اسبانيا والموريسكيون في رحلة الوزير الغساني
اسبانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وحالة الموريسكيين في اسبانيا وكيفية تحريرهم من ايدي الاسبان.واود في البداية القول ان الموريسكيين ليسوا عربا بالضرورة، بل كانوا مسلمين لان الصراع في شبه الجزيرة الايبرية كان صراعا دينيا بين المسيحية والاسلام من ابناء هذا البلد الواحد؛ وعلى هذا اعتبر كل موريسكي غير مرغوب فيه؛ وعليه ان يختار احد امرين: اما الرحيل الى بلد آخر او التحول الى المسيحية والتنصر؛ واذا ما ثبت بقاءه على دينه فتتخذ بحقه الاجراءات الصارمة من قبل السلطة الدينية وليست السلطة المدنية وهو أمر بقي في اسبانيا قروناً طويلة حتى طال المسيحيين انفسهم كما طال طواشف اخرى؛ وما رواية لاثاريودي تورمس الا صورة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في اسبانيا في القرن السادس عشر.
موضوع البحث يتناول محورين:
اسبانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وحالة الموريسكيين في اسبانيا وكيفية تحريرهم من ايدي الاسبان.
واود في البداية القول ان الموريسكيين ليسوا عربا بالضرورة، بل كانوا مسلمين لان الصراع في شبه الجزيرة الايبرية كان صراعا دينيا بين المسيحية والاسلام من ابناء هذا البلد الواحد؛ وعلى هذا اعتبر كل موريسكي غير مرغوب فيه؛ وعليه ان يختار احد امرين: اما الرحيل الى بلد آخر او التحول الى المسيحية والتنصر؛ واذا ما ثبت بقاءه على دينه فتتخذ بحقه الاجراءات الصارمة من قبل السلطة الدينية وليست السلطة المدنية وهو أمر بقي في اسبانيا قروناً طويلة حتى طال المسيحيين انفسهم كما طال طواشف اخرى؛ وما رواية لاثاريودي تورمس الا صورة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في اسبانيا في القرن السادس عشر.
لدينا ثلاث رحلات الى اسبانيا قام بها شخصيات مغربية بناءً على طلب الملوك الاسبان للتفاوض مع الملوك المغاربة؛ وهذه الرحلات هي:
رحلة الوزير في افتكاك الاسير قام بها محمد بن عبد الوهاب الغساني (م/1119هـ )، وصف فيها مشاهدته ربوع الاندلس وما لقي من الغرائب والعجائب هناك. كان هدفه هو ان تُخلّص كتب مولاي زيدان، وتخليص اسرى المسلمين من الموريسكيين ومن المغاربة والجزائريين الذين اسروا خلال الحروب المستمرة بين هذا الاطراف. وقد طبعت هذه الرحلة في طنجة بتحقيق الفريد البستاني سنة1940م وقد حذف منها بعض النصوص التي وجدها غير موافقة لميوله، وحاول تصحيح ما ذهب اليه صاحب السفارة وقد ترجمها المحقق الى الاسبانية.
والرحلة الثانية هي: نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد لابي العباس احمد بن مهدي الغزالي، وهو كاتب ومستشار ثم وزير لابي عبد الله محمد بن عبد الله . قام برحلته هذه سنة 1179هـ الموافق سنة 1765م لفكاك الاسرى من المسلمين. ولمعت شخصيته كمفاوض ماهر الا انه وقع في خطأ كبير، اذ اختصر في النهاية فقرة اودت بتنحيته عن السلطة اواخضعته للإقامة الجبرية بمنزله حتى وفاته وهو اعمى سنة 1191هـ / 1777م، وطبعت في تطوان سنة 1941م وهي مليئة بالاخطاء وناقصة، وقام بنشرها ثانية اسماعيل العربي معتمدا على عدة نسخ خطية وطبعت بعمان سنة 1984م لحساب ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر.
والرحلة الثالثة هي: الإكسير في فكاك الأسير، لمؤلفها محمد بن عثمان المكناسي (م1212هـ / 1798م)؛ وكانت رحلته هذه قد بدأت في 20 شوال سنة 1193هـ/ الموافق 31 اكتوبر 1779م، وكان قد سبقها رحلات موفقة استطاعت بها تخليص عدد كبير من الاسرى في اسبانيا وفي بلاد صقلية ونابولي وغيرها. وقد نشرت هذه الرحلة في الرباط سنة 1965م بتحقيق وتعليق محمد الفاسي، رئيس جامعة الرباط ومؤسس المركز الجامعي للبحث العلمي.
ومن خلال هذه الرحلات نستطيع ان نتصور اسبانيا خلال قرن من الزمن في سياستها الخارجية واحوالها الداخلية – الحياة العامة. وتطورها الثقافي والتقني.
لكنني سأقتصر على رحلة واحدة هي رحلة الغساني لانها الرحلة الاولى في المفاوضات بين دولتين حارتين عبر شاطئ البحر المتوسط، ولانها كانت بداية الصلح على الرغم من النكسات المتتالية لمثل هذه المفاوضات ولانها ترسم، ولاول مرة، صورة تقارب الشعوب فيما بينها خلافا للقائمين على السلطة من خلال استقبال الشعب الاسباني لهذا السفير في كل المدن والاقاليم الاندلسية التي وصلت اليها، فاظهروا له المحبة والسرور وتزينوا بكل ما لديهم رغبه منهم في التواصل، وكان غالبيتهم من اصول اسلامية. كانت هذه الزيارة كشفا لاعماقهم المكبوتة لقرنين من الزمن ورثها الابناء عن الآباء.
وكان المترجمون العرب في هذه الرحلات شاهدا على مدى النية الاكيدة لدى الطرفين لمواصلة التعاون وايجاد السلام بين اسبانيا واجاراتها العرب؛ فكان المترجم الحلبي النصراني على عهد الغساني، والغزيري اللبناني في عصر المكناسي، والاخير معروف لدينا لأنه عمل فهرسا مفصلا لمخطوطات الاسكوريال، وكان مسؤولا عن المخطوطات العربية فيها.
وقد حاول الغساني ان يتعرف قدر الامكان على الاسر الباقية من ايام الاندلسيين وهذا ما سنراه خلال هذا البحث.
بدأ الوزير الغساني رحلته داعيا الى مولاه السلطان اسماعيل بن مولاه الشريف في هذه المهمة وهي فكاك الاسرى من المسلمين لينا جزاءه وثوابه؛ ثم تحدث فيما بعد عن جبل الفتح المسمى بجبل طارق وتاريخ فتح الاندلس، وعاد بالذاكرة الى ماضي الاندلس وفتوحات موسى وطارق.
وكانت رحلته يوم الاربعاء أواسط محرم سنة 1102هـ من (افراك) المطلة على سبتة، وقد وجد هو الوفد المرافق، في رحلتهم بعض الصعوبات نتيجة تبدل اتجاه الرياح، ومن ثم كان انطلاقهم من سبتة (اعادها الله لدار الاسلام) الى طريف(Tarifa) بعد ان امضوا ثلاث ليال بمرسى جبل طارق.
وقد هيأ لهم الدوكي (al duque) (الدوق) مركبا مشحونا بالاقامة والشلظاظ (soldados)، الجنود وهذا الحاكم يقيم في مدينة سان لوكار(San lucar)، وهو الذي ينتهي اليه تلك الكوشطة (al kosta) (الساحل)، وجاء بالمركب بأمر حاكم قالص(قادس) (Cadiz) لينقلهم الى هناك.
وقال الغساني: " وحينما تهيأت لنا ثلاث مراكب صغر وشحنوها بالشلظاظ والمدافع التي تحميها وربكنا فيها وسرنا بحفظ الله ووكالته، حتى أرسوا بنا في مدينة طريف، ويقابلها في بلادنا القصر الصغير".
ومن طريف واصلوا سيرهم حتى نزلوا قادس التي يحيط بها الماء من ثلاثة أرباعها، وهي مدينة كبيرة في جزيرة البحر ولها طريق ممتدة الى البر . وفي هذه المدينة جاء الحاكم لاستقابالهم، مصطحبا كُدشَيْن (dos coches) (مركبتين) فحلهم الى المدينة واستقبلهم الناس فرحين مسرورين بهم، وقد اطلعوا ايضا على المعالم الحضارية، وكان حاكم سنتا مارية (Santa maria) قد جاء الى قادس ليأخذهم الى المدينة التالية ويرافقهم في رحلتهم.
وهكذا بدأ الغساني بوصف الرحلة وما يلاقيه من اهتمام متزايد من قبل السلطات الاسبانية ومن حفاوة وتكريم واستبشار من قبل الشعوب، وكل ذلك من اجل ايجاد احترام متبادل وسلام دائم في المنطقة وانهاء الصراع في البحر، واخماد الفتن والحروب.
و يمضي الغساني الى اوطيرة (Utrera) ليجد الناس هناك وقد زينوا مدينتهم وخرجوا الى الشوارع بحلى وملابس قشيبة وآلات الطرب بيدهم يعزفون عليها مهلهلين فرحين بالوزير القادم؛ ولا ينسى الغساني أن يذكرنا بالمسلمين في هذه المدن.
رحل الغساني نم أوطريرة الى مرشانة (Marchena) وبينهما عشرون ميلا، وارضها واسعة فسيحة متسعة الارجاء، وليس بهذه البلاد الاندلسية جبالا الا ما هو عن يمين المار تظهر على مرئ العين كجبال وما والاها؛ وبين اوطريرة ومرشينة واد كبير عليه قنطرة كبيرة مبنية أحسن بناء في عهد المسلمين، وبهذا الوادي كانت وقعة الزلاقة الشهيرة؛ وعلى هذا الوادي كنيسة صغيرة بها صورة حرب الزلاقة منقوشة بحيطانها.
وفي مرشانة قوم ينتسبون الى الاندلس انتسابا، ثم يصف الغساني الحياة العمرانية والمعيشية فيها لينتقل الى وشقا(Huesca)، ليصف فيها المدينة وواديها المنحدر من شنيل (Algenil) ويذكر حمدة الوادي آشية ويأتي بأشعار لها يذكرنا بالماضي الاندلسي العريق في ذكر هذا الوادي قولها:
اباح الدمع اسراري بواد |
لــه في الحســـــن آثار بوادي |
|
فمن نهر يطوف بكل روض |
ومن روض بطوف بكل وادي |
|
ومن بيـــن الظــبا مهاة رمل |
ســبت لــبي وقد سـلبت فؤادي |
|
لها لحــــظ ترقـــده لأمــــــر |
وذاك الأمر يمنعــني رقـــادي |
|
اذا ســدلـــت ذوائبها عليها |
رأيت البدر في جنح الســــواد |
|
كأن الصـبح مات له شقيق |
فمن حـزن تسربل بالحداد[1] |
وحمدة هذه هي من شاعرات الاندلس وأخبارها مشهورة في محلها من اخبار شعراء العدوة وشاعراتها وهي القائلة:
ولمـا أبى الواشــون إلا فراقــنا |
وما لهم عندي وعندك من ثـاري |
|
وشنّــوا على أسماعنا كلّ غـارةٍ |
وقَلَّ حُماتي عند ذاك وأنـصاري |
|
غّزَوتــهم من مُقلَــتيَّ وأدمعي |
ومن نفسي بالسيف والقتل والنا([2]) |
وتابع الغساني حتى وصل قرطبة، وهي مدينة كبيرة حاضرة من حواضر العدو، وهي دار مُلكٍ قديم، وفيها كان سكن ولاة الاندلس قبل دخول عبد الرحمن الاول، حيث سكن الرصافة ثم تحول اليها سنة 168هـ؛ وتقع على سفح جبل يسمى سيرّل مدينة (Sierra Medina)، وهي عالى ضفة الوادي الكبير الذي ينحدر من جبال بياسة (Baeza) وجبال جيان (Jaen). وهذا الوادي هو أكبر أودية الاندلس كلها وبه يجتمع سائرها، وهو الذي يمر بإشبيلية وينحدر الى البحر عند مدينة سان لوكار.
وقد أقام الغساني بعد أن طاف بالمدينة وزار المسجد الكبير بإحصاء سواري المسجد الجامع فوجدها ألفاً وثلاث مائة وستين سارية و14 بابا و197 شجرة نارنج، وقارن بين منارتها ومنارة اشبيلية وطليطلة فوجدها دونهما في الارتفاع؛ ثم عاد الى التاريخ ليقص لنا حكايات عن الاندلسيين وخلفائهم ليروح عنا بعض الملل، وأورد لنا مقطوعات شعرية قيلت بمناسبات متعددة في مظلومية أو بناء جامع وغير ذلك وتحدث عن بساتينها وغيطانها وقاطرها، وقال: " كل ذلك من آثار المسلمين الأندلس رحمهم الله".
ومنها سافر الى مدينة الكاربي (Carpio) ومنها الى أندوخر (Andujar) حيث توجد فيها جالية اسلامية متنصرة تعرف ببني سراج؛ ومن أندوخر الى مدينة تسمى لينارس (Linares) تبعد 24 ميلاً عنها؛ في مدينة لينارس توجد بعض العوائل الأندلسية ولكنهم قلة، وفيها الرصاص والمعادن التي تنقل الى كثير من المدن الاسبانية، وفيها كنيسة للراهبات وصف فيها الحياة الخاصة بهم وسمى المكان بالكونبينطو (Convento)، ومن هذه النسوة من تأتي لتعيش فترة قصيرة ثم تخرج لبيت الزوجية، ومنهن من ينذرن أنفسهن حتى الممات، ويشرف على هذه البيوت الدينية الفرايلية (frailes) وهم طائفة دينية تتولى شؤون الكنيسة وشؤون مؤسسات إنسانية أخرى.
ومنها سافر الى طورّي خوان عبّاد(torre Juan abad) وهي مدينة متوسطة بين الصغر والكبر ومنها الى منشا (Mancha)؛ وفي الطريق الى مدريد صادف رجلا من قوصرة (Ocera) يقطع الطريق ولايهاب الملك والحكام، فطلب من الحاكم عفوا حتى يعود الى عمله وحياته اليومية فلم يأته جواب. كما سمع هذا الرجل من صديقه ألو نسو الغرناطي بالسفارة المغربية فجاء مسلّماً عليه طالباً مرافتقتهم في هذه الأرض، وطلب اليهم ان يرافقهم الى المغرب. ويقول الغساني انه رأى منه من العجائب والغرائب ما أذهله ورأى فيه من القوة والشجاعة والبسالة ما أبهره، إذ رأى خيله ترتع في الفدادين التي ليست له ولا تجسر الشرطة مهاجمته.
ثم وصف الفنادق والنزل في الطريق وقال: " المسافر هذه الأيام لا يحتاج الى مؤونة وما شابه ذلك بل الى مال لأنه سيجد كل شئ جاهز في هذه الفنادق التي تسمى بينطه (Venta) ".
وفي منسنارس (Manzanares) لقي المترجم الحلبي النصراني الذي سيرافقه حتى يصل الى مدريد، ومنها مضى الى مدينة تسمى مورا لأن أهلها بقوا على أسلامهم حتى النهاية وتأخرت عن بقية المسلمين في تنصرهم. وبعدها مروا على مدينة تسمى برغش(Bargas)، وقبيل مدريد مدينة كبيرة تسمى خطافي (Getafe).
مدريد:
وقبيل مدريد هناك بعض المدن الصغيرة والمتنزهات التي يقضي فيها الملك بعض ايامه للاستراحة والصيد ومنها الى أرانخويس (Aranjuez).
وعلى أية حال يدخل العاصمة الكبيرة بصحبة كارلوس دي الكاستيلليو (Carlos del Castillo)، الملقب بالكُندي (Conde)، الذي يستقبل الوفود القادمة من الممالك الاسلامية وله راتب سنوي يقدر بثلاثة آلاف ريال.
وفي مداخل العاصمة استقبله الناس ومعهم الأسرى(الأسارى) من المسلمين وهم فرحون مسرورون معلنون بلفظ الشهادة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للسلطان المنصور إسماعيل، وصبيان النصارى يقولون مثل ما قالوا، على حد تعبيره.
وقد مر الموكب على دار الملك فرأوه واقفا في مقصورته ينظر اليهم ويحيّيهم من وراء الزجاج، وقد رافقهم الأسرى في هذه المسيرة، وقد مرّ الموكب في أزقة واسعة مفروشة بالحجارة الى ان وصلوا الى قصر الضيافة، وهي مجاورة الى قصر الملك، فأنزلوهم هناك.
وتحدث الغساني عن هذه الدور التي ينزلها السفراء؛ وذكر ان دورا أخرى للسفراء الدائمين لدول اوربا وهؤلاء يسمون الأنبسادورين(Embajadores)؛ يكونون وسائط بين دولهم وهذه الدولة فيما يعرض لبعضهم عند بعض من المخاطبات وغيرها مثل سفراء الترك، أو سفراء الموسكويين الذي جاءوا خاطبين ابنة أخت الملكة الام، المقيمة في بلاد المانيا، أراد ملك مسكوبيا تزويجها ولم يرغب أهلها بذلك، فدفعوه الى إسبانيا بحجة أنّ خالتها هي ولي أمرها.
وقد أرّخ الغساني يوم وصوله الى مدريد يوم السبت السابع عشر من شهر ربيع النبوي عام 1102هـ، وكان عليهم أن ينتظروا 12 يوما حتى يلاقوا الملك، وقد أعدت الحكومة لهم برنامجا سياحيا في الصباح والمساء لمشاهدة معالم مدريد ومسارحها، ورأى عروض غنائية وأريتات وماشابه. وقال: " ان الراقصين والراقصات بعد أن يرقصن كل رجل مع امرأتين وكل امرأتين مع رجل يتم الرجل فينحني لهم وتنزل الصبية الى النصف وتطوي ركبتيها وتنحني هي الاخرى لتحيتهم ". ويقول الغساني هؤلاء قد جاءوا الى هذه الدور مسرورين فرحين بهم، وهكذا كان يقضي بعض لياليه والوفد الذي معه حتى جاء اليوم الثالث عشر فذهب الى مقابلة الملك واصطحبه رئيس التشريفات أو الوكيل، كما سماه الغساني، وهو الميردم (Mayordomo)، ومعهم ايضا الكوندة السابق الذكر، وبيد الوكيل ورقة بها التعليمات بدخول القصر وطريقة مقابلة الملك الى غير ذلك.
وقد حضر المقابلة الوزير المسمى عندهم ( condestable)، وكان الملك واقفا وفي عنقه سلسلة ذهبية وعلى رأسه التاج وعن يمينه طبلة من ذهب ليجعل عليها البراءة السلطانية اجلالاً وتعظيما لمرسلها، والوزير المذكور بيده أمور الداخل والخارج والنظر في أمور الدار، وقد وقفت الملكة الى جانب زوجها زمعها الضامات (las damas) وبنات الأكابر عدد كبير من الحاشية وعن يسار الملك وقف وزراء آخرون، فاستقبلهم ببشاشة وسألهم عن السلطان وأحواله؛ وحين تحدث اليهم أزال شمريره (قبعته) من على رأسه إجلالاً وتكريماً.
ثم ناوله الوزير الغساني الكتاب المبارك السلطاني بعد تقبيله ووضعه على رأسه، فأخذه الملك وقبله ووضعه على الطبلة، وبدأ حوار بينهما حول حالة البلاد والرحلة والطريق الذي سلكوه وما لقيه من ترحاب من قبل المسئولين، فأثنى الوزير على حكام الولايات وأبدى سروره بما وجده من حفاوة الناس وإكرامهم؛ فسر الملك بذلك.
بعدها استرسل الوزير في وصف الملك واسمه وقامته وملامحه وعمره الذي يبلغ الثلاثين أو نحوها؛ ثم تحدث عن عصره والأحداث التي وقعت في أيامه وأشار الى اكتشاف بلاد من الهند، يعني أمريكا، على يد بعض رؤساء البحر من جنس اسبانيا، وعاد الى عرض تاريخ اسبانيا الحديث.
وفي مدريد حضر عيد الشعانين وعيد الفصح، وفصل فيهما، والعيد الأول هو يوم دخول المسيح بيت المقدس، ويخرج الناس وبيدهم الجريد ويطوفون الشوارع حتى يجتمع الناس في الكنيسة وبيدهم آلات الموسيقى فيغنون وينشدون، وهؤلاء هم الفريلة. وفي ذلك اليوم حضر الملك ولم تحضر زوجته وبعث اليهم يعتذر بالنيابة عنها لمرض منعها من الخروج، وكان لهم بذلك علم.
كما وصف عيد الفصح: " بعد صيامهم 46 يوما ويأتي الملك بـ13 فقيرا يكسيهم ويغسل أرجلهم وينفق عليهم، وكذلك تفعل الملكة إذ تأتي بـ13 فقيرة، بمثابة حواري عيسى عليه السلام؛ وهذا الغسل هو بمثابة سُنّة وقربة فعلها المسيح بأصحابه. وفصّل الغساني في هذه القصة. ثم يروي لنا أنه القى براهب مسيحي شرقي حاوره حول هذا الموضوع وأن عيسى إنما رفع الى السماء.
وعلى أية حال يصف أيام حزنهم ويوم فرحهم اذ ينتصف النهار فيذهبون الى الكنيسة ويوقدوا الشموع بعد أن أطفئت يومين ونصف، والناس حفاة في الطريق، والنبلاء لا يستخدمون مركباتهم بل يسيرون في الطرقات راجلين؛ ثم يضربون النواقيس ويطبعون قراطيس فيها صور الأنبياء والملائكة يكتبون عليها حروفا بالكلدانية هي (الوليا) – أي هلّلوا أو افرحوا –.
أسرة آل بوربون في إسبانيا:
وأمر هام فيما يتعلق بتاريخ اسبانيا الحديث، وهو انتقال الملك من آل هبسبورغ الى آل بوربون، فلقد تحدث محمد بن عبد الوهاب الغساني عن مستقبل اسبانيا بعد كارلوس الثاني الذي لم يترك وريثا اذ تزوج ملك فرنسا ابنة فليب الرابع – (كوارطو) أخت هذا الطاغية لأبيه، فردت منه ولدا يسمى (le Dauphin) – الدولفين والمقصود هنا هو ابن لويس الرابع عشر، وامه ماريا تاريزا(Maria Teresa)، ولد سنة 1661م، أما أمه فهي من مواليد 1638م، وقد ظهر له من المكر وا لخبث أكثر من مما لوالداه – فإذا مات هذا الطاغية كارلوس سكوندو ولم يخلف من يلي ملك اسبانيا من نسله صار ملكها لولد طاغية الفرنسيس بالميراث من قبل أمه –.
وقد صدقت تكهنات الوزير، فبعد موت كارلوس الثاني اعتلى عرش اسبانيا حفيد ملك فرنسا، الأمير فيليب دي انجو الذي عرف باسم فليب الخامس وذلك بعد حرب طاحنة تعرف بحرب الميراث.
وقد ذكر الوزير الغساني تطلعات الشعب الاسباني الى الملك الجديد الذي سيخلف ملكهم لتقاعس ملكهم ولا مبالاته بشؤون الدولة، وتقدم الفرنسيين أمام جيوشه في الحرب، وبالتالي فهم يسعون لتعليم ابنائهم اللغة الفرنسية وثقالتها وإضهار ذلك في المحافل والمحاضرات من غير مبالات بطاغيتهم ولا اكتراث.
العادات:
من العادات الواردة في فرنسا وقد تطلع أهل اسبانيا لها: أن الملك يورث من قبل النساء، فقال:" وللرجل عندهم النظر في جميع ميراثه ومتاعه وماله إن أحب أن يعطيه لأجنبي أو أجنبية ويخلّي أولاده من الميراث فلا حرج عليه في ذلك. وإذا ورّث متاعه الغير أو ورثه الغير بمصاهرة بأن يتزوج أحدٌ من له لقب الكبيرة وكانت هي التي ورثت والدها، وليس لزوجها لقب أو كان دون لقب زوجته صار هو يدعى بلقب والد الزوجة، ويحتوي على جميع ذخائره وأمتعته، وأولاد الرجل الموروث يلقبون غيره لقب والدهم. لهذا السبب ومن أجل قانون ميراث النساء على هذه الصورة صار هذا الجنس الاسبنيولي يتوقع تولية الفرنسيين عليهم".
الكنيسة الانجليزية:
ومشهد آخر أورده الغساني هو الصراع القائم بين البابا في روما وملك انجلترا من جانب، وملوك فنلندة وبلجيكا وهولندة وغيرها؛ وسبب ذلك هو قيام البابا بحبس بعض الفريلية سنوات طويلة وقد وقع بينهم مشاحنات وتنافر، لهذا انحازوا الى ملك انجلترا وصاروا يفتون له بما يرغب فيه مخالفة للبابا الأعظم ونكاية فيه؛ وكان ملك انجلترا أراد أن يتزوج امرأة ثانية، فنهاه البابا عن ذلك، ومنعه ما دامت زوجته على قيد الحياة، ولكن الملك أباح ذلك لنفسه وضرب أمر البابا بعرض الحائط بناءً على فتاوى هؤلاء الفريلية.
وقد اشتبه على الغساني أو النساخ أنه ملك فرنسا، والحادث وقعت للملك هنري الثامن الذي انشق عن الكنيسة الكاثوليكية وأسس الانجليكانية – البروتستانية.
ويعلق الغساني بقوله: " وهذا البابا المذكور لا يقدرون أهل الصليب على مخالفته في شئ قلّ أو جلّ حيث كان يحدث لهم الديانات والأحكام والأكل في أيام الصيام وغير ذلك مما هو مخالف فيه لنصارى المشرق.
وأما الملك فهو هنري الثامن 1491 – 1347 م، والبابا هو كلمنتو السابع؛ وأما الذين ساعدوه على ذلك فهم سانتو توماس مورو، سان خوان فيشر.
لقد صور الغساني ماجرى في اوربا وما كان يتحدث فيه الناس أوانذاك.
مارستانات مدريد:
ويقيم عليها الفرايلة المنتسبون الى الفرايلي سان خوان دي ديوس (1495-1550)، الذين يقومون في كل موضع بأمور المرض من المعالجة والخدمة وغيرها، فصاروا كلهم يجعلون مارستانات في كنائسهم ويقومون بأمور المرضى أتم قيام، أي أن هذه المستشفيات تتبع الكنيسة؛ وفي مدريد وحدها أربعة عشر مارستاناً في غاية الكبر والنظافة والاقامة من الفراش والطعام والاشربة والمعاجين ومن يقوم بأمر المرضى، فيجعلون للنساء المريضات عجائزاً يخدمنهم ويقمن بهنّ، وللرجال رجالاً وهم في غاية التحفظ والمعالجة من غير تفريط بشئ يحتاجه المريض قليلاً أو كثيراً.
وفي كل مارستان منها مخازن عدة مشحون كل واحد منها بما هو معد له من الزيت والخل والمعاجين والاشربة وموضع الطبخ، فلقد وجدتُ به من اللحوم من لحم الضأن والدجاج والقنين والعجل ولحم الخنزير وغيره يقصد المرضى، فإذا دخل الطبيب على المريض وجس يده وعرف حالته يكتب بطاقة يدخلها للقيم على المرضى وهو يدفعها للقيمة على الطبخ، ويحضرون له ما أمر به الطبيب.
كما وجد الغساني مستودعا لألبسه المرضى حيث يدخل المريض وتستبدل ألبسته بألبسة أخرى فيزيلون له جميع ما عليه ويفعونهم، أي الثياب في البيت المعد لذلك ويكتبون عليهم بطاقة بتعريف معدة هنالك للمرضى من متاع الحبس الموقف على المارستان، ويجعلون له سريرا عليه لحفان وإزاران ووسادة؛ وكل ثمانية أيام يغسلون الثياب التي عليه ويجعلون له ثيابا اخرى، فإذا قام من مرضه ألبسوه حوائجه التي أتى بها وينصرف الى سبيله، ومن مات يكفّن من وفر المارستان ويبحث عن اهل فيدفعون لهم ثيابه التي تركها هناك.
وقد مرض بعض أعضاء الوفد في سان لوكار وأراد هؤلاء أن ينقلوه الى المستشفى ولكن رئيس البعثة الوزير الغساني رفض هذا الطلب إلا أنهم استمروا على عيادته يوميا حتى برئ من مرضه؛ وقال لهم أنهم عرضوا طلبهم بقصد إنساني لا غير. وقد علق الوزير الغساني في النهاية أن هؤلاء المنسوبين الى الفرايلة سان خوان دي ييوس هم أكثر الناس خدمة للمرضى ولهم في ذلك اعتقاد، ويود لهم الانسان باعتقادهم ذلك وحسن أخلاقهم ومسكنتهم أن لو كانوا على الطريقة المستقيمة فأنهم أحسن أهل حنسهم أخلاقا وأكثرهم مسكنة والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم على تعبير الوزير.
ثم يكمل عبارته الغساني ليقول: " ولكل مارستان من هذه طبيب معلوم تُعّين له دار سكناه قرب المارستان وكراؤها من الوفر وجميع مؤونة الطبيب ما يتعلق به وبحشمه من الضروريات ومعيشته كلها من الأوقاف ليكون سائر الأوقات حاضراً غير غائب ولا مشتغلا بشأن معاشه".
ولقد ورد في شهر فبراير رقاص ايطالي وروحه وأتى معه بزنة ثلاث وخمسين ربعا من الرسائل فتحصل في ذلك ثلاث عشر قنطارا وربع القنطار من الفضة، والرقاقيص جميعا تحت يده؛ يقول الغساني:
" وبسوق مدريد موضع مُعَدٌ للرسائل والبراوات – جميع براءة بالاصطلاح المغربي رسالة – الواردة من جميع البلدان والاقاليم والاقطار، فان في كل يوم من ايام الجمعة ترد رسالة بلد من البلدان فمن كان يرتجي ورود براءة يمضي الى الحوانيت المعدة لذلك وينظر هل أتاه شئ ام لا، فإذا وردت براءة يعطي عليها جعلا معلوما، وكذلك من يحب بعث رسالته الى بلاد يكتبها ويطرحها في الموضع المعلوم ولا يعطي عليها شيئا فإن الذي يستلمها هو الذي يخلص كراءها، هذا فيما قرب من البلاد ميسرة نصف شهر فما دونه من جميع البلاد.
وأما البلاد البعيدة مثل انكلترا وايطاليا ورومة ونابلي وفلورنسة (فلانص) وفرنسية وغيرها من البلدان القاصية فان كراء البراءة الواردة من إحدى هذه البلدان هو وزنها من الفضة. ويتحصل في هذه الرسائل من الاموال شئ كثير.
وبمدريد شئ آخر زائد في الاخبار عن البراوات وذلك أنه اذا كان خبر من بلاد فإن فيها دارا فيها قالب الكتابة وهو على يد رجل واحد تحمل لذلك مُسكنا للطاغية معينا على رأس كل سنة، فمهما سمع بخبر أو طرقه خبر، فيجمع الاخبار ويفرغ عليه قالبا يطبع عليه آلاف القراطيس ويبيعها بأقل ثمن؛ فتجد الرجل في يده منها شئ كثير ينادي عليها ويقول: من يشتري اخبار البلاد الفلانية والعلانية. فمن أحب الاطلاع على ذلك يشتري منها قرطاسا ويسمونها الكاسيطة(gaceta) فيطلع الانسان منها على أخبار كثيرة.... الخ.
ومن الاخبار الواردة من روما مع الرقاص القادم خبر موت البابا برومة؛ وعلق محقق الكتاب أنه اسكندر الثامن الذي اعتلى السدة البطرسية سنة 1689م وتوفي سنة 1691م، ولم يتول أحد آخر مكانه الى هذه الأيام.
ونحن مقيمون بمدينة سان لوكار ورد تولية رجل آخر منزلته، وهذه المنزلة عند عبدة الصليب منزلة كبيرة لأنه هو الذي يحدث لهم الديانات والأحكام ويشرع لهم الشرائع ويأمرهم بفعل ما أحب وينهاهم عما كره بوفق غرضه، فلا يقدرون على مخالفته ولا يسعهم إلا الامتثال له، ففي المخالفة له عنده خروج عن دينهم.
طريقة انتخاب البابا وتوليته:
يحدثنا الغساني بقوله:" هو أنه تحته، أي البابا، اثنان وسبعون راهبا من أكابر علمائهم كلهم يلقب بالكاردينال، ودرجة الكاردينال عندهم هي أحط منزلة من البابا، فإذا مات البابا دخل كل واحد من الاثنين والسبعين بيته وأغلق عليه بابه وقعد يتعبد بحيث لا يخالط أحدا ولا يتكلم مع احد وإنما يتناول الطعام الذي يقوت به نفسه، الى الرجل من الاحد والسبعين يغلب على طنه أنه يرتضيه ويختاره لثقته وأمانته وعلمه وديناته، فيكتب اسمه في قرطاس صغير ويضعه في صندوق مغلق بحيث لا يطلع عليه هو ولا غيره وكل واحد من المذكورين يكتب اسم من يختاره ويضع القرطاس فيمحله المعد له، فاذا انقضت الايام المعلومة وجدوه أكثرا تعدادا في القراطيس انتفقوا عليه وولوه تلك المنزلة بعد ان يأخذوا عليه العهود والمواثيق بالشروط المعلومة عندهم من الامانة والصدق، ويأخذ عليه ايضا ما هو عندهم معروف من العهود.
ومن عاداتهم ان لا يختار الا من نيف على الثمانين سنة، ولكنهم هذه المرة اختارو اصغر سنا، فقد زعموا انه ابن خمس وسبعين سنة ن وما زالوا يصفونه بصغر السن.
ومن عاداتهم ان لا يختاروا الا رجل من أهل ايطاليا، وقد حصل خطأ الجأهم الى هذا القرار أنهم اختاروا شخصا كان من اصل فرنسي واصل بجمع الاموال وارسالها الى بلاده، فقرروا ان لا يأتي البابا من أصل اسبانيولي او فرنسي.
ولكن هذه المرة وقع اختيارهم على رجل من نابلي، ولكن هذه المدينة خاضعة في الوقت الحاضر الى اسبانيا، وهذا البابا الجديد هو من عمالة الاسبنيول، وهو الذي يفرض عليهم الصيام ويمنعهم من أكل اللحوم يوم الجمعة ويوم السبت ويحدث لهم برأيه ما يستحسنه ويمنع اهل الصليب ان يتزوج احد قريبته او بنت عمه او عمته او ابنة خالته او خاله الا اذا اخذ له اذن من عنده ولا يستطيع احد فعل ذلك الا من كانت له جاه، او مال او سلطة، ويأن لمن وقعت بينه وبين قريبته علاقة غير شرعية فحملت، فهذا لا يحتاج الى وصول الى البابا.
الاسكوريال:
وسبب بناءها هو ان فليب سكوندو حينما كان محاصرا مدينة فرنسية، وكان أمامها كنيسة وراهبها يسمى لونثو ريال، فنصب المدافع أمامها ودكها، فنذر ان يبنى كنيسة أعظم منها فهدمها وأصاب المدينة.
وحينما رجع بنى الكنسية في سفح الجبل الفاصل بين قشتالة الجديدة وقشتاله القديمة، وهي على بعد احد وعشرين ميلا (40كم من مدينة مدريد)، وبناء هذه الكنيسة وما اشتملت عليه في دار الطاغية كلها من الحجارة الصلبة. وهذه المدينة (سان لورنثو) فيها من المدارس الدينية لمختلف الطلاب الواردين اليها، وهذا الاسكوريال كما يقول الغساني هو في غاية الضخامة والعلو وارتفاع السمك في الجو وله من الناحية الغربية صورة من حجارة زعموا انها صورة الراهب لورينصو الريال، والباب الذي عن يمينها ويسارها لدارين كبيرتين للطلبة الفرايلية وعليهم علامتان زرقاء وحمراء توضع علي كتفهم بقدر ما قرآه من علمهم وفنونهم، ويأتون اليها من جميع نواحي مدريد، وقراءتهم الفلسفة واللهوت وما شابه ذلك، كما يقرأون الحساب والهندسة بلسان اللاتين، واللاتين عندهم بمثابة علم النحو عند العرب. وعلى الباب الكبير من التصاوير والمنحوتات الشئ الكثير وقد وصف الغساني بإسهاب ما رآه من نقوش ورسوم للأنبياء والقديسين.
وهؤلاء الطلاب في داخل هذه المدارس يستخدمون آلة موسيقية آثناء اناشيدهم يسمونها الأربة (Harpe,Arpe)، ويسمون آلة للطرب تعرف الانكيطارة (la guitarra)، وهي أصغر من العود الذي عندنا.
وعدد المدارس في الاسكوريال أربعة عشر مدرسة، وكل مدرسة تشتمل على عديد من الغرف فوقها تستخدم من قبل الطلبة، وفي هذه المدارس سقاية لكل واحدة منها؛ ويقابل هذه المدارس باب كبير هي باب الدار التي يسكنها الطاغية في الصيف حيث يأتي لمدة شهر واحد فقط، وبجوار الدار البستان الكبير يأخذ فيها الملك راحته، يتنزه ويصطاد.
وفي داخل الكنسية توجد خزائن الكتب، وقد جمعت من بلاد مختلفة وفيها علومهم وأديانهم والذخائر التي هي موقوفة على الكنسية من عهد بانيها، ولا يقدر أحد على التصرف فيها إلا بالزيادة عليها؛ والى هذه الخزانة كانوا نقلوا خزائن كتب المسلمين من قرطبة واشبيلية وغيرها، وزعموا انها احترقت بالنار جميعا فيما قبل الآن في عشرة اعوام.
وهذا الاسكوريال عندهم هو من الامور التي يعدونها في بلادهم من الامور الهائلة اذ ليس عندهم كنيسة اخرى على شكلها من بناءاتهم أعظم منها.
وقال:"وفي هذا الاسكوريال دفن خمسة طواغي ونساؤهم في ذلك الموضع ".
وقد قارن الغساني هذا الاسكوريال بمساجد المسلمين في طليطلة واشبيلية وقرطبة، وقال:"قد ذكرنا ذلك فيما يتعلق بمسجد قرطبة، أما طليطلة واشبيلية في محلها اذ كان عند رجوعنا من مدينة مدريد.
والملاحظ هنا أن الغساني والمكناسي والغزال، دوّن ذكر لمكتبة مولاي زيدان، وهو أمر ملفت للنظر، فهل كانوا يتفاوضون عليها، ولهذا لم يرغبوا بذكر احتواء الاسكوريال على صناديقها!
وكان الملك زيدان قد ورث عن والده المنصور الذهبي مكتبة قديمة جدا جمع فيها ذخائر الشرق والغرب، واهتمام مولاي زيدان لا يقل عن ولع والده بالكتب وزادها ايضا؛ لكن الحال لا تبق على ماهو عليه فثار عليه احد اقربائه فهرب وترك كل شئ وراءه، فلما فكر ان يستعيد بعض ما تركه لم يفكر الا بالكتب، فشحنها في صناديق الى اسفي لتشحن في سفينة كانت ملكيتها لاحد الفرنسيين، فأمر أن ينقلها الى احد مراسي سوس حيث كان هو وانصاره وعصبة زيدان هناك؛ وانتظر صاحب السفينة أن يدفع له حق الشحنة فلما طال عليه الامر هرب بسفينته عرض البحر فتعرض له قرصان اسباني وطارده للاستيلاء على الصناديق، واستولى في النهاية على المركب الفرنسي واخذ هذه الصناديق، فلما فتحت وجدوها كتبا، ففكر القرصان ان يهديها الى فليب الثاني لأنه كان منهمكا ببناء الدير فوضعها ضمن محتويات المكتبة، ولا يعرف بالضبط كم كانت مجموعة مولاي زيدان – ولكنها تقدر بين 2000 الى 4000 كتاب على اختلاف الروايات – وهي ما زالت موجودة ليومنا هذا.
وقد وقعت عدة حرائق في هذه المكتبة وذهب بعضها نتيجة هذا الاهمال أو نتيجة عمل مقصود.
ويفيدنا الغزال بهذا الصدد انه شاهد مجموعة من الاسرى المسلمين يقدر عددهم بمئتي مسلم بين مدريد والاسكوريال، وقد كاثوا ثلاث مائة فذهب بعضهم شهيدا أثناء هربهم وبعضهم مات من الحزن على أهله، وقد طال بهم المقام وليس من يفتديهم، وهؤلاء كانوا بقايا المحاربين الذين اسروا أثناء معركة الجزائر.
لكن المكناسي يذكر في رحلته انه استطاع ان يخلص عددا من الموريسكيين ويأتي بهم الى مغرب ليعيشوا مع اهلهم، وقد خصصت لهم دور للسكن وتكلف معيشتهم.
الموريسكيون:
يؤكد الغساني على وجود المروريسكيين في المدن التي مر به وكأنه يضع يدنا على مواضع الجالية الاندلسية المسلمة التي يتواجد فيها هؤلاء المسلمون الاسارى، ويرسم لنا خارطة يضع عليها اشارات حمراء ليخبرنا ان العوائل المسلمة تتواجد في هذه المناطق، وهذا يعني انه كان يعرف مسبقا ان تواجد هذه العوائل في هذه المدن يسبقى مدة طويلة وليس بالامكان تحريرهم بسهولة، وعلى من يأتي لاحقا ان يعرف مكانهم او على الاقل ان يكون علي علم بمن بقي منهم، لانه حيثما ذهب كانت السلطة تأتي بهؤلاء الاسرى ليحييوا هؤلاء الضيوف او الموفودين الدبلوماسيين المغاربة، وهو نوع من التكريم. وكانت هذه النقطة مبادرة حسنة اضافة الى انها معلومة جيدة للجنة تفقد الحقائق عن الاسرى ان صح التعبير.
وكان من غريب ما شاهده الوزير الغساني في مدينة أطريرة قال:"ومدينة اطريرة هذه هي مدينة بين الصغر والكبر وجل اهلها من بقايا الاندلس الغالب عليهم الحسن رجالا ونساءً، ولقد شاهدنا ابنتين، بنت حاكم البلد، والاخرى بنت القاضي في غاية من الحسن والجمال والكمال، لم تر عيني في جميع ما رأيت من بلاد اسبانيا على سعتها أجمل منهما، وهما من بنات الاندلس، ومن دم ملك غرناطة الاخير المعروف عندهم بالري شكو (el rey chico).
ولقد اخبرني بمدينة مدريد رجل يسمى ضون ألونصو هذا هو رجل حسن الاخلاق حسن الشباب له قوة وشجاعة ن معروف عن النصارى، معدود من فرسنهم وشجعانهم، قبطانا على جماعة من الخيل؛ ومع هذا فهو مائل الى من يلقاه من اهل الاسلام، ويذكر نسبه ويعجبه ما سمعه من الحديث عن الاسلام واهله، ولقد حدثني عن امه انه حيث حملت به اشتهت اكل الكسكوس، فقال لها زوجها لعل هذا الحمل الذي في بطنك من صنف المسلمين، يدعبها اذ كانوا لا ينفرون عن نسبهم لعلمهم به.
ولقينا بمدينة قالص من الاسارى رجالا ونساءً وصبيانا وهم يفرحون ويعلنون بالشهادة ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعون بالنصر لسيدنا المنصور بالله، فذكرناهم ووعدناهم بالخير وان المنصور غير تاركهم".
"ومن مدينة قرطبة الى مدينة تسمى الكاربي – الغرب – وهي مدينة صغيرة على شفر الوادي، وبهذا الوادي دواليب ونواعير تصعد الماء من الوادي الى البساتين تحت المدينة واهلها اهل فلاحة وحراثة، وهم الى البداوة أميل، وعلى هذا الوادي من جانبيه من المداشر والقرى مالا عدد له.
ومن مدينة الكاربي هذه الى مدينة تسمى اندوخر واحد وعشرون ميلا وهي مدينة قديمة فيها أثر الحضارة، وهي على ضفة الوادي الكبير ايضا، وعلى هذا الوادي بقرب المدينة قنطرة من عهد الاسلام، وبفحص هذه المدينة من الزياتين والغروس والبساتين وارض الحراثة ملا يحصى، واهل حراثة وفلاحة.
وفي مدينة اندوخار كان يعيض بقي بني سراج. يقول عن مدينة اندوخار:" والغالب على عمارها انهم من بقايا الاندلس وجلهم من اولاد السراج الذي كانوا تنصروا على عهد السلطان ابي الحسن آخر ملوك غرناطة وذلك فيما يزعمونه النصارى.
وينقلون في تواريخهم ان بعض اولاد ابن زكريا الغرناطيين بغرناطة كان وشي الى الملك بأحد أولاد السراج وذكر عنه ان له كلاما مع زوجة الملك ومخالطة، فحنق الملك على اولاد السراج الذين معه بغرناطة فقتل منهم جماعة اعيان، وكان اولاد السراج في ذلك العهد هم اقوى جيش المسلمين وبلادهم اندوخر بيدهم باقية بعد تغلب الكفرة على قرطبة واحوازها يحاربون عليها ويذبون عنها، فحين بلغهم خبر من قتل من ساعتهم وقصدوا طاعية الوقت فتنصروا على يده وخرجوا من عنده قاصدين غرناطة فأغاروا عليها، وحضورا بعد ذلك مع الطاغة في حروب غرناطة واحوازها، وجل هؤلاء المتنصرة الذين بأندوخر يعد من اكابر اهل البلد، غير انه لا يعد عند النصارى مثل مالهم من الكبيرة التي يتوارثها النصارى خلفا عن سلف مثل الدوكي او الكندي وشبههما، واكثر ما لهم من هؤلاء المتنصرة ان يحمل الصليب على كتب يرقمه في ثوبه، فتلك هي علامة الاكابر منهم.
والخطط التي يتولونها بقايا هذا الجنس المذكور هي الكتابة وحكومة البلدان والشرطة وغيرها مما ليست له وجاهة كبيرة، وولاية شفيعة مثل التصرف في المحال او الولاية للاقاليم الكبيرة والمدن القواعد مثل اشبيلية وما شاكلها".
ويؤكد الغزال الصورة ذاتها التي رسمها لنا الوزير الغساني ليقول:" واهلها اهل حضارة وقد اخذوا نصيبهم من الحسن ". واخبرنا ان الكثير منهم من بقية الاندلس ولا يستبعد ذلك لان اخلاقهم ليست كأخلاق الروم، وفي ميلهم للاسلام ومحبتهم. وهناك قصبة للمسلمين رحمهم الله. ومن جملة فرحهم بنا واكرامهم لنا وتعظيمهم ان هيئوا فرجة بالمحارق(fuegos artificiales) فيها زيادة على ما شاهدناه من قبل، وحشو كل محرقة بعدة محارق، وقد طلبوا منا المقام عندهم ليتداركوا ما فاتهم من الاكرام، فجازيناهم خيرا واعتذرنا لهم وسافرنا ليلا".
طليطلة:
وخرج الوفد من مدريد في اليوم الاول من رمضان المبارك، ورافقهم جماعة من اتباع الملك لزيارة طليطلة ومشاهدة آثارها الاسلامية ومسجدها الجامع فباتوا بقرية تسمى وشقة، وكانت من حواضر الاندلس، وخرج منها علماء معروفون، وهي دار علم ونباهة، لكنها اصبحت قرية متبدية على حد قوله، وفيها من الآثار والبناء الاسلامي بعض أثر مثل الباب الذي كان يدخل اليها وبينها وبين طليطلة 21 ميلا.
ثم يأتي على ذكر طليطلة والوادي المار بها ويسمى طاخو(el Tajo)، ويمر ايضا بمدينة آرانخويث المنتزه المار الذكر.
وعن اسوارها العالية وحيطانها وازقتها يتحدث الغساني الينا فيصفها انها باقية من ايام المسلمين واثرها اثر حضاري، غير ان ازقتها ضيقة جدا ودورا لم تتبدل منذ العصر الاسلامي، وقد شاهد النقوش العربية المكتوبة في السقف والحيطان؛ ومسجدها الجامع من عجائب الدنيا، وقد غير النصارى بعض ملامح المسجد الكبير من جوانبه زيادة في الوسط بشبابيك من نحاس اصفر وفيها من تصاويرهم وصلبانهم وآلة الموسيقى المسماة عندهم اوركان التي يضربون بها وقت صلواتهم مع الكتب التي يقرؤنها شئ كثير. وابواب مسجد طليطلة في غاية الاتقان.
ثم تحدث عما موجود في هذا المسجد من الذخائر والتحف، ثم عن منارة المسجد وما احدث فيها من تغير؛ وفي طليطلة اثر القصبة التي كان يسكنها ملوك المسلمين، وقد احدث فيها التغيير.
ثم ان المؤلف يورد بعض الحوادث التاريخية القديمة ويحاول ان يأتي بالروايات المختلفة حول هذه الواقعة او تلك خاصة فيما يتعلق باجتياز طارق بن زيد البحر وافتتاح المدن الاندلسية الواحدة تلو الاخرى، وما وجده من خزائن ملوك القوط حتى وصوله الى طليطلة.
كما يتناول عبور موسى بن نصير حينما سمع بتمكن طارق من بلاد الاندلس فقرر العزم على دخول هذه الارض؛ لكنه لم يسلك الطريق نفسها بل حاول بدءاً ان يختار لفنسه طريقا آخر غير الذي سلكه مخدومه، فعبر من سبتة ومر بقرى ومدن حتى وصل الى اشبيلية عبر قلعة زعواق ومنها صار الى لبلة (Niebla) ثم الى باجة (beja) واكشونبة (Osconoba)، وانتهى المطاف به الى طليطلة حتى التقى بطارق.
وكان خروجه من مدينة تونس سنة ثلاث وتسعين، وقد أشار المؤلف الى عدة الجند الذين كانوا مع موسى في العبور بـ18000 رجل من قريش والعرب وسائرالناس، وكان من كبار التابعين الداخلين مع موسى علي بن رباح اللخمي، وحنش بن عبد الله الصنعاني (صنعاء الشام) ، والى أولهم تنسب المدينة المعروفة بقلعة رباح(Calatraba)؛ وأما الثاني فقد بنى عدة جوامع في أربيرة وغيرها، ثم استقر به المقام في سرقسطة وبنى بها مسجدا جامعى وبه دفن. ثم تحول هذا المسجد الى كاتدرائية المدينة الى يومنا هذا.
ورواية اخرى اوردها المؤلف انه دفن عند بابا اليهود بقرب المدينة وقبره مشهور، كما اكد على ان حنش كان مع علي بن أبي طالب، وحيوة بن رجاء وغيرهم، وقد سار موسى باتجاه مخالف حتى وصل الى مدينة لقنت(Alicante).
مسجد الرايات:
قال محمد بن مُزين:"وجدت في خزانة باشبيلية سنة احدى وسبعين واربع مائة، أيام الراضي بن المعتمد سفرا صغيرا من تأليف محمد بن موسى الرازي سماه بكتاب الرايات ذكر فيه دخول الامير موسى بن نصير وكم راية دخلت الاندلس معه من قريش والعرب فعدها نيفا وعشرين راية منها رايتان لموسى بن نصير عقد له احدهما امير المؤمنين عبد الملك على افريقية، والاخرى عقدها امير المؤمنين الوليد بن عبد الملك على افريقية أيضا، وما يفتحه وراءها الى المغرب، وراية ثالثة لابنه عبد العزيز الداخل معه؛ وسائر الرايات لمن دخل معه من قريش ومن قواد العرب ووجوه العمال، وذكر فيه سائر البيوتات ممن دخل دون راية.
وقيل ان اجتماعهم لهذا المشهد الكرمي كان في الموضع الذي فيه مسجد الرايات في الجزيرة الخضراء في ذلك اليوم، وبها سمّى الرازي كتابه بـ كتاب الرايات.
وهذه الرواية ينقلها عن عبد الملك بن حبيب في كتابه مختصر التاريخ؛ ونجد ذلك في النص الذي نشره العلامة الاسباني جاينجوس لكتاب حولية الرازي المسمى:
La cronica del Moro Raziz الذي نشره في مدريد سنة 1852، ولكن الغربي في الرواية ان اجتماع موسى كان في الجزيرة الخضراء، وهي تقابل طنجة، والمؤلف يورد الرواية الثانية عن مكان عبور موسى ثم جواز سبتة!!
يقول: والذي يقابل جبل الفتح من بلادنا هو جبل بليانوش ويعرف بجبل موسى، سمى بذلك باسم مدينة كانت به قديما وقد بقي بها أثر الجدران والحيطان وأشجارها باقية الى الآن تدل على مكانتها، وهي في غرب سبتة ومقدار ما بينها نحو ميلين. وفي غرب بليونوش عيون مياه عذبة تعرف قديما بعين الحياة، زعموا انها عين الحياة التي شرب منها الخضر عليه السلام.
وتنتهي الرحلة بانتهاء الحوادث التاريخية التي تم بها فتح المسلمين لجزيرة الاندلس.
المصادر:
1- Anonimo: Lazarillo de Tormes. طبعة. كَركَوريومارينيون
Pre: G.Maranon. Madrid. 1979
2- الاكسير في فكاك الاسير. محمد بن عثمان المكناسي م/ 1798.
تحقيق: محمد الفارسي – الرباط – 1965.
3- رحلة الوزير في افتكاك الأسير. محمد بن عبد الوهاب الغساني م / 1191هـ.
تحقيق الفريد البستاني – طنجة – 1940.
4- نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد. احمد بن مهدي الغزال م/ 1191هـ.
تحقيق الفريد البستاني – تطوان 1941 ط 1.
5- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب – احمد بن محمد المّفرى م / 1041 هـ.
تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد – القاهرة 1949.
الهوامش
[1] - نفح الطيب6: 23-24.
[2] - المصدر السابق 6: 23.