المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 55.doc

كان الحديث عن طائفة من المسائل التي يجب أن ترعاها الدولة في سياستها الداخلية ذكرنا فيما تقدم أربع مسائل.

- المسألة الخامسة: في مكافحة الاستعمار. فإنه يجب على الدولة مكافحة السياسة الاستعمارية في بلاد المسلمين دفاعاً عن الحقوق ورفعاً للظلم والفساد والحفاظ على بيضة الإسلام وكيانه، كما يجب عليها الفحص عن هذه السياسة ودراسة الأساليب المتبعة في تطبيقها من باب المقدمية أو السيرة العقلائية الحاكمة بوجوب الفحص في طرق الطاعة وتدلّنا الوثائق والتجارب أن الاستعمار يجيد التخفّي في بلاد الإسلام ويعمل على تقويض كيانه بكل خفاء وإحكام، ولذا نجد ملياراً ونصف المليار من المسلمين في العالم يعيشون في أسوأ حالات التأخر والمهانة مع صحة مبادئهم وعراقة تاريخهم وكثرة كفاءاتهم ووفرة خيراتهم وأهمية مواقعهم في العالم. إلى غير ذلك من أسباب القوة.

إلا أن السياسة الاستعمارية في القرون الأخيرة حيثما خيّمت على بلاد المسلمين سلبت منهم هذه القوة ورجعت بهم إلى الوراء قروناً وقرون فلا يجوز للدولة الإسلامية السكوت أو الوقوف موقف الحياد أو اللامبالاة تجاه هذه السياسات بل يجب عليها السعي لرفعها بما يوجب عزة الإسلام والمسلمين لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والله عز وجل ما جعل للكافر على المؤمن سبيلاً فضلاً عن وجوب الدفاع عن الحقوق.

ومن أهم الخطوات التي يجب اتباعها في هذا السبيل هو فهم أساليب الاستعمار في تضعيف المسلمين والسيطرة عليهم، فإن من الواضح أن للسياسات الاستعمارية خطط ومظاهر.

أما الخطط فعادةً ما تقوم على أمور ثلاثة:

1- التربية والتعليم.

2- الإعلام.

3- الاقتصاد.

وأما المظاهر فعديدة ولعلّ من أبرزها ما ذكره السيد الشيرازي (أعلى الله مقامه) في كتابه الفقه الدولة الإسلامية في الجزء الأول صفحة 246 إلى 256 حيث استند في ذلك إلى المعايشة الوجدانية والتجارب الميدانية التي عاصرها بنفسه في هجوم الاستعمار وكيفية تمرير سياسته على المسلمين، لعلّ من المناسب أن نختصر هنا كلام السيد في التدليل على مظاهر الخطط الاستعمارية في بلاد المسلمين في نقاط:

- الأول: إشغال المسلمين بضرورات الحياة الأولية من المأكل والمشرب والمسكن والزواج ونحوه.. فبينما نرى الصحارى الكثيرة والمياه الوفيرة التي تعطي للمسلمين كل خير ورفاه إذا عمروها واستثمروها في البناء والتنمية، لكن حكام المسلمين يقفون بكل جد وصلابة دون العمران والتقدم، ولا يأذنون لحيازة الأرض ولا عمارتها ولا زراعتها ولا نصب المعامل فيها ولا صنع حقول الدواجن ولا حفر الأنهر أو الآبار الارتوازية إلى غير ذلك من قيود وأصفاد تمنع من نشاط المسلمين وعملهم.

وكل ذلك تحت عناوين وشعارات مختلفة، ولذا نرى لا يملك المسلم داراً ولا مورد عمل ولا منبع لحوم وبيوض وتوابع ذلك من الدهن والزبد والجبن وغيرها.. حتى يضطر المسلمون إلى استيراد كل شيء حتى اللحم والبيض من خارج بلاد المسلمين كما لا يمكن للشاب والشابة من الزواج لأنهما لا يملكان المال الكافي لبناء البيت الجديد كما لا يملكان مسكناً ولا عملاً لأجل إمرار معائشه وكل بلاد المسلمين في هذه الأمور على حد سواء من غير فرق بين ما يسمى منها بالتقدمية أو العلمانية الملكية أو الجمهورية الدكتاتورية أو ما تسمي نفسها بالديمقراطية إلى غير ذلك من أسماء.. إذ الجوهر في الكل واحد والألوان مختلفة.

- الثاني: تحطيم التجارة والزراعة والصناعة والثقافة وما إلى ذلك بأسباب مختلفة.

- الثالث: تحطيم مقدرات المسلمين بواسطة القوانين الكابتة، والحاكم في بلاد المسلمين لا يسئل عما يفعل بل لا تصل إليه الأمة حتى تسأله لأنه حصن نفس في حصن من السلاح والحرس والقلاع والجيوش وما جنده من إعلاميين ومفكرين ومثففين يروجون له ويضللون الحقائق أمام الناس، وكل سؤال عنه يساوي إعدام السائل أو سجنه وتعذيبه ومصادرة أمواله وهتك عرضه، يقول السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) وإني رأيت هذا التحطيم في مختلف بلاد الإسلام فكان الناس في أمن ورفاه نسبي حتى جاء قانون الإصلاح الزراعي حيث حطم كل شيء، واحتاجت البلاد إلى استيراد كل شيء حتى التبن بينما كانت تصدر حتى الحنطة، ولما كتب أحد العلماء كتاباً باسم الإصلاح الزراعي في الإسلام ونقد فيه قوانين الإصلاح الزراعي المستوردة نقداً موضوعياً أمرت الدولة بإحراق الكتاب وسجن صاحب المطبعة، حيث لم تقدر على سجن المؤلف خوفاً من الرأي العام.

- الرابع: قتل كفاءات الأمة وقاداتها بالسمّ أو بالاغتيال أو ما أشبه ذلك، وقد قتلوا كلاً من السيد المجدد والآخوند الخراساني والميرزا الشيرازي قائد ثورة العشرين بواسطة السم في قصص مشهورة، يقول السيد الشيرازي (رضوان الله عليه): نقل لي بعض أرحامنا ممن عاصر المجدد أنه رحمه الله بعد قصة التنباك كان شديد التحفظ عن أكل أي شيء أو شربه بدون إشراف دقيق من بعض ذويه، فاتفق أن فارقه المشرف على طعامه وشرابه ووقعت الواقعة بإدخال بعض العلماء سماً في طعامه على حين غفلة من الطباخ مما جرّ إلى مرضه الشديد فكان يغشى مرة بعد مرة إلى أن توفاه الله (رحمه الله) مسموماً كما نقل والدي (رحمه الله) أن الآخوند ما كان يستعمل مأكلاً أو مشرباً في خارج داره إطلاقاً خوفاً من الاغتيال الخفي، لكن لما أراد أن يسافر إلى إيران لتحسين الأوضاع التي تدهورت بواسطة الإنكليز بعد قصة المشروطة ذهب إلى مسجد السهلة مع جماعة من علماء النجف الأشرف للدعاء، وهناك عطش وشرب شيئاً من الماء بدون رقابة اضطراراً وكان في ذلك أجله حتى مات في نفس الليلة من أثر السم.

ويقول السيد أيضاً: ونقل لي آية الله السيد مرتضى الطباطبائي (رحمه الله) أن قائد ثورة العشرين تمرض بنزلة البرد فاشتروا له بعض العقارات من عطار كان في رأس زقاق دار الميرزا وبعد أن شرب الدواء ظهر فيه أثر السم، واختفى العطار مما ظهر أنه كان من علماء بريطانيا ومات الميرزا مسموماً.

قال السيد الطباطبائي: ولما وضعنا جنازته على المغتسل خرج من فمه وأنفه دم كثير جداً بما لم يبق في بدنه حتى قطرة دم مما تعجب الحاضرون على الغسل من ذلك، ويقول السيد (رضوان الله عليه): ونقل لي أحد علماء قصر شيرين في إيران أن العلامة العبقري الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (رحمه الله) كان نزيلاً عندهم بعد أن كتب كتاب المثل العليا في الإسلام وقد جيء إليه بطبيب لوعكة أصابته فأعطاه بعض الحبوب والشراب وكان الناس يأتون إلى زيارته زرافات زرافات، قال ذلك العالم: وفي يوم من الأيام جئت إلى غرفته بعد صلاة الصبح فرأيته وقد وقع في سجادته على وجهه فلما حركته تبين أنه بعد صلاة الصبح فارقت روحه الطاهرة الدنيا، ولما نزعت ملابسه كانت آثار السياط على جسمه مما تعجبت كثيراً فأحضرنا الطبيب وتعجب الطبيب هو بنفسه من تلك الآثار فطلب علبة حبوبه ولما رآها قال انظروا إن هذه الحبوب مدسوسة في الظرف وإنها سم دسها بعض العلماء على حين غفلة في ظرف دواءه. وهذه الآثار في جسمه من أثر هذا السم المدسوس إليه في الحب.

ويقول السيد أيضاً: وقصة اغتيال الأخ السيد حسن الشيرازي (رحمه الله) وغيره من العلماء في عصرنا متعددة ومعروفة بما لا يسع المجال لبيانها.

- الخامس: اغتيال الشخصية بإلصاق أنواع التهم بالأشخاص ذوي الأثر والنفوذ لإسقاطهم من أعين الناس، وقد كان الشيوعيون والقوميون والملكيون في إيران وغيرهم يلصقون التهم بالعلماء المجاهدين ورجال الإسلام البارعين، فقد اتهموا الوالد (رحمه الله) في أيام الشيوعيين وغيرهم بأنه يأخذ الأموال من الأجانب كما اتهموا السيد الحكيم (رحمه الله) بأنه عفلقي وأن ولده جاسوس، إلى غير ذلك من الاتهامات التي لا تكون غائبة عن الأذهان.

والظاهر أن هذه السياسة مستورثة من السابقين فقد كانوا يقولون عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنه له أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، وكانوا يقولون أن علياً (عليه السلام) لا يغتسل من الجنابة ولا يصلي، وإن الحسين (عليه السلام) خارجي إلى غير ذلك من الاتهامات.. لإسقاطهم من قلوب الناس.

يقول السيد: وطريق الاتهام الحديث سهل إلى أبعد حد وقد رأيت أنا مكرراً من هذا النوع فإن رئيس الدولة مرتبط بالاستخبارات الأجنبية، ورئيس استخبارات الدولة مرتبط به مباشرةً، فإذا أراد الغرب أو الشرق إسقاط شخصية عن أعين الناس يأتي إلى رئيس الدولة الأوامر من أسياده بالاتهام الجاهز وهو يأمر بذلك رئيس استخباراته وهو يطلع معاونيه في المحافظات والمدن بالاتهام وإذا ترى بعد نصف يوم ينتشر الاتهام في كل البلاد بواسطة مائة ألف جاسوس أو أكثر أو أقل.

والاتهامات على شكلين:

الأول: الاتهام بشيء مشين بالشخصية.

الثاني: الاتهام بشيء يوجب التشويش حول الشخصية.

أقول: وفي مثل هذه الأزمنة قد تطورت أساليب الدعاية والاتهام والتشويش عبر وسائل الإعلام الحديثة من الفضائيات وشبكات الانترنيت والمجلات والصحف وما أشبه بما لا يعسر على الأنظمة المستبدة أو الاستعمارية تشويش الشخصيات واتهام الرجال المجاهدين في بلاد المسلمين.

- السادس: تجميد الشخصيات البارزين بإيجاد الضغوط عليهم حتى لا يتمكنوا من التحرك فيخلو الجو لعملاء الاستعمار للصولة والجولة في بلاد المسلمين كيفما يشاء أسيادهم والكل يذكر كيف كانت الاستخبارات تهدد من يذهب إلى دار بعض العلماء العاملين أو يحضر دروسهم أو يأتي باسمهم فوق المنبر أو شبه ذلك، حتى أن البهلوي الأول كان قد هدد تجار إيران بأن لا يرسلوا الحقوق الشرعية إلى علماء العراق وإلا نالوا منه كل عقاب شديد كما أنهم يجمدون كتب العلماء بواسطة الرقابة أو بوساطة عدم إعطاءهم الورق الذي هو في أيدي الدولة، أو بوساطة تهديد المطابع وبعدم نشرها أو بواسطة إحراق الكتب بعد الطبع، أو بواسطة منعها عن المكتبات وتهديد أصحاب المكتبات إذا باعوها إلى غير ذلك..

- السابع: تركيز القدرة في جماعة ممن يأتمرون بأوامر المستعمرين وخنق سائر الجماعات سواء كان التركيز باسم حزب أو بدونه، ومن لا يذكر توحيد البهلوي الثاني الأحزاب وحصرها في حزب راستاخيز وكذا صنعه عبد الكريم قاسم في العراق حيث أعدم جماعة من أصحابه في أم الطبول في بغداد، ولذا لا ترى بلداً في العالم الثالث إلا وفيه تركيز القدرة وتجميعها في أيدي قلة قليلة هم إما من العملاء أو من الخاضعين للسياسات الاستعمارية، وحتى إذا فرض وجود مجلس الأمة فليس إلا شيئاً صورياً.

- الثامن: التحريف الفكري والثقافي لتجميد رجال الإسلام بواسطة الدعايات وما أشبه، ومن الدعايات التي تروّجها الأنظمة المستبدة أو التابعة للاستعمار هي أن رجل الدين لا يدخل في السياسة أو دع السياسة لأهلها، ودعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله وما أشبه لغرض فصل الدين عن الدولة وعزل العلماء المجاهدين للتطلع إلى نظام الحكم أو الرقابة على سياسة الحكومة، وهذه الدعاية وإن لم تنطل على العلماء الأذكياء وعلى الواعين من الأمة.

ولذا نجد أن كل مراجع التقليد منذ زمان المفيد والشيخ الطوسي والى اليوم كانوا يحاربون المستغلين والمستعمرين والمترفين اقتداء بالأنبياء والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) إلا أن تأثيرات هذه الدعاية السلبية على كثير من الناس كبيرة وكبيرة جداً، الأمر الذي يخفف على المستعمر الفتك بالعلماء المجاهدين ويمكنه من تمرير سياسته في البلدان المستعمرة.

- التاسع: إثارة الحروب في البلاد، فإن من الواضح أن الحرب تمتص ثروات البلاد كما تقتل الرجال والنساء والأطفال وتهدم المدن وتفني الزرع والضرع وتلقي العداوة والشحناء بين الناس، يقول السيد (رضوان الله عليه): وإني أذكر منذ نصف قرن الحروب في هذه البلاد كحرب الأكراد وحرب آذربيجان وحرب العراق وإيران وحرب لبنان، وحروب إسرائيل مع كل من مصر والأردن وسوريا ولبنان، وحرب أفغانستان وحرب الهند والباكستان وحرب شطري الباكستان الشرقية والغريبة مما انفصلت إحداها عن الأخرى وسميت ببنغلاديش وحرب تشاد وليبيا وحرب المغرب وبوليساريو وحرب السودان وحرب الفلبين وغير ذلك..

وإذا جعلوا حرباً بين الجيران أمدوها بالسلاح والدعاية والخبراء وما أشبه حتى تبقى الجذور مشتعلة.

يقول السيد: إن الغرب والشرق بهذه الحروب التي يشعلونها في بلاد الإسلام وفي العالم الثالث يشغلون عمالهم في معامل الأسلحة ويمتصون ثروات المسلمين وسائر الناس ويقدمون أنفسهم بالتجارب ويؤخرون المسلمين وبعد انتهاء الحرب أيضاً يشغلون عمالهم ومعاملهم ببيع أدوات البناء ووسائل الحياة هذا بالإضافة إلى أنهم في الحروب يبتعدون هم عن الحرب ولذا يسمونها الحروب بالوكالة، كمن له خصم لابد من التحارب بينهما فيلقون بعبيدهم في الحرب ليستريحوا هم بأنفسهم.

- العاشر: إشاعة المبادئ المنحرفة وتصديرها إلى بلاد الإسلام كالشيوعية والعلمانية والطورانية والأديان المزيفة كالبهائية في إيران، والقاديانية في الهند والباكستان، والوهابية في الحجاز، فإن هذه المبادئ تنبعث من الغرب والشرق لأجل هدم الإسلام والمسلمين.

- الحادي عشر: إعطاء القروض للدول الضعيفة فإنهم بعد أن يمنعوا البلاد من العمل تكثر البطالة من ناحية والاحتياج من ناحية أخرى، وحيث تتحطم الدولة اقتصادياً يظهرون من وراء الستار لقرض الدولة باسم الإنسانية وما أشبه وذلك لتكبيل الدولة المقترضة والضغط عليها لدعم السياسات الاستعمارية، لا من جهة تدخلها في شؤونها سراً وعلناً فحسب بل من جهة الفوائد الربوية التي تكون على تلك الدول مما لا طاقة لها بأدائها أيضاً فتبقى أسيرة في أيدي الدول الاستعمارية.

- الثاني عشر: إلقاء العداوات بين الجيران، فإنك لا ترى في دولة من دول العالم الثالث إلا أنها عدوة لجيرانها بسبب مشكلة عقدوها بين الجيران سواء في العالم الإسلامي أو غير العالم الإسلامي، وذلك يوجب أن يتحاكم الطرفان إلى الاستعمار من جانب وأن يشتري كل جانب من المستعمرين السلاح من جانب ثاني وأن لا يمكن تقارب الدول ووحدتها من جانب ثالث، وأن تكون تلك المشكلة آلة بيد المستعمر، كلما أراد ضرب البلاد ببعض تمكن من إشعال الفتنة بينهم، فإنهم يفصلون بين أجزاء الدولة الواحدة، ثم يراعون العداوة المفرقة بينها على طول الخط، مثلاً كانت سوريا ولبنان والأردن والاسكندرونة بلداً واحداً في جسم الدولة العثمانية ثم بعد قطع هذا الجزأ عن سائر الأجزاء كقطع اليد من الجسم قطعوا هذا الجزء أيضاً إلى أجزاء كمن يبضع اليد المبضعة إلى الذراع والكف والأصابع والمرفق وهكذا..

وهكذا فصلوا أفغانستان عن إيران بعدما كانت جزءاً منها عشرات القرون، ثم إني أذكر أنهم كانوا يراعون بواسطة العملاء والدعاية وما أشبه التفرقة بينهما منذ نصف قرن كيلا يرجعان إلى دولة واحدة، وقبل خمسين سنة قتل رجل مجنون يسمى بالشيخ علي القمي ابن المرجع العظيم الشأن السيد أبي الحسن الأصفهاني في صحن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في صف صلاة الجماعة على ملأ من الأشهاد لكن الغريب أنه اشتهر كلمحة البصر في كل العراق من أقصاه إلى أقصاها أن الذي قتل ابن السيد كان رجلاً أفغانياً مما حدا بالناس السذج أن يعادوا الأفغانيين ويضربونهم في أي مكان من العراق رأوهم، وقد قصد جماعة من العشائر أن يأتوا إلى النجف الأشرف لقتل كل الأفغانيين من الطلبة وغيرهم، حتى أن الأفغانيين اضطروا إلى التخفي والبقاء في البيوت مدة من الزمن إلى أن هدأت الثائرة، وأعلن السيد أبو الحسن الأصفهاني (رحمه الله) أن القاتل ليس أفغانياً وإنه لا يرضى بأي تحريض وقد تعجب الناس من هذا التحريض لكن يزول العجب إذا عرفنا كيف يتحرك المستعمر وكيف يمرر سياسته خاصة وإن له الكثير من وسائل الترويج والعمالة في بلاد المسلمين.

- الثالث عشر: الوسائل الإعلامية والثقافية ومختلف مؤسسات حتى الطبية ونحوها.

- الرابع عشر: إحياء الفوارق كالقوميات واللغات والألوان وما أشبه، حتى يقول كل جانب أنا وقومي وأنا الأفضل وما أشبه، مما يوجب التفرقة والعداوة بينما المستعمر يسير بخطى حثيثة إلى الصناعة والتقدم وجمع كلمته.

يقول السيد (رضوان الله عليه): إن الاستعمار حالة حال كل فاسد ومفسد إن لم يؤخذ أمامه بسرعة معقولة زاد في المدة والشدة والعدة ولذا نرى أن البريطانيين ذهبوا إلى الهند وبقوا فيها بصورة سافرة مدة ثلاثة قرون، أما لما جاءوا إلى العراق لم يتمكنوا من البقاء إطلاقاً حيث لم يوجد في الهند من يتعقل الوقوف أمامهم ذاك الحين بينما وجدوا في العراق ذاك التعقل في الميرزا الثاني الشيرازي فإنه إذا بقي الاستعمار في بلد وسّع نفسه وكثر من الأنصار والأعوان وبذلك يزيد عدته ثم يتعمّق ويدخل جذور البلاد والأفراد وذلك يزيد شدته وبذينك الأمرين يبقى أطول مدة ممكنة، وقد حصل كل ذلك في بلاد الإسلام من غير فرق بين الاستعماري البريطاني والأميركي والروسي والفرنسي وغيرها.. ولذا فالأمر بحاجة إلى عقل كبير جداً وليس المراد عقل فرد واحد أو أفراد بل عقل الأمة جميعاً بالوعي والثقافة والفكر حتى تتمكن من التصدي لإزالة جذور الاستعمار وذلك لا يمكن إلا إذا مارست الدولة الحاكمة سياسة في شؤونها الداخلية تتبع ممارسات الاستعمار وأساليبه وسياسته وتكافحها حتى يتمكنوا من إزالة هذه المشكلة.

ومن أهم ما يجب فهمه بالنسبة إلى الأمة العاملة أنهم يجب أن يتبنوا السلم والصداقة والخدمة لا مع قطاعات الأمة فحسب بل وحتى مع الاستعمار نفسه على ما قرره الرسول وأهل بيته في مكافحة الأعداء والخصوم، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطف حتى على الكفار المحاربين له كما أرسل مالاً إلى مكة حين أصابهم جهد ومنح لهم أخذ الماء من بدر في حرب بدر ولما استولى عفى عن أهل مكة وغيرها، بل جعل دار أبي سفيان ألد أعداءه آمناً مثل ما جعل المسجد الحرام آمناً وعفى عن هباب قاتل بنته وحفيده ووحشي قاتل عمه، وهند الممثلة بجثة عمه إلى غير ذلك.. وكذلك فعله مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث منح الماء لمعاوية مع أنه كان من البغاة وقد خرج لحربه بجيش جرار في صفين وكذلك فعله الإمام الحسن (عليه السلام) حيث كان يعطي الشامي وغيره الذي يسبه ما يخفف من غلواء عدائه ولم يبح (عليه السلام) باسم زوجته جعدة التي سمّته حتى لا ينتقم منها أحد إلى غير ذلك..

وكذلك منح الإمام الحسين (عليه السلام) الماء للذين جاؤوا لقتاله في كربلاء وبالفعل قتلوه بعد أيام في قضية مأساوية عظيمة وكبيرة جداً.

وعلى أي حال فإن الدولة الإسلامية لا تقوم إلا لأجل الهداية والإرشاد والخدمة بحسب موازين القرآن والسنة المذكورة في النصوص المتواترة والتي من أبرز ما تنص عليه السنة في التعامل مع الخصوم فضلاً عن الأصدقاء هي سياسة العفو والصفح والهداية والدفع بالتي هي أحسن، وفي نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه).

- المسألة السادسة: يجب على الدولة الإسلامية أن تخطط وتمارس سياسة ترجع المسلمين إلى عزهم وسعادتهم وسيادتهم ورفاههم وقوّتهم، ومن الواضح أن هذه العزة والقوة والرفاه لا ترجع إلا إذا التزمت الدولة بواجباتها تجاه الأمة بالعدل والإنصاف والمسؤولية.

هذا وهناك طائفة كبيرة من الحقوق التي يجب على الدولة أن تلتزم بها تجاه الأمة لتوقف كرامة الأمة وسعادتها وحريتها ونموّها عليها، نذكر منها بعض المصاديق لأهميتها أو أظهريتها على غيرها من المصاديق:

- الأول: حق الحياة الكريمة، فإن للمواطن أن يعيش موفراً في حقوقه الأولية ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليها قال سبحانه وتعالى:(من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) ومن الواضح أن رعاية الدولة للحقوق الأولية للإنسان كالطعام والشراب واللباس وما أشبه ذلك من مصاديق الإحياء واستظهار البعض بأن من أحياها هنا في مقابل من قتلها الظاهر أنها لا بدوي بداهة لا يقال لمن تجنب عن قتل الناس أنه أحياهم لأن مقتضى الطبع الأولي هو عدم جواز قتل النفس وإنما كأن الآية الشريفة في مقام بيان من يعرّض النفوس إلى الإزهاق والزوال ومن يحفظ النفوس فيما إذا تعرضت إلى المخاطر والآفات فينجيها منها.

ومن المعلوم أنه لا يسلب هذا الحق من أحد كبير أو صغير أو مسلم أو كافر أو عالم أو جاهل أو شريف أو وضيع إلا ضمن موازين خاصة وبحكم شرعي قضائي، فكيان الإنسان المادي والمعنوي يجب حفظه وهذا من أوليات مسؤوليات الدولة تجاه كل مواطن في رعاياها، وقد أوجبت الشريعة الإسلامية احترام الإنسان منذ ولادته إلى بعد مماته كما لا يخفى على من راجع الأحكام الشرعية منذ ولادة الإنسان حتى الموت بل حتى أوجبت الشريعة على المسلمين احترام جسد الإنسان بعد موته، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الإنسان وحرمته أن حرمته ميتاً كحرمته حياً.

- الثاني: حق الحرية كما قال سبحانه: (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) والقاعدة الفقهية المعروفة (الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم) وما يرتبط بهم من شؤون، والحرية حق مقدس بالنسبة إلى كل إنسان في طول حياته وليس لأحد أن يعتدي على هذا الحق فيصادره أو ينتقص منه ويلزم على الدولة الإسلامية توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد حرية معقولة بحيث لا يضرون أنفسهم ولا يضرون غيرهم، ولا يجوز تقييدها أو الحد منها ، إلا بحسب الموازين المحددة في الفقه كما أنه لا يجوز لأمة من الأمم أن تعتدي على أمة أخرى أو شعب أن يعتدي على شعب آخر، أو جماعة أن تعتدي على جماعة أخرى، وإذا تعرض الإنسان إلى اعتداء أو تعرضت الأمة أو الجماعة إلى الاعتداء فلهم حق رد هذا الاعتداء كما قال سبحانه وتعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) والظاهر أن الآية في مقام تأسيس أصل أصيل في جواز الدفاع بل وجوب الدفاع عن النفس فيما إذا تعرض الإنسان إلى ظلم.

وقال سبحانه: (وجزاء سيئة سيئة) وهذه الآية أيضاً في مقام الإنشاء، وقال سبحانه: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).

وكيف كان فإن على المجتمع الإسلامي وكذلك على الدولة الإسلامية مساندة كل شعب يجاهد من أجل حريته ويتحمل المسلمون في هذا واجباً شرعياً أيضاً، قال سبحانه: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) وقال عز وجل: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر).

- الثالث: حق الإنسانية، فإن الناس جميعاً سواسية أمام الشريعة الإسلامية كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

فعليه لا تمايز بين الأفراد في تطبيق الشريعة عليهم، نعم هناك بعض التمايز بحسب طبيعة الإنسان ومقتضيات الشريعة التابعة لتغير الموضوعات في تفصيل لا يسعنا بيانه هنا، لكن المستفاد منه أن الحق هو الأصل الأصيل الذي ينبغي أن يتبع ويحفظ إلى الجميع، وقد ورد عن مولانا أمير المؤمنين: (إن القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه وإن الضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له) والتفاضل إنما يكون بحسب التقوى والعمل والكفاءة فإن لكل إنسان ما سعى، ولكل درجات مما عملوا وقال عز وجل: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) فلا يجوز تعريض شخص لخطر أو ضرر من قبل الدولة أو من قبل الآخرين تجاهه ولو تعرض المواطن إلى مثل ذلك وجب على الدولة حمايته فإن المسلمين تتكافئ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم.

كما أن حقوقهم لا تبطل والضرر منفي في الإسلام كما هو مستفاد من طائفة كبيرة من الأدلة، فكل فكرة وتشريع بل وكل وضع يسبب التفرقة بين الأفراد على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو الجغرافيا أو ما أشبه ذلك فهو مخالف للإسلام ويجب على الدولة الحؤول دونه، كما أن لكل فرد الحق في الانتفاع بالموارد المادية للمجتمع من خلال فرص العمل المتكافئة وأنه يجب على الحاكم الإسلامي أيضاً جعل تكافؤ الفرص بين الناس حتى يتمكن كل مواطن من نيل المال والعلم والمنصب والجاه وتحقيق الآمال والرغبات وما أشبه ذلك لأن ذلك مقتضى الإباحة الأصلية للأشياء وهو مقتضى الاشتراك بين الجميع فيها.

قال سبحانه: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) فلا يجوز التفرقة بين الأفراد في الأجر ما دام الجهد المبذول واحداً، ولو وقع ذلك في أسواق المسلمين وجب على الدولة الوقوف أمامه فإن الدولة الإسلامية كالأب للمسلمين ولغير المسلمين أيضاً فلا يجوز أن تفرق بينهم إلا بما فرقه الله لأجل المصلحة العامة أو تفاضل الموضوعات والمزايا.

- الرابع: حق العدالة لكل فرد، فإن اللازم على الدولة أن تهيئ العدالة الاجتماعية لكل الأفراد سواء عدالة في خارج مبحث القضاء بالنسبة إلى القوة التأطيرية أو القوة التنفيذية أو بالنسبة إلى القضاء حيث يتحاكم الناس إلى القضاء حتى لو كان المشتكي من أقل الأفراد في المراتب الاجتماعية والمشتكى عليه حتى لو كان رئيس الدولة.

قال سبحانه: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وإطلاقها يشمل جميع مستويات المجتمع، وقال عز وجل: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم) ومما أنزله الله عز وجل هو مساواة الجميع أمام القانون، ومساواتهم أيضاً أمام ردع العدوان وردع الظلم قال سبحانه: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم).

وعليه فإنه إذا راجع المشتكي للقضاء فاللازم على القضاء النظر في القضية ويحضر حتى رئيس الدولة للانتصاف له أو منه، وقد ورد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه كان يحضر عند بعض الصحابة لمخاصمة حتى مع أدنى الناس وأقلّهم كما ورد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) حضر عند شريح القاضي في خصومة مع يهودي ومن المعلوم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان رئيس دولة كبيرة تشمل ست دول في خارطة الدول الحاضرة وكذا كان أمير المؤمنين رئيس دولة كبيرة جداً تشمل أكثر من أربعين دولة في خريطة عالمنا، فمن حق الفرد أن يلجأ إلى سلطة شرعية تحميه وتنصفه وتدفع عنه ما لحقه من ضرر أو ظلم أو حيف سواء كان الحق له أو عليه، وعلى الدولة أن تقيم هذه السلطة وتوفر لها الضمانات الكفيلة باستقلالها، كما أن غير المسلم أيضاً إذا التجأ إلى السلطة جاز للحاكم أن يحكم بحسب موازين دينه كما هو مقتضى قانون الإلزام.

وقد ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل القرآن بقرآنهم) كما لا يجوز مصادرة حق الفرد في الدفاع عن نفسه وعن عرضه أو ماله أو شرفه تحت أي مبرر كان، كما أنه ليس لأحد أن يلزم المسلمين أو غير المسلمين بأن يطيعوا أمراً يخالف الشريعة فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

- الخامس: حق الفرد في المحاكمة العادلة فإن كل إنسان بريء فيما يتهم إلا إذا ثبت ثبوتاً شرعياً وهذا الحق مستمر حتى ثبت خلافه أمام محكمة شرعية عادلة ايضاً ولا تغريم إلا بنص شرعي على ما قرره الفقهاء مستفيدين ذلك من الأدلة الأربعة، وإذا ارتكب الإنسان ما يوجب الحد لكنه بشبهة درأ عنه الحد للنصوص الخاصة، وقد ذكر الفقهاء في باب القضاء أن المراد من الشبهة أعم من شبهة الحاكم أو شبهة الشخص أو شبهة الشاهد سواء في الحكم أو في الموضوع ولا يحكم بتجريم الشخص ولا يعاقب على جرم إلا بثبوت ارتكابه له بأدلة شرعية صحيحة، أمام محكمة قضائية مشروعة وقول الفاسق والظن والشبهة وتقارير رجال المخابرات وعيون المستبدين ونحوها لا اعتبار لها عقلاً ولا شرعاً قال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وقال عز وجل: (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً).

وعليه فإن اتهام الدولة للمواطنين أو التشكيك في نواياهم أو وضع الرقابة عليهم وما أشبه كله حرام ما لم تثبت الإدانة بالفعل بحسب موازين الأدلة كما أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوز العقوبة التي قدرتها الشريعة للجريمة، فعلى الحاكم أن يطارد الجرم لا المجرم فإن هناك فرقاً بين الجريمة والمجرم على تفصيل لا يسعنا بيانه.

قال عز وجل: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) فإذا تعدى الحاكم الحد المشروع عالماً عامداً عزل عن الحكم لأن من شرط الحاكم أن يكون عادلاً كما أنه يلزم على القاضي مراعاة الظروف والملابسات التي ارتكبت بها الجريمة درءاً للحدود، كما أنه لا يجوز أن يؤخذ إنسان بجريمة غيره كما قال عز وجل: (ولا تزر وزرة وزر أخرى) فكل إنسان مستقل بمسؤوليته عن أقواله وأعماله، قال عز وجل: (كل امرئ بما كسب رهين) فلا يجوز للحاكم أن يعاقب ذوي المجرم من أهلٍ أو أقرباء أو جيران أو أصدقاء أو أتباع بنحو العقوبات الجماعية، فكل إنسان مسؤول عن جريمة نفسه وليس مسؤولا عن جريمة غيره، كما عرفته من الأدلة.

- السادس: حق صحة القول والعمل على ما ذكره السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه فقه الدولة فإن لكل فرد الحق في أن يحمل الناس أعماله على الصحة، فلا تتمكن السلطات من نيله بسوء ولا يجوز مطالبته بتقديم التبرير بعمل من أعماله أو وضع من أوضاعه أو قول من أقواله ما دام يوجد له محمل صحيح، إلا بناء على قرائن عقلائية شرعية قوية تدلّ على صحة الاتهام، قال عز وجل: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) ومن الواضح أن البهتان من المحرمات الكبيرة وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (ضع أمر أخيك على أحسنه).

- السابع: حق الحماية من التعذيب فإنه لا يجوز تعذيب المجرم فضلاً عن المتهم فإن التعذيب محرم في الشريعة الإسلامية وفي الحديث الشريف: (إن الله يعذب من يعذبون الناس في الدنيا) فما أورده البعض من أن بعض الروايات تدل على تعذيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهي موضوعة ومختلقة وضعها أعوان الظلمة لأجل تبرير أعمال الحكام المستبدين والسلاطين الذين حكموا باسم الإسلام ظلماً وعدواناً، على تفصيل لا يسعنا بيانه الآن.

فلا يجوز حمل الشخص على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها وكل ما ينتزع بوسائل الإكراه باطل كما دل على ذلك النص والإجماع، ومهما كانت جريمة الفرد وكيفما كانت عقوبة الجريمة المقدرة شرعاً فإن إنسانيته وكرامته الآدمية تظل مصونة ولا يجوز شتمه ولا سبه ولا إذلاله ولا تحقيره ولا غير ذلك وما أخرجه الدليل من ذلك استثناء وليس بأصل.

وعليه فإنه يجب على الدولة أن ترعى حقوق المواطنين حتى في مثل هذه الموارد، فإن التخلي عنها تضييع لمن تعول وهو مسقط لشرعيتها.

- الثامن: حق الفرد في حماية عرضه وسمعته، قال عز وجل: (ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً) وقال تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب) وهناك طائفة من الروايات المتضافرة الدالة على ذلك منها قوله (صلى الله عليه وآله): (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) وعنه (صلى الله عليه وآله): (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقد عرفت فيما تقدم من مباحث أن المراد من الكفر هنا هو الكفر العملي وليس الاعتقادي فلا يجوز للدولة أن تضع أجهزة أو تتبع سياسة تتجسس فيها على الناس وتعرضهم إلى الخوف وفقدان الأمن والسلامة العرضية والنفسية وما أشبه.

- التاسع: حق الأقليات، فإنه لا يحق لمسلم أن يضطهد غير المسلم من اليهود أو النصارى أو المجوس أو غيرها فإن الأصل في الإسلام هو حرية الاعتقاد بالمذهب أو الدين، قال سبحانه وتعالى: (لا إكراه في الدين) وقال عز وجل: (لكم دينكم ولي دين) على تفصيل ذكره الفقهاء في بابه.

وعليه فإذا جاء المتقاضيان من غير المسلمين عند قاضي المسلمين له الحق في أن يحكم بينهم أو يحولهم إلى قضاة أنفسهم، كما أنه إذا أراد أن يحكم بينهم له الحق أن يحكم بينهم على حسب الإسلام أو على حسب دينهم قال سبحانه: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) وأما إذا لم يتحاكموا إلينا وتحاكموا إلى شريعتهم فليس للدولة التعرض لهم، نعم ليس لهم أن يخالفوا النظام العام كما ليس لهم أن يظهروا المناكير في بلد الإسلام.

وهناك حقوق أخرى ينبغي على الدولة أن ترعاها نتعرض إليه في البحث القادم إنشاء الله..

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..