المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 59.doc

- الفصل الثالث:- في القوة والجهاد

والجهاد مأخوذ من الجهد بمعنى التعب والمشقة، وبالضم مأخوذ بمعنى الوسع والطاقة، فإن المجاهد سواء كان جهاداً بالنفس أو بالمال أو بسائر ما يتعلّق بالإنسان يبذل ما في وسعه وطاقته، أو يتعب ويشقّ عليه العمل وإن كان العمل بذل المال، فإن فيه صعوبة وبذل طاقة في مقدماته من جهة الكسب وفي بذله من جهة الضغط الروحي.

وقد عرف الجهاد الشرعي بأنه بذل المال أو النفس أو ما يتعلق بالإنسان في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، سواء كان متعلق كلمة الله نشر الإسلام أو إنقاذ المستضعفين، قال تبارك وتعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين)، أو يكون القتال لردّ البغاة فإن البغاة إذا تغلبوا لم تكن كلمة الله هي العليا بل كانت الكلمة للشيطان.

ولا يخفى أن المراد بإعلاء كلمة الله هي الإعلاء في أذهان الناس وفي اعتقاداتهم مضافاً إلى التطبيق في قوانينها وفي أحكامها، وإلا فكلمة الله هي العليا على كل حال بحسب المرتبة الواقعية وإنما الجهاد يكون في عالم الإثبات والمظاهر العامة للمجتمع في التوحيد وفي الالتزام بأحكام الله عز وجل، ومن ذلك يعرف أن الجهاد على ثلاثة أقسام:

- الأول: الجهاد مع الكفار.

- الثاني:الجهاد مع المنحرفين وهم البغاة، والمراد منهم الثائرون على الدولة الإسلامية العادلة، وكذلك المنحرفون على الشريعة ممن يظهرون الإسلام.

- الثالث: الجهاد مع النفس.

وإذا تحققت هذه الأقسام الثلاثة من الجهاد لابد أن تعمر البلاد وأن يسعد المجتمع في الدنيا وفي الآخرة، وإذا لم تحقق هذه الأقسام فالدنيا فوضى والمجتمع تعيس وشقي في دنياه وأخراه على تفصيل لسنا بصدده الآن.

هذا وقد ورد تشريع الجهاد في متضافر الآيات القرآنية إضافة إلى السنة، في أبعاده المختلفة ولعل أهم الأبعاد أربعة:

- الأول: في شرعية الحرب حيث قال عز وجل: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) والآية صريحة في أن المجتمع المسلم لا يبتدئ بالحرب أولاً وإنما إذا استهدف بالعدوان الخارجي فحينئذٍ يتعين عليه القتال، وبهذه الآية شرع الله عز وجل للمسلمين أن يقاتلوا دفاعاً عن أنفسهم وعن المجتمع الإسلامي ودولته ضد من يعتدي عليهم من القوى المعادية.

وسياق الآية كما تدل الآية التالية لها على مشروعية الحرب الدفاعية والظاهر من الآيات أن الخطاب لم يوجه إلى فئة خاصة من المجتمع ولا حتى إلى جهاز السلطة وإنما وجه إلى الأمة بنحو عام مما يكشف على أن الجهاد واجب على الجميع في بعض مراتبه يكون واجباً كفائياً كما هو الغالب وفي بعض موارده يكون واجباً عينياً.

- الثاني: في إعداد القوة إذ يجب على المجتمع المسلم أن يتهيء من ناحية القوة ليكون رادعاً للأعداء من تجاوزهم أو سحق حقوقه، فيكون إعداد القوة جزء من استراتيجية الدفاع على ما يعبرون. وعليه فإنه لابد للمجتمع من استعداد وإعداد على مستوى التعبئة والتجنيد والتسليح والتمويل، وقد خاطب الباري عز وجل الأمة عموماً بإعداد أسباب القوة المناسبة للحرب والاستعداد للدفاع بكل الإمكانات المتاحة في قوله عز وجل: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفى إليكم وأنتم لا تظلمون) والآية تنص في أن الغاية الأساسية من الإعداد والاستعداد هي إيجاد الرهبة الرادعة عن العدوان، فإذا لم يرتدع العدو كان المسلمون على استعداد لمقاومته وهذا يتناسب مع كون الحرب المشروعة هي الحرب الدفاعية.

- الثالث: الحرب الدفاعية وقد شرّعها الباري عز وجل على مستوى التشريع والإنشاء وأمر بالإعداد والاستعداد لها على مستوى التوقي والحذر. وبين صراحة طبيعتها الدفاعية في جملة من الآيات، وأمر بخوضها حينما يفرض العدو ذلك على المسلمين لعدوانه عليهم، وذلك في مثل قوله عز وجل: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) والملحوظ في الآية الشريفة أن الإذن بالقتال فيها ليس للنبي وحده وإنما هو للأئمة بنحو عام التي تعرضت إلى الظلم والى التبعيد والتهجير.

وهذا ما يعضده قوله سبحانه وتعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) فإنها صريحة في أن المسلم إنما يقاتل فيما إذا قوتل لكن حتى في صورة قتاله فإنه لا يجوز له الاعتداء.

- الرابع: الاستجابة بالصلح والسلام فيما إذا دعي إليهما بعد الحرب وهذا أيضاً من مظاهر الحروب الدفاعية وقد خاطب الباري عز وجل في مثل هذه السياسة النبي تارة كما خاطب الأمة أحياناً فمن الأول قوله عز وجل: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) وخاطب النبي والأمة في قوله عز وجل: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير والآيات هنا دالة لظهورها على أن كف الكفار عن حرب المسلمين والعدوان عليهم يجعل من الممكن إقامة حالة سلام بينهم وبين المسلمين لعدم مؤاخذتهم على ما قد سلف منهم من عدوان وإن عادوا إلى العدوان ثانية فإنهم سيقابلون بالحرب التي تنهي قدرتهم على العدوان من جديد والملحوظ في مجموع الآيات المباركة أن الخطاب تارة وجه إلى النبي وتارة وجه إلى الأمة.

والخطابات المشرعة للحرب والآمرة بها وجهت إلى الأمة، أما آيات الصلح فعادة وجهت إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) مما ربما يمكن الجمع بينهما على ما يستفاد منه بحسب الفهم العرفي أن إبرام معاهدات ومواثيق السلم والصلح هو حق خاص للقيادة العليا للدولة، لأن ذلك من الموضوعات المستنبطة التي تحتاج إلى أهل الخبرة وليس لكل أحد في الأمة أن يخوض في معاهدات صلح أو إتفاقية سلام مهما كان شأن السلطة التي يتولاها ولعلّ هذا أيضاً ما يستفاد من بعض الروايات.

وأما الحرب فإن الخطاب وجه إلى الأمة لأنه تكليف الجميع إذ أن الحروب الدفاعية في جميع حالاتها واجب كفائي على الأمة وعام على جميع أفرادها إذ عليها أن تهيء نفسها لهذا الواجب دائماً بحيث تكون قادرة على الدفاع والنصر حين تدعو الحاجة إلى ردع العدوان على تفصيل لسنا الآن في مقام بيانه.

هذا ولا يخفى أن فضل الجهاد عظيم وثوابه كثير وفوائده جليلة، وقد ورد في الكتاب والسنة من الحث عليه والترغيب إليه الشيء الكثير.

أما آيات الجهاد في القرآن فهي أشهر من أن تحتاج إلى التدوين كما عرفت بعضها مما تقدم، وأما في السنة المطهّرة فهو ما قامت عليه متواتر الروايات مما يكفي عن مزيد البيان خصوصاً لمن راجع الوسائل كتاب الجهاد.

وأما قيام الإجماع عليه فهو مسلّم وأما العقل فيدلّ على محبوبيته في الجملة على اختلاف المراتب بين الوجوب والاستحباب كما فصّله الفقهاء في كتاب الجهاد من الفقه، ونكتفي هنا بالإشارة إلى رواية واحدة عن مولانا الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الخير كله في السيف وتحت ظل السيف ولا يقيم الناس إلا السيف والسيوف مقاليد الجنة والنار) كما رواها في الوسائل.

ولعل مضمون الرواية يدل على أن السيف به يتقدم الحق وينتصر كما أن به يبقى فقوله (عليه السلام) في السيف باعتبار أن السيف يفتح الطريق أمام الحق وقوله (عليه السلام): تحت ظل السيف باعتبار أن بقاء الحق معمولاً به عند الناس إنما هو تحت راية السيف والقوة إذ لولا القوة والسيف لم ينطبق عدل أو حق بين الناس، إذ من المعلوم أن الناس لو لم يجدوا السيف لم يعملوا بالموازين الإنسانية والإسلامية فقيامهم إنما هو بالسيف والقوة، وأما قوله (عليه السلام) أن السيوف مقاليد الجنة والنار فهو تعبير مجازي يراد به أن مفتاح الجنة هو تجريد السيوف والجهاد في سبيل الله وأما إغمادها فهو مفاتيح النيران.

ولا يبعد أن يكون المراد منه هو التصنيف بين سيف الحق وسيف الباطل فسيف الحق مفتاح للجنة وسيف الباطل مفتاح للنار باعتبار أن القوة قد تكون بيد أصحاب الحق وقد تكون بيد أصحاب الباطل، والظاهر أن المراد بالسيف هنا هو الكناية عن القوة إذ ورد التعبير بالخيل أيضاً في جملة من الروايات، ومنه يستفاد بأنه ليست الخصوصية بالسيف وإنما لأن السيف هو أظهر مصاديق القوة وكذلك الخيل أيضاً وفي هذا المجال يقول السيد الأستاذ المرجع الشيرازي (قدس سره) في كتابه الفقه الجهاد ص54 ج47 يقول تعليقاً على ذلك أن من عجيب الأمر أن سيف المسلمين في هذا القرن الأخير وضع في الرف فالمسلمون بمعزل عن السيف وإذا كان فيهم وبيدهم سيف فإنما يسيره المبادئ الوافدة ويأخذ بمقبضه الأيادي الملوثة فاللازم أن يهتم المسلم النزيه لإعادة السيف إلى أيدي المسلمين، ولا يخفى أن القوة الهائلة التي وقعت بأيدي غير المسلمين لا يمكن أن يتجاهلها الإنسان المسلم على أية حال ويلزم أن لا يفكر المسلم أفكاراً صبيانية حول تبدل الأوضاع تلقائياً بدون بذل الجهود والجهاد، كما لا يمكن أن يقول المسلم أن قد تم ولا يصلحه إلا الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه) بل الجهاد واجب كالصلاة والصيام وإن كان الإصلاح العام بيد الإمام الهمام (عليه آلاف التحية والسلام)، فاللازم تحصيل السيف في إقامة الحق.

هذا ولا يخفى أن السيف لا يحصل بيد المسلم النزيه إلا بعد مقدمات خمسة هي:

التثقيف والتنسيق والتصنيع والتأسيس والتكوين.

فاللازم تثقيف المسلمين بالثقافة الإسلامية التطبيقية بحيث يعرف كل مسلم ما هو الإسلام وكيف يمكن تطبيقه في الظروف الحاضرة، وكذلك اللازم تنسيق الجهود للعاملين في مختلف الحقول الإسلامية بالتنظيم وما أشبه، كما قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (الله الله في نظم أمركم).

كما يلزم تصنيع بلاد الإسلام فإن المسلم ما دام محتاجاً يكون تحت الأيدي وقد قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (احتج إلى من شئت تكن أسيره واستغن عمن شئت تكن نظيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره).

وهكذا يلزم تأسيس المؤسسات الإسلامية من ثقافية وصحية واجتماعية وما أشبه، حتى تعود الثقة إلى المسلمين بأن يثقوا بأنفسهم وأنهم قادرون على أن يأتوا بالحاجيات على نهج إسلامي ولا يتصوّروا أنه لابد من المدارس الغربية والبنوك والسياسة والفكر الغربي بل يعرفوا أنه من الممكن تأسيس المدارس المنظمة على نحو يرتضيها الإسلام وكذلك تأسيس المصارف الاقتصادية بما لا تحتوي على الربا وعلى القوانين اللإسلامية وأما التكوين فهو عبارة عن تكوين ذهنيات إسلامية علمية وعملية فإن الثقافة المجردة لا تكون محفزة للعمل كما لا يخفى وهذا الذي ذكرناه هو مقدمة للتحصيل على السيف يحتاج إلى بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر.

وهنا مسائل:

- المسألة الأولى: يظهر مما تقدم أن الجهاد على قسمين:

جهاد إنقاذي وهو يكون وجوبياً لأجل إعلاء كلمة الله عز وجل أو لأجل إنقاذ المستضعفين، وجهاد دفاعي وهو ما يكون لردع العدوان الذي يتعرض إليه المسلمون، ولا يخفى أن الإسلام يزن الحرب بميزان الصلاح للدنيا والآخرة بالنسبة إلى الذين يحاربهم وبالنسبة إلى الآخرين، فإذا حارب الإسلام اليهود فإنما يريد إصلاح حالهم دنيا وآخرة كما يريد إصلاح حال الآخرين الذين يعتدي عليهم اليهود إذا بقوا على سياستهم في المحاربة، ولذا يكون الفرق بين الحرب الإسلامية والحرب غير الإسلامية في الهدف أولاً فإن هدف الإسلام هو الصلاح والإصلاح، بينما هدف الحروب غير الإسلامية هو الفساد والإفساد، وقد أوجزت الآية الشريفة أهداف الحروب الإسلامية بقوله عز وجل: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) فالغرض هو كلمة الله التي في إعلاءها صلاح حال الناس دنيا وآخرة، وإنقاذ المستضعفين من براثن المستغلين والجائرين، وأما الخراب والضرر الذي يلازم الحرب في البلاد أو في المال أو الأنفس أو الأعراض فالإسلام ينطلق فيها عن منطلقين غالباً هما: رد الاعتداء والوصول إلى الأصلح.

أما رد الاعتداء فهو المستفاد من مثل قوله عز وجل من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وأما الوصول إلى الأصلح في القاعدة العقلية القاضية بلزوم دفع الفاسد بالأفسد، ومن الواضح أن الإسلام يبيح قتل الكافر وسبي عرضه ونهب ماله، وخراب بلده، لكن ليس بالعنوان الأولي وإنما بالعنوان الثانوي لأنه في مقابل قتال الكافر للمسلم وسبي الكافر بعرض المسلم ونهب ماله وخراب بلده كما أنه يبيح الإسلام كل ذلك بالنسبة إلى الكافر قبال الوصول إلى الأصلح بمعنى لو أدّى ذلك إلى جرّ الكافر إلى الصلح وفرض السلام فأمكن تطبيق ذلك من باب المصلحة الأهم، وهذا ما جرت عليه السيرة العقلائية أيضاً فمثلاً سلطة طاغية إذا سلطت على الناس فإن الإسلام يحاربها بما يستلزم الحرب من خراب ودمار وذلك لأجل أن الخراب الناجم عن إزاحة تلك السلطة أقل من الخراب الناشئ من بقاء تلك السلطة ومن الواضح أن المسألة تدخل في صغريات الأهم والمهم حينئذٍ.

وبهذا يتبين أن الإسلام لا يحارب لأجل السلطة والغلبة ولا لأجل الاستعمار والاستثمار، وإنما يحارب لأجل الإنسانية ولأجل الحق، وعلى فرض دخوله في الحرب فإنه يحارب بأقل قدر ممكن لأن الدخول في الحرب في الإسلام من باب الضرورة والضرورات تقدر بقدرها، كما أنه يلتزم بالأضرار الأقل من الخراب وما أشبه الذي عادة يلازم الحروب فيضحّي ببعض الأضرار لأجل الحفاظ على الصلح والسلام لا أنه يحارب حقداً واعتباطاً وانتقاماً أو طمعاً وشرهاً بالمصالح كما هو شأن سائر الحروب، وما وقع من بعض الحكام الذين نسبوا أنفسهم إلى الإسلام كذباً وزوراً كما في ملوك بني أمية وبني العباس وأحزابهم من الحروب وفي الحروب كان الإسلام منها بريئاً فإن الميزان هو الكتاب والسنة الصحيحة لا عمل الحكام الجائرين كما هو واضح، فلا ينبغي سيرة بني أمية وبني العباس معياراً للحكم على الإسلام وعلى هذا فإذا كان من لوازم الحرب نسف المنازل وفيها الأطفال والنساء والشيوخ، فإن الإسلام لا يقدم على ذلك إلا اضطراراً من باب العنوان الثانوي وذلك لأجل أن العدو يفعل ذلك فإذا وقف المسلمون في قبالهم مكتوفي الأيدي كان معناه إما غلبة الجور على العدل والباطل على الحق وإما بقاء الجور في تلك البلاد وعدم إنقاذ أهلها والأجيال الآتية وإما الوقوع في الأضرار الأكبر والأشد.

فمثلاً اليهود قصفوا قرى المسلمين وأشعلوا فيها النيران وألقوا في مياههم السم وما أشبه وقتلوا العجزة فإذا أراد المسلمون أن يتركوا هذه الأمور اكتفاءاً بالحرب في الجبهة مع الرجال فقط كان لازم ذلك تغلب اليهود الذي فيه فساد الدين والدنيا، فالإسلام إنما يبيح ذلك مقابلة بالمثل وإحرازاً لنصرة الحق ودفاعاً عن النفس والوقوف أمام الضرر الأكبر.

وهكذا فيما إذا سيطرت سلطة اليهود على يهود مثلهم لكن الحكام يسومون المحكومين سوء العذاب فيما إذا لم يفعل المسلمون تلك الأمور الملازمة لتنحية السلطة الجائرة لزم بقاء الجور على المحكومين وامتداد الجور إلى الأجيال المستقبلة مما يكون المحاربة أقل محذوراً من الإبقاء وفي كلتا الصورتين يجوز الإسلام الحرب وإن استلزمت بعض المحاذير المذكورة والملاحظ في مثل ما ذكرناه أن الإسلام لا يلاحظ فقط شؤونه وشؤون المسلمين في الدفاع عن الحقوق وإنما حتى لو تعرّض اليهود إلى الظلامة من أبناء جلدتهم وما أشبه فإنه يدافع عنهم. وقد ورد في باب التخريب طائفتان من الأحاديث بعضها ينهى وبعضها يأمر، والمقتضى الجمع العرفي بينهما بتخصيص الناهية بصورة عدم الحاجة إلى التخريب، وحمل الثانية الآمرة على صورة الحاجة والضرورة وذلك للقرائن الداخلية والخارجية.

هذا وقد عقد العلماء في كتب الفقه والحديث بابين باب في آداب السرايا وباب في أعمال العنف ونحن نشير هنا إلى بعض الروايات الواردة في هذا المجال، منها ما رواه أبو حمزة الثمالي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين هو جار حتى يسمع كلام الله فإن تبعه فأخوكم في الدين وإن أبى فأبلغوا مأمنه واستعينوا بالله).

وعن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا بعث أميراً على سرية أمره بتقوى الله عز وجل في خاصة نفسه ثم في أصحابه عامة ثم يقول اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ولا مبتتلاً في شاهق ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تحرقوا زرعاً لأنكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلا ما لابد لكم من أكله وإذا لقيتم عدواً للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث فإن أجابوكم إليها فاقبلوا منهم وكفوا عنهم ادعوهم إلى الإسلام فإن دخلوا فيه فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وادعوهم إلى الهجرة بعد الإسلام فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وإن أبوا أن يهاجروا واختاروا ديارهم وأبو أن يدخلوا في دار الهجرة كانوا بمنزلة أعراض المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراض المؤمنين ولا يجرى لهم في الفيء ولا في القسمة شيئاً إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عز وجل عليهم وجاهدهم في الله حق جهاده والرواية صريحة في أن الجهاد والقتال إنما يكون آخر الحلول وليس أولها.

وعن الريان قال سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا بعث جيشاً فامر عليهم أميراً بعث معه من ثقاته من يتجسس له خبره) إلى غير ذلك من الروايات الدالة على أن الحرب لأجل الدفاع وليس لأجل العدوان أو الاستعمار أو الاستثمار وما أشبه ذلك.

- المسألة الثانية: الدفاع واجب على كل مسلم، في أمور ثمانية:

1- أن يكون عن الإسلام.

2- أن يكون عن المسلمين ومقدراتهم.

3- أن يكون عن حكم الإسلام.

4- أن يكون عن النفس وما يتعلق بها.

وفي هذه الصور إما أن يكون الدفاع في مقابل الكفار أو في مقابل المسلمين البغاة، فقد يرد الكافر مثلاً أن يمحي الإسلام ويبدل دين المسلمين وقد يريد قتل المسلمين عامة أو قتل أهل بلد مثلاً من دون أن يريد اجتثاث الإسلام كما هو المتعارف في سياسة المستبدين من المسلمين، سواء كان ذلك لأهل عداءه لأهل بلد عداءاً غير مرتبط بالدين أو كان عداءاً من توابع العداء للدين، والمراد بمقدرات المسلمين هو ما لو قاتلهم لأجل تحطيم اقتصاد المسلمين أو تحطيم سيادتهم وعزتهم أو إلغاء حريتهم أو ما أشبه وقد يريد تبديل بعض أحكام الإسلام كما لو قاتل حتى يضع بعض القوانين الكافرة مكان بعض القوانين الإسلامية وقد يريد قتل الإنسان أو سلب ماله أو هتك عرضه أو قتل ولده مثلاً، ثم في كل هذه الصور فقد يكون الذي يعمل هذه الأمور كافراً وقد يكون مسلماً فالمجموع ثمانية، والظاهر أن الأقسام الستة الأولى كلها محكومة بحكم الجهاد لإطلاق أدلة الجهاد والدفاع، فلو أن حاكماً مسلماً أراد تبديل أحكام الإسلام فدافع المسلمون عن ذلك كان قتيلهم لا يغسل.

وهكذا فإن قوله عز وجل: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) وقوله: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم)، وكذلك الروايات المتضافرة تشمل كل الأقسام الستة على تفصيل لا يسعنا المجال لبيانه، نعم ربما تحصل بعض الأفراد نشك في دخولها في الإطلاقات المذكورة كما إذا أراد حاكم مسلم أو كافر تغيير قانون من قوانين الإسلام فاجتمع المسلمون لأجل التشاور في الأمر والاستنكار فأطلق الحاكم الرصاص عليهم فأرداهم صرعى، أو أخذهم وشنقهم مثلاً فإن كونهم محكومين بحكم الشهيد في مثل هذه الصورة محل تردد وإشكال، والظاهر العدم لانصراف الأدلة عن مثله.

والقول بوجود المناط هنا غير تام على ما يبدو، نعم إذا جرد الطرفان السلاح لم يبعد أن يكون منهم كما أن الإمام الحسين (عليه السلام) جرّد السلاح حين جرّد الطرف الآخر وقاتل حتى قتل، فإنه (عليه السلام) وأصحابه كانوا شهداء بلا إشكال بل هم سادة الشهداء وبذلك يعرف وجوب الدفاع في القسم السابع والثامن أيضاً.

- المسألة الثالثة: في السياسة العامة للحرب، لا شك أن الإسلام دين السلام وأن الحرب ضرورة فيه، ولا تلجأ إليها الدولة الإسلامية إلا في صورة الاضطرار كما يضطر الإنسان لإجراء عملية جراحية مثلاً، وقد كان من عادة الرسول (صلى الله عليه وآله) أنه يلتزم بالحروب بالدفاع حتى يكون السبب في الحرب هو الطرف المهاجم ولا ينافي ذلك وجوب الجهاد حتى الابتدائي منه، لأن المراد بالجهاد الابتدائي في قبال الدفاعي، والمراد بجعل الرسول حروبه دفاعية أنه كان يصبر حتى يهاجمه العدو، فيهاجمه ويدخل معه في حرب حينئذٍ فإنه لا شك في أن كل قوتين متجاورتين تتصادمان والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان ينتظر خرق القوى الأخرى للموازين حتى يجد المبرر العقلائي لخوض الحرب دفاعاً، ثم إن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) إذا دخل الحرب كان يقتنع بأقل قدر ممكن من الاستفزاز فيقتل من لابد من قتله ثم يعفو ويطلق سراح الأسراء ومن أشبههم مناً أو في قبال فداء بسيط، ويكرمهم أيضاً ويقول أكرموا عزيز قوم ذل.

وكان يعطي لهم سهم المؤلفة قلوبهم ويداري المنافقين بأكبر قدر من المداراة، وقد قال (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) ذات مرة: (يا علي من مكارم أخلاق الدنيا والآخرة أن تعفوا عمن ظلمك وتلين الكلام والسخاء، وهذه الثلاثة من أبرز سمات القيادة الناجحة فإن تعقل الإسلام ورؤيته للعواقب وحكمته وحزمه أوجب أن يعمل عملاً لا يكون له رد فعل سيء وقد وقعت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخطاء كبيرة سببت أبشع الآثار التي يكتوي المسلمون بنارها في مثل هذا اليوم أيضاً، إذ وقع الخلفاء من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطائفة من الحروب سببت كل هذه المآسي وربما نوجزها كالتالي:

- الأول: الخطأ فيما سمي بحروب الردة بينما لم تكن ردة عن الإسلام في الواقع بل عدم الاعتراف بخلافة الأول بعد النبي، كما يدل على ذلك أصح التواريخ، وبدلاً من أن تعالج تلك بروح نبوية عولجت بالعنف والقوة والحروب الدامية مما سبب تشويه سمعة الإسلام وتنفير الناس عنه.

- الثاني: الخطأ في الفتوحات التي قادها الثاني فإنهم غيروا خطة الرسول في الدفاع إلى الهجوم ثم عاملوا البلاد المفتوحة وأهلها أسوأ معاملة مما يسبب أن يصبغ الإسلام بطابع العنف بدلاً من طابعه الإنساني الواقعي الذي كان يصطبغ بالرفق ومما يؤسف له حقاً أن الغرب وغيره من العوالم غير المسلمة درست الإسلام من هذا الطريق فتصورت أنه عنيف الطريقة وقاسي السياسة.

- الثالث: الخطأ في زمن عثمان حيث استبدت القبيلة والأثرة بالأموال والمناصب بزمام المسلمين حيث أوجب الانشقاق الداخلي وصنع الحرب الأهلية التي أدت إلى قتله أيضاً ولسنا فعلاً في صدد تحليل هذه السياسات الثلاثة إلا أن هذا ما أثبته التاريخ وكانت من الأخطاء الكبيرة التي شوهت سمعة الإسلام وأعطته صورة عنيفة وقاسية في أنظار غير المسلمين خلافاً لسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والآثار السلبية لهذه السياسات الثلاثة تنعكس في أمور أيضاً:

- أولاً: في عدم نمو المسلمين نمواً حضارياً، بل جند المسلمين وتبدل الحكم إلى أبشع دكتاتورية واستبداد منذ زمان معاوية وهذا كان من أسباب انحطاط المسلمين وتقدم غير المسلمين عليهم.

- ثانياً: نكوص العالم عن الإسلام فبينما نجد أن سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لو كانت بعده مستمرة في مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لدخل كل العالم في الإسلام نرى أن قوى العالم تكالبت ضد المسلمين ووقفت تصد وتحول دون نشره.

- ثالثاً: الانشقاقات الداخلية التي قسمت المسلمين إلى شيعة وسنة وهذا الانشقاق مستمر إلى هذا اليوم، مما جر كل الويلات على الإسلام والمسلمين منذ فجر الإسلام والى ما لا يعلم مداه إلى الله.

ولا يقال إذا كانت الفتوحات كما تذكرون فلماذا اشترك فيها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بمشورته وبأولاده وبأصحابه كالحسنين وسلمان وأبي ذر وعمار وغيرهم لأنه يقال سبب مشاركة الإمام هو تخفيف الأضرار والحؤول دون مزيدٍ من الظلم والجور على عموم الناس الأبرياء إذ لاحظ الإمام (عليه السلام) قاعدة الأهم والمهم، وفي المثل المشهور كلما تداركت الخسارة فهو ربح على تفصيل ذكره بعض المؤرخين في مظانه.

- المسألة الرابعة: يجب على الدولة الإسلامية أن تبني على ما بنى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) دولته الكريمة فيجب أن تدعو إلى السلام وأن تجنح إليه أيضاً كلما جنحت إليه الدولة غير الإسلامية ففي الأول قال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) وفي الثاني قال عز وجل: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) فإذا اضطرت الدولة إلى حرب خارجية أو إخماد حركة داخلية فاللازم أن تراعي منتهى النظافة والإنسانية فإن الحرب مثالها مثال العملية الجراحية التي تقدر بقدرها الاضطراري.

ولا يخفى أن هناك واجباً كبيراً أيضاً ملقا على عاتق الدولة الإسلامية ينبغي أن تراعيه في سياستها الدفاعية وهو إيقاف هذه الحروب والثورات وسباق التسلح الذي وقع فيه العالم حتى اتصلت الثورات والحروب وتتالت الانقلابات والتهمت السلاح أكبر واردات العالم فصارت البشرية بين جحيم الحروب وجحيم الفقر وجحيم الجهل التي أكلت الأسلحة ثروات العالم فيه، فأخذت تعاني الأمرين، قال عز وجل: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) فإيقاف الدولة الإسلامية لهذه الأمور الفجيعة يعد من أحسن سبل الله عز وجل ومن أحسن سبل إنقاذ المستضعفين.

والسؤال هنا هو كيف تتمكن الدولة في أن تساهم في ذلك؟ والجواب عن ذلك نذكره عن كتاب الحكم في الإسلام للمرحوم السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في ص136 أجاب عن هذا السؤال بأمور:

- الأول: إيقاف الانقلابات الفجائية التي من أخطاء الأمم المتحدة قانون الاعتراف بها باعتبار أنها أمر داخلي فإنك إذا سالت من أي عاقل أنه إذا تنازع زوج وزوجة في دار وأراد الزوج قتل زوجته فهل يحق للجيران السكوت باعتبار أنه أمر داخلي لا يرتبط بهم أم أن الواجب عقلاً ومنطقاً عليهم التدخل لإنقاذ الزوجة إذ لا يشك عاقل في وجوب التدخل، وإذا كان هكذا في الأمور الشخصية فلماذا يجب على الجيران التدخل لإنقاذ زوجة ولا يعتبر الأمر داخلياً ولكن يجب التدخل لإنقاذ أمة بحجة أنه أمر داخلي فإن هذا من التناقضات العجيبة التي وقعت بها الأمم المتحدة.

- الثاني: إيقاف حق الفيتو الذي أملاه على الأمم المتحدة السلاح فأي معنى أنه إذا أخذت الأمم المتحدة قراراً بالأكثرية أن يكون لمثل أمريكا وروسيا حق الفيتو وإبطال رأي الأكثرية أليس هذا خلاف العقل والمنطق والشرع الذي يقول بالشورى فإنه في الحقيقة لون آخر من أحكام الغرب وتحكيم السلاح مكان العقل والمنطق، ويصدق عليه ما قال الشاعر

 كلو باطلاً ونظوا صارماً***** وقالوا صدقنا فقلنا نعم

 إن المسلم لا يكون لهذا الامر نعم بل يقف موقف الرفض ويقول لا.

- الثالث: وجوب أن تهتم الدولة الإسلامية بتحجيم السجون والمعتقلات وإلغاء الإعدامات الاعتباطية وإلغاء الفقر والمرض والجهل بكل طاقتها فإنها هي مبعث الثورات والحروب الداخلية والخارجية.

- الرابع: الاهتمام بالحد من صنع الأسلحة بكل جد وإخلاص وتحويل تجارة الأسلحة ومعاملها إلى تجارة الأشياء النافعة وإلى معامل تفيد البشرية بدل أن تضرها إلى غير ذلك من الوسائل الكفيلة بتعميم السلام وإبعاد شبح الحرب عن العالم.

ومن الواضح أن ذلك كله ليس بمقدور دولة إسلامية واحدة في حجم عادي إلا أن من الصحيح أيضاً أنه إذا سخرت الدولة ما أمكنها من الطاقات البشرية والمالية لأجل ذلك بالدعوة والدعاية والمنظمات والمعاهدات الدولية وغير ذلك فإنها تتمكن من الحد من ذلك بقدر لا يستهان به وما ذلك على الله بعزيز.

- المسألة الخامسة: قد عرفت مما تقدم أن الجهاد واجب كفائي على كل ذكر بالغ صحيح الجسم، ولكن الانخراط الفعلي في العمل العسكري كما هو المتعارف في الجيوش والخدمة الإجبارية على ما يعبرون كان يتم حين تدعو الحاجة أعني حين يقرر النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) القيام بحملة عسكرية، أو حين يتهدد المدينة خطر الغير، إذ لم يرد تشريع يستفاد منه وجوب إعداد ما يسمى الآن بالجيش المحترف أو التجنيد الإجباري وهو تفرغ عدد من المقاتلين لحياة الجندية مدة من الزمان في حال السلم ولم يؤسس في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) جيش من هذا القبيل، ولا يخفى أن هذا لا ينافي ما يبدو من بعض الروايات أن بعض المسلمين كان متفرغاً للقتال وهم أهل الصفة أو بعضهم فإن هؤلاء بسبب عدم وجود مساكن وأسر لهم وعدم انخراطهم في سوق العمل والتجارة كانوا شبه متفرغين لأمرين:

الأول: التعلم والتعليم.

الثاني: الخروج مع السرايا.

وكانوا بمنزلة القوة المهيئة دائماً لأي طارئ، ولكن لم يكونوا بعنوان جيش منظم وفيه إلزام للتجنيد فقد ذكرت بعض التفاسير أن عددهم كان أربعمائة من المهاجرين إذ حبسوا أنفسهم على الجهاد وهو ما عبر عنه قوله سبحانه وتعالى: (الذين أحسروا في سبيل الله) ولكن تفرغهم وحصرهم في سبيل الله لم يكن ناشئاً من إلزام شرعي.

وكيف كان فإن عدم وجود جيش محترف يحملنا على القول بأن الجيش في الإسلام لم يكن مؤسسة للدولة وإنما كان في واقعه مؤسسة للأمة لأن الجهاد موجه إلى الأمة والحروب التي كان يخوضها المجاهدون لم تكن حروب الدولة والدفاع عنها بل كانت حروب الأمة والدفاع عنها فالأمة هي المجاهدة والدولة أداة بيد الأمة وليست الدولة هدفاً بحد ذاتها حتى تقاتل الأمة لأجل الدولة.

ولعل مما يدل على ذلك أنه لم يرد في الكتاب الكريم التعبير في الحرب والقتال بما يستفاد منه أن الدولة الإسلامية هي التي تتولى الحرب وتحارب نيابة عن الأمة، أو أن القتال للدفاع عن الدولة بل إن صريح كل ما جاء في هذا الشأن هو أن القتال للدفاع عن المسلمين وعن الإسلام والمسلمون هم الذين يقاتلون كما عرفته من الآيات المتقدم ذكرها.

ويؤيد هذا أيضاً أن الغنائم يستحقها كل من حضر المعركة حتى المولود قبل القسمة، وإن خمس الغنائم ينفق على مصالح الأمة أيضاً وأن الأرض المفتوحة مباحة للأمة أيضاً لكل من سبق فيها حق فيها.

ولعل من حكم عدم تشريع وجود إنشاء جيش محترف في ذلك الحين هو عدم تمكين الدولة من أداة سلطوية قاهرة كالجيش تتضخم ويتسع بها سلطته القمعية على الأمة في نفس الوقت ترهق كاهلها بالمزيد من الدوائر والمصارف المالية فضلاً عن حرمان الطاقات الفاعلة من الإبداع والمساهمة في التنمية والبناء كما هو الملحوظ اليوم في الجيوش التي تؤسسها الدول وتضرها غالباً ولا تنفعها.

وعليه فإن الظاهر أن قانون الجندية الإجبارية أمر غير مشروع في الإسلام لأنه إكراه وإجبار ومنافٍ لقانون السلطنة، نعم يجوز للدولة أن تجعل جيشاً اختيارياً للتطوع الاختياري إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك، ولكن ينبغي أن تكتفي فيه بمقدار الضرورة لا أكثر على حسب قانون الضرورات التي تقدر بقدرها.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..