تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 426
إلى صفحة: 435
النص الكامل للبحث: PDF icon 6-21.pdf
خلاصة البحث:

من الكتب التي أثارت النقاش , و أورثت الجدل , هو كتاب الفلاحة النبطية , لأبن وحشية, حتى وجدنا من يقول: إن ابن وحشية مزيفاً للكتاب , يسعى من وراء تزيفه اختلاق تفوق للنبط الكلدان على العرب الفاتحين , غير أن ما قدمه كتاب الفلاحة النبطية في علوم الزراعة و النبات , للعرب و المسلمين مما لا ينكره احد. خصوصاً وإنه يعد الكتاب الأول في نوعه الذي ترجم إلى اللغة العربية من اللسان السرياني , و قد تناولنا في بحثنا هذا الموضوع في عدة مباحث. فكان المبحث الأول ينصب على حياة أبن وحشية و التعريف به , و تناول المبحث الثاني: التعريف بكتاب الفلاحة النبطية و استعراض الأقوال و الأفكار التي تدور حول الكتاب. و في مبحث أخر مستقل أفردنا للغرض أو الغاية من ترجمة الكتاب حقلاً تناول ابرز ما قيل في ذلك الموضوع , ثم جاء المبحث التالي ليبين بعض النصوص المنتزعة من الفلاحة النبطية , تحليلاً لها و استخراجاً لأبرز مضامينها.

البحث:

 

المقدمة

من الكتب التي أثارت النقاش , و أورثت الجدل , هو كتاب الفلاحة النبطية , لأبن وحشية, حتى وجدنا من يقول: إن ابن وحشية مزيفاً للكتاب , يسعى من وراء تزيفه اختلاق تفوق للنبط الكلدان على العرب الفاتحين , غير أن ما قدمه كتاب الفلاحة النبطية في علوم الزراعة و النبات , للعرب و المسلمين مما لا ينكره احد. خصوصاً وإنه يعد الكتاب الأول في نوعه الذي ترجم إلى اللغة العربية من اللسان السرياني , و قد تناولنا في بحثنا هذا الموضوع في عدة مباحث. فكان المبحث الأول ينصب على حياة أبن وحشية و التعريف به , و تناول المبحث الثاني: التعريف بكتاب الفلاحة النبطية و استعراض الأقوال و الأفكار التي تدور حول الكتاب. و في مبحث أخر مستقل أفردنا للغرض أو الغاية من ترجمة الكتاب حقلاً تناول ابرز ما قيل في ذلك الموضوع , ثم جاء المبحث التالي ليبين بعض النصوص المنتزعة من الفلاحة النبطية , تحليلاً لها و استخراجاً لأبرز مضامينها.

و قد انصب مبحثنا على الجزء الأول للكتاب دون سواه لان هذا الجزء جاءت فيهِ أهم الأفكار الفلسفية و العقائد التي اهتم فيها بحثنا دون سواه من الأفكار التي تتعلق بعلم النبات و طرق الزراعة و الجني و غيرها، والله من وراء القصد...

المبحث الأول: التعريف بابن وحشيه:

ذكر صاحب كتاب الفهرست أن ابن وحشيه هو ( أبو بكر احمد بن علي بن قيس بن المختار بن عبد الكريم بن حرثيا بن بدنيا ابن بوراطياً الكرداني , من أهل جنبلاء , و قسين , أحد فصحاء النبط بلغه الكسدانيين )(1). و الكسدانيون هم النبط الكلدانيون من أهل بابل القدماء. إن معنى كسداني كما ذكر أبن نديم هو ( نبطي , و هم سكان الأرض الأولى ) (2). و قد ذكر له ابن النديم عدداً من الكتب , تتعلق بالسحر و الشعبذه , و كتب الصنعة ( الكيمياء ) فذكر منها ( كتاب الأصول الصغير.., كتاب المدرجة, كتاب المذكرات ) (3). ثم أضاف في موقع أخر من الفهرست: كتاب الفلاحة الكبير و الصغير )(4). و كتاب الفلاحة الكبير المذكور هاهنا المقصود به الفلاحة النبطية.

ونجد من المعاصرين الدكتور عمر رضا كحاله , قد خص أبن وحشية بقوله انه (( أبو بكر احمد بن علي المعروف بابن وحشيه " المتوفى سنة 296هـ" , له من الكتب في صناعة الكيمياء , كتاب الأصول الكبير , و كتاب الأصول الصغير , كتاب المدرجة , كتاب المذاكرة , و كتاب يحوي على عشرين كتاباً في الكيمياء. و كان ابن وحشيه طبيبا للعيون ))(5). وواضح أن عمر رضا كحاله يتابع ما ورد عند ابن النديم.

كما جاء ذكر ابن وحشيه في معجم المؤلفين لنفس المؤلف , كحاله , فأثبت ما نصه: (( احمد ابن وحشيه...عالم بالفلاحة , و الكيمياء , و السحر و السموم , و غير ذلك , له من الكتب: السحر و الطلسمات , كتاب السحر الكبير , نزهة الأحداق في ترتيب الاوفاق , و كتاب الفلاحة )) (6).

و أما الدكتور ياسين خليل فإنه ذكر ابن وحشيه , بقوله (( عاش في العراق – " أوائل القرن العاشر الميلادي " مؤلف كان يعتز بأصله الكلداني أو النبطي , فكتب مؤلفاً كبيراً في الفلاحة أسماه: الفلاحة النبطية , لان اسم النبطيين يشير بين العرب فيما يظهر إلى الكلدانيين الأقدمين أو إلى الثقافة التي و رثها العرب عن الأمة النبطية التي كانت مدينة – بيترا – عاصمة لها ))(7).

و كانت " فون جود شمت " الذي جاء ذكره في مقدمة الفلاحة النبطية , يقول عن ابن وحشيه انه (( ينتمي على نحو ما إلى أتباع الديانة الوثنية القديمة التي استمرت في حران...مدة قرنين أو ثلاثة قرون بعد ظهور الإسلام ,التي زعم أصحابها إنهم الصابئة الذين منحوا في القران الكريم حق التسامح الديني على اعتبار أنهم من أهل الكتاب ))(8).

مما تقدم يكون ابن وحشية من رجال القرن الرابع الهجري و هو القرن الذي بلغت فيه الحضارة العربية الإسلامية النضج , تمثل ذلك بانفتاح الوعي العربي الإسلامي على نتائج الأمم المساهمة في صنع الحضارة , ومنها حضارة النبط الكلدانيين , و التي ورث العرب المسلمون ديارهم وتراثهم , فلم تقف حواجز اللغة مانعاً بل راحت أجيال متعاقبة في ترجمة و استلهام تراث اليونان و الهند وفارس ومصر , وكان ابن وحشية قد أدلى هو الأخر بدلوه – في محاولة منه – لآلفات النظر إلى أهمية تراث النبط الكلدانيين في أغناء الحضارة العربية الإسلامية , ورفدها برافد ثقافي جديد.

المبحث الثاني: كتاب الفلاحة النبطية

يرى فؤاد سزكين في المقدمة التي صدر بها كتاب الفلاحة النبطية إنه (( من الكتب المزيفة التي كانت قبيل الإسلام وفي صدر الإسلام في منطقة البحر الأبيض المتوسط , وكان معظمها مكتوباً بالإغريقية. أما الفلاحة النبطية فقد كان مكتوباً باللغة السريانية , وترجمة أبن وحشية معتقداً إنه كتاب قديم العهد )) (9).

وهنا نجد إن فؤاد سزكين يتابع ما ذكره ( جود شمت ) (10). و الذي يرى إن الفلاحة النبطية يحتوي على عناصر من الدين المسيحي , و عليه استنتج إنه لابد أن يكون منتحلاً أو مزيفاً , ثم ما لبث جود شمت أن ارتكب خطئاً بزعمه: إن ابن وحشيه هو مؤلف الكتاب وليس مترجمه.

ولو كان أبو بكر بن وحشيه مزيفاً للكتاب لكان جديراً به أن يدعي ذلك الكتاب لنفسه لا أن ينسبه لغيره من النبط القدماء. والفلاحة النبطية يحتوي على كثير من العناصر والمؤثرات التي كانت شائعة في حوض الأبيض المتوسط , و التي اشتركت ثقافات متعددة في أنتاجها– هذا أمر جلي في الكتاب ولا يحتاج إثباته إلى جهد كبير – ولكن مما لاشك فيه , احتوائه على مضامين وعقائد تؤكد انتمائه في بعض جوانبه إلى حضارة النبط الكلدانيين: مثل تعظيم هؤلاء الناس للكوكب و الشمس , وأيمانهم المفرط بأثر هذه الكواكب على مصائر البشر , و غير ذلك مما يجهد حصره في هذا البحث.

وكان أول كتاب عرفه العرب في الفلاحة هو كتاب أبن وحشيه انف الذكر , وقد ترجم العرب إضافة إلى ذلك كتاب (( الفلاحة الرومية أو الفلاحة اليونانية الذي يعود أصله إلى القرن الرابع الميلادي , فكتب أناضول البيروتي مدوناً في الفلاحة ينقسم إلى أثني عشر كتاباً....وتزود أناضول البيروتي بمعلومات كثيرة في العلم الفلاحي و الزراعي في بلاد الكلدانيين و الآراميين )) (11). وترجم سير جودي ريساينا (ت531م) كتاب أناضول البيروتي إلى اللغة السريانية (( إذ ترجم إلى اللغة السريانية عدة مؤلفات علمية يونانية , و بعد ذلك قام المسيحي قسطا بن لوقا (ت912م) بنقل تلك الترجمة من السريانية إلى العربية )) (12).

وكان الدكتور إسماعيل مظهر قد أكد إن ( تنكلوشا القوفاني ) يرد مؤلف أبن وحشية إلى (( حكماء أهل بابل الأوائل ودعاهم بأسماء غريبة مثل أرميسيا و برهماينا الخسراوني , فلا ريب أن هذا الكتاب هو المذكور في الفلاحة النبطية... وأن أبن وحشيه ترجمه من لسان الكسدانيين أو النبطية – البابلية القديمة إلى العربية سنة (291هـ-904م) وأملاه سنة ( 318هـ - 930 م )على تلميذه طالب احمد بن الحسين بن علي بن احمد الزيات )) (13).

وتنكلوشا المشار إليه فيما سبق هو: (( تينكلوش البابلي , وربما قيل تنكلوشا , والأول أصح. هذا أحد السبعة العلماء الذين رد أليهم الضحاك البيوت السبعة التي بنيت على أسماء الكواكب السبعة )(14). وذلك حسب رواية: أبن القفطي في تاريخ الحكماء.

ومما جاء ذكره في كتاب تراث الإسلام " لبوزروث ", أن مؤلف الفلاحة النبطية مجهول في حين عد أبن وحشيه مزيف له فذكر: (( هذا الزيف هو أبن وحشيه الذي عاش حوالي سنة " 287-900م " وقد أشتهر كجامع وشارح للمؤلفات القديمة في العلوم القديمة ,وبأنه مترجم لكتاب أحكام النجوم لمؤلف يعرف باسم (تانكلوشا) وأشتهر كذلك ناقلاً لكتابات بابلية قديمة مزعومة أشهرها الكتاب المعروف باسم الفلاحة النبطية ))(15).

وعلى كل حال – يمكن اعتبار كتاب الفلاحة النبطية:(( من أقدم كتب النبات و الزراعة المكتوبة باللغة العربية , أعتمد عليه الكثيرون بعده ممن كتبوا في هذا العلم. وقد شرح فيه مؤلفه – على مدار ثلاث عشر باباً – العلوم الزراعية و النباتية المختلفة , من علوم التربة و الري و أنواع المحاصيل و طرق الانتفاع بها و المحافظة عليها من الأفات))(16). كما إنه يحتوي خليط من الأفكار الفلسفية والتصورات والعقائد وعلى أرثٍ من ثقافات حوض الأبيض المتوسط من مسيحية و يونانية وعراقية قديمة.

وكتاب ابن وحشيه يقع في ثلاث مجلدات رئيسية. تضمن المجلد الأول منها (( كيفية استنباط الماء و حفر الآبار و غرس الأشجار وعلاجها. واشتمل الثاني على بعض الحاصلات كالأرز و الحنطة و الباقلاء وغيرها. ثم تناول في الجزء الثالث: الكروم و زراعتها وآفاتها و قد أفسح مجالاً واسعاً لكيفية عمل البيادر وخزن الحنطة , وآفات الزرع ومعرفة الأهوية...و يتفق ابن وحشيه في كثير من مواضع الكتاب مع أصول العلم الحديث في مجال النبات و الزراعة )) (17).

وفي هذا الموضع لا يفوتنا أن نذكر ما قاله ابن وحشيه حين نقل الكتاب عن السريانية القديمة (لغة النبط): إن مؤلف الكتاب هو (( " قوثامي" الذي أكمل به كتاب سلفه ( ينبو شاد) الذي بدوره أتبع (ضغريث) فأضاف إلى كتابه أشياءً مما استنبطه ))(18).

إن أحداً لا يستطيع أن يقطع بالزمن الذي عاش فيه هؤلاء , و لكن ما يبدو أنهم جزء من ثقافة حضارة اندثرت قوامها ارث يمتد الآف السنين في حياة الكلدان البابليين...

المبحث الثالث: غرض الفلاحة النبطية

يقول ابن وحشيه (( إن قصدي الأول و غرضي إنما هو إيصال علوم هؤلاء القوم النبط الكسدانيين غالى الناس و بثها فيهم ليعرفوا مقدار عقولهم ونعم الله تبارك و تعالى عندهم في إدراك العلوم الغامضة و استنباط ما عجز غيرهم من الأمم وذلك إني وصلت إلى كتبهم في زمان قد درس فيه ذكرهم و انمحت أخبارهم و عدمت أعلامهم...وذكر بعض علومهم ذكر كالخرافات))(19).

فالهدف من ترجمة الكتاب إذن إحياء ما اندثر من حضارة الأمة الكلدانية العريقة , وتبيان فضلها على الناس , وإظهار أسبقيتها في مضمار العلوم النافعة. وفي الحقيقة لا أثر نراهُ لشعوبية أو تطرف معادي للإسلام في جهد ابن وحشيه إذ أردنا الأنصاف. وقد ذهب البعض ونخص منهم (بزورث) والذي ذكر أن (( أبن وحشيه قد كان قريباً من حركة الشعوبية في العراق , كان يأمل عن طريق كتاباته القديمة المخترعة أن يثبت تفوق البابليين وهم فيما يزعم أجداد قومه النبط , على العرب الفاتحين الذين كانوا فيما يعتقد أقل ثقافة )) (20). و سواء أصاب بزورث أم أخطأ فيما ذهب أليه , فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر اليوم على الحضارة البابلية مجدها الغابر أو أن يتنكر لماضيها التليد.

إن عمل أبن وحشيه مكمل لحركة الترجمة والتأليف ومعاصر لها , فهو استجابة منطقية لروح العصر , ورغبة مخلصة في ترجمة كتب الأمم السبّاقة في العلوم و المعارف , يحدوها شغف في حب المعرفة انشغل بها العقل العربي الإسلامي منذ أوائل القرن الثاني الهجري – على أقل تقدير – و بلغت أوجهها في القرن الرابع الهجري , وبالتالي لا يمكن النظر إلى ميلاد الفلاحة النبطية خارجاً عن هذا الرحم.

إن مساهمة كتب ابن وحشيه في أغناء تراث العرب الإسلامي كبير للغاية , فإضافة إلى كون الفلاحة النبطية الأول في نوعه بين المسلمين , في مبادين علم النبات والزراعة , فإن عموم أعمال ابن وحشيه الأخرى: (( تعين على فهم بعض الاصطلاحات العلمية التي كانت متداولة في كتب الكيمياء.... ومثال ذلك أنه (وردّ) في هذه الكتب للزئبق ما لا يقل عن عشرين أسماً منها عطارد , والعبد , وروح الأجساد , وماء الحياة , و الهواء المتجسد ,وهرمس ,.....كما يرد للكبريت ما لا يقل عن عشرة أسماء منها النقي , والواقد , والمحرق , والصابغ ))(21).

ولعلنا ندرك الآن أكثر من أسلافنا الماضيين أن الحضارة النبطية ( البابلية) التي حاول أبن وحشية أن يلفت أنظارنا إليها مبكراً , لا يضارعها في انجازاتها الحضارية إلا ما كان للمصريين و الهنود. بعد أن أثبتت التنقيبات الأثرية في وادي الرافدين ذلك بما لا يقبل مجالاً للشك.

المبحث الرابع: نصوص الفلاحة النبطية: عقائد وأفكار

يلقي كتاب الفلاحة النبطية أضواءً على طبيعة العقائد السائدة في بلاد الرافدين خصوصاً و حوض الأبيض المتوسط عموماً , ويعايش الأفكار و الفلسفات المحايثة لها , بل و يعطي تصوراً عن العلاقة التي تربط الإنسان ببيئته من جهة , وبآلهته من جهة أخرى.

فهذا العالم حسب نصوص الفلاحة النبطية هو (( عالم العناصر الأربعة التي هي الماء و الهواء والنار والأرض ))(22). وفكرة العناصر الأربعة تعود بأصولها إلى العالم اليوناني. وأول من قال بها " أمبيذ قليس" Empedocles ( ت390ق.م ) فالوجود عنده (( مزيج من تلك العناصر الأربعة الأولى و تختلف الأشياء باختلاف نسبة المزج بين الأصول الأربعة ))(23). وهذا يشير إن أفكار الفلسفة اليونانية متضمنة في الفلاحة النبطية , خصوصاً إنه ترجم عن اللغة السريانية و السريان – كما هو المعروف – وسطاء نشطين في نقل تراث اليونان في حوض الأبيض المتوسط.

يرى صاحب الفلاحة النبطية إن (( جوهرنا جوهر بارد , فلولا أصلاح الحرارة له بدخولها عليه ما تحرك )) (25). والأصل الذي تنشأ عنه الحرارة هو الحركة. وتنشأ الحركة عن الشمس: (( الشمس أساس وأصل كون كل شيء)) (25).

والحديث عن الشمس في هذا الموضع يتعدى حدود كونها مجرد ظاهرة طبيعية ترتبط حياة الناس بها – بل يتعداه إلى موشح طقوسي – صوفي (( فالشمس هي نفس الكل و روحه الذي يحيا بها وهو ممد الكل بالحرارة والنور والضياء..فهو ضوء كل ضوء , وحرارة كل حار وبقاء كل باق , وانتقال كل منتقل من حال كان عليها إلى غيرها )) (26).

هذا الموشح الصوفي لا يصف أثر الشمس عند حدود الظاهرة الطبيعية , بل ينحو بها منحى الوحدة العضوية التي تتخلل الكل و تفرض عليه وحدة شمولية.

فهي إذن (( نفس الكل , حياة الكل.. والشمس..مادة الحياة القصوى )) (27).

ولعل في هذا ما يفسر لنا كيف تعلق القدماء بالشمس كمعبود رئيسي ليس في وادي الرافدين –حسب- بل في عموم العالم القديم , و شيدوا لهل المعابد و الزقورات. والشمس أو شمش عند الجزريين (( يفضح الأشرار ويكشف العدو , عندما يفيض ضياؤه القوي على الأرض ))(28). فهو إله حامي , مبدد للخوف , وباعث للأمل.....

والملاحظ أن حديث الفلاحة النبطية عن الشمس يتوازى في بعض جوانبه مع حديث أفلوطين (205 – 270م) عن النفس الكلية التي تتخلل العالم و تشع في السماء ((وتفيض فيها , تدخلها من كل صوب و تنيرها , توقظها من سكونها وتمنحها الحياة , كما تنير أشعة الشمس سحابة قاتمة فتجعلها ساطعة ذهبية.... وبهذه النفس العالم إله , والشمس والكواكب ))(29). فالشمس هي روح العالم و الذي يحيا بهِ ويمنحه البقاء والاستمرار, وفوق كل هذا فإنها لا تفنى , لان طبيعتها جوهرية , أثيرية.

فالحدود التي يقف عندها الفلاحة النبطية , وحديث أفلوطين عن النفس الكلية , تتلاشى وتتداخل , ويصبح بديهياً أن مصدر هذه الأفكار والفلسفات لا بد أن يكون واحداً أستقى منه الجميع.

ولما كانت الشمس هي مصدر الحياة للإنسان والنبات ولكل كائن حي أخر فلا ينوب عنها في فعلها وبض أثرها حين تستتر عن فلك ما دون القمر إلا من طبيعتها الأثيرية لذلك (( كانت الكواكب خلفاً للشمس و بدلاً منها وكذلك حال القمر ))(30). فتعظيم الفلاحة النبطية للكواكب يعود إلى علتين أثنين:

أولاً: إنها تنوب عن الشمس في فعلها و في حركتها وذلك ((باختلاف ما ينبعث منها إلى الأرض بوقوع شعاعاتها عليها )) (31). فصلاح ما في الأرض أو أفساده متعلق بطبائع هذه الكواكب وحركتها , وما يحدث من تغيرات وانقلابات في الفصول والأنواء والاستحالة من حر إلى برد أو العكس مرهون بنيابة الكواكب وقراناتها عن الشمس , بل إنهم ربطوا أيام الأسبوع بـ (( عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل والشمس والقمر )) (32).

ثانياً:((إن الفلك بما فيه من طبيعة غير هذه الطبائع الأربع وجوهره غير إن هذه الجواهر فبقى لذلك على حال واحدة الدهر وفسد جميع ما كان من العناصر. والعناصر أيضا تفسد بانتقال بعضها إلى بعض وبانتقال جميع الأشياء إلى النواى والفناء والبطلان ليتبين فضل الباقي على الفاني وفضل الفاعل على المفعول )) (33).

فالفلك بما فيه من كواكب وأقمار أنما هو طبيعة خامسة غير الطبائع العنصرية الأربع المتبدلة الفانية. والطبيعة الإضافية للفلك غير فانية , بل خالدة الدهر كله , ولا يجوز عليها الاستحالة و التغير ولا الزيادة أو النقصان , فالأجسام الفلكية (( لا تقبل الكون والفساد والتغير والاستحالة والزيادة والنقصان كما تقبلها الأجسام التي تحت فلك القمر )) (34). لذا فأنهم نظروا إلى عالم الأفلاك والكواكب على أنها ليست بأجسام وإنما هي نفوس وأرواح مشعّة و طبائع أثيرية خالدة...

ولذا أفترض قدماء الكلدان وسواهم من شعوب الشرق القديمة إلوهية الكواكب وقدسيتها لأنهم أمنوا بكونها روحانية تفعل بإرادة شخصانيه. فأثبتوا لها العقل والإرادة , فهي تؤثر في عالم الكون والفساد , بل ويمكنها أن تحدد مصائر البشر.

وحسب النصوص المستقاة من الفلاحة النبطية فقد أختص القمر بالقدرات العقلية , وتزداد هذه القدرات فاعلية إذا أجتمع تأثير القمر مع فعل المشتري وعطارد , هناك سوف يحصل الكمال في أمزجة سكان الإقليم , فـ (( المشتري و عطارد أذا اشتركا في الفعل في موضع ما من الفلك , وأحدثا هناك مزاجاً ومرّ القمر – وهو النير الليلي صاحب الأسرار العقلية.... وانبعثت عنهما إلى ذلك الموضع الذي احدثا فيه المزاج كان عن ذلك حادثاً..... في النوع العاقل من الحيوان...( وهذا يعني ) بلوغ أشخاص منهم إلى غايات من العلوم والعقول ثم اجتماع تلك الغايات لشخص واحد منهم كحكيم الحكماء وعاقل العقلاء ومعلم لأهل الأرض ما لا يعلمونه ))(35).

فاختصاص القمر بالقدرات والمواهب العقلية. واقتران تأثيره بفعل كوكبي العقل: المشتري وعطارد , يمكن أن يفسر تفوق إقليم أهل بابل على سواه , بل ويعطي تصوراً لانبثاق أفراد يتسمون بالتفوق العقلي والمواهب , فإن هذا حاصل لاستيلاء فعل القمر على مدارك ونفوس أهل ذلك الإقليم......

إن مثل هذا النص , يمكن أن يستدعي أفكاراً نجدها متداولة في الفلسفة الإسلامية , ومنها الفكرة الخاصة بمراتب العقل عند أبي نصر الفارابي ( 870 – 950 م) والتي تتدرج حتى نصل إلى العقل المستفاد والذي يمتلك القدرة على الاتصال بالعقل العاشر المختص بفلك القمر , حيث نجد الفارابي يعرّفه في السياسة المدنية بقوله إنه (( الذي ينبغي أن يقال إنه الروح الأمين , وروح القدس , ويسمى بأشباه هذين الأسماء , ورتبته تسمّى بالملكوت ))(36).

وفقاً لهذه النظرية يفسر الفارابي ظاهرة النبوة , باستيلاء العقل العاشر على مخيّلة النبي , وكذلك يمكن تفسير الحكمة عند الحكماء باستطاعة العقل المستفاد عند هؤلاء الفلاسفة على الاتصال بالعقل العاشر , والذي يهيئ لهم القدرة على الإطلاع على ما وراء الحس... وهذه النظرية الشائعة في الفلسفة الإسلامية إذا ما جردت عن المنهج المحكم الذي صاغه الفارابي فيه نجدها لا تبتعد جوهرياً عن الأفكار التي جاء ذكرها في الفلاحة النبطية الخاص باختصاص القمر وكوكبي العقل بالقدرات العقلية.

هكذا نجد إن (( الأفكار والصور القديمة..... إنما تحيى غالباً بطريقة لا شعورية , وتنتشر عن هذا الطريق , وهي في سيرها هذا قد تحارب أحياناً ولكنها لا تقهر ))(37).

إن هذا المزيج المتنوع الذي نلاحظه في الفلاحة النبطية , حيث يتعايش التنجيم والسحر مع الفكر الفلسفي اليوناني , المتحد مع الغنوص والعرفان والعقائد الشرقية من بابلية وشرق أوسطية قد عملت مدارس ذات أثر كبير , على أعادة هضمها وبثها , بعد أن صاهرتها مع الفلسفة اليونانية , وصنعت منها هلاماً فكرياً ظل يغذي العالم القديم والوسيط قرون كثيرة , ولعل أبرز تلك المدارس هي: الإسكندرية وأنطاكية وحران والرها ومدرسة جند يسابور , والتي أسسها قبل الإسلام كسرى أنو شروان عام (555م) على مقربة من بغداد , حيث نجد أن هذه المدرسة إضافة إلى مدرسة حران قد (( مزجت الأفكار اليونانية بالثقافة الهلينية والثقافة البابلية النبطية )) (38). ومن ثم نشرها في ربوع عالمنا الإسلامي الكبير , الوريث الشرعي لهذه المدارس والأفكار.

والخلاصة التي يود صاحب الفلاحة النبطية أن ينتهي أليها , هي أقراره بتفوق أهل إقليم بابل , بالصناعات والعلوم والقدرات العقلية على سائر الأقاليم المعمورة الأخرى , وهذا التفوق ليس جزافاً , أو تعصباً لقومه النبط وأسلافه البابليين , بل لأن (( العلم بما هو كائن في المستقبل من الزمان من أفعال الكواكب فلذلك صار أهل إقليم بابل أكابراً لسائر الأقاليم ))(39). وهذا يعني إنهم يتمتعون بقدرات عقلية عالية , حتى أنهم (( إذا فكروا في شيء من العلم استنبطوا منه شيئاً هو ابلغ من استنباط غيرهم فصارت نفوسهم شبيه بالكواكب في المشاكلة لأفعال الكواكب واستقامة حركتها وجودة وقوعها على الأشياء وتمييزها لكل شيء بعضها عن البعض تميزاً خالصاً وصاروا بذلك وغيره ذو أمزجه شبيه بالمعتدلة شبهاً قريباً واعتدلت أمزجة أدمغتهم )) (40).

الخاتمة

• كتاب الفلاحة النبطية من أوائل الكتب التي ترجمت إلى اللغة العربية في ميادين علوم النبات والزراعة , وأغنت الحضارة العربية الإسلامية بما قدمته من أفكار و تصورات في علوم الفلاحة و النبات...

• يتضمن كتاب الفلاحة على خليط من الأفكار الفلسفية والعقائد الشرقية , وعلى جوانب متعددة من التنجيم والسحر , والعقائد الوثنية التي تتعلق بتعظيم الكواكب , وتقديس الشمس والقمر.

• يمكن أن يمثل الفلاحة النبطية نموذجاً على نوع الأفكار الشائعة في حوض الأبيض المتوسط قبل الإسلام , فقد احتوى على الكثير من الأفكار اليونانية والهيلينية , وإن كانت بنيته الأساسية تتألف في بعض جوانبها على عقائد وثنية , كتعظيم الكواكب والنجوم , وعقائد الآلة القتيل، مما يثبت انتمائه إلى تراث النبط الكلدان.

• لا يمكن النظر إلى الفلاحة النبطية على أنه محاولة عنصرية ومتعصبة ضد الإسلام. بل يجب اعتباره جزء من رغبة العقل العربي على الانفتاح على حضارات الأمم والشعوب التي سبقت نهضة الإسلام.

• تمسك ابن وحشية بانتمائه القومي , ورغبته في تأكيد ثقافة النبط الكلدان , لا يُعد الإ تعبيراً عن الحيز الذي أوجده التسامح الديني الذي دعا إليه الإسلام وأكد عليه.

هوامش البحث

1. أبن النديم , الفهرست , دار المعرفة , بيروت /لبنان , 1978 م , ص433.

2. المصدر السابق , ص433.

3. المصدر السابق , ص505.

4. المصدر نفسه , ص433.

5. عمر رضا كحّاله , العلوم البحتة في العصور الإسلامية , مطبعة الترقي , دمشق , 1972 , ص253.

6. عمر رضا كحّاله , معجم المؤلفين , دار أحياء التراث العربي , جـ2, بيروت - لبنان , 1957م , ص23.

7. الدكتور: ياسين خليل , العلوم الطبيعية عند العرب , مطبعة جامعة بغداد , 1980 , ص287.

8. ابن وحشية , الفلاحة النبطية , تحقيق: فؤاد سزكين , جـ1 , مقدمة الفلاحة , دون تاريخ.

9. المصدر السابق , المقدمة.

10. ينظر: مقدمة الفلاحة النبطية.

11. د: ياسين خليل , العلوم الطبيعية عند العرب , ص288.

12. المصدر السابق , ص228.

13. د: إسماعيل مظهر , تاريخ الفكر العربي , دار الكتاب العربي , مكتبة النهضة , بغداد , دون تاريخ , ص73.

14. القفطي , تاريخ الحكماء , طبعة ليبزك , 1803 , ص104.

15. شاخت وبزوروث , تراث الإسلام , جـ2 , ط2 , ترجمة د. حسين مؤنس وإحسان صيفي العمد , مراجعة:- د. فؤاد زكريا , الكويت , 1988 , ص229.

16. د. طه عبد المقصود عبد الحميد , الحضارة الإسلامية , جـ1 , ط1 , دار الكتب العلمية , بيروت/لبنان , 2004 م , ص428.

17. المصدر السابق , ص428.

18. ابن وحشية , المصدر السابق , المقدمة.

19. المصدر نفسه , ص 2.

20. شاخت وبزوروث , المصدر السابق, ص 229.

21. عمر رضا كحاله , العلوم البحتة في العصور الإسلامية , ص254.

22. الفلاحة النبطية , ص225.

23. أحمد أمين , زكي نجيب محمود , قصة الفلسفة اليونانية , ط6 , القاهرة , 1966م , ص45.

24. الفلاحة النبطية , المصدر السابق , ص224.

25. المصدر السابق ,ص226.

26. المصدر السابق , 255 ,

27. المصدر السابق ,ص255.

28. جورج رو , العراق القديم , ترجمة: حسين علوان , مراجعة د. فاضل عبد الواحد علي , 1963 م , ص131.

29. يوسف كرم , تاريخ الفلسفة اليونانية , ط6 , مطابع الدجوي عابدين , القاهرة , 1966م , ص393.

30. الفلاحة النبطية , المصدر السابق , ص226.

31. المصدر السابق , ص227.

32. ينظر: محمد بن يعقوب ( الفيروز أبادي) , القاموس المحيط , جـ2 , القاهرة , 1330هـ , ص86.

33. الفلاحة النبطية المصدر السابق , ص232.

34. أخوان الصفاء وخلان الوفاء , رسائل الأخوان , جـ2 , تصحيح خير الدين الزركلي , ط2 , مصر , 1928م, ص219.

35. الفلاحة النبطية , ص 91.

36. أبو النصر الفارابي , السياسة المدنية , تحقيق , د. فوزي نجار , بيروت , 1964م , ص32.

37. دراسات لكبار المستشرقين , التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية , ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي , مكتبة النهضة المصرية , 1940 م, ص13.

38. محمد تقي المدرسي , العرفان الإسلامي , نشر المركز الثقافي , الإسلامي , ط1 , 1405 , ص32.

39. الفلاحة النبطية, ص90.

40. المصدر السابق , ص90.

المصادر

1- ابن وخشية , الفلاحة النبطية , الجزء الأول , تحقيق فؤاد سزكين , بدون تاريخ.

2- ابن النديم ,, الفهرست , دار المعرفة , بيروت / لبنان , 1978م.

3-أبو النصر الفارابي , السياسة المدنية , تحقيق: د فوزي النجار , بيروت / لبنان ,

1964م.

4- د: إسماعيل مظهر , تاريخ الفكر العربي , دار الكتاب العربي , مكتبة النهضة ,

بغداد , دون تاريخ.

5-احمد أمين , زكي نجيب محفوظ , قصة الفلسفة اليونانية , ط6, القاهرة , 1966م.

6- إخوان الصفاء وخلان الوفاء , رسائل الأخوان , ج 2, تصحيح: خير الدين

الزركلي , ط2 , مصر , 1928م.

7- جورج رو , العراق القديم , ترجمة حسين علوان , مراجعة , د. فاضل عبد

الواحد علي , 1963م.

8-دراسات لكبار المستشرقين , التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية , ترجمة:

د. عبد الرحمن بدوي , مكتبة النهضة المصرية , 1940م.

9-محمد ابن يعقوب ( الفيروز أبادي ) , القاموس المحيط , ج2, القاهرة , 1330هـ.

10-محمد تقي المدرسي , العرفان الإسلامي , نشر المركز الثقافي , الإسلامي , ط1

, 1405 هـ.

11-شاخت بزوروث , تراث الإسلام , ج2, ط2 , ترجمة د. حسين مؤنس و أحسان

صيفي العمد, مراجعة: د. فؤاد زكريا , الكويت , 1988م.

12-د: طه عبد المقصود عبد الحميد , الحضارة الإسلامية , ج1 , ط2 , دار الكتب

العلمية , بيروت / لبنان , 2004م.

13-عمر رضا كحّاله , العلوم البحتة في العصور الإسلامية مطبعة الترقي , دمشق ,

1972م.

14-عمر رضا كحاله, معجم المؤلفين , دار إحياء التراث العربي , بيروت/ لبنان ,

1957م , ج2.

15-القفطي , تاريخ الحكماء, طبعة ليبزك , 1803م.

16- يوسف , كرم , تاريخ الفلسفة اليونانية , ط6, مطابع الدجوي عابدين , القاهرة ,

1976.

17-د. ياسين خليل , العلوم الطبيعية عند العرب , مطبعة جامعة بغداد, 1980م.