mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 029.doc

9- الجهاز التعليمي:

كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحث الخطى نحو بناء حضارة مشرقة تشع بأنوارها أرجاء الكون كله وليس جزيرة العرب فقط.

وما من حضارة إلا وتبنى على العلم.

فبدون العلم يغدو التفكير في المستقبل الحضاري ضرباً من المحال.

فالمال لا يأتي بالحضارة إن لم يرافقه العلم. لأن المال يمكن إقامة مدن واسعة وليس حضارة.

وجزيرة العرب كانت ظامئة إلى الحضارة وكان ظمأ جزيرة العرب إلى الحضارة يشبه ظمأها إلى الماء فالحضارات كانت تحيط بها الماء من جوانبها الثلاثة.

وكان المجتمع يومذاك يترقب ظهور الحضارة في جزيرة العرب فجاء الإسلام لينقل هذا الترقب إلى واقع.

والإسلام لم ينشأ بناء دولة يسعد فيها المسلمون فقط بل كان يريد أن يبني حضارة للإنسان ولا حضارة بدون العلم وبدون التعليم.

من هنا اتجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى إيجاد حركة تعليمية ثقافية واسعة في المدينة بعد وضع اللبنات الأولى للدولة الإسلامية.

فدفع إلى صحابته إلى التعلم وطلب من زيد بن حارثة أن يتعلم العبرية فتعلمها زهاء خمسة عشر يوماً وطلب من أصحابه أن يقوموا بتعليم ذويهم مبادئ الكتابة والعلوم فقال: ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله تعالى وحق مولاه ورجل كانت عنده أمة فأدبّها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم اعتقها فتزوجها فله أجران ولم يقصر طلب العلم على الرجال فقط بل طلب على غير عادة العرب من النساء أيضاً أن يطلبن العلم فقال:

طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. فجعل طلب العلم بمنزلة العبادة وجعل من حق الولد على الأب تعليمه وتأديبه.

ولعل أبرز حادثة تؤكد حرص النبي (صلى الله عليه وآله) على العلم وإصراره على الصحابة بالتعلم هو فرضه على كل أسير من أسرى بدر لا يستطيع أن يفدي نفسه أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة تلك الحادثة التي استدل بها حتى المناوئين باحترام الإسلام للعلم والعلماء وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) المعلم الأول في حياة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد علمه صنوف العلم حتى قال علي (عليه السلام) عن ذلك علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم.

ونبغ الإمام علي (عليه السلام) (في كل علم أخذه عن معلمه حتى قال فيه رسول الله أنا مدينة العلم وعلي بابها) فما من مشكلة في القضاء أو الشريعة أو السياسة إلا كان الحل مع علي (عليه السلام) حتى أصبح الصحابة يقولون: قضية ولا أبا حسن لها ونبغ بالإضافة إلى علي (عليه السلام) العديد من الصحابة الذين أخذوا يتخصصون في العلوم فتخصص معاذ بن جبل في الحلال والحرام وزيد بن ثابت في تقسيم المواريث والأنصبة في الغنائم وأُبي بن كعب في قراءة القرآن وقد منحت هذه الحركة التعليمية الواسعة ثمارها فيما بعد حيث أوجدت القاعدة القوية لنهضة علمية ازدهرت لعدة قرون حتى أصبح العالم الإسلامي قبلة للعلماء والمفكرين والفلاسفة من انحاء العالم وكان للإسلام الفضل الأكبر في الإزدهار العلمي في أوروبا يوم كانت تغط في ظلام الجهل والتخلف.

10- الجهاز الأمني والحسبة:

أصبحت الدولة الإسلامية أمراً واقعاً وبات من الصعب على الأعداء الضعاف مواجهة الدولة بصورة مباشرة فالتجأوا إلى الأساليب الخفية لمحاربة الدولة الإسلامية وازداد خطر هؤلاء لأنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام لكنهم يبطنون العداء والحقد على الدولة الإسلامية فكان لابد من كشف العناصر المتلونة التي تحيك المؤامرات في الخفاء وكان لابد من جهة تتولى هذه الوظيفة فتقوم بمسؤولية تشخيص العناصر الهدامة والمخربة قبل أن تباشر تخريبها وتوجه ضربتها.

ولم يكن صعباً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يختار العنصر الجيد القادر على تحمل هذه المسؤولية فقد كان بين أصحابه من يتسم بالخفة والذكاء وسرعة البديهة وقوة الملاحظة وقوة الذاكرة وهي صفات أساسية لرجل الأمن فكان حذيفة بن اليمان من بين أولئك الرجال الذين اختارهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهذه المهمة الصعبة واختار معاوناً هو عمار بن ياسر فآخى بينهما وأصبحا معاً في مواقع العمل يؤديان مهمتهما في فحص العناصر المخربة وتشخيصها ثم تحذير المسلمين منها.

وقد عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على تنمية الحاسة الأمنية عند حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وزيد بن حارثة عبر المهام الخاصة التي أوكلها لهم.

فأرسل عمار بن ياسر في مهام الاستطلاع عن قوى المشركين في بدر وكذلك فعل بزيد بن حارثة.

كما وأرسل حذيفة بن اليمان في مهمة سرية إلى جبهة المشركين وهم جتمعون حول الخندق يريدون استئصال الدين، وقد دلت حادثة تسلل ابن اليمان إلى صفوف المشركين وإيهامه العدو أنه واحد منهم وسرعة مبادرته حين طلب من كل فرد أن يسأل من هو إلى جانبه عن اسمه فسارع حذيفة ليطرح السؤال على من يجلس إلى جانبه حتى لا ينكشف أمره وهو يدل على حالة الهدوء والطمأنينة التي اتسم بها ابن اليمان في تلك اللحظات الحرجة والتي دلّت على قدرة فائقة في المناورة وتغيير الشخصية وهي سمات ملازمة لرجل الأمن الجيد.

ومع تزايد مؤامرات المنافقين اتسعت المسؤولية على عاتق حذيفة بن اليمان فقد كان كثير اللقاء بالرسول (صلى الله عليه وآله) وهو أمر طبيعي حيث تحظى القضايا الأمنية بأهمية لدى القادة فتكون لقاءاتهم مع مشاورهم الأمني لقاءات مكثفة.

يقول حذيفة عن لقاءاته بالنبي (صلى الله عليه وآله) لقد حدثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان وما يكون حتى تقوم الساعة فكان (صاحب السر) كما قال أبو الدرداء لعلقمة أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره وقد جرت بعد غزوة تبوك محاولة دنيئة لاغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) فقد تجمع أثنا عشر أو أربعة عشر من المنافقين خلف صخرة في ليلة ظلماء وكانت الخطة أن ينفروا ناقة النبي (صلى الله عليه وآله) حتى ترمي به ولاحت لرسول الله خيوط المؤامرة فاستعان بجهاز الأمن فأخذ حذيفة بزمام الناقة وأخذ عمار يسوقها حتى وصلوا إلى الصخرة فشاهدوا المتآمرين عن قرب.

وكان حذيفة أعرف الناس بالمنافقين وكان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد من المسلمين كان يستشير حذيفة ليعرف هل هو في خانة المنافقين أم لا وكان يحتفظ بقائمة بأسماء العناصر المناوئة والمخربة.

وكان تشخيص حذيفة للمنافقين تشخيصاً دقيقاً، فسئل من هو المنافق فقال الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.

وكان يقول: القلوب أربعة قلب أغلف فذلك قلب الكافر وقلب مصفح فذلك قلب المنافق وقلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب فيه نفاق وأعيان فمثل الإيمان كمثل شجرة يحدها ماء طيب ومثل المنافق مثل القرحة يحدها قيح ودم فأيهما غلب عليه غلب.

وهي كلمات لا يقولها إلا العارف بنوايا الناس وما يخفون في قلوبهم من أسرار فالدور الذي كان يقوم به حذيفة بن اليمان وبمساعدة عمار بن ياسر كان دوراً هاماً يرتبط بأمن الدولة الإسلامية القائد فهو كان يقوم بدور رجل الأمن بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى..

لكن أي رجل أمن كان؟ وهل الجهاز الأمني الذي أنشأ النبي (صلى الله عليه وآله) شبيه بالأجهزة الأمنية المعروفة اليوم؟

للإجابة نذكر بعض صفات حذيفة بن اليمان..

*  روى أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن أبي العلى قال: خرجت مع حذيفة إلى بعض هذا السواد فاستسقى فأتاه دهقان بإناء من فضة فرماه به في وجهه، فلما كان بعد ذلك قال اتدرون لم رميت به في وجههم قلنا لا قال إني كنت قد نهيته قال النبي (صلى الله عليه وآله) لا تشربوا في الذهب ولا في الفضة ولا تلبسوا الحرير ولا الديباج فإنهما لهم في الدنيا ولكم في الآخرة.

وكان حذيفة رضي الله عنه يقول: كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر فقيل له لم فعلت ذلك؟

قال: من اتقى الشر وقع في الخير.

*أخرج ابن عساكر في تأريخ دمشق عن بريدة: أن النبي (صلى الله عليه وآله) استعمل حذيفة بن اليمان على بعض الصدقة، فلما قدم قال يا حذيفة: هل بقي من الصدقة شيء؟ فقال لا يا رسول الله أنفقنا بقدر إلا أن أبنة لي أخذت جدياً من الصدقة. فقال كيف بك يا حذيفة إذا ألقيت في النار وقيل لك ائتنا به؟ فبكى حذيفة ثم بعث إليها فجيء به فأُلقي في الصدقة.

*  اشترك في جميع المعارك إلا بدر لأن المشركين كانوا قد أخذوا عليه عهداً أن لا يقاتلهم فأمره النبي (صلى الله عليه وآله) بالوفاء لهم.

*  في الاستيعاب وأسد الغابة سئل حذيفة أي الفتن أشد؟ قال أن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تركب.

*  قال حذيفة: جئت النبي (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله إن لي لساناً ذرباً على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار.

فقال لي النبي (صلى الله عليه وآله): فأين أنت من الاستغفار؟؟ إني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة.

*  خاطب الناس مرة:

إياكم ومواقف الفتن. قالوا وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال:

أبواب الأمراء.. يدخل أحدكم على الأمير أو الوالي فيصدقه بالكذب ويمتدحه بما ليس فيه.

هذه هي شخصية رجل الأمن في الدولة الإسلامية:

  •  إيمانٌ واستغفار. كان يستغفر الله في اليوم مائة مرة.
  •  صدقٌ وأمانة جعلته يحرم ابنته من الجدي.
  •  رفض زخارف الحياة مع ما كان له من منصب ودرجة سامية.
  •  مجاهد في طليعة العاملين والطالبين للشهادة.. هذه هي سمات تلك الشخصية التي رباها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليعهد إليها بتلك المسؤولية الخطيرة.

فدماء الناس وأسرارهم بحاجة إلى أشخاص يمتلكون الورع والصدق والأمانة. وإلا فإن النتيجة ستكون التلاعب بمصير الناس وبدمائهم وأسرارهم. لقد عاش حذيفة مرتاح الضمير وعندما جاءه الموت استقبله قائلاً: مرحباً بالموت.. حبيب جاء على شوق لا أفلح من ندم.

أما جهاز المراقبة وهي يتولاها الشرطة في يومنا هذا وكان يسمى من يتولى لهذه الوظيفة بالمحتسب.

فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رأس هذا الجهاز. فيدور في الأسواق فإذا وجد بضاعة قد احتكرت طالب أصحابها بإخراجها إلى السوق. ففي خبر سعد الأسكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

مرّ النبي (صلى الله عليه وآله) في سوق المدينة بطعام فقال لصاحبه ما أرى طعامك إلا طيباً وسأله عن سعره، فأوحى الله عز وجل إليه أن يدس يده في الطعام ففعل فأخرج طعاماً رديئاً فقال لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشاً للمسلمين (1).

وعن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: يا صاحب الطعام ما هذا؟

قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس. ثم قال: من غشّ فليس منّا (2).

ولم يكتف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمراقبته المستمرة للسوق بنفسه فقد أوكل هذه المهمة أيضاً إلى أشخاص آخرين فكان سعيد بن سعيد بن العاص يقوم بهذه المهمة في سوق الباعة من صنف الرجال أما من صنف النساء فقد أوكلت هذه المهمة إلى سمراء بنت نهيل الأسدية فكانت تمر في الأسواق وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتنهى النساء عن ذلك بسوط معها.

وقد تطورت وظيفة الحسبة حتى أصبحت من الأجهزة الواسعة في الدولة الإسلامية في العهود التي أعقبت عهد صدر الإسلام. ويعود الفضل في تطور هذا الجهاز إلى تلك النواة الصغيرة التي تركبت من رسول الله وأثنين من الصحابة والتي وضعت أسس هذه الوظيفة المقدسة.

11- جهاز المهمات الخاصة:

الولاءات في الجاهلية بالدرجة الأولى هي للأشخاص كرؤساء القبيلة أو رموز المجتمع، فهؤلاء الذين سماهم القرآن الكريم بأئمة الكفر هم الذين يصدون عن الإيمان ويمنعون الناس من الاقتراب من الإسلام وهم المسؤولون عن كل الحروب والفتن التي قامت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم بالتالي مسؤولون عن الدماء التي سفكت في تلك المعارك.

فمعركة بدر أججها قلة من التجار الذين خافوا على تجارتهم عندما تعرض لها المسلمون. وهم أنفسهم جاءوا في أحد لينتقموا لقتالهم وهم الذين اتصلوا بحلفائهم وأصدقائهم من القبائل وجندوا الآلاف في معركة الأحزاب. فكل المعارك التي قامت كانت بتدبير من هؤلاء النفر القليل فهم أصحاب المصلحة في سن تلك المعارك. أما التابعين لهم فهم وقودها فلم تكن لهم في تلك المعارك لا ناقة ولا جمل.

والإسلام دين السلام ولم يرغب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في رفع السلاح إلا اضطراراًَ. عندما لم يجد سبيلاً آخر لرد العدوان ورد كيد الطغاة الذين كانوا يمثلون رموز الجاهلية.

ومن أجل الحيلولة دون وقوع المعارك وزهق الأرواح وسفك الدماء من الطرفين كان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يستخدم الخيارات المتاحة ومن تلك الخيارات تصفية أئمة الكفر ورموز الشر تصفية جسدية حتى يتخلص المجتمع من وبالهم وفتنتهم.

وهو أسلوب لم يتوان الرسول (صلى الله عليه وآله) في اتباعه مع رؤوس العدوان الذين كانوا يتآمرون على الإسلام ولا يتركون فرصة إلا وحملوا السلاح بوجه المسلمين غير مبالين بالأرواح التي تزهق.

وكان من بين هؤلاء الرموز كعب بن الأشرف وهو أحد بني نبهان من طيء وكان قد سعى إلى جمع قوة عسكرية لمحاربة المسلمين بعد معركة بدر فجاء إلى مكة وحرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان يشبب بنساء المسلمين ويستعمل الشعر ضد الإسلام والمسلمين. وعندما تحقق رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خططه التآمرية جهز له فرقة فدائية متركبة من محمد بن مسلمة وأبو نائلة والحارث بن أوس بن معاف وعباد بن بشر وأبو عبس بن خبر وأعطيت قيادة المجموعة إلى محمد بن مسلمة.

وقبل أن ينفذوا المهمة اتفقوا على خطة ذكية، ففي الصباح جاء أبو نائلة إلى بيت كعب بن الأشرف لوحده مستفيداً من صداقته القديمة قائلاً له: يا ابن الإشرف إني قد جئتك لحاجة فاكتمها عليّ. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل (ويقصد النبي (صلى الله عليه وآله) شؤماً على العرب قطع عنا السبل حتى ضاعت العيال وجمدت البهائم. فقال كعب: قد كنت أخبرتك بهذا. قال أبو نائلة: وأريد أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم. قال: أردت أن تفضحنا إن معي أصحابي على رأيي تبيعهم وتحسن ونجعل عندك رهناً من الحلقة ما فيه وفاء. فقال: إن في الحلقة وفاء (3).

فبعد أن كسب أبو نائلة ثقة كعب بالنيل من النبي (صلى الله عليه وآله). قدّم إليه عرضاً هو أن يرهنوا أسلحتهم (الحلقة) حتى لا يتفاجأ كعب من مشاهدة الأسلحة وهي معهم أثناء تنفيذ العملية.

رجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم. فأخذوا السلاح وساروا إليه ليلاً وعندما بلغوا حصن كعب هتف أبو نائلة فجاءه كعب فأخذوا يتمشون في شعب العجوز وكانت رائحة العطر تهب من كعب فقد كان حديث العهد بالزواج.

فأخذ أبو نائلة برأس كعب فشمه وهو يقول: ما رأيت كالليلة طيباً أعرف قط ثم واصلوا المشي حتى اطمأن كعب وفي اللحظة المناسبة انقض أبو نائلة على الفريسة وصاح برفاقه اضربوا عدو الله فقطعوه إرباً واجتمع اليهود حول الأشلاء المقطعة وهم يرتجفون فأصبح مقتل ابن الأشرف درساً لكل من حدّث نفسه التآمر على المسلمين.

وكان هناك يهودي آخر يقوم بنفس الدور الذي كان يقوم به كعب بن الأشرف هو أبو رافع سلام بن أبي الحقيق وكان بخيبر وقد أعد رسول الله فرقة فدائية لاغتياله أيضاً تتكون من عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة وخزاعي بن الأسود ومرّ عليهم عبد الله بن عتيك. فخرجوا حتى قدموا خيبر فأتوا دار أبي رافع ليلاً. فأغلقوا كل الأبواب التي كانت مفتوحة حتى لا يسمع أحداً صوتاً.. طرقوا باب أبي رافع فخرجت أمرأته فقالت: من أنتم؟ قالوا: نفر من العرب يلتمسون الميرة. قالت: ذاك صاحبكم فادخلوا عليه. فلما دخلوا أغلقوا باب العلية ووجدوه على فراشه وابتدروه ضرباً بسيوفهم فصاحت زوجته فأراد أحدهم قتلها فتذكر وصية النبي (صلى الله عليه وآله) بأن لا تقتلوا امرأة ولا صبياً فتركوها وخرجوا من الدار بعد أن هبّ اليهود لنجدته.

وبعد أن وصلوا إلى قواعدهم أرسلوا أحدهم فجاء إلى خيبر فتأكد من مقتله فعاد إلى أصحابه يبشرهم بنجاح العملية.

وبعد معركة أُحد ارتأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يرسل مجموعة فدائية إلى مكة لاغتيال أبا سفيان للتخلص من شره فهو كان المباشر في حرب أُحد وبعد أن قتل كبار زعماء قريش في بدر لم يبق سوى أبي سفيان فالقضاء عليه سيمهد الطريق أمام عودة السلام والاخاء وقبول قريش بالمصالحة.

لكن ليس من السهل ارسال مجموعة إلى مكة وأعين قريش شاخصة لكل إنسان غريب. فقرر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقلص عدد المجموعات من أربعة إلى اثنين فكلّف عمرو بن أمية الضمري مع رجل من الأنصار.

ونترك لعمرو ليقص علينا الخطة بكل تفاصيلها كما ورد في الكامل لابن الأثر:

خرجت أنا ومعي بعير لي وبرجل صاحبي علّة فكنت أحمله على بعيري حتى جئنا بطن يأجج، فعقلنا بعيرنا في الشعب وقلت لصاحبي: انطلق بنا إلى أبي سفيان لتقتله فإن خشيت شيئاً فالحق بالبعير فاركبه والحق برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره الخبر وخل عني.

فدخلنا مكة ومعي خنجر قد أعددته إن عاقني إنسان ضربته. فقال لي صاحبي: هل لك أن تبدأ فنطوف ونصلي ركعتين. فقلت أن أهل مكة يجلسون بأفنيتهم وأنا أعرف بها.

فلم نزل حتى أتينا البيت فطفنا وصلينا ثم خرجنا فمررنا بمجلس لهم. فعرفني بعضهم فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية فثار أهل مكة إلينا وقالوا: ما جاء إلا لشر وكان فاتكاً متشيطاً في الجاهلية. فقلت لصاحبي: النجاة هذا الذي كنت أحذر. أما أبو سفيان فليس إليه سبيل فانج بنفسك. فخرجنا نشتد حتى صعدنا الجبل فدخلنا غاراً فبتنا فيه ليلتنا ننتظر أن يسكن الطلب.

قال: والله إني لفيه إذ أقبل عثمان بن مالك التميمي بفرس له فقام على باب الغار فخرجت إليه فضربته بالخنجر فصاح صيحة أسمع أهل مكة فأقبلوا إليه ورجعت إلى مكاني فوجدوه وبه رمق فقالوا: من جذبك. قال عمرو بن أمية ثم مات ولم يقدر يخبرهم بمكاني. وشغلهم قتل صاحبهم عن طلبي فاحتملوه ومكثنا في الغار يومين حتى سكت عنا الطلب، ثم خرجنا إلى التنعيم فإذا بخشبة خبيب وحوله حرس فصعدت خشبته واحتملته على ظهري فما مشيت به إلا نحو أربعين خطوة حتى نذروا بي فطرحته فاشتدوا في أثري فأخذت الطريق فأعيوا ورجعوا وانطلق صاحبي فركب البعير وأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبره. وأما خبيب فلم يُر بعد ذلك وكأن الأرض ابتلعته.

قال وسرت حتى دخلت غار بضجنان ومعي قوسي وأسهمي فبينما أنا فيه إذ دخل عليّ رجل من بني الدُئل أعور طويل يسوق غنماً فقال: من الرجل؟ قلت: من بني الدئل، فاضطجع معي ورفع عقيرته يتغنى ويقول:

ولست بمسلم مادمت حيا      ***      ولست أدين دين المسلمينا

ثم نام فقتلته ثم سرت، فإذا رجلان بعثتهما قريش يتجسسان أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرميت أحدهما بسهم فقتلته وأستأسرت الآخر فقدمت على النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبرته الخبر فضحك ودعا لي بخير (4).

ونستنتج من هذه القضية:

* كان يفترض بعمرو أن لا يسمع كلام الأنصاري الذي كانت نفسه تتوق إلى الطواف والصلاة فوضع الأنصاري وهو غير معروف لدى المكيين يختلف عن حال عمرو وهو من أهل مكة ويعرفه الجميع. وكان هذا العمل اللاانضباطي وراء فشل المهمة.

* وإذا كان عمرو قد فشل في اغتيال أبي سفيان فهو لم يرض أن يعود إلى المدينة دون أن يشف غليله من أعداء الله.

وقد تختلف المهمة التي كان يرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه إليها في حجمها. ففي إحدى المرات أرسل محمد بن مسلم على رأس فرقة فدائية عددها ثلاثون مجاهداً للإغارة على جماعة من الأعداء من بني كلاب فسار محمد مع رفاقه بالليل حتى بلغوا مكان أعدائهم فانقضوا عليهم انقضاض رجل واحد فقتلوا منهم عدداً وهرب الباقون واستولوا على الابل والغنم وأسروا زعيم أهل اليمامة تمامة بن أثال ومعه بعض أصحابه.

ومرة أخرى أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) محمد بن مسلمة ومعه عشرة من الفدائيين إلى معادين من بني ثعلبة في مكان اسمه ذو القصة. فأحاط بهم مائة من الأعداء واشتد القتال بين القلة والكثرة فنال الشهادة أفراد الفرقة بأجمعهم أما محمد فقد جرح جُرحاً بليغاً لم يستطع معها الحركة فحسب المشركون أنه قد مات فتركوه وانصرفوا. فمرّ عليه المسلمون فوجدوه جريحاً فأخذوه فشفي من جراحه.

وهناك عددٌ آخر من العمليات الفدائية التي قامت بها هذه المجموعات وكان الهدف منها هو تصفية رموز الشر في جزيرة العرب. وقد لا يستسيغ البعض مثل هذه الممارسات ومن المحتمل أن ينعتوها بالإرهاب وقد يتطاولون أكثر ليسمعوا النبي (صلى الله عليه وآله) برجل الإرهاب والعياذ بالله. ولإيضاح هذه النقطة كان لابد من ذكر هذه الحقائق...

1- الإرهاب هو استهداف الأبرياء وهو عمل كل الطواغيت والظالمين الذين لا يفرقون بين المذنب والبريء، فيعتدون على من تصل إليه أياديهم.

أما استهداف الظالمين والمعتدين فهو ليس بإرهاب بل هو عمل من أجل تصفية الإرهاب.

2- ما قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من اغتيال كعب بن الإشرف وأُبي بن نافع وغيرهما هو أمر مشروع يتطابق مع المنطق الإنساني والقانون العام فهؤلاء الذين قضى عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) يستحقون الموت دون محاكمة لأن الجرائم التي ارتكبوها ثابتة بحقهم وكانت أعظم جريمة ارتكبوها بالإضافة إلى التسبب في قتل الآخرين احداث الفتن والفتنة أشد من القتل.

3- إن قتل هؤلاء الطغاة سيكون السبيل لحقن دماء الكثير من الناس الذين كان من المحتمل أن يشاكوا في حروب يسببها هؤلاء فتسفك دمائهم فيها.

فالرسول (صلى الله عليه وآله) لم يقم بتلك الاغتيالات حباً بالدماء كما يقول بعض الإعداء من المستشرقين بل كانت هناك مصلحة عامة اضطرته لاتخاذ ذلك الموقف. وفي قبال تلك الاغتيالات لرؤوس الكفر كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعفو عن الكثير ممن يستحقوا الموت بعد تشخيصه إن تركهم لا يترك أثراً سلبياً فالذين عفا عنهم الرسول هم أكثر بكثير من الذين أصدر القرار بتصفيتهم.

ـــــــــــــ

الهامش

1)- الوسائل: ج12 ص209 الباب 86.

2)- سنن الترمذي: ج2 ص389 الباب 72.

3)- ابن الأثير، المكامل في التاريخ ج2 ص143.

4)- ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج2 ص119-170.