mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 004.doc

ثالثا: الانجذاب إلى محمد (صلى الله عليه وآله):

محمد (صلى الله عليه وآله) كل خلية فيه كان فيها من القوى الروحية ما تستطيع ان تجذب كل البشر.

محمد (صلى الله عليه وآله) هذا المولود الذي جاء إلى الدنيا يتيماً ليشعر كل قرشي بحنين إليه. تعهده جده عبد المطلب وهو زعيم قريش ورعى تربيته لينشأ قوياً في تلك البيئة أرسله إلى الصحراء لتتبرك بقدومه بني سعد وليشهد فضله كل من عرفه عن قريب وبعيد وكانت حياته ومواقفه خلال الأربعين عاماً قبل البعثة مناراً يشهدها جميع من في مكة، فقد شاع عنه بأنه الأمين وانتشرت أنباء أمانته آفاق الجزيرة العربية فجاء كل من يريد السفر أو يريد حفظ أمواله يئتمنها عند محمد (صلى الله عليه وآله) يوم لم تكن أماكن لحفظ الأموال كالبنوك.

وفي صغره كانت تصرفاته وشخصيته تدل على الشأن الذي ينتظره وكان الكثير من الهاشميين يتعاملون مع يتيمهم من هذه النظرة العميقة في مستقبل هذا الطفل، كان عبد المطلب قد تعود ان يستظل نهاراً بجدار الكعبة، يجلس على فرا مرتفع وحوله أولاده وأشراف قريش. ومن بعيد كانت تلوح ليتيم بني هاشم صور جده وأعمامه فكان يتقدم إليهم فيثب على فراش جده فيأخذه أعمامه ليمنعونه عن ذلك فيأخذه عبد المطلب في حضنه ليقول لأولاده: دعوه ان لا بني هذا لشأن ثم يجلسه معه على الفراش ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع ونسأل من أين أدرك عبد المطلب سيكون لهذا الفتى الصغير شأناًَ؟

هل هو الإحساس الوجداني الناشئ عن النظرة الواقعية للوضع في الجزيرة العربية فقد كانت الأمور تدل على الحاجة إلى التغيير وكان المجتمع المكي يعيش في حالة انتقالية وهي تؤكد ضرورة وجود رجل مصلح يستطيع ان يقود المجتمع إلى الأفضل ومن هو ذلك المصلح الذي يستطيع ان يواجه كل تلك التحديات ويتمكن من إنقاذ أمته.

لقد أدرك عبد المطلب بفطرته ان هذه المسؤولية بحاجة إلى رجل عظيم وهو حتى في نفسه لم يجد تلك الكفاءة التي تستوجبها تلك المسؤولية على رغم مواقفه وإصلاحاته في مكة.

وعندما كان يرفق عبد المطلب هذه الاحساسات بما شاهده من حفيده وبما امتاز هذا الصبي على جميع الفتيان من فطنة وشخصية وما تبعه من بركات عمت كل من اتصل به سواء في بيته في مكة أو في مكان رضاعته في حي بني سعد.

أدرك عبد المطلب بأن مصلح المستقبل لا يكون سوى حفيده محمد (صلى الله عليه وآله) وقد زاد من ترسيخ هذا المعتقد ما كان يسمع من الكهان والأحبار.

ويقول الرواة قدم عبد المطلب في وفد من قريش ومعه بعض الأشراف قدموا إلى اليمن لتهنئة سيف بن ذي يزن على انتصاره وغلبته.

فاسر لعبد المطلب بسر الرسول الذي سيبعثه الله من قريش وانه سيولد في هذه القبيلة من يحمل هذه الصفات والذي سيكون الرسول المنتظر ولم يكن صعباً على عبد المطلب ان يعرف من العلامات التي أعطاها ذي يزن من سيكون هذا الرسول ولم يرد بخلد زعيم اليمن يوماً ان من يتحدث عنه قد ولد فعلاً وانه حفيد ضيفه عبد المطلب فأوصاه خيراً وحذره من اليهود وغيرهم.

ولم يكن الأمر بحاجة إلى كتمان فشخص هذا الصبي وتصرفاته كانت تنبئ بمستقبل زاهر له ولمن حوله.

لقد عاش عبد المطلب وهو يأمل ان يرى تحقيق نبوته لكن الموت لم يمهله فانتقلت كفالة محمد (صلى الله عليه وآله) إلى عمه أبي طالب وهو يومذاك ابن ثمان سنوات.

ولماذا وقع اختياره على أبي طالب؟ وله العشرات من الأولاد؟ ان أبي طالب رجل فقير وبين أولاده من هو مثل أبي لهب الذي قال عنه القرآن: ((ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ..)) ومن أولاده الأغنياء العباس الذي ذكر لنا التاريخ انه كان يشتغل في الربا قبل ان يحرمه الإسلام.

فما هو السر الذي جعل عبد المطلب يختار من بين جميع أولاده أبا طالب ليتكفل رعاية حفيده محمد (صلى الله عليه وآله) وهو الذي تفرس في مستقبله وعرف شأنه فهل وجد أبا طالب من أكثر أبنائه حباً ورعاية لمحمد (صلى الله عليه وآله) ؟

أم لأنه أخو لعبدالله من أم واحدة وأب واحد؟

أم أنه وجد شيئاً آخر في فراسته لمستقبل النبي العظيم وهو انه سيلاقي الصعاب في طريقه وان أبا طالب وحده الذي سيكون نصيره والمدافع عنه؟

وهذا الذي كان، فقد عاد بعض أولاده محمداًَ (صلى الله عليه وآله) كأبي لهب الذي تفنن في محاربة الرسول (صلى الله عليه وآله) بينما وقف على النقيض منه أبو طالب فكان أشد الناس رعاية وحماية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان على استعداد لأن يضحي بمنزلته لدى قومه من أجل ابن أخيه ومن أجل الدين الذي جاء به من عند الله.

وثمة حقيقة أخرى كان لا بد من مشاهدتها في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) حول هذا الاختيار. فقد نشأ النبي (صلى الله عليه وآله) في أقسى الظروف وأحلكها كان يتيماً ثم ترعرع في الصحراء ماتت والدته وعمره ست سنوات ومات جده وعمره ثمانية أعوام فذاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) اليتم ثلاث مرات وإلى جانب اليتم تريى الرسول في بيئة محرومة فقيرة إذ كان أبو طالب أفقر أبناء عبد المطلب لكنه عوضه بدل الحرمان العطف والحب كما ذكر ذلك مؤرخو السيرة ومنه ما نقله ابن هشام في كتابه من حب أبي طالب لمحمد (صلى الله عليه وآله) حيث كان يحبه أكثر من أبنائه علي وجعفر وعقيل (1).

وكانت فاطمة بنت أسد تطعم محمداً قبل ان تطعم أولادها.

لكن وجود محمد (صلى الله عليه وآله) بهذه الشخصية العالية في بيئة معدمة وترعرعها في أحضان الفقر كان يزيد من عوامل الجذب إليه. ولأن مفهوم العظمة ارتبطت عند الناس بالمال وإذا برجل فقير يصبح عظيماً بشخصيته وبقدراته الذاتية وأكثر ما كان الفقراء والمعدمون ينجذبون إلى هذه الشخصية لملكاتها الذاتية وليس لعوامل خارجية.

ومع الأيام كانت شهرة الرسول تزداد وتتألق تزيد من تألقها أقوال الرهبان وتوقعات العرافين فعندما أراد أبو طالب السفر إلى الشام للتجارة تعلق به الرسول وكان عمره تسع سنوات. وبعد أسابيع من السير والتعب وصلت القافلة إلى مدينة بصرى في الشام وتفاجاً الجميع عندما شاهدوا من يدعوهم لتناول الطعام عند راهب المدينة وزعيمها الروحي (بحيرى) فقد عرفوا عنه انه بخيل ولا يسعه ان يطعم أحد من نجله.

فما الذي تغير في هذا الراهب.

وعلى عجل لبوا نداء بحيرى وتركوا أحمالهم وتجارتهم عند أصغر من في القافلة وهو محمد (صلى الله عليه وآله) الذي جلس ينتظر عودة عمه ورفاقه ليواصلوا سيرهم إلى الشام بعد ان يمضوا فترة عند الراهب وتفاجأ أبو طالب عندما وجد بحيراً واقفاً بلهفة في باب الدير ينتظر وصولهم وينظر في وجوههم بدقة وكأنه يبحث عن شخص بينهم.

وعندما أكمل التحدق في الوجوه التفت إلى الجميع قائلاً يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي قالوا له: ما تخلف عنك أحد يبتغي ان يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سناً متخلف في رحالهم.

فقال: ادعوه فليحضر هذا الطعام.

ولم تمض ثوان حتى كان محمد (صلى الله عليه وآله) بين القوم حتى إذا فرغوا من الطعام وتفرقوا قام بحيرى واختلى برسول الله (صلى الله عليه وآله) سائلاً إياه عن بعض حالاته في المنام واليقظة وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) يجيبه وكلما أجاب زاد يقين بحيرى بان هذا الغلام الصغير سيكون نبي هذا العصر ولم ينس أثناء توديعه للضيوف أن يوصي أبا طالب بأن يكون على حذر من اليهود قائلاً له: فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت يبغنه شراً فانه كائن له شأن عظيم (2).

وشب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخذ يتقدم في العمر وكلما زاد سنه زادت شخصيته سطوعاً في قومه وانتشر خبر أمانته.

وكانت هناك امرأة ثرية وصلت إليها أنباء كثيرة عن محمد فانجذبت إليه كأي واحد ينجذب إليه عندما يسمع به وأرادت ان تكتشف هذه الشخصية من خلال تجربة عملية.

فدعته إلى المضارية في إحدى قوافلها التجارية إلى الشام وأرسلت معه من يستطيع ان يراقبه وينقل إليها أخباره بدقه.

وارتحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبصحبته ميسرة الذي كان يسجل كل ما يراه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعند عودته إلى مكة كانت السيدة خديجة في لهفة لسماع ما سجلته ذاكرة ميسرة أكثر من لهفتها لسماع أنباء الأرباح المضاعفة التي حصلت عليها في هذه التجارة.

وجلس ميسرة يحدثها عن كل ما شاهده وأخذ يسطر لها المعاجز التي رآها في الطريق ويتحدث عن أمانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحسن أخلاقه مع من معه فازدادت انجذاباً إليه. وعلى الفوز نقلت تلك الصور إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان نصرانياً عالماً مطلعاً على الكتب فسرد عليها..

لئن كان هذا حقا يا خديجة ان محمداً (صلى الله عليه وآله) لنبي هذا الأمة..

واستطرد ورقة وقد عرفت انه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه.

وأوصلت هذه الكلمات خديجة إلى قناعة بأن عليها ان تحظى بمحمد (صلى الله عليه وآله) فأرسلت إليه وعلى جناح السرعة وبلاد تردد قالت له:

يا ابن عم أني قد رغبت فيك..

ولم يكن قد تعارف في المجتمع الجزيري ان تطلب المرأة الشريفة ذات النسب والحسب الزواج من الرجل لكن قوة الجذب الكامنة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفعت خديجة وهي المرأة العفيفة الشريفة في نسبها والعظيمة عند قومها إلى اختيار زوجها بنفسها ولم تكن تبتغي شيئاً من هذا الزواج  سوى القرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد كانت كثيرة المال عظيمة النسب والحسب لا ينقصها شيء وهذه صورة ترسم لنا قوة الجذب التي كان يتحلى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي كانت قد آثرت بكل من عرفه أو أتصل به.

ومشهد آخر نقله لنا التاريخ عن الصورة التي كانت في الأذهان عن محمد (صلى الله عليه وآله)، ففي أحد الأعوام اشتدت فيه السيول وتهدمت الكعبة بفعلها وقامت قريش بإعادة بناء البيت المقدس حتى وصلت إلى أخر مرحلة من البناء وهي وضع الحجر الأسود في محله. وساد الاختلاف بين القبائل فكل قبيلة ترغب بأن تكون هي صاحبة الحظ في وضع الحجر ووضعه في مكانه شرف عظيم تتمناه كل قبيلة، ودب النزاع بين القبائل وكاد ان ينقلب إلى قتال لولا الرأي الحكيم الذي قدمه أبو أميه بن المغيرة بن عبدالله المخزومي وكان يوم ذاك أكبرهم سناً فقد أشار عليهم ان يتولى وضع الحجر أول وافد من باب بني شيبة فرضوا بالحل وجلسوا ينتظرون..

فلاحت لهم صورة إنسان يدخل ففرحوا وازدادوا فرحاً عندما عرفوا ان ذلك الإنسان هو محمد (صلى الله عليه وآله) فتعالت الأصوات لقد جاءكم الصادق الأمين.

وجاء الصادق الأمين وعرض عليهم حلاً معقولاً وهو ان يوضع الحجر في ثوب وتأخذ كل قبيلة بطرف من هذا الثوب ليشترك الجميع في نقل الحجر إلى مكانه ففعلوا، فلما بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بني عليه (3).

ولو أراد الرسول ان يقوم بالمهمة بنفسه دون مشاركة القبائل لكان له ما أراد ولكانت القبائل قد رضيت بالأمر.

لكن اقتراح الرسول شد القبائل إليه وزاد من ثقتها بحصافة رأيه وجعلها تعتقد بان محمداً (صلى الله عليه وآله) ينفعها في الصعاب وعند احتدام المشكلات جرت هذه الواقعة بعشر سنين قبل البعثة وظلت عالقة في الأذهان ولم تنسها قريش وكيف تنسى ذلك اليوم الذي كاد ان يتحول إلى حرب طاحنة وكيف تنسى الصادق الأمين الذي أنقذها من تلك الأزمة. وفي الخلاصة يمكن القول بأن الأحداث التي سجلتها ذاكرة الناس عن الرسول في أيام صباه وأيام شبابه كانت من الكثرة بحيث أصبح اسم محمد (صلى الله عليه وآله) معروفاً للجميع للقاصي والداني ولم يحظ أي فرد آخر ولد في قريش بهذه السمعة التي كسبها النبي (صلى الله عليه وآله) والتي نقلته إلى قلوب القبائل العربية التي عرفته بالصادق والأمين والحكيم والشجاع الذي يساعد الفقراء والمحتاجين.

وهكذا نجد ان جميع الأنظار تتوجه في النهاية إلى الرسول وان اهتمامات الناس تنصب في مجرى يؤدي إلى الرسول (صلى الله عليه وآله).

فالذين جذبتهم مكة بسمعتها وشرفها وبيتها الحرام وجدوا أنفسهم وهم منجذبون إلى البيت الهاشمي والذي اتسم بالشرف والكرم والشجاعة والذي كان يقود المجتمع المكي في المرحلة الانتقالية، ثم وجد هؤلاء أنفسهم في النهاية ينجذبون إلى سليل البيت الهاشمي والى محمد (صلى الله عليه وآله).

فمحمد (صلى الله عليه وآله) أصبح مركز الجذب في دنيا الجزيرة العربية فإليه تشخصت الأنظار وباتجاهه أنصب اهتمام الناس.

فأصبح محوراً للنبل والشهامة والصدق والأمانة والشجاعة والكرم ومساعدة الآخرين وهي كلها صفات يتطلع إليها الإنسان العربي ويحلم بها في عالم المنام فإذا به يجدها في اليقظة في إنسان يعيش بينهم يأكل من طعامهم وينام مثلهم ويعيش كواحد مثلهم.

ولا يمكن لنا ان ننس دور العلامات والتنبوءات والدلائل التي أوردتها الرسائل السماوية والتي بقيت محفوظة في ذاكرة الرهبان الذين احتكوا بالرسول (صلى الله عليه وآله) أثناء فترة حياته الأولى قبل البعثة لا يمكن ان نتجاهل دور هذا العامل في انتشار أسم محمد (صلى الله عليه وآله) في الآفاق وفي انجذاب كل من يسمع باسمه وصفاته ويسمع ما جرى عليه من حوادث ليست طبيعية ولم يصادق وقوعها لأحد من قبل.

بهذه الميزات وبتلك الشخصية المحبوبة بدأ الرسول (صلى الله عليه وآله) يصدع بدعوته إلى الإسلام ولم يكن صعبا على أصحاب القلوب النظيفة ان يدركوا صدق هذه الدعوة المباركة فالرسول هو الصادق الأمين الذي لم يعرف الكذب في حياته قط.. والناس بفطرتهم السليمة كانوا يتجاوبون مع نداء محمد (صلى الله عليه وآله) لا اله إلا الله لأنه نداء مألوف في عالمهم الفطري. لكن ليس كل الناس يملكون الفطرة الصافية ويستطيعون ان يسمعوا وقع ذلك الصوت الإلهي في أعماقهم فقد ران على قلوبهم وتكدست عليها أكوام من الشهوات فتعطل عمل الفطرة ونبشت الخرافات في عقولهم فتعطل عمل العقل فأصبحوا يحملون شحنا سالبة تتحرك بعكس الرسالة.

عشية البعثة

في العقود الثلاثة قبل الرسالة أي من وفاة عبد المطلب وحتى البعثة فقد المجتمع المكي بعض بريقه وترك المنطقة المضيئة للرسول (صلى الله عليه وآله) الذي أصبح يتألق في وسط مجتمع يزداد عتمة.

فبعد وفاة عبد المطلب نشبت الفرقة في المجتمع المكي واشتد النزاع بين بني هاشم وبني أمية وفقد هذا المجتمع القيادة المركزية التي كانت متمثلة بشخصية عبد المطلب فالكثير من المهابة التي امتلكتها قريش كان مصدرها شخصية عبد المطلب. وبعد وفاته فقدت قريش الموجة فدبت النزاعات الفردية فتضاءلت بذلك المكانة السياسية لقريش. فأصبحت عرضة للعدوان من القبائل العربية الأخرى بعد ان كانت مهابة لا يجرأ أحد على معارضتها. وحرب الفجار التي وقعت ورسول الله في عمر الشباب (خمسة عشرة عاماً) كانت الدليل على هوآن قريش في أعين العرب حيث تعرضت إلى هجمات متعاقبة لأربع سنوات من قبيلة هوازن.

وقد سارع أحد أبناء عبد المطلب وهو الزبير إلى إيقاف هذا التفكك فدعى إلى نوع من التماسك بين أبناء المجتمع المكي فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبدالله بن جدعان فصنع لهم طعاماً فتعاقدوا وتعاهدوا بالله المنتقم ليكونن مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه وقد جاء على لسان الرسول الأكرم لقد حضرت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما يسرني به حمر النعم ولو دعيت إلى مثله لا جبت () والى حد ما استطاع هذا الحلف ان يملأ فراغ النظام في المجتمع المكي بعد غياب القيادات التاريخية. لكن هذا الفراغ كان قائماً فانعدمت معه السيطرة التامة على كل أبناء المجتمع وكان لهذا الواقع آثار إيجابية على بعض أجنحة المجتمع فقد أدى أنهياب الهيمنة والسلطة المركزية إلى تحرر نسبي من القيود والعادات والتقاليد التي كانت تكبل المجتمع وبدأ الناس يفكرون بحرية وأصبح لليهود والنصارى نشاط بارز بعد ان كانوا مقيدين بقوانين اجتماعية صارمة فكانوا في نظر قريش عبيداً وكانت مساكنهم بعيدة عن بيت الله الحرام حسب التقسيم الاجتماعي.

  •  حركة التمرد ضد الوثنية

ولقد أدى هذا التخلخل في النظام إلى ظهور حركة تمرد على الوثنية قادتها مجموعة من شباب مكة في طليعتهم زيد بن عمر الذي فر من زوجته ومن عمه الخطاب وسافر إلى الشام والعراق ثم عاد والتقى باليهودية والنصرانية لكنه لم يدخل فيها وكان يستند إلى الكعبة ويقول اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلم. وجاء عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: رأيت زيد بن عمرو قائماً قد أسند ظهره إلى الكعبة وهو يقول يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري وكان زيد يعيب على قريش قرابينها للآلهة ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها الماء من السماء وانبت لها النبات وانتم تذبحونها لغير الله، وكان لزيد مواقف إصلاحية في قبال الانحراف الطاغي فمن أعماله انه كان يأتي لمن يريد قتل ابنته فيقول له أنا أكفيك أمرها ومؤونتها ويأخذها منه فإذا ترعرعت قال لأبيها ان شئت دفعتها إليك وان شئت تتركها لي أكفيك مؤنتها.

ومن رواد حركة التمرد ضد الوثنية ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة بنت خويلد (رض) وقد تنكر للوثنية وأخذ يدرس التوراة والإنجيل وأتصل بالنصارى وقيل انه اعتنق النصرانية ووجد في الإنجيل ما يشير إلى ظهور نبي الإسلام وكان أول من بشر بالنبوة عندما جاءته خديجة (عليها السلام) وأخبرته بما شاهده وسمعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غار حراء فقال ورقة قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده ان كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران وانه لنبي هذه الأمة، قولي له ليثبت وبعد أيام من هذا الحادث التقى ورقة بن نوفل برسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يطوف في الكعبة فسأله عما شاهده وسمعه فاخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما رأى وسمع فقال له ورقة والذي نفسي بيده أنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء لموسى. ثم أخبره بما سيلاقيه من قومه لكنه طمأنه بأنه سينصره وعندما يعلنون الحرب عليه قائلاً ولئن أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه وانصرف كل منهما إلى منزله.

لكن لم يمهل القدر ورقة بن نوفل لكي يشاهد ذلك اليوم ويفي بوعده الذي قطعه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد جاء أجله قبل إعلان الدعوة الإسلامية بمدة وجيزة.

ومن الأسماء التي لمعت في فترة ما قبل البعثة والتي عرفت بتنصلها عن الوثنية ودعوتها للحنفية عبيد الله بن جحش الذي تمسك بشريعة إبراهيم عليه السلام وطال عمره حتى ظهور الإسلام فاسلم على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم هاجر إلى الحبشة. وفي الحبشة ارتد عن الإسلام وتمسك بالنصرانية وترك زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إكراما لاستقامتها ولأنها كانت وحيدة بعد ارتداد زوجها عن الإسلام.

وكان عبيد الله بن جحش يقول لمن يلتقي من المسلمين فقحنا وصأصأتم أي بمعنى اهتدينا وأنكم لا زلتم تبحثون عن الهدى.

وتكشف هذه التبدلات في حياة عبيدالله انه كان قلقاً مضطرباً لا يستقر عند رأي ولا يصبر على دين مثله مثل الكثير من أبناء جيل الشباب الذين اتصفت حياتهم بالاضطراب الدائم والتغير المستمر فهم لا يبحثون عن الحقيقة تصور ما يعبرون بانتماءاتهم المضطربة حالة عدم الاستقرار في حياتهم الفكرية والنفسية.

ــــــــــــــــ

الهامش

(1)- سيرة ابن هشام:ج 1 ص 179.

(2)- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج2 ص 37.

(3)- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج2 ص45.

(4)- ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج1 ص 82.