mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 003.doc

ثانياً: الانجذاب إلى العائلة الهاشمية:

اكتسبت مكة شرفها من المسجد الحرام وما أحيط به من رعاية إلهية ثم زادها شرفاً من سكنها فأصبحت علماً من أعلام التاريخ، فالذين سكنوا مكة هم أبناء إبراهيم وإسماعيل بناة الكعبة وقد برز من أولئك الأبناء والحفدة من استطاع ان يزيد مكة تألقا على تألقها.

فما حصلت عليه مكة من قوة مغناطيسية جاء بفعل مشترك من مكانة البيت الحرام ومن مكانة البيت الهاشمي الذي أعاد للمدينة نظارتها وأصبحت تباهي كبريات المدن في العالم يومذاك.

وكلما كان البيت الهاشمي يقترب من ولادة محمد كان يزداد تالقاً في سماء مكة وسماء الحجاز وكان يزداد سمعة وشرفاً وفضيلة بين مدن وأحياء الجزيرة وقد تعقب العرب أنباء هذا البيت منذ استطاع قصي بن كلاب أن يرسي دعائم دولة مصغرة في مكة بعد أن تغلب على خصومه، فقبل قصي لم يعرف العرب التنظيم والإدارة ووجدوا في أحضان ذلك النظام الخير والصلاح فقد نمت تجارتهم وازدادت أموالهم وعظم شأنهم أمام القبائل، وأخذ يعرف ذلك التجمع البشري من ذلك اليوم باسم قريش.

وقد ذكر جانباً من إصلاحات قصي بن كلاب ومنهجه في إقامة المدينة العصرية في  ذ لك العهد وبعد قصي ظهر الاختلاف بين أبناءه حول الزعامة في مكة، واشتد النزاع بين بني عبد الدار وبني عبد مناف، وانقسمت قريش إلى فريقين، فانضم بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي إلى بني عبد الدار، وعقدوا حلقاً عند الكعبة على ان لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا فسموا بالأحلاف، بينما انضم بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث إلى بني عبد مناف وهم بدورهم تعاقدوا على ان لا يخذل بعضهم بعضا واعدوا جفنة ملؤوها بالطيب ووضعوها عند الكعبة فغمس المعاقدون أيديهم فيها ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم بالتزام العهد فسموا بالمطيبين.

وكاد يتحول النزاع بين الأحلاف والمطيبين إلى حرب ضروس، وأثناء ما كانوا يتهيأون للقتال وإذا بهم يعودوا إلى رشدهم وينادوا بالصلح، وأما الزعامة على مكة فقد قسموها بين الطرفين فكانت السقاية والرفادة من حصة بني عبد مناف والحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار.

وقد زادت هذه الحادثة من عظمة البيت الهاشمي، وأصبح الناس وهم يرون شيئاً جديداً في هذا البيت الذين بلغ حد الخصام ثم عاد إلى عقله وحل معضلة الزعامة بالمنطق والعقل، ولاحظوا كيف يتحول الأبناء إلى أعداء وكيف يتحول الاختلاف إلى نزاع كاد ان ينقلب إلى حرب، وكيف تتحول الأوضاع المتشنجة فجأة إلى سلام وأمن وكيف يصلوا في النهاية إلى حل مقنع وكشف يرضى الجميع بذلك الحل خدمة للسلام والوئام، فالقاعدة التي سارت عليها أحداث الجزيرة العربية كانت تؤكد بأن مصير ذلك الاختلاف كان إلى حرب ولا مجال للسلام بينهم لكن كان هناك بقية من العقل والحكمة في صحراء الجاهلية.

ثم تولى زعامة مكة هاشم بن عبد مناف وكان موسراً كريماً ذو شخصية مهابة فاستطاع بملكاته ان يجذب القبائل وان يصبح زعيمها الأوحد بالرغم من انه لم يمتلك منصب السقاية والرفادة حسب تقسيم الزعامة بين عبد مناف وعبد الدار كما مر ذكره.

لكن القيادة في ذلك الوسط وفي تلك البيئة كانت موهبة وليست ارثاً يرثها الشخص من آبائه فمن يمتلك القدرة والشخصية يصبح زعيماً بينما من فقد صفات القيادة لم يكن بوسعه أن يقود قومه وحتى لو ورثها عن أبيه من هنا فقد برز اسم هاشم على أبناء عبد مناف وأبناء عبد الدار وأصبح زعيماً لا يدانيه أحد.

واشتهر هاشم بفرض ضريبة مالية على قريش وصرفها في مواسم الحج على الحجيج فكلما حضر الحج قام هاشم في قومه قائلاً يا معشر قريش أنكم جيران الله وأهل بيته وانه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته وهم ضيف الله ,أحق الضيف بالكرامة ضيفه فاجمعوا لهم، ما تصنعون لهم به طعاماً أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها فانه والله لو كان مالي يسع لذلك ما كلفتكموه فكان كل قرشي يخرج من ماله ما يستطيع ويرفد به لإقامة الطعام في مواسم الحج وفي إحدى المراسم أصيبت قريش بالفاقة فلم يرغب هاشم ان يثقل من كاهلهم ويأخذ ما اعتاد عليه أخذه فقام بالمهمة بنفسه بارتحاله إلى الشام بجميع ماله واشترى به كعكاً دقيقاً ثم جاء الموسم فهشم ذلك الكعك كله ودقه دقاً ثم صنع للحجاج طعاماً في موسم الجوع فعرف بعد ذلك هاشماً، وهاشم هو الذي سن لقريش رحلة الشتاء والصيف فأينعت مكة في عهده وقدم إليها قوم كثيرون وازدهرت فيها التجارة وتزوج هاشم من سلمى أثناء سفره إلى المدينة وكان قومها قد منعوا زواجها من الرجال. لشرفها وعندما تقدم هاشم لم يجدوا أفضل منه جاهاً وشرفاً وولدت له شيبة الذي كني بعبد المطلب وكان صغيراً عندما مات هاشم فانتقلت الزعامة إلى مطلب عمه وبعده انتقلت الرفادة والسقاية إلى عبد المطلب الذي أفرد لاسمه مساحة كبيرة في تاريخ العرب لم يستطع ان يحتله إباءه من قبل فقد احبه قومه وعظم شأنه عندهم.

وبدأ اسم عبد المطلب يلمع بني العرب في حادثة حفر بئر زمزم وقد انتشر خبر الحادثة عند الناس وعلى لسان عبد المطلب بهذه الصورة ؛ أني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال:: احفر طيبة، قال قلت: وما طيبة، قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني، فقال: احفر برة، قال: فقلت: وما برة، قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة ، قال فقلت: وما المضنونة، قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر زمزم، قال قلت: وما زمزم، قال: لا تنزف ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الاعصم عند قرية النمل.

وبدا يحفر ومعه ابنه الحارث على ضوء تلك العلامات وقد أرادت قريش ان تمنعه لان مكان الحفر من الأماكن المقدسة تقدم فيها القرابين بين الوثنيين أسا ونائلة إلا ان هيبة عبد المطلب حالت دون منعهم له.

وبعد ان تم الحفر طمعت قريش بالماء الغزير الذي انعم الله به على عبد المطلب فأرادوا ان يشاركوها فيه قائلين له إنها بئر أبينا إسماعيل فامتنع عبد المطلب ان يتنازل عند رغبتهم وعندما اشتدت المطالبة دعاهم إلى التحكيم فقبلوا ان تكون كاهنة بني سعد حكماً بينهم وكان مقرها على مقربة من الشام فجهزوا أنفسهم للسفر إليها في الطريق نفذ الماء في رحل عبد المطلب ومن معه فاستسقوا قومهم الذين خاصموهم على بئر زمزم فامتنعوا ان يقدموا لهم الماء قبراً ينتظر فيه هلاكه عطشاً وفجاه قام عبد المطلب وقال في قومه (1) والله إن القاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب  في الأرض ولا تبتغي لأنفسنا العجز فعسى الله ان يرزقنا ماء ببعض البلاد.

فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماءٍ عذب وكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا اسقيتهم ثم دعا القبائل من قريش فقال هلم إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا ثم قالوا: قد والله قضي علينا يا عبد المطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبداً إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها فازداد حب الناس لعبد المطلب وزاد إيمانهم بمنزلته عند الله وشاع خبره في الآفاق وأصبح أسمه علماً بين الناس.

ومضت الأعوام وعظم شأن مكة فكان ذلك باعثاً لغيرة ملك الحبشة أبرهة الذي قاد جيشاً من الفيلة ليهدم البيت الحرام وعندما وصل القائد الحبشي مقصده بعث رسولاً له سال عن سيد هذا البلد فدلوه على عبد المطلب بن هاشم فقال مقولة أبرهة: أني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فان لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فقال عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فان يمنعه عنه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه فقال الرسول فانطلق معي إليه قد أمرني ان آتيه لك.

وعندما قدم عبد المطلب تكلم أحد أعوان أبرهة قائلاً: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب مكة وهو يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له عليك فيكلمك في حاجته فأذن له أبرهة وكان عبد المطلب أوسم الناس واجملهم وأعظمهم فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه وأمتنع عن اجلاسه تحته وكره ان تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه فنزل عن سريره فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال للمترجم: قل له حاجتك، فقال له: حاجتي ان يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة للمترجم: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني. أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه، فقال له عبد المطلب: أني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيحميه، وكان ما كان من مصير ذلك الجيش العظيم وكانت رحمة الله لعباده وحمايته لبيته.

وقد زادت تلك الحادثة في عظمة البيت الهاشمي واقترنت بعظمة البيت الحرام وسلطت الضوء الساطع على أشياء ستحدث في هذا البيت في القريب وقيلت القصائد الكثيرة في هذه الحادثة وقد اكتملت الحوادث المهمة في حياة عبد المطلب بقضية ولده عبدالله الذي امتاز عن بقية أبنائه بعدد من الوقائع فكانت حياته آخر ضوء يسطع من البيت الهاشمي ليكشف عن الشيء الذي أصبح يترقبه الجميع وهو ولادة المنقذ من هذا البيت المبارك. وقعت حوادث في حياة عبدالله شخصته عن بقية أخوته عند الله وعند الناس.

وأول حادثة وقعت له هو الحادث الدرامي الذي ذكره لنا التاريخ، مضى وقت طويل على عبد المطلب وهو يحفر بئر زمزم وكان المعول يخر على الأرض قد أنهكته حياة الصحراء القاسية وأمور قيادة هذه المدينة الواسعة. ولم يكن معه في تنفيذ مهمة حفر بئر زمزم إلا ولده الوحيد الحارث، هناك تنفس عبد المطلب نفساً طويلاً بين وجبات العمل ونظر إلى ولده الحارث بعين الأمل.

كم كنت سعيداً لو كان لي عدد من الأولاد يساعدونني في مهمتي، وتحركت يداه إلى السماء وتوجهت أنظاره إلى الكعبة فدمعت عيناه وتمتم لسانه طالباً من الله ان يرزقه عشراً من الأولاد ثم أعاد بصره إلى الكعبة ناذراً بأنه سقدم أحدهم قرياناً إلى الله كما فعل إبراهيم بولده إسماعيل.

واكتمل العشرة وظل عبد المطلب على نذره وجاء اليوم الذي يجب عليه الإيفاء وهو اليوم الذي يجب ان يودع فيه أحد أبناءه لكن طالما كان ذلك في سبيل الله فلا بأس في ذلك.

لكن من الذي سيختاره لهذا الأمر؟

لم يكن أمامه إلا ان يتوسل بالقرعة وهو ان يكتب اسم أولاده العشرة على عشرة اسهم ويقدح بها فمن خرج اسمه كان هو القربان وخشي عبد المطلب ان يأتي القدح على أسم عبدالله لأنه كان أحب أولاده إليه، لكن يهون كل شيء إذا كان في سبيل الله.

ودخل عبد المطلب مع أولاده العشرة الكعبة وأجروا القداح فوقع على الاسم الذي كان   كان يحبه.

وتذكر عبد المطلب في تلك اللحظة أبيه إبراهيم وهو حاملاً شفرته يريد ان يذبح إبنه إسماعيل فتأس به وشدت تلك الصورة التاريخية من عضده فأخذ بيد عبدالله وتقدم به خارج الكعبة والشفرة في يده فشاهده الناس والتفوا حوله وكل يتأثر بالمنظر.

ماذا تريد يا عبد المطلب؟ هل تريد ان تقتل ابنك فقص لهم الشيخ الطاعن الحكاية من البداية وما ان أتم الحكاية حتى انبرى أحد الحاضرين ليقترح الذهاب إلى عرافة في المدينة اسمها قطبه فقد يجدوا عندها حلاً لهذا المأزق.

وارتحل الأب الكبير ومعه أبنه عبدالله حتى وصلوا خيبر ودخلوا على قطبه فأخبروها بأمرهم.

في اليوم الثاني كانت قطبه قد أعدت لهم الخطة وهي ان يقدحوا بين عبدالله وبين الإبل في كل سهم عشرة ابل..

ففعلوا عشرة مرات حتى خرج القداح على الإبل ولكي يطمئن الشيخ بالحكم أمر ان يعيدوا القداح فأعادوه ثلاث مرات وكانت في جميعها تخرج على الإبل. فنحر مائة ابل واجتمع الفقراء من كل مكان ليأكلوا من طعام عبد المطلب ويستعيدوا مع أنفسهم حكاية عبدالله وما جرى له.

وشاع أمره وعرف الصغير والكبير الرجل والمرأة بقصته وكانت نساء قريش يتوددن إليه يتمنين ان يكون عبدالله زوجاً لهن لعظمة شأنه، وارتفاع مقامه، لكنه أبي ان يتزوج إلا عندما يأمره أبوه بذلك، ذلك الأب الذي عانى من أجله وارهق نفسه عندما خرج السهم على اسمه فكان الولد المطيع لذلك الأب الكبير الذي كان يزداد حباً لعبد الله فأخذه إلى المدينة ليزوجه من أفضل بناتها من آمنة بنت وهب أبنه سيد بني زهرة. وتم ذلك اللقاء الذي كان يرتقبه التاريخ والذي كان موضوعاً في حسابات هذا الكون واثمر اللقاء عن ذلك الوليد الذي لم يخلق الله له مثيلاً في هذا الكون والذي أشرقت الأرض بنوره وانعكس نوره على وجه آمنة الذي كان يتلألأ لينبئ الناس بان في رحمها جنين ليس كالأجنة وإن كل شيء سيبدأ مع ولادة هذا الجنين.

ــــــــــــ

الهامش

(1) سيرة ابن هشام: ج 1 ص 124.