mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 024.doc
  •  محاسبة الولاة:

وبعد تعيين الوالي يظل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يراقبه عن كثب خشية انحرافه عن الجادة وإذا ما زل زلة وحتى ولو كانت صغيرة فسيتم عزله كما حدث للعلاء ابن الحضرمي عندما شكته قبيلة عبد القيس فأرسلوا وفداً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يطالبونه بعزله فاختار لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابان بن قيس وهو من أكابر قريش أسلم  في خيبر وشارك في المعركة بعد إسلامه وله قصة معبرة عند إسلامه فكان ابّان بن قيس يتاجر بين مكة والشام فالتقى في الطريق براهب اسمه يكا وصف له صفة النبي (صلى الله عليه وآله) وعندما رجع ابّان إلى مكة وجد هذه الأوصاف متطابقة على النبي (صلى الله عليه وآله) فجمع قومه وذكر لهم ذلك ثم رحل إلى المدينة فأسلم، أرسله النبي (صلى الله عليه وآله) على سرية في قطاع نجد قبل أن يرسله إلى البحرين ليحل محل العلاء بن الحضرمي فالولاة الذين كان يختارهم النبي (صلى الله عليه وآله) ذو سابقة عريقة وأصحاب تجارب قبل أن يتولوا المسؤولية وقد يزل البعض منهم عندما لا يجد من يحاسبه.

استعمل النبي (صلى الله عليه وآله) رجلاً من الأزد على الصدقات وعندما حاسبه في الأموال التي جاء بها قال الأزدي هذا لكم وهذا أهدي أليّ فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كلامه وقال لأصحابه ما بال الرجل نستعمله على العمل من ولانا الله فيقول هذا أهدي لي؟ أفلا قعد في بيت أمه وأبيه فنظر أيهدي إليه أم لا والذي نفسه بيده لا نستعمل رجلاً على العمل مما ولانا الله منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار وإن كانت شاة تمغر ثم رفع يده إلى السماء وقال اللهم هل بلغت قالها مرتين أو ثلاثة (1).

وكان في الخطاب عبرة ودرس للولاة الآخرين.

والتأريخ يقدم لنا نماذج معكوسة أيضاً فقد استعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عبد الله بن رواحة على أموال خيبر وحاول اليهود أن يرشوه بمقدار من الحلي من حلي نسائهم قائلين له هذا لك، طالبين منه أن يخفف عنهم.

فهاج عبد الله بن رواحة فرد على طلبهم مخاطباً إياهم..

يا معشر اليهود إنكم لمن أبغض خلق الله تعالى إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم وأما ما عرضتم عليّ من الرشوة فإنها السحت وإنا لا نأكلها.. فأعجب اليهود بهذه المقالة فأقروا بعظمة الإسلام الذي صنع مثل هذه النماذج قائلين بهذا أقامت السماوات والأرض.

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يعيّن أحداً في هذا المنصب إلا بعد أن يتأكد من صلاحيته وبعد أن يجتاز فترة من التجربة واكتساب الخبرة.

فقراءة سريعة في حياة العلاء بن الحضرمي تشير إلى أنه كان من العناصر القوية في الجهاز الإداري فكان يتحلى بقدرة فائقة على الإقناع والتأثير في الآخرين وهي سمات هامة في الشخص الذي ينتخب.. فقد أرسله الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى البحرين وكان زعيمها يومذاك المنذر بن ساوى فاستطاع العلاء بحنكته السياسية أن يقنع الملك بالمصالحة لنشر الدين الإسلامي في هذه البقعة وعلى رغم هذه الكفاءة نجد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعزله لمجرد أن تصل إليه شكوى من أهالي تلك المنطقة إذ ليس من السهل على الحاكم وحتى ولو كان جيداً أن يحكم في أجواء انعدام الثقة.

فقد كانت البحرين منطقة بعيدة عن المركز وتتكون من مجتمع غير متجانس فيضم بالإضافة إلى المسلمين المسيحيين وبالإضافة إلى العرب الفرس أيضاً وتأريخياً كانت البحرين للدولة الفارسية وكانت تطمح إلى التحرر على أيدي المسلمين.

وكانت محاسبته (صلى الله عليه وآله) لولاته تشمل حتى الأمور الطفيفة فقد جاء أهل اليمن يشكون إليه تطويل معاذ بن جبل في صلاته فزجره رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال من أمّ في الناس فليُخفّف.

3- الجهاز القضائي:

نشأ في العهد الإسلامي الأول نواة للجهاز القضائي وأول من تصدى أمور القضاء كان هو (صلى الله عليه وآله) إذ لم يكن التجمع الإسلامي من السعة بحيث يحتاج إلى أكثر من قاضي وأعظم المشكلات التي واجهت المسلمين يومذاك كانت ذات منشأ سياسي أو عقيدي حيث كانت المدينة تعج بالفئات الأخرى غير الإسلامية الأمر الذي جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتحمل بنفسه مسؤولية القضاء في الدولة الإسلامية.

ويذكر لنا التأريخ أنه كانه يقضي في الخصومات التي كانت تبرز في بداية تكوين الدولة الإسلامية.

 

ووضع رسول الله من خلال ممارسته لهذه المسؤولية أسس القضاء في الاسلام فالذين عينهم لهذه المهمة فيما بعد كانوا يسلكون نفس هذا الطريق في القضاء فكانوا يجدون الطريق أمامهم معبداً فقد سنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلال أقواله وأفعاله طريق اصدار الحكم في المسائل القضائية فقال البينة على من ادعى واليمين على من أنكر وهو بذلك وضع قانوناً هاماً في فصل المنازعات والمخاصمات بين المدعي والمدعى عليه.

ويدع الرسول (صلى الله عليه وآله) مجالاً للقاضي لأن يعمل فكره في استنباط الحكم القضائي فيقول إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وأن أخطأ فله أجر.

فكان أمام القضاة ثلاثة مصادر لاصدار الحكم الكتاب، سنة رسول الله، والاجتهاد. ولخطورة أمر القضاء كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يعتمد في هذا الأمر إلا على من يثق بحسن قضائه وكان يدفع بأصحابه للتمرس في هذه الوظيفة الهامة فخرج من بين أصحابه أفراد متخصصون في القضاء كالإمام علي (عليه السلام) وكان (صلى الله عليه وآله) قد أمر بهذه الحقيقة بين أصحابه بقوله أقضاكم علياً ويشهد التأريخ أن أفضل من تولى هذه المسؤولية بعد رسول الله هو الإمام علي (عليه السلام) وكان موضع اعتماد الخلفاء الراشدين إذ بدونه لم يكن باستطاعتهم أن يفكوا ألغاز المشاكل القضائية المعقدة حتى قال فيه الخليفة عمر بن الخطاب لولا علي لهلك عمر.. إذ كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) أوعى المسلمين بكتاب الله وأفهمهم لسنة رسوله وأقدرهم على الاجتهاد وهي الأسس التي تعتمد عليها المهمة القضائية.

ونستنتج من تولي رسول الله (صلى الله عليه وآله) مهمة القضاء ثم اعتماده على قلة من أصحابه كمحمد بن مسلمة الأنصاري الذي خاض عدة مهمات قبل أن يصل إلى دفة القضاء فكان ممن شارك في اغتيال كعب بن الأشرف واستخلفه الرسول (صلى الله عليه وآله) على المدينة في عدة غزوات ولم يصل إلى مرتبة القضاء إلا بعد أن عُرف بأمانته وصدقه وتفانيه.

وأيضاً معاذ بن جبل حيث عرف بأمانته وصدقه حتى قال فيه رسول الله يوم بعثه في مهمة القضاء (إني قد عرفت بلاءك في الدين) (2) وأراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يعلمه كيفية القضاء فسأله عندما أراد إرساله إلى اليمن (كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء) قال اقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله قال اجتهد في رأي ولا ألو فضرب رسول الله صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضى رسوله (3).

وفي القضايا المعقدة كان القضاة يستشيرون رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقد جاء في إحدى وصاياه لمعاذ لا تقضي ولا تفصلن إلا بما تعلم وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إليّ فيه.

والرسائل المتبادلة بينه وبين الإمام علي (عليه السلام) في مجال القضاء يرسم الرسول (صلى الله عليه وآله) معالم النظام القضائي في الإسلام. فقد روى عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: بعثني رسول الله إلى اليمن قاضياً فقلت يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء فقال إن الله يهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء قال: فما زلت قاضياً وما شككت في قضاء بعد (4) وسأل علي (عليه السلام) الرسول مرة يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل فيه قضاء في أمره ولا سنة كيف تأمرني؟ قال تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ولا تقضي فيه برأي خاصة (5).

وهناك وصايا وردت على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) في القضاء وفي القاضي منها.

لسان القاضي بين حجرتين من نار حتى يقضي بين الناس (قدس سره) فإما إلى الجنة وإما إلى النار (6).

ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وقد يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً (7).

إن أحب الناس الى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغض الناس الى الله تعالى وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر (8).

وورد عنه أيضاً الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان (9).

ويُستنتج من ذلك إنه (صلى الله عليه وآله) كان يهتم بالقضاء لارتباطه المباشر بالعدالة الاجتماعية والسياسية. وأنشأ جهاز دقيق على رأسه أكفأ أصحابه وبالرغم من تصديه المباشر لأمور القضاء إلا إنه (صلى الله عليه وآله) كان ينتهج أسلوباً يؤدي إلى فصل السلطة القضائية عن السلطات الأخرى، عندما كان يجلس بين الخصمين لم يكن يتمثل حينذاك إلا بالقاضي العادل ويذكر لنا التأريخ إنه (صلى الله عليه وآله) كان في إحدى المرات طرفاً في قضية قضائية رفعت ضده من يهودي وتمكن اليهودي أن يحتجز النبي (صلى الله عليه وآله) وقتاً طويلاً بسبب افتقار النبي للبينة.

وجرت العادة على تقسيم الجهاز القضائي إلى قسمين الأول يتولى مسؤولية النظر في القضايا والفصل فيها وكان يُسمى (بالإيجاب) أي إيجاب الحكم ويكمله جهاز آخر للتنفيذ يُسمى (الاستيعاب) ويقوم بتنفيذ الحكم (10).

كما وإنه قد أعد مكاناً لحجز المتهم فقد اتخذ من بيت بنت الحارث مكاناً للسجن وهو خاص لحجز الرجال واتخذ مكاناً في باب المسجد لحجز النساء وفي عهد عمر كان المتهم يوضع في البئر حتى عهد الإمام علي (عليه السلام) الذي كان أول من بنى السجن المتعارف عليه.

1- الجهاز الفني:

ويشمل الكّتاب والمترجمين الذين كانوا يعملون في مقر القيادة كموظفين دائمين أو كمتطوعين في هذا العمل في فترات الحاجة.

ومع تنوع مسؤوليات الدولة الإسلامية توسعت الحاجة إلى الكتبة فكانت هناك ضرورة وجود من يكتب للملوك ورؤساء القبائل من يقوم بتحرير المعاهدات والمواثيق التي كانت تُبرم بين المسلمين وغيرهم وهناك من كان يكتب القرآن الكريم ويحرر المعاهدات المالية والمداينات التي كانت تجري بين المسلمين وهناك من كان يدون الأموال التي تُجبى من الزكاة ومن الصدقات ومن الكتّاب من كان يكتب أسماء الجنود واحتياجاتهم والعطاء الذي يأخذونه بعد كل معركة.

وقد خصص النبي (صلى الله عليه وآله) لكل حقل من حقول الكتابة شخصاً معيناً..

فاختص الإمام علي بن أبي طالب في كتابة المواثيق الرسمية كمعاهدة الحديبية وزيد بن ثابت كان يتولى تحرير الرسائل للملوك ورؤساء العشائر. وممن كان يعمل في هذا الجهاز أُبي بن كعب الذي كان يكتب الوحي عند نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله) وممن كان يكتب له عبد الله بن الأرقم بن أبي أرقم وهو خال النبي (11) وكان يكتب الرسائل إلى الملوك وبلغ من فرط أمانته، أنه كان يكتب الرسائل ويختم ولا يقرأ ما يكتبه. وكانت طريقته في الكتابة إنه كان يكتب فحوى الرسالة ثم يعرضه على رسول الله (صلى الله عليه وآله).

كتب للنبي (صلى الله عليه وآله) كتاباً فطلب من عبد الله بن الأرق أن يجيب عليه فأجابه ثم جاء به إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فرضي عما كتبه (12). وظلّ عبد الله على مهنة الكتابة حتى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ففي عهد الخليفة عمر بن الخطاب كان على الأموال وفي عهد عثمان على هذه الوظيفة، ويذكر إن عثمان بن عفان قد أجازه ثلاثمائة ألف فأبى أن يقبلها قائلاً:

إنما عملت لله.

وهذا ما يدلل على مدى اخلاص عبد الله وأمانته وهي سمعة مطلوبة في مثل هذه الوظائف وكان عبد الله الموظف المتفرغ في الكتابة في عهد رسول الله وإذا ما غاب أناب عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد صحابته.

وعلى الظاهر أن هؤلاء الكتاب كانوا يحررون ما يريده رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم يعرضونه عليه فيما بعد ثم يُختم بختم خاص كان مع أحد الصحابة هو المعيقب ابن أبي فاطمة الدوسري الذي كان موظفاً بخزانة الخاتم والتصديق على الكتب بعد الموافقة عليها.

ومن الكتاب حذيفة بن اليمان فهو كان يكتب خرص ثمار الحجاز، وزيد كان يكتب أموال الصدقات والمغيرة بن شعبة كان يكتب المداينات والمعاملات وشرحبيل بن حسنة كان يكتب التوقيعات إلى الملوك.

ومع مرور الزمن تطور جهاز الكتابة فأصبح جهازاً فنياً متخصصاً يعتني في رسم الحروف بصورة جميلة فهذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) يطلب من كاتبه عبد الله بن أبي رافع أن يحسن كتابته فيقول له يا عبد الله ألقِ دواتِك واطلِ شباه قلمك وفرّج بين السطور وقمّط بين الحروف.

ويجدر ذكره هنا أيضاً التطرق إلى قسم الترجمة ضمن الجهاز الفني، فمنذ أن وطأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرض المدينة جاءه شاب وقف قباله وأخذ يقرأ سوراً من القرآن فقرأ سبع عشرة سورة فأعجبه ذلك فطلب منه أن يتعلم العبرية قائلاً له:

تعلم كتاب يهود فإني ما آمنهم على كتابي ولم يمض عليه نصف شهر حتى حذقه ولنباهته اختاره الرسول (صلى الله عليه وآله) لأعمال الترجمة، فكان يترجم له إلى الفارسية والرومية والقبطية والحبشية وقد تعلم جميع هذه اللغات في المدينة لأنها كانت تضم أقليات من فارس والروم ومصر والحبشة. وكان زيد بن ثابت يكتب الرسائل باللغات المذكورة أيضاً بالاضافة إلى قيامه بالترجمة الفورية بين يدي الرسول للخطب والأحاديث المتبادلة بينه وبين الوفود القادمة من خارج الجزيرة العربية.

ويُستنتج من ذلك إن الدولة الإسلامية كانت تمتلك جهازاً فنياً متكاملاً كان له نصيب وافر في إدارة دفة الحياة السياسية والمالية في الدولة الإسلامية.

ــــــــــــ

الهامش

1)- القرشي: النظام السياسي في الإسلام: ص116.

2)- الإصابة: ج6 ص106.

3)- سنن أبي داود: ج2 ص272.

4)- سنن أبي داود: ج2 ص72.

5)- كنز العمال: ج5 ص812.

6)- الوسائل: ج18 ص167.

7)- الوسائل: ج18 ص308.

8)- سنن الترمذي: ج2 ص394.

9)- سنن الترمذي: ج2 ص395.

10)- محمد نظرة عصرية أول دستور للدولة الإسلامية، محمد عمارة: ص99.

11)- الإصابة: ج4 ص32.

12)- الإصابة: ج4 ص32.