الإمام في قوله عن ابتداء خلق السماء والأرض: (ونشرَ الرياحَ برحمته) ([42]). ناظرا في ذلك إلى قوله تعالى: " يُرسلُ الرياحَ بُشرا بَيْنَ يَدَيْ رحمتِهِ " ([43]).

لقد استطاع الإمام توظيف اللفظة القرآنية (الرياح)، في شكل لفظة موجبة ومعروفة بالرحمة، وهي المطر، لانها هي التي تحمل البخار، وتصعد به إلى طبقات الجو العالية الباردة، فينعقد ماء، كما هي التي تبشر قبل حدوث نعمة المطر، وهذا الاقتران أفاده الإمام في لفظة (الرياح).

ان هذا التوظيف الذي اشرنا إليه سابقا، لا يمثل إلا بنسبة يسيرة من التوظيف اللفظي الذي تغلغل في خطب الإمام. اذ ان هناك الكثير، الكثير غيره مبثوث في ثنايا الخطب.

وهكذا نلمس ان الألفاظ القرآنية التي استخلصها الإمام من ثنايا القران الكريم، قد أضفت على النص الخطابي صفاء الاسلوب، ووضوحه، وسلامة اللفظ المدعوم بقوة المعنى، مما يدل على مهارة الإمام، وقدرته في توظيف اللفظة القرآنية ذات الجزالة، وقوة الإيحاء والمتانة التي تتم على معرفته التامة بأسرار اللغة.

المبحث الثاني: التوظيف المعنوي ([44]) 

إذا كان النمط الأول من التوظيف، هو التوظيـف اللفظي، فان الإمام علـي 7، تلمس نمطا آخر، هو التوظيف بالمعنى، محاولا بذلك ان ينقل معنى النص القرآني إلى نصه الخطابي، وصولا إلى بناء النص، ووفقا لدلالة معينة يهدف إلى طرحها كي يصل إلى الغاية البنائية والدلالية، إذا ما علمنا بان هذا النمط من الإشارة القرآنية يفيد الخطيب التركيز على ما يريد قوله، وتكثيف بنائه التعبيري، ولا بد انه 7 قد اثر القوة والجمال في سطوح بيانه ورصانة حجمه وجمال عباراته وسهولتها، فضلا عن سلامة ذوقه في اختيار توظيفه وحسن تقريره المعنى في الإفهام من اقرب وجوه الكلام. فمن ذلك صفة (السماء) في إقرارها لله بالطاعة نجدها واضحة في قوله:- (ناداها بعد إذ هي دخان) ([45]). يرجعنا هذا التوظيف المعنوي الى النص القرآني الذي جاء فيه: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " ([46])

إذ شكل لنا هذا التوظيف وحدة دلالية وثيقة تربط الخطيب بالمدلول القرآني، بصورة يرسم أجزاءها الخط المعنوي الموصل الى ان مادة الكواكب كانت في البدء أشبه بالدخان، أو البخار. ويشير بهذا إلى قدرة الله تعالى.

وكذا بذر الإمام التوظيفة القرآنية التي أحلها في قوله:- (وفتق بعد الارتناق صوامت أبوابها) ([47]).

إشارة إلى قوله تعالى: " أنَّ السمواتِ والأرض كانتا رتْقا ففتقنهما " ([48]).

إذ اهتمل هذه التوظيفة في وصف القدرة الإلهية، ففتق سبحانـه السماء بالمطـر، والأرض بالنبات لتكون لهذه التوظيفة معنى وفقا بدلالة النص القرآني.

وقوله 7: (وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام)([49])

ان التوظيف المعنوي قد جاء واضحا في هذه الفقرة بحيث لا تستلزم من الباحث جهدا لمعرفة ما جاء به القران الكريم: " وللهِ على الناسِ حجُّ البيت مَنْ استطاع اليه سبيلا " ([50]).

إذ حدد الإمام بتوظيفة من خلال المعنى، والذي جسد انتمائه لاستناده إلى نص قراني. وبذا يكون للتوظيف هذا مدلول ديني اريد به التشريعات السماوية التي أنزلت، لكن الإمام لم يطرح هذا العنوان للدلالة على المعنى القرآني فحسب، بل اكسبه دلالة اخرى، قوامها (الفرض).

وبين الرصد من النفس، والعيون من الجوارح، يشير الامام 7 الى الآية القرآنية، التي تؤكد شهادة الجوارح، إذ يقول: (ان عليكم رصدا من أنفسكم، وعيونا من جوارحكم) ([51])، توظيفا مع قوله تعالى: " يوم تشهد عليهم السنتهم وايديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " ([52]).

وبعد ان استقام له عود البث التوظيفي، بان اقتنع السامع بالاسترسال نفسيا، اتجه صوب الرصد من الانفس: (عليكم رصدا من انفسكم) إشارة إلى ان الله لا تخفى عليه خافية ليرسم نصا مترابط الانساق وفقا لتوظيفة قرآنية خصها بنصه هذا، والى جانب ذلك، ترى تعيين الآمال، إذ يقول الإمام: (ووقت لكم الامال) ([53])، وفيها توظيف لمعنى قوله تعالى: " ولكل امة اجل فازا جاء اجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون " ([54])، فيكون هذا التوظيف ذات فحوى قدسية لاستناده إلى المعنى القرآني بالوقت المعين للأجل التي ترجع رؤى النص وأنساقه صوب مضامين القران الكريم.

وقوله كذلك: (وأحاط بكم الإحصاء) ([55])، الذي يرجع اثيله إلى قوله تعالى " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" ([56])، بوصفه بينة توظيفية اهتملها في بناء نصه من المعنى القرآني لنيل دلالة (الإحصاء).

وقال أيضا: (وخشعت الأصوات مهينمة) ([57])، ففي قوله يتاح المجال لمعنى التعبير القرآني ان يظهر بوضوح اذ وظف المعنى من قوله تعالى: " وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " ([58])، أي سكنت لعظمته، وذلت متخافته.

كما يظهر الأثر التوظيفي بفاعلية المعنى القرآني في قوله 7:

 (ومبعوثون افرادا) ([59])، وقد استقى هذا المعنى من قوله تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة"([60]).

لذا استثمر الإمام الوجه المقابل لما جاءت به الآية الكريمة، إنهم منفردون عن الأهل والمال والولد والخدم والأعوان.

وهكذا يطول بنا الأمر لو ذهبنا نتقصى التوظيف المعنوي في خطب الإمام، ولكنا نكتفي ببعض ملامح يسيرة من صورة، ونرى ان في كل ما أسلفناه نستطيع ان نلاحظ دقة التوظيف واختيار اللفظة مع تركيز على المعنى فكل فقرة تؤدي معنى توظيفي لا يتكرر، وان كان كل معنى يتصل بسابقه، كما نجد في توظيفه أفكارا مرتبة، ومنتقاة وقوية الدلالة على المعنى.

المبحث الثالث: التوظيف العلمي

البيئة التي نزل بها القران الكريم، وهي بيئة شبه جزيرة العرب، كانت في قمة التخلف العلمي والديني والحضاري، فجاء القران يحمل مبادئ وأفكارا فاقت كل تلك الأفكار المطروحة، وظل يتحدى حتى العصر الحاضر كل الاطروحات الأرضية في كل جوانبها.

وإعجاز القران لم يقتصر على الإعجاز البلاغي، بل هناك أقسام اخرى من الإعجاز كالإعجاز بالأخبار بالمغيبات، والإعجاز التشريعي الشمولي، والإعجاز العـددي، ومنها الإعجاز العلمي موضوع البحث. وللإعجاز العلمي في القرآن ليس لان القرآن ذكر حقائق علمية سبق بها الكشوفات الحديثة فحسب، وإنما مجرد خلو القرآن من أي خطأ علمي أو غيره يدل على إعجازه لأنه نزل في زمن يتخلف كثيرا من الناحية الثقافية والعلمية بمختلف جوانب الحياة. ولا يمكن ان يكون هذا الإعجاز مصادفة وبدون هدف، لذلك تضمن الكثير من المعلومات العلمية التي بعضها يتعلق بخلق الإنسان وطبيعة تكوينه من مادة وروح، وبعضها عن الفضاء والسموات والأرض والكواكب والنبات والحيوان، ليثبت من خلاله، ما يريد ان يبلغه للناس من حقائق جلاها متعلقة بالإعجاز الإلهي، وحقائق علمية يريد الإنسان ان يعلمها.

لذا ما جاء به القرآن الكريم من علوم، تحمل في طياتها من أخبار علمية، التي لولا علمية القرآن، لما عرفنا شيئا عنها. قال تعالى: " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا " ([61]). وقال تعالى: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " ([62]).

والى هذا المعنى أشار الإمام 7 بقوله: (إن فيه علم ما يأتي) ([63]). تلك الحقائق العلمية التي اخبر القرآن عن كثير منها قبل وقوعها، وحدوثها، عرضها الإمام بأسلوب علمي مشوق، يخاطب العقل ويناجي الفكر ويشرح الحقائق العلمية التي لا تخلو من غموض وخفاء حاول الإمام أن يوظف بعضا منها متخذا من حقائقها العلمية الحكمة والموعظة الحسنة.

أولا – السمع والبصر:-

من نعم الله على عباده التي لا يبلغها الإحصاء، السمع والبصر الذي عرضها الخالق في آيات عدة من القران الكريم، ومن هذا يفيد الإمام، اذ يقول:- (جعل لكم أسماعا لتعي ما عناها، وأبصارا لتجلو عن عشاها)([64])، لذا قدم الإمام السمع على البصر تبعا للقرآن الكريم حيث ذكر السمع أولا في العديد من الآيات ومنها:- " وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " ([65]).

وهنا نلاحظ إجمالا ما ذكره علماء التشريح بان جهاز السمع أرهف، وأدق من جهاز البصر، فهو يدرك المجردات، وقد أجمله الإمام في توظيفه للآية، وكان توظيف الآية جاء مرسلا لدى الإمام لا سيما وانه إمام البلاغة والفصاحة العربية.

ثانيا: ابتداء خلق السماء:-

ويفيد الإمام من جزء آخر من الإعجاز القرآني، وهو يتحدث عن ابتداء خلق السماء، إذ يقول: (ثم زينها بزينة الكواكب)([66]). فالتوظيف هنا منظور فيه إلى قوله تعالى: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) ([67]). لقد أفاد الإمام من هذه الآية في باب الإعجاز العلمي في القرآن، إذ ان (الهاء) في زينها تعود إلى السماء الدنيا كما هو في الآية الكريمة. لذلك قال الإمام هذه الفقرة موظفا هذا الجزء العلمي وحكايته ذلك (ان الكواكب لا تشتعل ولا تتوهج وإنما تنير وتعكس ما يسقط عليها من نور النجوم)([68]). والتوظيف هنا الغرض منه لفت نظر المخلوق إلى قدرة الخالق.

وقوله 7: (فسوى منه سبع سماوات) ([69]). وهذا ما يشير اله القران الكريم في قوله تعالى: " الله الذي خلق سبع سموات " ([70])، فنلاحظ هذا من التوظيف القرآني الذي يواكب الآيات العلمية التي تتحدث عن خلق السماوات، وكأن الآية تريد ان تقول: (ان ذكر السبع لا يفيد الحصر بها، وإنما خصها الوحي بالذكر لان الذين خوطبوا بالقرآن آنذاك كان يسمعون عن الأفلاك السبعة، وكواكبها دون غيرها) ([71]).

ثالثا: خلق الإنسان:

ونرى اهتمام الإمام بخلق الإنسان وهو يشير إلى ان الناس في الخلق سواء، لا فضل لابيض على اسود، وان يعتبروا بقدرة الله التي خلقت من المادة الصمأ إنسانا عاقلا فيقول:-

(وسنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت)([72])، وهو بهذا ينظر إلى قوله تعالى: " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين " ([73]). وقوله جل ذكره:

" من طين لازب " ([74]).

ومثل هذا التوظيف يمنحنا الاستدلال والاستقراء لنصل إلى استنتاج علمي يرتكز على النص القرآني مفاده (ان القرآن يعلن بان الإنسان مخلوق من تراب، ومحتويات التراب بعد تحليله العلمي حديثا تبين انه يتألف من ستة عشر عنصرا،... وتحليل جسم الإنس علميا يتكون من نفس العناصر الستة عشر التي يتكون منها التراب) ([75])

رابعا: رفع اجرام الكواكب:

لقد عرض علينا الخالق عز وجل، رفع السماوات بغير عمد، في آيات عدة من القران الكريم، وهذا العرض من الإعجاز القرآني الذي يواكب الآيات العلمية التي تتحدث عن الطبيعة وأسرارها، ومن هذا يفيد الإمام، اذ يقول (وسمكا مرفوعا)([76])     ، فقوله هذا اخذه من قوله تعالى " رفع سمكها فسواها " ([77])، أي رفع اجرام الكواكب فوق رؤوسنا فعد لها بوضع كل جرم في موضعه الذي به يتماسك ويتجاذب مع غيره من الاجرام.

وهذا التوظيف حدث فيه نقل المعنى العلمي من حالة خاصة بالله جل جلاله إلى حالة علمية اخرى خاصة بشخص الإمام (وفي نفس الوقت فهمها جيل عصر الكشوفات العلمية، كل جيل بما يتلاءم والشوط العلمي الذي ارتقى اليه) ([78])

خامسا: صورة الإنسان:

تعد صورة ادم من أكثر الصور تكرارا في القرآن الكريم. وفائدة التكرار انه يؤدي عادة إلى استقراء الآراء والأفكار وتثبيتها في أذهان الناس ولهذا نجد تكرارا لصورة خلق ادم في القرآن كي يثبت في الأذهان حقيقة، ان ادم خلق من التراب.

وقد وظف الإمام هذه الحقيقة في قوله:-

(فجبل منها صورة ذات احناء، ووصول، واعضاء، وفضول) ([79])، وهو بهذا ينظر إلى قوله تعالى: " وصوركم فأحسن صوركم " ([80]). فالإمام يشير إلى ضمير منها يعود الى التربة، والمراد بالصورة صورة ادم. وفي جسم الإنسان أجزاء كالرأس، واليدين، والصدر، والرجلين واليها اوما بكلمته أعضاء، وفيه أضلاع، واليها أشار بالاحناء، وفيه مفاصل، وهي ملتقى العظام، ولولاها لعجز الكانسان عن الحركة، وقد عبر الإمام عنها بالفصول، وفيه عصب يشد الأعضاء بعضها إلى بعض، وهي المقصود من كلمة وصول من الوصول ([81]).

ففي الآية صورة ادم وظفها الإمام في التعبير عن الانسجام التام بين اللفظ القرآني والحقيقة التي تقول ان جسم الإنسان يتكون من العناصر الفلزيــة واللافلزية و: (تحليل جسم الإنسان علميا يتكون من نفس العناصر الستة عشر التي يتكون منها التراب) ([82]).

والإمام في توظيفه هذا أراد ان يبين الدلالة القرآنية التي تربط بذهن الإنسان من خلال تكوينات صور خاصة لتكون ابلغ تأثيرا في نفسه واشد وقعا لتصنع تذكيرا جميلا يشكل وحدة لغوية متكاملة.

من خلال ما تقدم تبين لنا ان الإمام تمكن من عرض هذه العلوم بأسلوب أدبي رقيق وهذا ما نجده حقيقة ماثلة في خطبه. حيث سرد لنا أدق المسائل العلمية بطريقة بليغة تبهج النفس وتريح العقل.

المبحث الرابع: توظيف الرسل والأنبياء:

ان الغاية الأساسية من بعثة الأنبياء هي هداية الإنسان وتوجيهه وتعليمه، لذلك تعد في جوهرها وساطة بين الخالق والمخلوق وهدفها كما قلنا هداية الخلـق الى الحـق.

وذكر الكثير من أخبار الأنبياء والرسل يحمل في طياته دلالة مؤثرة، لما تثيره من التشويق لدى المتلقين، ولما تستدعيه من الانتباه الى تتبع أخبار الأنبياء، قال تعالى: " لقد كان لكم فيهم اسوة حسنة " ([83]). وقال تعالى: " قد كانت لكم اسوة حسنة في إبراهيم " ([84])، والقدوة تلك الحسنة الرائعة عرضها الإمام بأسلوب رائع، الذي له دلالته في النص النثري من اجل إحداث التأثير في المتلقي، وتوجيه تركيزه نحو الخير. ولو حاولنا ان نتلمس توظيف هذه القدوة في بعض خطب الإمام، لوجدنا نماذج كثيرة تشتمل على بعث الرسل والأنبياء، استعملها الإمام في خطبه، فمنها قولـه: (فبعث فيهم رسلهم) ([85]).

وهو في هذا ينظر إلى قوله تعالى: " رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة) ([86]).

لقد اتخذ من الرسل، قدوة يتمثلها في قوله، مفيدا من الدور الفاعل للمفردة القرآنية في السياق الخطابي، وما تحمله من طاقة دلالية مؤثرة في نفس المستقبل.

كما نلاحظ سمو التوظيف في قوله: (لقد كان في رسول الله – ص- كاف لك في الاسوة، ودليل لك على ذم الدنيا).([87]). موظفا قوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة " ([88]). وغاية ذلك تحقيق التأثير المطلوب وجدانيا وعقليا في عامة الناس وخاصتهم، فضلا عن احتواء روحية المتلقي ومشاعره من خلال مرتكزات قرآنية.

وقوله: (وان شئت ثنيـت بموسى كليــم الله.... والله، ما ساله الا خبزا يأكله...) ([89]).

وكأنه أراد ان يتمثل بقوله تعالى: " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " ([90]). وقوله أيضا: (ان شئت ثلثت بداود صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائق الخوص بيده...) ([91]). وقوله أيضا: (وان شئت قلت في عيسى بن مريم لقد كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن ([92]).

ويبدو ان هذا الاستخدام كان له ابعاد القدوة الحسنة يدركها السامع من السياق وقرائن الأحوال التي تتمثل بالاقتداء.

وقد هدف هذا التوظيف إلى تحريك وجدان الإنسان لملامسة عالم الفضيلة والكمال وتحري السلوك الأفضل في سيرته الحياتية قولا وممارسة وتذكيرا.

وفيما يأتي جدول بمواضع التوظيف في خطب الإمام علي7

ولو أردنا أن نأتي ببعض ما قيل عن توظيف في خطب الإمام لطال بنا المقام، وحسبنا ما ذكرناه شهادة وبرهانا([93])

الخاتمة:

بعد الانتهاء من بحثنا لاحت لنا بعض النتائج التي توصلنا إليها، فضلا عما تم طرحه ومناقشته كلا في موضعه وذلك من خلال ما يأتي:

أولا: استطاع الإمام 7 أن يقيم في هذا التوظيف مرجعية ثنائية مفادها الانتماء للموروث القرآني والانتماء اللغوي، لينتج من خلالها وحدة لغوية قوامها القرآن والدين واللغة.

ثانيا: كان الإمام 7 واسع الثقافة ومن جوانب تلك السعة الثقافية الجانب القرآني.

ثالثا: في تتبعنا لفنه الخطابي وجدنا ان التوظيف خلاصة تأمل في الذات ونوع من أنواع الذوبان في ذات الله وان هذا التوظيف وليد النضوج الفكري والتأثر بالنصوص القرآنية وجذور النشأة الأولى.

رابعا: تنوع التوظيف القرآني في الخطب على مستوى البناء، فمنها التوظيف اللفظي، ومنها المعنوي، والعلمي، والرسل والأنبياء، مما يشير إلى إمكانيات فنية للإمام في اهتمال تلك القرآنية في تصوير التوظيف.

خامسا: كان التوظيف في خطب الإمام 7 واضحا بسيطا ليس فيه غموض او تعقيد كشف عن استثمار امثل من لدن الإمام للمفردة القرآنية.

سادسا: تمكن الإمام 7 من عرض بعض العلوم من خلال التوظيف العلمي بأسلوب أدبي رقيق وهذا ما وجدناه حقيقة ماثلة في خطبه، حيث سرد لنا أدق المسائل العلمية بطريقة بليغة تبهج النفس وتريح العقل.

سابعا: في تتبعنا لفنه الخطابي وجدنا مصداقا لتأكيد أهمية المفردة القرآنية وصقلها من خلال القرآن، فضلا عن السمة التعبيرية التي تنفرد بها المفردة القرآنية وما تؤديه من انسجام موسيقي يراعى فيها الدلالات الفنية واللغوية والاجتماعية والنفسية.

ثامنا: دقة التوظيف واختيار اللفضة مع تركيزه على المعنى فكل فقرة تؤدي معنى توظيفي لا يتكرر، وان كان كل معنى يتصل بسابقه، كما نجد في توظيفه أفكارا مرتبـة، ومنتقاة وقوية الدلالة على المعنى.

تاسعا: ظهر ان غاية الإمام وهدفه من هذا التوظيف تحريك وجدان الإنسان لملامسة عالم الفضيلة والكمال وتحري السلوك الأفضل في سيرتـه الحياتيـة قولا وممارسـة وتذكير.

عاشرا: التوظيف يعد أنموذجا للنثر الأدبي بكل خصائصه وسماته الفنية، من التأنق في الصياغة، والاعتماد على التصوير، وقوة التأثير الوجداني.

وأخيرا، نحمد الله على حسن معونته لإتمام هذا البحث، الذي قصدنا به القربة منه، وإظهارا لمهارات وقدرات الإمام في توظيف اللفظة القرآنية، الذي غيبته الأيام عن ذاكرة البحث والدراسة، فوجدنا أنفسنا مدينين له بالوفاء وحسن الذكر، سائلين الله ان يوفقنا لخدمة القران الكريم، انه سميع الدعاء.

المصادر والمراجع

• القران الكريم.
• الإتقان في علوم القران، جلال الدين السيوطي (ت911هـ) المكتبة الثقافية، بيروت، 1973م.
• اسمى المطالب في سيرة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (شخصيته وعصره) د. علي محمد الصلابي، دار الايمان للطبع والنشر، الاسكندرية 2003م.
• الإعجاز العلمي في القران الكريم، د. حميد النجدي، دار الانصار، ايران، ط2، 2007م.
• إعجاز القران، (الباقلاني) (ابو بكر محمد بن الطيب، ت403هـ / تحقيق احمد صقر، دار المعارف، بمصر (د.ت).
• أنوار الربيع في انوار البديع / ابن معصوم المدني، تحقيق شاكر هادي، مطبعة النجف – 1969.
• البديع / ابن المعتز (296هـ) نشر وتعليق كرتشفوفسكي (د.ت)
• البرهان في علوم القران، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط2، 1972م.
• تاريخ الأدب العربي، العصر الإسلامي، د. شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، ط4، د. ت.
• التعبير القرآني، د. فاضل صالح السامرائي، جامعة بغداد، 1987 م.
• جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع: السيد احمد الهاشمي، دار احياء التراث العربي، بيروت (د.ت).
• التوظيف الفني للطبيعة في أدب نجيب محفوظ، د. صالح هويدي، طبع بمطابع دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1992م.
• شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، مصر، ط2 ن 1965م.
• طرق تنمية الالفاظ / د. ابراهيم انيس، النهضة الجديدة، القاهرة، 1976م.
• في ظلال نهج البلاغة للشيخ محمد جواد مغنية، دار العلم للملايين، بيروت،ط2، 1978 م.
• قصص الأنبياء لأبي الفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار التأليف، مصر،ط1، 1968م.
• الكامل في اللغة والأدب للمبرد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1999م.
• لسان العرب / ابن منظور (711هـ) بيروت، دار الفكر، لبنان / ط1 – 1988م.
• المثل السائر، ابن الأثير، تحقيق: احمد محمد الحوفي، مطبعة نهضة مصر، القاهرة، د. ت.
• مروج الذهب، المسعودي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
• المعجم الوسيط / مراجعة الاستاذ عبد السلام هارون / لجنة من علماء اللغة بمجمع اللغة العربية / القاهرة / دار المعارف، 1973م.
• المفردات في غريب القران، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1423هـ.