mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 018.doc

4 - تحرير المرأة:

لم يكن  دور المرأة في الجاهلية أكثر من سلعة للمتعة وإشباع الحاجات الشهوانية وتقديم الخدمة الرخيصة إلا بعض النساء اللواتي برزن في التجارة والشعر والأدب. فقد شاعت ظاهرة تعدد الأزواج وكذلك تعدد الزوجات مما  لا حد له ولا حصر وكان الرجل يجيز لزوجته الاتصال بالرجال الآخرين جنسياً من اجل إنجاب الأولاد. وكانوا ينظرون إليها كمتاع تورث كما تورث تركة الميت فكان من حق الوارث التصرف بها كيفما يشاء فمن حقه الزواج منها أو تقديمها إلى من يشاء وكانت عادة وأد البنات أمراً شائعاً بين العوائل الثرية والفقيرة فكانت النظرة إلى المولودة نظرة ازدراء واحتقار فإذا ما بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ايمسكه على هون أم يدسه في التراب فكان الأب يتقدم بنفسه ليحضر لفلذة كبده حفرة ويلقي بها بيديه الاثنتين ويهيل عليها ركاماً من التراب وهي حية.

وكان في بعض الحالات يتعين على ألام ان تقوم بهذا العمل تنفيذاً لأوامر الزوج وهذه العادة لوحدها تعطي معلما واضحا على الطبيعة الهمجية للمجتمع الجاهلي وعلى النظرة القاتمة التي كان يرى المرأة من خلالها. ويمكننا القول ان المجتمع الجاهلي الذي حدد للمرأة هذه المكانة المنحطة ليس فقط يتسم بالعجز حيث أن نصفه مشلول عن الحركة. فوجود المرأة عمليا له أثر فاعل على حركة المجتمع. المنتظمة.

والوضع المأساوي الذي كانت تعيشه المرأة في الجزيرة العربية كان أحد أسباب فقدان ذلك المجتمع لحالة التوازن فهو لم يكن مجتمعا طبيعيا كالجسم الذي يفتقد أحد أجزائه.

من هنا فان إعادة المرأة إلى مكانتها ليس فقط لمصلحة المرأة بل لمصلحة المجتمع أيضاً إذ سيعود إليه التوازن وتتكامل فيه الأجزاء وهذا ما قام به الإسلام عندما أعاد للمرأة كرامتها وعزتها وجلالها ووضعها في مكانها المناسب..

فقد صرح القرآن {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.

وخاطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسلمين قائلاً لهم (خيركم خيركم لنسائه) وكان أول ما قدم لهذا الكائن هو مساواته بالرجل فجاء في القرآن {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} مساواة في القيمة والمنزلة ومساواة في المسؤولية والجزاء قال الله تعالى..

 {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى..}.

لقد انتشل رسول الله المرأة من الحضيض الذي كانت فيه وكان بسلوكه أول من يترجم النظرية الإسلامية في المرأة من خلال علاقاته بزوجاته وبناته، فقد كان يقبل يد ابنته فاطمة تكريما لها واجلالاً واحتراما (1) بعد ان كان العرب يدسون ببتاتهم في الرمال ويدفنونها وهي حية.. واهتمام الإسلام بالمرأة نابع من اهتمامه بالمجتمع فالمرأة الصالحة تبني مجتمعاً ولم تكن آية خطة في إصلاح المجتمع مجدية ان لم تبدأ بإصلاح الخلية الاجتماعية وذلك بإعادة المرأة إلى مركزها الطبيعي كأم وزوجة وابنة.

وقد أوجد هذا المنعطف تحولاً كبيراً في وضع المرأة فأصبحت ذات مكانة وقوة يحسد عليها بعض الرجال وقد شهد التأريخ الإسلامي نماذج رائعة من النساء اللواتي ضربن أروع الأمثلة في الشجاعة والجرأة وفي العلم والتربية وفي الإيثار والتضحية وفي الاستقامة والصبر ولم يكن ليحدث هذا التحول الكبير لولا تلك التغييرات الفكرية التي أنجزها الإسلام والتي نقلت المرأة من القاع إلى القمة.

5- إرساء دعائم نظام الأسرة..

قام نظام الأسرة في بعض مناطق جزيرة العرب سيما في المدينة على قاعدة الانتساب إلى الأم فكثيراً ما يحدثنا التأريخ عن أشخاص ينتسبون إلى أمهاتهم ويعود السبب في وجود النظام الأمي إلى مفاهيم المجتمع الجاهلي نحو الزواج والطلاق فقد كان هذا المجتمع يجيز للمرأة الاتصال بعدة رجال في آن واحد فكان يصعب على الولد معرفة والده الحقيقي فجرت العادة أن يحمل نسب أمه أو أن تختار الأم نسباً من بين أزواجها المتعددين وتنشأ المشكلة أيضاً في حالة الزواج من شخص آخر فتلد مولوداً لا تعرف بالضبط لمن هو هذا المولود للزوج الأول أو الثاني.

وقد ألغى الإسلام النظام الأمي بصورة آليه عندما وضع حدوداً وضوابط للزواج والطلاق.. فالمرأة لا يحق لها ان تتزوج أكثر من رجل واحد في وقت واحد وعندما تطلق لا يحل لها الزواج الا بعد ان تقضي فترة العدة وهي وضعت لكي تقص ذيول الأول فيتبين خلال هذه الفترة الكافية لتشخيص وضع المرأة حامل كانت أو لا وبذلك قلب الإسلام نظام الأسرة من النظام الأمي إلى النظام الأبوي وهو نظام كان قائماً قبل الإسلام في بعض مناطق الجزيرة العربية.

ومع هذا التحول الذي شهده نظام الأسرة أخذت الأسرة كمؤسسة اجتماعية تنمو نمواً طبيعياً فأصبح توزيع الوظائف والمسؤوليات داخل هذه المؤسسة يجري بصورة طبيعية.

فقد منح الإسلام قيمومة الأسرة بيد الرجل فأصبح المسؤول عن رعاية هذه المؤسسة من الناحية الاقتصادية والفكرية والتربوية ومن ناحية أخرى أصبح مسؤولاً عن أمن الأسرة وبذلك ضمن الإسلام وعبر هذا التغيير وحدة هذه المؤسسة الاجتماعية وعدم تصدعها وتفاعلها في بحر المجتمع الكبير، وضمن الحفاظ عليها وتوفير الحماية لأفرادها.

وبذلك استطاع الإسلام أن يرسي على أسس قويمة اللبنة الرئيسية في المجتمع وبقدر ما كانت هذه اللبنة سليمة وقوية ومنيعة من الانحراف كان المجتمع سليماً وقوياً ومنيعاً أيضاً.

وللحفاظ على سلامة هذه المؤسسة وضع الإسلام موانع في طريق العلاقات الزوجية المنحرفة فمنع الزواج من بنت الأخ وبنت الأخت ومنع الجمع بين الأختين وكذلك مع الأبناء من الزواج من زيجات آبائهم بعد وفاتهم وهي أنواع من العلاقات الزوجية كانت معروفة ومتداولة في جزيرة العرب.

أما تعدد الزوجات فقد أقر لمواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تسببها الحروب.. فهو أسلوب أقره القرآن الكريم لمواجهة حالة الصراع الدائم بين الإسلام والكفر الذي يستنزف إعداداً مستمرة من الرجال..

وكان من الطبيعي ان تظهر مشكلة اجتماعية عقب الزواج وتركه لزوجته، فلم يكن سبيلاً لحل هذه المشكلة سوى تعدد الزوجات ولا عجب ان تنزل الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً} بعد معركة أحد التي خلفت سبعين شهيداً من بين المسلمين.

فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعد المجتمع للمواجهة المستمرة فكان لا بد من التخطيط السليم لمعالجة آثار هذه المواجهة على الأسر التي تفقد معيلها واغلب زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) وبقية الصحابة هن من تلك النساء اللواتي فقدن أزواجهن في المعارك.. وقد اشترط القرآن العدالة في حالة التعدد لكي تبقى العلاقة الزوجية محتفظة بمقوماتها الأساسية ومتجهة نحو أهدافها الحقيقية.

وإذا شعر الرجل بأدنى عجز في توفير العدالة فانه لا يسمح له بتعدد الزوجات.

6- توطيد السلام..

تتجلى دقة المنهاج الاجتماعي للرسالة الإسلامية انها غيرت معادلات المجتمع التي كانت تؤدي به إلى التطاحن والفوضى إلى معادلات أصبحت تتحكم بأجزاء المجتمع لتؤدي به إلى حصيلة نهائية هي السلام.

وكأننا أمام صيدلاني يخلط المواد الكيماوية بنسب متفاوتة ليصنع منها الدواء الشافي وهذا بالضبط ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما باشر بتغيير سمات المجتمع الذي كان سائداً بحذف بعض الصفات وزع القيم مكانها وترسيخ الفضائل وتحريم بعض الممارسات والتأكيد على بعض الأفعال وأدار عملية التغيير هذه بصورة دقيقة وبتتابع رائع كانت حصيلتها هو السلام وهو ما كان يهدف إليه من التخطيط وقد استخدم الرسول (صلى الله عليه وآله) كل أدوات التغيير لأحداث التحول الاجتماعي من مستوى الفوضى إلى درجة التجانس والتكامل فاستخدم النصيحة الكلامية وكان القدوة لأبناء المجتمع في ترسيخ الفضائل والصفات الحميدة ونبذ الصفات الرذيلة ولم يتغافل عن تأمين حد معقول من الدخل لكل عائلة كل هذه الوسائل كانت تفعل فعلها في المجتمع الذي كان يتحول تدريجياً إلى مجتمع السلام وهو القمة الذي تتكامل فيه أجزاء هذا المجتمع فيعم أرجاءه السلام والمحبة والصدق والإخلاص.

وهي الوسائل التي تبعث الحياة في المجتمع فتدفعه إلى الحركة وتضع اتجاها لهذه الحركة وهو تحقيق السلام والاستقرار.

على هذه القواعد أقام الرسول (صلى الله عليه وآله) مجتمعاً إسلامياً منيعاً واستطاع عبرها ان يزيل تراكمات الجاهلية وان يستبدل الرذائل بالفضائل.

وبذلك استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله) ان يؤدي الإنجاز الكبير الذي تحقق في المدينة وهو تحويل الطليعة الإسلامية إلى أمة إسلامية مترابطة على أساس الإيمان.

أمة متكونة من أفراد يترابطون اجتماعياً فيما بينهم برباط الاخوة ويترابطون فكرياً على الاستلهام الموحد من معين القرآن الكريم.

ويترابطون عمودياً بقمة الهرم برباط الأسوة الحسنة المتمثلة بكتل الفضائل المتمركزة في شخصية النبي (صلى الله عليه وآله).

 

ثانياً.. تنمية الثروة الاقتصادية:

شرع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببناء الدولة الإسلامية في المدينة ومعضلة المهاجرين ترمي بثقلها على عاتق القيادة.

فهؤلاء المهاجرون قد تركوا أموالهم ومنازلهم وحلوا ضيوفا على أهل المدينة ولم يكن من المعقول ان يظلوا عالة على الأنصار لفترة أطول اكثر من فترة الضيافة المعهودة، فأول ما فكر به الرسول هو إيجاد حل لهذه المعضلة قبل ان يشرع بإرساء دعائم النهضة الاقتصادية.. إذ لم يكن من الممكن بناء مجتمع سعيد وفيه هذا التفاوت أناس يملكون البساتين والمزارع هم الأنصار وآخرون معدمون لا يملكون شيئاً ولحل هذه المشكلة توسل الرسول (صلى الله عليه وآله) كما مر سلفاً بأسلوب ذكي هو إعلان المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين وكانت اخوة حقيقية تشمل حتى الارث.

والناظر إلى المجتمع المدني يومذاك يلاحظ ان هناك فائضاً في الثروة بسبب التقدم الزراعي الذي شهدته المدينة في فترة السلم.. وفي نفس الوقت يلاحظ العوز والاحتياج في الجانب الآخر فكان على الرسول ان ينقل هذا الفائض إلى الفقراء حتى لا يبقى محتاج في المجتمع.. وكانت هذه هي الخطوة الثانية في السياسة الاقتصادية التي انتهجها الرسول لإعادة بناء الاقتصاد المدني في ظل تواجد المهاجرين فقد صرح قائلاً (من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له) (2).

ومن كان عنده زاد فليعد به على من لا زاد له (3).

والفضل كل شيء زائد من المال أو المتاع أو الطعام...

وبعض المسلمين ممن كان له عدة زوجات قرر ترك إحدى زوجاته لمن لا زوجة له من المهاجرين فهو قد اعتبر أكثر من زوجة واحدة فضل.

وكانت تلك الخطوة الأولى على طريق التكامل الاجتماعي.

ولم يكتف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتوجيه الأنصار نحو العطاء والكرم لأن وجود هذا العطاء هو حل مؤقت بينما الهدف هو بناء اقتصاد متين قائم على ركائز قوية.. ففي الطرف الآخر دعى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المهاجرين إلى النزول إلى ميادين العمل وحاول ان يحول الطاقة العاطلة عن العمل المتمثلة بالمهاجرين إلى طاقة إنتاجية تؤدي بازدواجها مع القدرات الاقتصادية المتاحة للأنصار إلى قيام نهضة اقتصادية.

فقد جاء عنه (صلى الله عليه وآله) (من كانت له أرض فليزرعها فان لم يزرعها فليمنحها أخاه).. نقله جابر بن عبدالله الأنصاري.

وجاء على لسانه عبارات شبيهة (من كانت له أرض فليزرعها، فان لم يستطع ان يزرعها وعجز عنها، فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤجرها إياه).

وبهذه المقولة وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجر الأساس للخطوة الثالثة للسياسة الاقتصادية وهي إحياء الأرض الموات.

فالأرض للإنتاج وعلى الإنسان ان يعمل عليها فإذا فضل قسم من الأرض لم يستطع العمل عليها يمنحها لمسلم آخر ليقوم هو بالعمل عليها.

وقد مهدت هذه السياسة الطريق لاستثمار كافة الأراضي الصالحة للزراعة في المدينة المنورة.

ومن طرف آخر مُنع استئجار الأرض لأن من يريد العمل عليها لم يكن ليملك ما يدفع به ثمن الإيجار وقد شجعت هذه الخطوة الحكيمة فئات كثيرة من المهاجرين على الانخراط في الإنتاج الزراعي وقد شهدت المدينة خلال فترة وجيزة نهضة زراعية كبرى كما ورد في كتب السير والتاريخ كل ذلك بفضل المنهاج القويم الذي سلكه النبي (صلى الله عليه وآله) في إرساء

    دعائم البناء الاقتصادي..

وتجد أيضاً هذا الحث في الخطب الأولى التي توج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بناء المجتمع الإسلامي:

 (أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم تعلمن، والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه ألم يأتك رسولي فبلغك وأتيتك مالاًَ وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ـ ولو بشق تمرة - فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فأنها تجزي الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.. (4).

ـــــــــــــ

الهامش

1)- رواه الحاكم في المستدرك عن عائشة، وذكره صاحب أعيان الشيعة، في المجلد الأول: ص 307.

2)- عن أبي سعيد الخدري، معالجة الإسلام لمشكلات الاقتصاد، إبراهيم الغويل: ص 48.

3)- نفس المصادر السابق.

4)- الصدر، اقتصادنا: ص 304.