المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 53.doc

- المبحث الخامس: في سياسات الدولة وخططها.

ونبحثه في تمهيد وفصول:

أما التمهيد فيدور حول مفهوم السياسة وحدوده اللغوية والإصطلاحية.

السياسة في اللغة مشتقة من ساس يسوس وتعني تدبير شؤون الناس وتملّك أمورهم والرياسة عليهم ونفاذ الأمر فيهم، يقال ساس زيد سياسةً أي أمر وقام بأمره وفي الخبر كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبيائهم أي تتولى أمرهم كالأمراء والولاة فالسياسة القيام على الشيء بما يصلحه. ومن الواضح أن إصلاح كل شيء بحسبه ومن هنا تعد السياسة من الحقائق التشكيكية فتطلق على القيادة والرئاسة كما تطلق على المعاملة والمداراة وكذلك على الحكم والتأثير كما تطلق على الحلم والتربية والترويض لما فيها من الإصلاح والتقويم.

وفي وصف الأئمة (عليهم السلام) ورد في الزيارة الجامعة: (أنتم ساسة العباد) وفي بعض الأخبار الإمام عارف بالسياسة، وأيضاً ورد قولهم (عليهم السلام): (ثم فوض إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أمر الدين والأمة يسوس عباده) وذلك لما لهم (عليهم السلام) من القيام بشؤون الناس وإصلاحهم في دنياهم وأخراهم، وقد ورد الحديث في سياق الحكم والرئاسة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه لمالك الأشتر كما في تحف العقول يقول فيه: فاصطفي لولاية أعمالك أهل الورع والعلم والسياسة، ومنه أيضاً قوله (عليه السلام): (فولّ جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأجمعهم علماً وسياسة) وفي الغرر ورد عنه (عليه السلام): (خير السياسات العدل) وقد كتب (عليه السلام) في كتاب إلى معاوية كما أورده السيد الشريف الرضي (رضوان الله عليه) في نهج البلاغة: (متى كنتم يا معاوية ساسة الرعية) المستفاد منه أن معاوية وأمثاله ليسو من الساسة لكون السياسة ليست إلا للإمام المعصوم (عليه السلام) بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ثم من بعد الإمام (عليه السلام) الفقهاء جامعو الشرائط على التفاصيل التي تقدمت في المباحث السابقة.

وقد تضافرورود لفظ السياسة في الأخبار الشريفة، وقد كان الأنبياء (عليهم السلام) ساسة، وقد ورد في جملة من الروايات والآيات الإشارة إلى ذلك، منها قوله سبحانه وتعالى: (يا داوود إنا جعلناك خليفة فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) وقال تبارك وتعالى: (وقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناه ملكاً عظيماً) والملك هنا هو القوة التي بها يترشّح للسياسة كما أن الملك اسم لكل من يملك السياسة ويتصرّف بالأمر والنهي في الجمهور كما هو المستفاد من مفردات الراغب وغيره..

وقد كان الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والعلماء من ورثتهم قد أخذوا بزمام السياسة بأيديهم ما تمكنوا منه وإن لم يتمكنوا من ذلك وجهوا الناس إلى وجوب ذلك مهما قدروا وكانوا (عليهم السلام) يرجعون الناس إلى علماء الأمة ونواب الأئمة فقولهم (عليهم السلام) فإني قد جعلته عليكم حاكماً وكقوله (عليه السلام): (أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم) وغير ذلك من الأخبار والأدلة المتضافرة كما عرفتها في بحث ولاية الفقيه.

هذا وقد وقع الخصام بين الأئمة (عليهم السلام) والعلماء المتقين وبين أصحاب الأهواء من أمويين وعباسيين ومن حذى حذوهم في التصدي لحكومة الأمة وأخذ زمام السياسة منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتارة يحكم الأئمة والعلماء وتارة يغصب حقهم حتى جاء دور المستعمر فأدخل في الرأي العام عند عموم الناس عنصراً جديداً هو عنصر فصل الدين عن السياسة وروّج لفكرة انفصال العلماء عن الحكم والدولة بحجة أن العالم الديني المتقي هو الذي ينصرف لشؤون العبادة والإرشاد ولا يتدخل في شؤون السياسة وإدارة الدولة وذلك حينما رأى الاستعمار أن العلماء هم الحصن الحصين للمجتمع وللبلاد أمام النوايا الاستعمارية والسياسات المستبدة والظالمة كما ذكرت ذلك جملة من المصادر التاريخية المحللة لأمثال هذه الموارد، وعلى هذا فالواجب الشرعي على العالم الديني التصدي للحكام الظلمة وإرجاع شؤون الحكم والدولة إلى الناس الصالحين العدول ممن جمعوا الشرائط الإلهية والشعبية وهذا ما اتفقت عليه الكلمة بين الفقهاء قديماً وحديثاً بل وقامت عليه سيرة العلماء قديماً وحديثاً من أمثال السيد المجاهد والميرزا الشيرازي الكبير والميرزا الشيرازي الصغير والآخوند الخراساني والشيخ كاشف الغطاء والعلامة المجلسي والشيخ البهائي والعلامة الحلي وغيرهم من الأعلام فإن من الواضح أن ترك الأمور بيد الحكام الظلمة ينتهي إلى هدم الإسلام وإحياء الكفر ونشر الظلم والرذيلة بين الناس.

وقد قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها) وقد ورد أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله).

فيجب على كل مكلف على نحو الوجوب الكفائي الاضطلاع بأمور السياسية ولو بالجملة لأنه يتوقف عليه إدارة أمور المسلمين، بل وإنقاذ المستضعفين من براثن المستكبرين ونشر الإسلام وهداية الناس من الظلمات إلى النور وغيرها من الملاكات شديدة الوجوب التي قامت عليها الأدلة الأربعة، ولا يخفى عليك أن معرفة السياسة لا تكون إلا بمعرفة جملة من الأمور التي من أهمها معرفة الدين والاقتصاد والحقوق والاجتماع والنفس والتاريخ وغيرها من العلوم والمعارف التي يتوقف عليها إدارة شؤون الناس والدولة.

ومن الواضح أن معرفة السياسة لا يمكن إلا بمثلها على تفصيل لا يسعنا بيانه هنا، ومن الواضح أن الإسلام هو الدين المستوعب لكل أفعال الإنسان الجارحية والجانحية فكل فعلٍ يفعله الإنسان ينطبق عليه حكم من أحكامه الخمسة حتى أن تفكيره السيئ ونيته الخبيثة منهي عنهما نهي تحريم أو كراهة، على الخلاف بين الفقهاء فيه، كذلك تفكيره الحسن ونيته الحسنة مأمور به بنحو الوجوب أو الاستحباب على الخلاف بين الفقهاء فإن من الواضح أن الفقه قانون الحياة ونظامها الإلهي الذي يطابق بين حاجات الإنسان وفطرته وعقله مع السنن الكونية، ولذا فإن موضوعه ينطبق على كل أفعال الإنسان وقد روى في الكافي عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول ما من شيء إلا وفيه كتاب وسنة، وعن مرازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد أن يقول لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وقد أنزل الله فيه) والمراد من المنزل هنا هو الحكم العام الذي ينطبق على موارده أو الحكم الخاص كالنصوص الخاصة الدالة على وجوب بعض الأشياء أو حرمتها، ولذا ورد عن مولانا الصادق (عليه السلام) في حديث المعلى: (ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال).

وفي الكافي في حديث عن عبد العزيز عن الرضا (عليه السلام): (وما ترك - أي رسول الله (صلى الله عليه وآله) - شيئاً يحتاج إليه الأمة إلا بينه فمن زعم أن الله لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله).

وكيف كان فإنه لما كانت السياسة مركز الحياة العامة للمجتمعات الإنسانية فقد كثرت فيها التعريفات والاجتهادات وقد عرفتها بعض المدراس بالمفاهيم السلبية وبطريقة نقدية، فقد عرفها بعضهم بأنها فن حكم البشر عن طريق خداعهم، وعرّفها آخر بأنها فن تأجيل تأزم المشاكل والمعضلات. إلى غير ذلك من التعاريف الناظرة إلى السياسة من الجهة السلبية والى الظلم والفساد.

إلا أن من الواضح أن هذه التعاريف خلطت بين الممارسة والمفهوم، وحملت خطأ التطبيق على المعنى.

وكيف كان فإنه يمكن القول بأن مما يتفق عليه الآراء والاجتهادات هو أن السياسة فن ممارسة القيادة والحكم، وله مراتب وأسمى مراتبه هو العلاقة العادلة بين السلطة والشعب والحاكم والمحكوم، ومن هنا فسرها البعض بالإدارة ولعلّ أكثر التعاريف اختصاراً لها وشمولية ما ذكره السيد الشيرازي (قدس سره) في الفقه السياسة حيث قال: هي إدارة العباد والبلاد. فبالعباد لم يفرق فيها بين رأي أو مذهب أو دين أو قومية أو لغة أو ما أشبه فإن جميع عباد الله الذين يقطنون أرضاً واحدة يجب أن تقوم بشؤونهم سياسة الدولة وكذا الكلام في البلاد من دون فرق بين سهل أو جبل أو بحرٍ أو برٍّ أو غابة أو حقلٍ وما أشبه فكل الثروات الوطنية ينبغي أن تنالها سياسة الدول بالنظم والحماية والاستثمار على الوجه الأحسن.

ومن هنا ربما يقال بأن الظاهر أن تعريف السياسة في إدارة العباد والطبيعة بدلاً من البلاد أوثق عرفاً لأن المستفاد من البلاد هو الأرض والرقعة الجغرافية التي تمتد عليها السلطة وهو ما قد يعبر عنه بالوطن، والحال أن سلطة الإنسان أعم وحاجاته أوسع، فسياسته تعم البلاد والطبيعة ووظيفة الدولة ليست إدارة شؤون الوطن بل الطبيعة بما لها من تراب وماء وهواء وجبال وسهول وبحار وأنهار وغابات ومناجم ونحوها.. وفي كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (مسؤولون عن البقاع والبهائم) ما يؤكد ذلك.

وكيف كان فحيث أن التعريفات هنا من باب شرح اللفظ أو الاسم فيكفينا منها الإشارة إلى حدود الموضوع إجمالاً، ومن هنا فإن السياسة يمكن أن تلحظ بالقياس إلى غيرها من العلوم والفنون التجريبية والعملية تارة وأخرى بالقياس إلى العلوم النظرية، ولعل تعريف أرسطو لها يشير إلى هاتين الجهتين،  قال أرسطو: بأن السياسة هي علم السياسة وسيدة العلوم، فهي سيدة كممارسة لأنها تعنى بالمسائل الحيوية في المجتمع مثل تحديد الأولويات الاجتماعية وكيفية توزيع وتوجيه الموارد والثروات وتحديد حقوق المواطنين وواجباتهم الاجتماعية ووجهة الثقافة وقضايا السلم والحرب والحرية وغير ذلك من الشؤون كما هي سيدة العلوم كدراسة وأفكار تعنى بتوضيح المفاهيم الكبيرة في المجتمع كالعدل والحرية والحق وتحديد الغايات والوسائل والخيارات ومقارنة البدائل، وبالتالي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في اعتماد الخيارات والحكم عليها، وقد ذهب أفلاطون في جمهوريته إلى أنه من الضرورة بمكان كبير أن تنشأ مؤسسة عليا خاصة لتدريس علم السياسة وتدريب رجال الدولة وذلك لأن قيادة الدولة هي العلم الأعلى والمسألة الأهم في المجتمع الذي يتوقف عليها دين الناس ودنياهم.

وأما أرسطو فقد ذهب إلى القول بضرورة إيجاد علم السياسة نظراً لأن ذلك شرط من شروط إصلاح النظم ولقد اهتم المسلمون بالسياسة منذ الصدر الأول وبرعوا في ممارستها أعظم البراعة حتى أدخلوا الناس في دين الله أفواجاً، ويعتبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أول من أسس دولة لدعم الإسلام وتطبيق أحكامه وإدارة شؤون المسلمين وكرس هذا النهج من بعده الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في قضايا مفصلة.

هذا وفروع علم السياسة الرئيسة فهي الحكومة والأنظمة والمؤسسات السياسية والجماعات السياسية والأحزاب والمؤسسات الدولية والعلاقات الخارجية وتسعى الأنظمة الاستبدادية في الدول كما تسعى الدول الاستعمارية إلى مصادرة السياسة عن طريق تغييب الوعي والقمع ومنع المشاركة كضمان لاستمرار الاحتكار والاستئثار بالسلطة وبالنظم السياسي والاقتصادي وقد ساعد التخلف الثقافي والاقتصادي السائد في العالم الثالث على إبعاد الجماهير عن السياسة خصوصاً في الحقب الاستعمارية الأولى وما تبعتها من أنظمة مستبدة فالسعي المضني من أجل الكفاف وانشغال الناس بالأزمات الحادة يشغلهم عن السياسة والأمية وصعوبة المواصلات وتشتت الإنتاج وطبيعته المختلفة والعلاقات الاجتماعية شبه البدائية كل ذلك يبعد الناس عن السياسة والتفكير في شؤون الحكم والسلطة، فضلاً عن الإجراءات المقصودة التي تتخذها السلطة الاستعمارية أو المستبدة في هذا الاتجاه.

هذا ولابد من التفريق بين السياسيين والسياسة لأن فساد السياسيين مرض لا يمكن علاجه خارج إطار السياسة ولا ينبغي أن ينعكس الفساد السياسي على نفس السياسة كمبدأ فقد عرفت مما تقدم أن السياسة كمبدأ هو من أوصاف الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، ومن هنا صنفت السياسة إلى صنفين:

- الصنف الأول: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر وهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها.

- الصنف الثاني: سياسة ظالمة والشريعة تحرمها.

لكن الإنسان بما هو إنسان لا يمكنه الاستغناء عن السياسة ولا العلم بها، لأنه مدني بالطبع ويجب عليه اختيار المعيشة الحسنة والفكر الوقاد والهدوء والسكينة والاستقرار وتحقيق الانجازات والآمال ويتكامل في هذه الدنيا مادياً ومعنوياً، كما عليه أن يعلم كيف ينفع البشرية وينتفع بهم وهذا ما لا يتم إلا بواسطة هذا العلم.

هذا والظاهر أن كتاب السياسة لأرسطو إلى الإسكندر يشتمل على مهمات هذا العلم، وكتاب آراء المدينة الفاضلة لأبي نصر الفارابي جامع لقوانينه أيضاً ومن المعاصرين من الفقهاء من كتب كتباً عديدة في هذا الشأن يمكن الرجوع إليه لمعرفة السياسة العادلة من الأخرى الظالمة على تفصيل لا يسعنا بيانه هنا.

هذا ما أردنا تمهيده للمبحث، وأما الفصول فينبغي أن نعلم أن أهم ما يجب بحثه في سياسة الدولة هي المجالات التي لا بد لكل دولة من رعايتها لأنها تقوم عليها الدولة وتقوى وتزدهر أو تسقط وهي كثيرة جداً لكننا نكتفي بالتعرض إلى الأهم فنقول:

تتجلى سياسة الدولة وخططها عادة في مجالات أربعة، وبواسطتها يحكم على عدالتها وظلمها ونجاحها وفشلها وهي:

1- السياسة الداخلية.

2- الاقتصاد.

3- القوة والجهاد.

4- السياسة الخارجية.

وتفصيل الكلام فيها يستدعي التعرض إليها في فصول:

- الفصل الأول: في السياسة الداخلية.

ونعني بها الوظائف والمهام التي يجب على الدولة أن تقوم بها تجاه الرعية وجوباً عينياً تعيينياً أو تخييرياً أو وجوبا كفائياً على اختلاف الموارد والشرائط ومن أوليات واجبات الدولة التي يجب عليها القيام بها أمور تأتي بحسب تسلسل الحاجات البشرية ويحرم على الدولة التخلّف عنها أو التخلّي عن مسؤوليتها تجاهها:

- الأول: حفظ النظام ومنع الإخلال بالأمن والهرج والمرج.

- الثاني: القيمومة على حفظ الحقوق الأولية والثانوية ابتداء من الطعام والشراب إلى السكن والنكاح والعمل والتعليم ونحوها كحاجات أولية ثم توفير الرفاه العام والكرامة الاجتماعية للجميع.

- الثالث: بسط العدل في الناس ومساواتهم أمام القانون بلا فرق بين أهل الملل والأديان والعناصر والأعراق ونحوها..

- الرابع: توفير فرص التنمية والتكامل للجميع في بعديها المادي والمعنوي.

هذه أبرز مهام الدول والحكومات في سياستها الداخلية التي قامت عليها الأدلة الأربعة كما عرفت بعضها من المباحث المتقدمة مضافاً إلى الارتكاز العقلي والعقلائي عليها، بل لعل ادعاء قيام الضرورة عليه غير بعيد لكونها من القضايا التي قياساتها معها، وأي خلل في واحدة منها عن عمد أو تقصير يسقط شرعية الدولة لانطباق جملة من العناوين المحرمة المغلبة عليها حينئذٍ كالظلم والفساد والإضرار بالناس وتضييع حقوقهم ونحوها من ملاكات هامة حرّمها الشارع فيحكم بحرمة تصديها للحكم حينئذٍ كما يحرّم على الناس العمل أو التعاون معها بل يجب عليهم التصدي لإسقاطها وإحلال حكومة أخرى مكانها تتوفر فيها الشرائط الشرعية.

نعم في الجهل القصوري يمكن المناقشة في القول بسقوط الشرعية أو عدمه من جهة أن الجهل عذر عقلاً وشرعاً فلا يحكم بسقوطها أو من جهة استبعاد وجود جهل قصوري في الحكومات والأنظمة مع توفر دواعي الفحص وإمكان الرجوع إلى العالمين بالشؤون والتشاور مع أهل الخبرة في الخطط والممارسات، ومعها لا يبقى موضوع للجهل فينحصر خطأ الحكومة أو التخلي عن مسؤولياتها ومهامها بالعمد أو بالجهل التقصيري الذي تحاسب فيه على تقصيرها في المقدمات التي يلحقها موضوعاً بالعمد، وهنا مسائل وتفريعات ينبغي التعرّض إليها:

- المسألة الأولى: وحدة المجتمع المسلم وتماسكه وتعاطفه وتعاونه وتناصره ضرورة إنسانية وحاجة سياسة وواجب شرعي وعقلي والإخلال به حرام بل ويعد كبيرة من الكبائر لما يترتب عليه من مفاسد ومخاطر عظيمة، فواجب الوحدة بين المسلمين يعلو فوق جميع المصالح الفردية والفئوية والعنصرية واللغوية ونحوها ولا يجوز لأحد انتهاكه إلى مزاحم أهم كالمصالح العليا للإسلام والحفاظ على حوزته وبيضته، وقد ورد تشريع واجب الوحدة باعتباره واجباً على عموم الأمة في الأدلة الأربعة، ولعل من أصرح ما ورد فيه قوله سبحانه وتعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) والريح هنا مأخوذة من القوة والغلبة ولعلّه عبر بالريح لأنها تتضمن الإشارة إلى الحركة وشدة البأس والتحرر وهي من سمات الريح الحقيقية وعليه فالمجتمع المتماسك المتوحّد ناشط وفاعل ومتطوّر وقوي وحصين بخلاف المجتمع المتنازع المتفكك.

ومن الآيات أيضاً قوله سبحانه وتعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) ثم يقول سبحانه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).

ولا يخفى أنه كان اختلافهم على الإيمان والعقيدة فأنكروا رسالات الأنبياء (عليهم السلام) وفرقوا المجتمع إلى مؤمنين وكافرين وكانوا بعملهم هذا معتدين بداهة أنه بعد قيام الحجة والبينة لا ينكر إلا المعتدي والباغي الذي يريد غير الهدى والصلاح ولذا فإن مصيره إلى النار.

وكيف كان فإن الإسلام يعتبر النزاعات الداخلية خطراً كبيراً على الأمة لكونها تؤدي إلى هدر الطاقات وتبديد الإمكانات والقوى وتؤدي إلى الفشل والخذلان، والى سقوط الهيبة السياسية والحصانة أمام الخصوم وفي حالة التهديدات الخارجية مضافاً إلى زعزعة إيمان الناس واعتقاداتهم، ولذلك فقد شرع الله تبارك وتعالى وجوب فض النزاعات بالحسنى والمساعي الحميدة فإذا فشلت الأساليب السلمية فلابد حينئذٍ للأمة من التدخل الحاسم بنحوٍ مباشر أو غير مباشر لفض النزاع الداخلي وإنهاءه على أساس مقاتلة الباغي والملحوظ في جملة من الخطابات القرآنية الواردة في هذا الشأن أنها موجهة إلى الأمة وكأنها هي المطالبة والمكلفة أولاً وبالذات بالمحافظة على وحدتها وتلاحمها وتماسكها وتناصرها للحيلولة دون نشوء النزاعات، كما أنها المكلفة أولاً وبالذات بإعادة الوحدة إلى صفوفها حينما تهددها النزاعات والحروب الأهلية وما أشبه. قال تبارك وتعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فائت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) والملحوظ أن هذا الخطاب بما تضمنه من تكاليف شرعية عديدة موجهة إلى الأمة بنحوٍ عام وقد جعلت الآية الشريفة مراحل تدريجية لسياسة التعامل مع الفتن تبدأ من الإصلاح أولاً بما يتطلبه من الجمع بين الحقوق وإيجاد الحلول الوسطى التي يمكن أن يتفق عليها الطرفان لأن الصلح خير ولأنه مقتضى قاعدة العدل فإن أبت إحداهما عن الصلح ووافقت الأخرى صارت الآبية باغية وكذا إذا حاربت واحدة من الطائفتين الأخرى التي توفرت فيها الشرائط الشرعية فصارت المحاربة باغية أي متجاوزة من الحق إلى الباطل فهي معتدية فيجب ردع العدوان والوقوف أمامه لإرجاعها إلى المصالحة والاتفاق بالعدل.

هذا ولا يخفى أن الإصلاح على نحوين:

- الأول: الإصلاح الحقوقي وهو فيما أمكن تشخيص الحق وتمييزه عن الباطل وبالتالي تشخيص صاحب الحق والمعتدي عليه فحينئذٍ يجب إعطاء الحق لأهله وردع المعتدي ومنعه من عدوانه.

- الثاني: الصلح الاتفاقي وهو فيما لو التبس الحق بالباطل أو تناصفت الطائفتان ببعض الحق وببعض الباطل كما هو الغالب في النزاعات السياسية والاجتماعية فحينئذٍ لا مجال إلا باللجوء إلى الصلح الاتفاقي الذي يجمع لكل طرف منهما بعض حقه للابدية العقلية إذ لولاه لتعذر الحكم إما بترك النزاع متواصلاً وهو باطل، أو ترجيح أحدهما على الآخر وهو ظلم للآخر، أو يتنازل أحدهما وهذا ليس ممكناً دائماً والكلام في صورة التنازع وعدم التنازل، فيتعين الجمع بالتوافق بينهما وهو خير كما قال سبحانه: (الصلح خير) لكونه يجمع بين الحقوق.

ثم بعد ذلك ذكرت الآية فلسفة الصلح وسبب الدعوة إليه وهو الأخوة الايمانية والإسلامية ثم تدعو المجتمع إلى تجنب عوامل التفرقة وأبرزها التكبر والتعالي على الآخرين، واحتقارهم واستصغارهم والاستهانة بشأنهم قال سبحانه: (لا يسخر قوم من قوم) فإن معيار الوضاعة والعلو والكبر والصغر ليس المظهر والشكل بل واقع القلب والنفس والعقل وهذا أمر لا يمكن أن يحكم به الإنسان بحسب المظاهر الخارجية ولذا قال سبحانه: (فعسى أن يكونوا خيراً منهم).

ومن الواضح أن عسى وإن كانت تفيد الترجي والانتظار إلا أنها في الآية تدل على الواقع إما لجهة وجود الأفضل في ضمن المجموع كما هو الغالب إذ فوق كل ذي فضل أفضل وفوق كل ذي علم عليم. أو لجهة حث الأفضل على التواضع بأن يكف لسانه ونظره وفكره عن التعالي راجياً من يكون الأفضل منه في الآخرين على ما هو الأقوى في تفسير مثل عسى ولعل ونحوهما في القرآن خلافاً لكثير من المفسرين حيث حملوهما على اللازم دفعاً لمحذور الرجاء في الباري سبحانه وتعالى.

وكذا التلميز بالألقاب لأنه من عناصر تفتيت وحدة المجتمع وفك عناصره، هذا ولا يخفى أن وجود الوحدة في المجتمع لا يعني إلغاء التنوع واختلاف الاجتهادات والآراء والمناهج، بل هذا من الضرورات الأولية في البشر كما أن قيامها على الوجه الإيجابي من الضرورات الأولية للتطور والتكامل لاستلزامه التنافس وإيجاد الأفضل، وإنما المراد من الوحدة هي الوحدة الروحية والاجتماعية والعاطفية والعقيدية في مقابل التعدد السلبي المسبب للصراع والتفرق والتشتت.

كما أن الوحدة الاجتماعية لا تمنع من تكوين الأحزاب والتعددية الحزبية والتكتلات الإيجابية كما عرفته في المبحث السابق، كما لا يمنع من نظام التحالفات لو كانت في الإطار الإيجابي لشمول أدلة الوحدة والسلطنة والقوة والعلو لمثلها بل هو مما قامت عليه سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كما ذكره التاريخ في مثل حلف الفضول وغيره.

ولعل من المناسب التذكير هنا بكتاب الحلف بين ربيعة وأهل اليمن الذي أملاه مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كما أورده المرحوم الشريف الرضي (رضوان الله عليه) في نهج البلاغة حيث ورد فيه: (هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن حاضرها وباديها وربيعة حاضرها وباديها أنهم على كتاب الله يدعون إليه ويأمرون به ويجيبون من دعا إليه وأمر به وإنهم يد واحدة على من خالف ذلك وتركه أنصار بعضهم لبعض دعوتهم واحدة لا ينقضون عهدهم لعتبة عاتب ولا لغضب غاضب ولا لاستذلال قوم قوماً ولا لمحبة قوم قوما على ذلك شاهدهم وغائبهم وحليمهم وسفيههم وعالمهم وجاهلهم) فإن هذا العهد نص على مجال الوحدة والتعاون بين الفريقين لغرض المصالح العليا لحفظ حوزة الإسلام وكرامة المسلمين مع وجود التنوّع والاختلاف بين الفريقين في كثير من المجالات السياسية والعسكرية وربما الاجتهادية أيضاً.

وفي المصادر التاريخية الشواهد الكثيرة المتضافرة التي تعضد ما ذكرناه.

- المسألة الثانية: في التعدد والتنوع الاجتماعي.

يجب على الدولة أن ترى الاختلاف والتعدد والتنوع حقاً من الحقوق الإنسانية الطبيعية للمواطنين لأنهم بشر ومن الخصوصيات البشرية الأولية الاختلاف والتمايز فلا يجوز لها أن ترى الاختلاف فوضى ولا أن تمنع من إبداء الرأي أو إظهار الفكر أو الموقف المغاير لموقفها أو لغيرها من المؤسسات ولا يجوز لها أن تتهم الاختلاف أو المختلفين معها بالتهم وسوء النية والغرض فإن كل ذلك حرام بداهة أن لكل امرئ ما نوى والناس مسلطون على أنفسهم ولهم الحق في ابتكار أفكارهم واختيار مواقفهم كما أن سمعة الإنسان وعرضه محترمان فلا يجوز انتقاصهما أو اتهامهما أو الإضرار بهما.

وعليه فإن الأصل هو حرية الرأي والاختلاف والتعدد وحرمة قمعه أو مصادرته أو اتهامه إلا ما خرج بالدليل وهي موارد نادرة.

نعم يجب على الدولة أن ترعى الاختلاف بإيجاد التفاهم والتقريب لأن ذلك حسن عقلاً وشرعاً ومن أوليات الأمور التي تمكن الدولة من ذلك هو فهم الاختلاف ومنشأه وتدلنا التجارب الإنسانية بل والطبيعة البشرية على أن الاختلاف غالباً ما ينشأ من أمور:

1- الاجتهاد في الرأي.

2- المصالح المتضاربة.

3- الإحساس النفسي.

4- العلم.

5- الجهل.

6- الأغراض المتناقضة.

وأول ما ينبغي أن تلحظه الدولة في الحكم على الأشياء هو الأمور الخمسة فإذا لم يتوفر واحد من هذه الأسباب حينئذٍ تصل إلى السادس وهي تفسير الاختلاف بالغرض أو الحسد أو سوء النية وغيرها من دواعي الاختلاف الضارة وهذا ما يجده المتتبع للسيرة البشرية في مختلف الشؤون والمجالات فكثيراً ما نرى اختلاف أهل الخبرة كالفقهاء والأطباء والمؤرخين في أمورهم، ولا شك أنهم يريدون وجه الله والنوايا الحسنة ولا يشوبهم شيء من الهوى ولم يقصر أي واحد منهم في الاستنباط أو التشخيص أو التوثيق كما نرى أن أهل القوانين قد يختلفون في النظر والرؤية أيضاً. وهكذا حال غيرهم من الخبراء في الأمور المختلفة فإن درك الكليات أولاً ثم تطبيقها على الجزئيات ثانياً مختلف بدون أن يكون تقصيراً أو غرض خارجي أو سوء نية كما نرى كثيراً اختلاف المصالح بين الصالحين من الناس إذ كثيراً ما تتضارب مصالحهم الصحيحة مما يوجب اختلافهم في الرأي أو الموقف أو العمل، مما تختلف لأجله النتائج، وتفصيل ذلك سنتعرض إليه بعض الشيء في الدرس القادم إنشاء الله.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..