المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 52.doc

عرفنا مما تقدم جملة من المسائل المتعلقة بممارسة السلطة بواسطة الأجهزة الإدارية وقلنا أن لهذه الممارسة أحكام وتشريعات التعرض إليها في ضمن مسائل:

- المسألة الأولى: كانت في حدود شرعية السلطة الإدارية، المسألة الثانية: كانت في المركزية واللامركزية في الإدارة.

- أما المسألة الثالثة: فهي في الإدارة والتشريع فإن المؤسسات الإدارية في الدولة الإسلامية جهاز تنفيذي محض وليست له أية سلطة أو صلاحية تشريعية على الإطلاق، إذ ليس للإداريين والتنفيذيين وغيرهم حق التشريع كما أنهم لا يتمتعون بحصانة من الخطأ أو النقد والتوجيه بل حالهم حال سائر الناس في كل ذلك. سوى أنهم تخصصوا أو فوّضوا أو أوكلوا فيما يقومون به من مهام ومسؤوليات.

وعليه فإن تصرّفاتهم ليست شرعية بالضرورة وعليه فإنه لا صلاحية للإدارة في ممارسة التشريع في مختلف القضايا الحكومية أو المالية أو ما أشبه ذلك، كالضرائب والغرامات ولا مصادرة الأموال أو حجزها أو ممارسة العقوبات التعزيرية والجزائية من حبس وحجز حرية وضرب تأديب وتشهير وما أشبه ذلك إلا بما شرّعه الإسلام ودخل في تأطيرات السلطة الشرعية الواقعة تحت إشراف الفقهاء فليس للإدارة أن تفرض غرامة مثلاً أو تأخذ ضريبة مثلاً غير مشرّعة وليس لها أن تنزل عقوبة غير مشرعة أيضاً، أما في الأول فلأنه اجتهاد في مقابل النص وهذا لا حق لأحد حتى للفقيه فيه، وأما الثاني فلاشتراط الاجتهاد فيه والمفروض أن الدولة تكون خاضعة للفقيه أو لشورى الفقهاء فلا يمكن إلا أن يكون القرار الصادر من الحكومة عن اجتهاد صحيح وإنما تنفّذ الإدارة القوانين والتعليمات المشرّعة بالفعل من قبل الجهة الصالحة لذلك في الدولة وهي عادة على صنفين أحدها ما له حكم ثابت في أصل الشرع أو فيه للفقهاء وأهل الخبرة المعتمدين اجتهاد معتمد حدد الحكم الشرعي له، أما أهل الخبرة فمهمتهم فيه تشخيص الموضوع وأما الفقيه فمهمته فيه تطبيق الكبرى على موضوعها، ثانيهما ما لم يكن كذلك وإنما هو من الأمور الحادثة الطارئة التي نصّت عليها الرواية الشريفة عنه (عليه السلام): الوقائع الحادثة، وهي التي لم يرد لها حكم في أصل الشرع ولم يسبق فيها اجتهاد معتمد، ففي القسم الأول تنفيذ الإدارة الحكم الشرعي الثابت في أصل الشريعة أو بحسب النصوص الخاصة أو بحسب الاجتهاد المعتبر من الأدلة التفصيلية.

وفي القسم الثاني يدخل المورد في باب لزوم تشخيص الموضوع لتطبيق الحكم عليه كما عرفته مما تقدم، وهذا ما ينبغي تحديده بواسطة المجتهدين وأهل الخبرة والاختصاص في المجال الذي تنتمي إليه الحادثة الواقعة. هذا إذا لم يكن المسؤول الإداري مجتهداً، وأما إذا كان نفس المسؤول من المجتهدين جامعي الشرائط فهل يجوز له أن ينفّذ في القضية المعروضة عليه رأيه بمقتضى اجتهاده أم عليه أن يلتزم بالتنظيم الإداري المجعول من قبل الدولة العادلة؟.

قد يقال أن له ذلك وذلك لأنه مجتهد جامع للشرائط وقادر على معرفة حكم الشرع في القضية فتكون ما عرضت عليه من الحوادث الواقعة التي جعلها الإمام (عليه السلام) من مهمات الفقيه، وهو بمقتضى منصبه الإداري مسؤول عن تنفيذها وله بمقتضى اجتهاده الولاية المطلقة بناءا على الولاية العامة للفقيه فيعمل ولايته من جهة التنفيذ أيضاً بعد أن يكون قد أعمل رأيه الاجتهادي واستنبط حكمها، ولكن طبيعة المسألة وأدلتها ربما يقال بأنها تقتضي خلاف ذلك لإمكان القول بأنه لا يجوز للفقيه أن يعمل باجتهاده دائماً وذلك ليس لأنه لا حق له في الاجتهاد ولا لأنه لا سلطة له في تطبيق اجتهاده والعمل بمقتضاه لتمامية الأدلة في مثله بالعناوين الأولية كما عرفته في بحث ولاية الفقيه وإنما لا يجوز من جهة أخرى وهي العنوان الثانوي القاضي بأن حيثية سلطته الإدارية تختلف عن حيثية أهليته وسلطته الاجتهادية ولذا عليه ولو بحسب العناوين الثانوية أن يتصرّف في منصبه على وفق القواعد والأنظمة الخاصة به التي يحكم النظام العام بمراعاتها ويضمن مطابقة الواقع مهما أمكن، وتمييز الإجراء الأهم من غيره ولذا قد يقال بلزوم الرجوع في مثل هذه الأمور في تقنينها أو تطبيقها ومعالجة ملابساتها إلى الجهة التي أعطيت صلاحية الإدارة من قبل الفقيه أو شورى الفقهاء، وهي الجهة التشريعية في الدولة ثم التنفيذية وليس اجتهاد هذا المجتهد أو ذاك بما هم مجتهدون دون لحاظ علاقتهم بالهيكل العام لأجهزة السلطة في الدولة.

وقلنا هذا ليس بمعنى عدم شرعية حكم الفقيه غير المتصدي بل للزوم رعاية الضبط والنظام ومنع الإخلال بوحدة المجتمع فضلاً عن لزوم الالتزام بما ارتضاه الناس واختاروه في سلطته كما فصّلناه في بحث السلطات فإن من الواضح أنه قد لا يمكن إعمال سلطة الفقيه الاجتهادية مطلقاً مع وجود دولة شرعية عادلة جامعة للشرائط يحكمها فقيه أو شورى فقهاء، وذلك لحصول التضارب والهرج والمرج واختلال النظام لأنه إذا جاز لمجتهدٍ ذلك فإنه يجوز لكل المجتهدين، خصوصاً مع كون الجميع ولياً وعدم رجحان نفوذ ولاية أحدهم على غيره سواء أكانوا في الإدارة أو في الحكومة أو خارجهما في الحياة العامة، وهذا يعود على الدولة والشعب بالفتنة وبالفساد الكبير، فلابد من القول إذاً بأن حيثية سلطة الفقيه وأهليته الاجتهادية بما هو فقيه جامع للشرائط معلّقة على التأثير والفعلية فيما يتصل بقضايا الإدارة والنظام العام، ما دام مقيداً بحيثية سلطته الإدارية وكانت الدولة شرعية وجامعة للشرائط.

- المسألة الرابعة: في التعامل مع أخطاء أجهزة السلطة ودوائرها.

إذ من الواضح أن أجهزة الدولة تقع في أخطاء في كثير من الأحيان فإذا تسببت هذه الدوائر في إبطال عمل محترم للمسلم أو في إتلاف ماله، أو في إصابته بأضرار جسدية أو سببت وفاته مثلاً أو حرمان أهله أو أولاده وما أشبه ذلك فهل يكون ما وقع مضموناً فيستحق المتضرر أو ورثته التعويض عليه أم لا؟

قد يقال أن مقتضى أدلة الضمان بالإتلاف والأدلة الدالة على حرمة واحترام عمل المسلم وماله وجسده هو وجوب ضمان الخسارة والضرر الواقعين عليه عدواناً أو خطأً، وهذا أمر مسلّم لا شك فيه من الناحية الفقهية ومقتضى إطلاق هذه الأدلة وعمومها هو شمولها لما إذا كان الإتلاف والضرر حاصلين من قبل جهة الدولة وإداراتها وإن اختلفت جهة الضمان بين الخطأ الفردي والحكومي فإن الأول ضمانه على المخطئ والفرد لعدم اتسامه بشخصية حقوقية وأما خطأه فيما إذا اتسم بشخصية حقوقية وبما أنه يمثّل الدولة والحكومة فضمانه على الجهة الخاطئة وهي الحكومة ويدلّ على ذلك ما ورد في باب القضاء لقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنما أخطأت به القضاة من دم أو قطع فعلى بيت مال المسلمين).

والرواية معتبرة السند رواها في الوسائل عن الباقر ورواها الصدوق في من لا يحضره الفقيه والشيخ الطوسي عن الأصبغ بن نباتة، وقال الشيخ الطوسي في النهاية في كتاب الديات: ومن أخطأ عليه الحاكم بشيء من الأشياء فقتله أو جرحه كان ذلك على بيت المال.

وكيف كان فإن القضاة هنا لم يلحظوا من جهة حيثيتهم الشخصية حتى باعتبارهم فقهاء، وإنما لوحظوا باعتبارهم جزءاً من جهاز الدولة موجودا في كل أجهزة الحكومة ومنها الإدارة وبضميمة وحدة الملاك أو بفهم عدم الخصوصية أو عدم فهم الخصوصية يمكن تعميم ذلك إلى كل موظفٍ حكومي، ولكن الضامن هل هو الموظف المسؤول الذي سبّب عمله وقوع الضرر بالناس أو الضامن هو الجهة الإدارية أو الضمان يكون من بيت المال احتمالات في المسألة، وربما يقال بالتفصيل بين الخطأ في حالة العمد وحالة التقصير فيقع الضمان حينئذٍ على الموظف نفسه دون الإدارة أو الحكومة، وذلك لأمور:

- أحدها: انصراف الأدلة عن مثله.

- ثانيها: شمول أدلة الضمان له، بل هو أجلى مصاديقها بداهة صدق الإتلاف والإضرار عليه فيده هي التي عليها الضمان لأنها هي التي أتلفت مال الناس فهو له ضامن، نعم إلا إذا كان هناك التزام في عقد التوظيف والتولي بالبراءة من الأخطاء مطلقاً أو ضمان الدولة مطلقاً فحينئذ ينبغي التمسك بمثل قولهم (عليهم السلام): (المؤمنون عند شروطهم) ولكن هذا كلام آخر غير ما نحن فيه لأن عدم الضمان هنا نشأ من الشرط ولم ينشأ من الحكم الأولي ولا يخفى أن للمضمون له الرجوع إلى الحكومة كما يمكنه الرجوع إلى الفرد مباشرةً، لكن لا يبعد القول بالأول مطلقاً ضمان للحقوق وقطعاً للمنازعة والمخاصمة ولأن الحكومة عرفاً هي السبب فتضمن له ما فاته أو ما وقع عليه من التلف والإضرار، ويمكنها الرجوع إلى موظفها حينئذٍ جمعاً بين الأدلة.

والحاصل أن الموظف الإداري إن كان متعمداً في خطأه رجعت عليه إدارته بالضمان وكان مستحقاً للعقوبة، وكذا إن كان مقصراً، بناءً على عدم شمول أدلة الرفض لمثله، وأما إذا كان مخطئاً عن قصور فالظاهر انه لا عقوبة عليه ولا ضمانة لأدلة الرفع الدالة بإطلاقه على عدم الحرمة والضمان على ما اختاره جمع من الأصوليين لقوله (صلى الله عليه وآله): (رفع عن أمتي تسع وعدّ منها الخطأ)، مضافاً إلى ما دلّ على عدم ضمان الأجير والوكيل إلا في حالة التعدي أو التفريط أو الاشتراط عليه، والظاهر أن هذا يصدق على الموظف الحكومي أيضاً فلا يكون ضامناً للمستأجر الموكل الذي هو الجهة الإدارية أو الحكومية فيما نحن فيه.

- المسألة الخامسة: في تزاحم المدراء بين الخبروية والإخلاص.

وهذه من المشاكل العويصة التي غالباً ما تبتلى بها الدول والحكومات العادلة لعدم توفّر الكفاءات المخلصة دائماً، بل في كثير من الأحيان تتوزع الخصوصيات العالية في الأفراد بين الكفاءة ونحوها من شرائط فنية وعلمية في إنجاز الأعمال وبين الولاء والإخلاص والصدق والتفاني والأثر العملي والإنجازي الذي يترتب على كل واحدة من الخصوصيتين كبير، فإن الأول غالباً ما يكون قانونياً يعمل بشرائط الفن والخبرة ولا يبذل إلا بقدر ما تتطلبه مهمته وأجره منها، بينما الثاني يعمل بروح المجاهد المتحمّس والطموح الذي يؤثر ويضحّي بالكثير لأجل إنجاح العمل والمؤسسة التي ينتمي إليها. ومن الواضح أن كلا الصفتين تشكل طاقة هائلة يتوقف عليها النجاح والتقدم ولكن ندرة توفر الأفراد الجامعين لهما معاً في آن واحد تطلب التعرض إليها هنا، والذي يبدو من تتبع التاريخ والسيرة أن العديد من الذين تولّوا الإدارة وخصوصاً المالية منها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا من الذين أسلموا عند فتح مكة، أو من حديثي العهد بالإسلام، وتدلّنا الأحداث والوقائع أن هؤلاء المسلمين الجدد كانوا يفتقرون إلى المعرفة الواسعة بالإسلام كما كانوا يفتقرون إلى الإخلاص والعديد منهم لم يسلموا إلا بعد انسداد الطرق أمامهم فلم يجدوا ملجئاً للخلاص أو العيش بسلام أو النجاة من القتل إلا بالإسلام، ومثالهم أبو سفيان والوليد وآل أبي العاص وغيرهم..

ولا شك أنه كان في المسلمين عدد كبير من العلماء في الإسلام المضحين في سبيله والمجاهدين المخلصين، وكان في إمكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يوكل إليهم هذه المهمات الإدارية في الحقل الإداري المالي وخصوصاً في مجال الإدارة العامة، ولكننا نجد أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) كما في التواريخ قد عيّن هؤلاء لتحمّل هذه المسؤوليات مع أن طبيعة الأشياء ومناسبة الحكم والموضوع وربّما الحكم العقلي الأولي يقتضي استبعاد هؤلاء المسلمين الجدد عن تولّي أية مسؤولية إلى أن يثبت إيمانهم وإخلاصهم والى أن يستوعبوا الإسلام في أبعاده المختلفة، كما أن طبيعة الأشياء تقتضي الاقتصار في تولي مثل هذه المهمات على المسلمين المخلصين والعارفين المجاهدين.

ولكن هذا لم يحدث بالنسبة إلى البعض، ومن هنا يخطر السؤال أنه لماذا هكذا صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟، في المسألة احتمالات:

- الاحتمال الأول: أنه كان من باب الاضطرار وذلك لعدم وجود المخلص الكفوء في الشؤون السياسية والإدارية والتنظيمية فاضطر النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى الاستعانة بهؤلاء الجدد لما لبعضهم من معروفية أو قدرة على إنجاز المهمة ولعلّ مما يؤيد هذا ما روي عنه (صلى الله عليه وآله): (لولا إني أخاف به أن يقال أن محمداً استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه قتلهم لضربت أعناق كثير)، ولكن يمكن يجاب عن هذا الاحتمال بما علم في متواتر التاريخ من وجود كفاءات كثيرة بين كبار الصحابة والمجاهدين منهم بل وبين شبّانهم أيضاً، ممن تعلّم الإسلام ومارسوه في العبادات وفي العلوم وفي الحياة.

والحديث المذكور لم ينظر إلى الأمور الإدارية بل الاستعانة المطلقة بالمسلمين في شؤون تثبيت الإسلام لا الدولة ويعضده ما نعلمه ونعرفه يقيناً من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل ومن القرآن الكريم من أن أولوية مصلحة الرسالة على الدولة التي تتطلب تعيين المخلصين والمجاهدين، وإنما كانت الدولة طريقاً للرسالة وهداية الخلق وتطبيق الأحكام الإلهية.

- الاحتمال الثاني: للأهم والمهم بعد تضافر النقل على وجود عدد كاف من ذوي الخبرة السياسية والإدارية والوجاهة الاجتماعية لتولي جميع المهمات والمناصب الإدارية المستحدثة، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) آثر إسناد المهمّات الجديدة إلى هؤلاء المسلمين الجدد بهدف استصلاحهم وتأليف قلوبهم وترغيبهم في الولاء الكامل للإسلام والإيمان الذي هو الهدف الأكبر في مهمة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) خصوصاً وأن بعضهم كان يتمتع ببعض الدراية والكفاءة فيستفاد منه جواز تقديم الكفاءة على الإخلاص للمصالح الأهم.

- الاحتمال الثالث: هو الحاجة، وذلك لسعة رقعة الدولة واتساع حاجاتها إلى الكفاءات بما لم تف الطاقات الواعية المخلصة بمهامها الإدارية والتنظيمية فاستعان بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأهم والمهم ويؤيد ذلك أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) لم يولّهم المناصب في مركز الحكومة في المدينة المنورة بل أخرجهم في مهماتهم إلى أطرافها ونواحيها وخصوصاً في المواقع الجديدة التي نشأت وانضمت إلى الدولة الإسلامية بسبب التوسع السريع للدولة جغرافياً وبشرياً وبذلك يكون قد جمع النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بين مصلحتين كبريتين:

- إحداهما: سد فراغات الدولة وحاجاتها.

- ثانيهما: التخلص من أضرار توليهم في العاصمة بعد الحاجة إليهم في تأليف قلوبهم وضمهم إلى الإسلام والأمن من عدائهم وشرهم خصوصاً مع إعطائهم مهمات لا تباشر إدارة الناس في دينهم وأفكارهم ومعتقداتهم بنحو شامل لحصر مهماتهم في جباية الصدقات ونحوها عادةً مع جعل الرقابة والإشراف على ما يفعلونه في مهماتهم، وكان هذا ما يحكم به العقل أيضاً لجهة اللابدية العقلية بعد دوران الأمر بين خيارات ثلاثة:

- الأول: إفراغ مركز الدولة من الكفاءات الإدارية المخلصة للشؤون العامة في الأطراف، وإبقاء هؤلاء ونحوهم من ضعاف الإسلام يتولّون المهام في العاصمة.

- الخيار الثاني: التضحية بمشروع الدولة الذي ينعكس على سمعة الإسلام وقوته ومكانته بترك المواقع شاغرة دون متولّي وهذا فوضى واختلال نظام.

- الخيار الثالث: الاستعانة بالمسلمين الجدد الأكفاء والإغضاء عن مدى إخلاصهم الديني ومعرفتهم وتقواهم وتوليتهم على المراكز التي لا يتوفر لها مسلمون مخلصون أكفاء مع تشديد الرقابة عليهم لئلا يؤثر جهلهم بالمسلمين وتسريب خرافاتهم إلى عقول الناس، وفي نفس الوقت الذي يكون قد أمن شرهم المباشر وأشعرهم بتحصيل ما طمحوا إليه لدى دخولهم في الإسلام، والظاهر أن ما يحكم به العقل ويقوم عليه السيرة العقلائية هو لزوم الأخذ بالخيار الثالث وبضميمة وجوب القدوة والأسوة يتعين على الدولة الإسلامية مراعاة ذلك أيضاً إن لم تجد بداً منه حتى تتوفر العناصر الجامعة للكفاءة مع الإخلاص والتدين والصدق، ويعضد ذلك اكتفاء الفقهاء بالوثاقة في جملة من الأمور الهامة الخطيرة التي تعود إلى مثل ما ذكرناه، كالولاية على القصر والتصدي للأمور الحسبية والرجوع إلى أهل الخبرة في تشخيص الموضوعات الخاصة والعامة وغيرها.. خصوصاً وأن عدم الإيمان والتقوى يمكن ضبطه بواسطة الإشراف والرقابة بخلاف العلم والكفاءة فإنها مما لا مجال لضبطها كما هو واضح، وكيف كان فإن المستفاد من مجموع الأدلة التي تشهد له السيرة لزوم مراعاة العلم والكفاءة مهما أمكن، ولكن إذا دار الأمر بين الخبروية والإخلاص قدم الأول.

نعم لا إشكال في لزوم توفر الوثاقة حينئذٍ وأما غير الثقة فلا يجوز توليه شرعاً وعقلاً لأنه خيانة وظلم وتضييع للحقوق ونقض للغرض، وهذه قضية مهمة جداً وتقع محلاً لابتلاء المتصدين للدولة الإسلامية غالباً، وقد ورد التعبير عنها في جملة من كلمات الفقهاء فقد صرّح العلامة الحلي (رضوان الله عليه) بأنه إذا تعذر وجود القائد العسكري الجامع لصفات التقوى والخبرة والشجاعة فلا عبرة بشرط التقوى وقال: بل يخرج مع شفيق بالمسلمين شجاع وإن كان معروفاً بالمعصية.

وقال الفقيه الهمداني (رضوان الله عليه) في مقام البحث عن الشروط المعتبرة في عامل الزكاة في عصر الغيبة: فإذا رأى الفقيه صبياً أو فاسقاً بصيراً بالأمور حاذقاً بأمر السياسة والرئاسة وجزم بكونه ناصحاً شفيقاً أمينا حفيظاً وإن كان فاسقاً غير متحرز عن جملة من المعاصي فلا مانع من نصبه لجباية الصدقات وضبطها وكتابتها، وغير ذلك إذا رأى المصلحة في ذلك..

والظاهر أن المسألة محل وفاق بين الفقهاء وعليه السيرة العقلائية أيضاً، وفي تاريخ الخلفاء كان النبي (صلى الله عليه وآله)  يؤمر الرجل على القوم وفيهم من هو خير منهم لأنه أيقظ عيناً وأبصر بالحرب.

- المسألة السادسة: في تولية غير المسلمين على شؤون المسلمين الإدارية كما لو كان غير المسلم خبيراً كفوءاً في إدارة المهام والقيام بالواجبات الحكومية، وهذه من المسائل كثيرة الابتلاء في مختلف الدول والبلدان الإسلامية خصوصاً مع تداخل الشعوب والمجتمعات، وقد وقع الخلاف فيها بين الشيعة والعامة، فقد ذهب مشهور الإمامية إلى عدم جواز تولية غير المسلم أي عمل من الأعمال الحكومية في الدولة الإسلامية واستدلوا لذلك بأمور:

- الأول: قوله تعالى: (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) وتقريب الاستدلال أن السبيل لغة هو الطريق ويستعمل لكل ما يتوصل به إلى شيء خيراً كان أو شراً كما في مفردات الراغب، ومن الأول قوله سبحانه: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة) ومن الثاني قوله سبحانه: (لتستبين سبيل المجرمين)، وقوله عز وجل: (ما على المحسنين من سبيل) وهو بهذا المعنى يشمل كل ما يتوصل به الكافر من سلطنة وهيمنة على المؤمن كما يفيد حرف الجمع على ذلك ومن مصاديقه الإمرة والسلطة والمناصب الحكومية والإدارية، وبضميمة الأداة لن النافية والفعل جعل والحرف على ذلك وكون الآية في مقام الإنشاء يستفاد منها حرمة أن يكون للكافر هيمنة وسلطنة على المؤمن، لأنه سبيل والآية نفت أن يجعل الله سبحانه ذلك وعدم الجعل كاشف عن الملاك الواقعي للمولى وعدم جعل الحكم إذ لابد وأن يتعلّق الجعل بشيء وحيث أنه ليس السبيل التكويني هو متعلق الجعل لمخالفة الوجدان له فيتعين السبيل التشريعي وهو الحكم والتكليف لأنه وظيفة الشارع أولاً وبالذات والأصل في كلماته هو التشريع.

وكيف كان فإن المستفاد منها هو حرمة تولي الكافر لأي مقام أو منصب يوجب هيمنته على المسلمين فرادى أو جماعات، وبذلك يظهر أن المعاني الأخرى المذكورة للسبيل كالحجة والبرهان والنهج والمذهب، هذه كلها من باب التفسير في المصداق لرجوعها إلى جامع واحد هو ما ذكرناه وإطلاقه يشمل السبل المادية والمعنوية.

- الثاني: الرواية المشهورة نقلاً وعملاً، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)، وتقريب الاستدلال أن العلوّ لغة بمعنى الارتفاع وهو يشمل المادي والمعنوي كما يقال (فلان عالي الشأن) أي مرتفع القدر، ولا إشكال في أن تولي الكافر للشؤون السلطوية والحكومية من مصاديق العلوّ وبضميمة كون ظاهر الرواية في مقام الإنشاء المحض أو الإخبار في مقام الإنشاء فإنها تدلّ على وجوب العمل بما يوجب ارتفاع الإسلام وعلوّه مادياً ومعنوياً. ولا إشكال في أن ذلك يشمل المسلمين أيضاً للتلازم بين المعتقد والمعتقَد فعلوّ الإسلام هو علوّ للمسلمين وبالعكس، فتدلّ على حرمة كل ما يوجب وضاعة الإسلام والمسلمين وهيمنة الكفار عليهم، خصوصاً في مثل الحكم والدولة.

ويعضد ذلك قوله سبحانه وتعالى في مقام إثبات العزة والكرامة للمسلمين: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) وهي أيضاً إما إنشائية محضة أو خبرية في مقام الإنشاء، فتدلّ على وجوب الأخذ بالعزة والكرامة وحرمة مخالفتهما من حيث الكبرى لأنها ذل ومهانة صغرى فتفيدنا الحرمة أيضاً.

- الدليل الثالث: الإجماع على عدم مشروعية تولي الكافر في مختلف الشؤون الخاصة فتدل على ما نحن فيه بالأولوية فقد أفتى الفقهاء بعدم مشروعية تزويج المسلمة من الكافر وانفساخ عقد الزوجية بإسلام الزوجة، كما أفتوا بعدم صحة إعطاء الولاية للكافر على القصر ونحوهم، وكذا عدم صحة تملّك الكافر للعبد المسلم، وكذا في بيع المصحف الشريف ولا في امتلاكه أو الكينونة عنده على قوله، وبعض الفقهاء عمم ذلك حتى إلى كتب الروايات والأخبار.

هذا وقد ذهب مشهور العامة إلى الجواز وقد مورس ذلك في الدولة الأموية والعباسية وغيرهما بالفعل إذ تولى رجال من اليهود والنصارى والمجوس وظائف إدارية ومالية كان بعضها مهماً جداً في سيادة الدولة الإسلامية، وقد صرح الماوردي وأبو يعلى الفراء بجواز أن يتولى غير المسلم وزارة التنفيذ، قال الماوردي: ويجوز أن يكون هذا الوزير أي وزير التنفيذ من أهل الذمة وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منه، إلى غير ذلك من عباراتهم الصريحة في جواز تولّي الكفّار للمناصب في الدولة الإسلامية.

وهنا نقول لتوضيح المسألة نذكر ملاحظات:

- الملاحظة الأولى: أن المسألة جاءت في كلام أصحابنا في الشؤون الخاصة غالباً، كما عرفت بعضها وعلى القول بالأعم من ذلك فإن الظاهر اختلاف الموضوع بعض الشيء بين الدولة القديمة والأخرى الحديثة فإنه في الدولة القديمة كان المتولّي غالباً ذا سلطة فردية مطلقة أو شبه مطلقة وكان مبسوط اليد في ولايته لا رقيب عليه ولا حسيب سوى الحاكم الأعلى. بينما في الدولة الحديثة اختلف الأمر لأن المهام والوظائف في الدولة الإسلامية في صيغتها الحديثة سواء كانت مهمات ووظائف لدى الأفراد من الموظفين أو المؤسسات فإنها جميعاً في الدولة الحديثة تخضع للتفتيش والرقابة والضبط، وتتبع في تكوينها العام نظام الشورى على ما عرفت بيانه مفصلاً، إذ غالباً لا يوجد موظف أو مسؤول يمتلك سلطة مطلقة ينفرد في القرار فيها، وإنما عادة الموظف والمسؤول يعد جزءاً من جهاز حكومي متشعب وواسع، وبين الدولتين في التنظيم الإرادي فرق واسع وكبير ومن هنا قد يقال انه على النظام الحديث تنصرف أدلة نفي السبيل والعلوّ عن الموظفين والإداريين الصغار ونحوهم.

- الملاحظة الثانية: ولو سلمنا فإن الظاهر إمكان التفريق بين إمرة الكافر وسلطته المستقلة أو القوية على المسلم بمعنى امتلاكه سلطة الأمر والنهي على مستوى القرار، وهذا يجعل إرادة الكافر وسلطته هي العليا الفاعلة ويكون المسلم في مقام المتلقي التابع والمنقاد وبين تصرفه كموظف أو إداري على مستوى التنفيذ بأن يكون المقرر والمقنن هو المسلم مباشرة أو بواسطة سلطات الدولة التأطيرية والتنفيذية وفي مثل هذه الصورة ليس للكافر أي دور سوى التنفيذ وناقل القرار فأمره ونهيه لا يعكسان إرادته واختياره الشخصيين وإنما يعكسان إرادة واختيار أجهزة ومؤسسات الدولة المسلمة.

- الملاحظة الثالثة: إن إمرة الكافر وسلطته تارة تستلزم أو تتضمن مذلة المسلم ومهانته بحيث يكون بهذه الإمرة والسلطنة مضمون أخلاقي باعتبار يتعالى فيه الكافر على المؤمن والمسلم وينتقص من كرامته الإنسانية أو كرامته الدينية وتارة لا يكون لها هذا المضمون أو هذه الملازمة وإنما تكون وظيفته التحريك نحو العمل المحدّد لإنجازه كسائر الموظفين الذين يقومون بتنفيذ القرار وأوامر السلطة الأعلى.

وبالتالي فإنه لا يتضمن ولا يلازم أمر الكافر بالنسبة إلى المأمور أي معنى من معاني المذلة والمهانة والدونية والانتقاص في المرتبة الإنسانية ولا يميزه ويعلو به على الناس وإنما ينحصر دوره بالمسؤولية والوظيفة.

إذا عرفت هذا نقول الظاهر أن الذي تشمله الأدلة المذكورة هو موارد ثلاثة إذ يحكم بعدم جواز توليها من قبل الكافر:

- الأول: تولي الكافر للرئاسة العليا والسلطات التي لها هيمنة وسلطنة على المسلمين رقاباً أو قراراً أو أمراً أو نهياً.

- الثاني: تولي المناصب ولو في حدودها الدنيا إذا كان فيها مهانة ومذلّة للمسلمين.

- الثالث: تولّي المناصب حتى في الموارد التي قام النص على اشتراط المسلم فيها كمسائل القضاء والوصايا والقيمين ونحوها..

فيحرم الأول والثاني لأدلة نفي السبيل والعلو، ويحرم الثالث لأنه تشريع محرم أيضاً واجتهاد في مقابل النص. وأما تولي الوظائف العادية فالظاهر جوازها وذلك لوجهين:

- أحدها: انصراف أدلة نفي العلو عن مثلها.

- ثانيها: عدم صدق العلو موضوعاً بعد كونه منفذاً لا مقرراً وتابعاً للسلطات المسلمة لا متبوعاً، لكونه موظفاً في الدولة الإسلامية وخاضعاً لسلطانها، وربما يعضد ذلك أمران:

- الأول: إطلاق النصوص والفتاوى بكفاية الوثاقة في جملة من الشؤون المرتبطة بالموضوعات. وبعضها يتعلّق بالأمور الخطيرة كمراجعة الأطباء منهم لمعالجة الأمراض أو السفر معهم بالطائرات والبواخر أو اتخاذهم محامين للدفاع عن القضايا وكذا في مسائل التعليم والتعلّم وما أشبه مع أن هذه الوظائف تتضمن السبيل والعلو والتصرف أيضاً.

- الثاني: العموميات والإطلاقات والسيرة القطيعة المستمرة منذ زمان النبي وطيلة عهود الأئمة المعصومين بل وفي الغيبة الصغرى الدالة على صحة ونفوذ عقود الإجارة والزراعة غيرها من المعاملات التي تجرى بين المسلمين وغيرهم ويكون غير المسلم هو صاحب العمل ويكون المسلم عاملاً أو مزارعاً أو مضارباً في أعمال قد يكون فيها عدد من المسلمين، ومن ذلك ما روي عن سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه عمل لأحد اليهود في سقي حديقته بالأجرة، واتفاق الفقهاء أيضاً على جواز الاستعانة في الحرب الجهادية بأهل الذمة والمشرك الذي تؤمن غائلته كما في جامع المقاصد وغيره من كتب الفقه وكذا فتوى جمع منهم من المعاصرين فيما لو أسس الكافر شركة تجارية وصناعية أو أنشأ مزرعة واستئجر مئات وربما ألوف المسلمين للعمل فيها فإن عمومات ومطلقات التجارة عن تراض والوفاء بالعهود والسيرة القطعية تدل على الصحة والقول بعدم المشروعية وعدم الإباحة والصحة لا يخلو من مجازفة وعليه فإن مقتضى الجمع بين الأدلة هو حمل المنع على الموارد الثلاثة المتقدمة وأما غيرها فالظاهر الجواز وفي صورة الشك في جملة منها يتمسّك بأصالة الحل أيضاً ولا يجوز التمسك بالعموميات والإطلاقات المتقدمة لأنه تمسك بالعام في شبهة المصداقية.

هذا ولا يخفى أن الكلام يدور في تولية الكافر على المسلم وأما توليته على أبناء دينه ومذهبه فلا إشكال في جوازه وينبغي على الدولة الإسلامية أن تراعي بالتأطير والتنفيذ حقوقهم حتى في مثل هذه الموارد.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..