mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 001.doc

المقدمة

الأمة التي تريد أن تبني مستقبلها لا بد لها أن تطل على تاريخها فالحاضر هو ابن الماضي كما يقولون.

فمن التاريخ تكتشف الأمة شخصيتها الحضارية وتكتسب منه الخبرة، وتستمد منه الروح؟ والثبات والاستقامة.

وتاريخنا الإسلامي مملوء بالتجارب فهو قادر أن يمد الأمة بما تحتاج إليه من مستلزمات لبناء حضارتها. فهو أحد أهم مكوناتها الفكرية والعاطفية والروحية.

ولما كانت بداية التاريخ الإسلامي هي السيرة النبوية فانه يفترض بنا دراسة هذا التاريخ أن بادئين بسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) الذي وضع الأساس لبناء التاريخ الإسلامي.

لذا نستهل درسنا في التاريخ الإسلامي بالسيرة النبوية ومنهجنا في ذلك كتابنا المعنون بدولة الرسول المطبوع سنة 1990 للميلاد عن دار البيان العربي بيروت.

وقد حاولت في هذا الكتاب أن أتناول السيرة من أفق ما تحتاجه امتنا اليوم في بناء الدولة الحضارية الراسية على مبدأ الحق والعدل فخير نموذج للدولة التي نطح إليها هي دولة الرسول (صلى الله عليه وآله) امتثالاً للآية الكريمة (ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).

صحيح أن الكتاب يتناول البعد السياسي من السيرة لكنه يحاول أن يغطي معظم جوانب السيرة بأسلوب وصفي و تحليلي معتمداً أصح النصوص التاريخية.

وقبل أن نبدأ البحث علينا أن نشير إلى كتب السيرة والمصادر الرئيسة في السيرة.

لا يخفى أن كتابة السيرة مرت بمراحل المرحلة الأولى تصدى لكتابة السيرة عروة بن الزبير بن العوام (92) وأبان بن عثمان (105) ووهب بن عتبه سنة (110) وشرحبيل بن سعد (123) وابن شهاب الزهري (124) وعبد الله بن أبي بكر بن حزام (135) والمرحلة الثانية تصدى لها موسى بن عقبة (141) ومعمر بن راشد (150) ومحمد بن إسحاق (152) والمرحلة الثالثة تصدى زياد والبكائي (183) والواقدي (207) وابن سعد 230.

الطبقة الأولى عروة بن الزبير بن العوام 92 وأبان بن عثمان (105) ووهب بن عقبة 210 وشر حبيل بن سعد (123) وابن شهاب الزهري (124) وعبد الله بن أبي بكر بن حزم 135

الطبقة الثانية: موسى بن عقبة 141 ومعمر بن راشد (150) ومحمد بن إسحاق 152

الطبقة الثالثة: زياد البكائي 183 الواقدي صاحب المغازي 207 وابن هشام 218 ومحمد بن سعد صاحب الطبقات (230).

وأشهر كتب السيرة سيرة محمد بن إسحاق ألفها في أوائل أيام العباسيين يروون أنه دخل على المنصور ببغداد وبين يديه ابنه المهدي فقال له المنصور أتعرف هذا يابن إسحاق؟ قال: نعم، هذا ابن أمير المؤمنين قال: اذهب فصنف له كتاباً منذ خلق الله آدم (عليه السلام) إلى يومك هذا. فذهب ابن إسحاق فصنف له هذا الكتاب.

فقال له: لقد طولته يا ابن إسحاق اذهب فاختصره.

بعد هذا التمهيد القصير ندخل في الموضوع الذي نقسمه إلى أربعة فصول ولكل فصل مباحث وموضوعات. في الفصل الأول ندرس أحداث ما قبل الرسالة وفي الفصل الثاني ندرس الرسالة في العهد المكي وفي الفصل الثالث ندرس الدولة، أي العهد المدني وفي الفصل الرابع ندرس عطاءات هذه الدولة.

في بداية الفصل الأول ندرس الحقبة التي سبقت الوحي لأنها ذات أهمية قصوى.

قبل الرسالة

دراسة الحقبة التي سبقت الوحي ذات أهمية قصوى في البحث عن الحضارة الإسلامية لأن هذه الحضارة لم تتكون في الفراغ، فالأمة التي صاغتها أيدي الرسالة والتي أصبحت أمة الحضارة الإسلامية منبعها عرب الجزيرة الذين كانوا يغطون في ليل سحيق، فانقلبوا على واقعهم فاصبحوا يقفون فوق أرجلهم بعد ان كانوا يقفون فوق رؤوسهم وذلك بفضل الرسالة الإسلامية، فالبحث في جذور هؤلاء وتقصي الحقائق عن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي قبل الإسلام أمر ضروري لكل من يريد تتبع مسار الرسالة.

كما وإن التتابع التاريخي يستلزم منا الوقوف على المراحل التي سبقت مرحلة الرسالة للكشف عن المؤثرات الجذرية العميقة في المجتمع الإسلامي والنقاط التي لا يمكن الإنفكاك عنها والتي تشكل نقاط تداخل بين الحقبتين. ولربما كانت دراسة حقبة ما قبل الوحي إحدى النوافذ المهمة للكشف عن عظمة الرسالة والرسول (صلى الله عليه وآله) الذي تمكن وخلال فترة قياسية أن ينقذ مجتمعاً كان غاطاً حتى فروة رأسه في مستنقع الجاهلية، وإن يخرج أناسا كانوا يعيشون في الظلام لعشرات القرون إلى النور، وهنا تكمن عظمة الرسالة وقوة تأثيرها في تغيير الجمادات إلى أبطال صنعوا التاريخ وسطروا الأمجاد.

  • الدور العالمي للإسلام:

تحمل الرسالة الإسلامية الخصوصية العالمية فهي رسالة لكل البشر أسقطت من أمامها حاجز الجغرافيا وحاجز الزمن فأصبحت رسالة للعالمين اجمع.

فكان يراد لهذه الرسالة ان تنتشر في كل الاتجاهات، وان تضع بين يدي الإنسان الحلول الجاهزة لمختلف المشاكل، وكان يراد لها الديمومة إلى آخر يوم من الدنيا لأنها خاتمة الرسالات السماوية فليس هناك نبي يأتي بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).

وكان يراد لهذه الرسالة أن تُحمل على أكتاف بشر وليس على أكتاف الملائكة، وقدر لهؤلاء البشر يتحملوا مسؤولية إبلاغ الرسالة إلى آخر إنسان في الأرض وأن يمدوا بعمرها إلى آخر يوم من الحياة.

وباختصار كان يراد للرسالة أن تشق طريقها إلى القمة بقوة الإنسان فكان لا بد وان يختار لهذه الرسالة أرضا وعرة، تعتصر حملة الرسالة حتى يستطيعوا البلوغ بها إلى القمة، وإلا فإن الإنسان المرفه والأرض الفارهة لا تستقبل الرسالات بسهولة ولا تترعرع فيها القيم بسهولة ولا يكبر فيها الإيمان بسهولة.

ولأن الرسالة الإسلامية قد امتلكت من الخصوصيات التي لم تمتلكها الرسالات السماوية الأخرى، فإن مهمة حملها كانت تستوجب ظروفاً خاصة وبيئة خاصة تستطيع ان تصنع الرجال القادرين على أداء تلك المهمة، وينتج من تلاقح الرسالة بتلك الظروف نقطة مشعة لا ينقطع توهجها عبر الزمان والمكان.

وبلغة الفيزياء نستطيع ان نقول، لو أردنا ان نصنع لهباً من النار وأردنا مشاهدته من أقصى نقطة ممكنة وأردنا الإبقاء على اللهب لا طول فترة ممكنة فإن علينا ان نراعي ثلاثة أمور أساسية لإنجاز التجرية:

الأمر الأول: طبيعة المادة التي سنستخدمها في صنع اللهب.

الأمر الثاني: الطريقة التي سيتم بها حرق هذه المادة.

الأمر الثالث: طبيعة الظروف المطلوبة والكافية لإيصال المادة التي يراد إشعالها إلى درجة الاتقاد، وهكذا كانت الرسالة الإسلامية فقد كان المطلوب إيصال شعاعها إلى ابعد نقطة زمانية ومكانية، فكان لا بد من اختيار المكان المناسب والناس المناسبين والظرف التاريخي المناسب حتى تستطيع ان تقفز من على الحواجز السميكة وان تعبر المسافات البعيدة في عمق الزمن والمكان لتصل إلى كل كائن حي في هذا العالم المترامي.

لهذا كان لزاماً ان نقف ملياً عند إنسان ما قبل الرسالة وعلى الأرض التي قامت فوقها الرسالة ونعني بالأرض الظرف بكامل أبعاده - الظرف الجغرافي والظرف الاجتماعي والظرف السياسي -، وإذا ما أرفقنا بالأرض، الإنسان والفكرة لتكاملت العناصر الثلاثة البانية للحضارة، فالإنسان الرسالي هو الشعلة الوهاجة التي تحمل النور، والفكرة هي الصاعق التي توجد الشعلة والظرف هو الذي يعين درجة الاتقاد في المادة الملتهبة.

  • الأرض.. الإنسان... في جزيرة العرب:

البيئة التي نشأت فوقها الرسالة هي الصحراء، والصحاري تغطي ثلث أرض الجزيرة العربية وهي تمتد على مساحة مقدارها مليون ومائتي ميل مربع، وهي أرض ظامئة فلا تجد على سطحها نهراً واحداً بل كل ما نجده من المياه فهو في جداول صغيرة تغمرها المياه في بعض المواسم. وهناك بعض الابار وبعض التجمعات المائية التي مصدرها الأمطار الشتوية.

وقد أدت قلة المياه إلى قلة المحاصيل الزراعية، فالمحصول الرئيسي في جزيرة العرب هو التمر الذي أصبح يحتل موقع الصدارة في تغذية الإنسان العربي، أما الحبوب فقد اقتصرت على موائد الموسرين وزعماء القبائل.

وإذا ما أضفنا إلى قساوة الأرض قساوة المناخ، لتصورنا كيف كان الإنسان يعيش في جزيرة العرب، فكان الإنسان العربي في معركة دائمة مع الطبيعة القاسية التي وضعته في حالة تأهب قصوى، وفي نضال مستمر لكسب الوضع الأفضل.

فكان العربي وباستمرار يغير مواقعه من مكان لأخر بحثا عن المرتع والماء فكان في حركة مستمرة لا تعرف الاستقرار، وإلى جانب الحركة المستمرة كان العربي يعيش وضعاً قلقاً على مصيره وخوفاً من عجزه على تأمين حاجاته المعيشية.

والإنسان العربي كان يعيش وسط صحراء قاحلة ممتدة على مدى البصر في العراء إذ سينال بغيته كل من يريد الفتك به، وجعله هذا الوضع حذراً يرتقب الخطر كل لحظة، وهو لا يجد ما يستطيع الرد عليه إلا نفسه وسعيه، فأصبح يعتمد على نفسه واصبح أيضاً يبحث عن أفراد يتحالفون على الدفاع المشترك فقامت رابطة العشيرة فأصبحت في ظروف الصحراء أقوى رابطة لأنها الشيء الوحيد الذي كان يمنح الإنسان العربي الطمأنينة والشعور بالأمن. وباستثناء الذين توطنوا في المدن واشتغلوا في التجارة أو الزراعة فإن الغالبية العظمي من سكان جزيرة العرب كانوا يعيشون حالة قلقة غير مستقرة وكانوا في حركة دائمة أما بحثاً عن حياة أفضل أو بحثاً عن الماء أو المأوى وقد انعكست هذه الحالة المتواصلة على شخصية الإنسان سلباً وإيجاباً، وفيما يلي نستعرض بعض سمات شخصية الإنسان العربي:

أولاً: دفعت قساوة الطبيعة إلى وضع الإنسان العربي أمام واقع يتطلب منه استنفار قواه الذاتية والاستفادة القصوى من ملكاته، فاصبح يتسم بالشجاعة والجرأة والأقدام وبالعكس لو كانت الطبيعة بغير تلك الصورة لما كان قد اتصف بمثل تلك الشجاعة التي يذكرها لنا التاريخ في صور عديدة غصت بها كتب التاريخ.

والشجاعة هي رمز قوة العربي في السيطرة على الطبيعة والعيش بمأمن من خطرها، فالرجل الشجاع من كسب المعركة على عدوه الأول ـ الطبيعة ـ والذي تمكن ان يزيل عنه الخوف والحذر بينما الرجل الضعيف من عجز عن مقاومة هذا العدو والذي أصبح نهباً لمشاعر الخوف فكان على الضعيف ان يلتجئ إلى القوي ليوفر له الحماية وليزيل عنه مشاعر الخوف وما يهدده وسط الصحراء المكشوفة لكل الأعداء.

ثانياً: الصحراء بطبيعتها تحول دون وقوع الاتصالات بسهولة بين إنسان وأخر فبعد المسافات وامتدادها على طول البصر يجعل من الاتصال أمراً شبه مستحيل في ظروف الإنسان الذي لم يجد إلاّ النياق وسيلة للنقل والاتصال، فلم يكن أمامه إلا العيش ضمن مجموعات بشرية صغيرة أو كبيرة تتركز فيها العلاقات الاجتماعية كأقوى ما يمكن وهي الرابطة القبلية التي أخذت تربط هذه المجموعات فيما بينها محكومة بالظروف القاسية.

وأصبحت القبيلة تعبر عن الوجه الاجتماعي للإنسان العربي فهي تشبع حاجاته الذاتية إلى الدفاع والحماية وتجسد أمانيه وطموحاته بشرط ذوبانه وانصهاره في نظام القبيلة، وهو لا يعني التجرد عن النزعة الفردية وعن الشوق إلى الحرية خصوصاً عندما يصبح الفرد في إطار خارج القبيلة، ونتج عن هذا الواقع الاجتماعي نمط من التمسك والالتزام بقيم وأعراف نظام القبيلة التي تستثمر في العادة في مواجهة القبائل المعادية وفي التفاخر بمآثر القبيلة وحتى الأمور التافهة تصبح مدعاة فخر لأبناء القبيلة.

ثالثاً: وأدى الخوف والهلع المستمرين في البيئة الصحراوية إلى ايجاد نمط قوي من التضامن اخذ يسود القبائل العربية، فأصبحت كل قبيلة تبحث عن حليف لها لتوسع من مساحة القوة التي تتطلبها الأوضاع فأصبح الضعيف يلتجئ إلى القوي وبات القوي وهو على استعداد لإجارة الضعيف.

وترك هذا التضامن آثاراً ليس على المستوى السياسي للقبائل العربية وحسب بل أيضاً كان له أثر نفسي على مستوى الإنسان فكان على استعداد لحماية كل من يطلب منه ذلك، فمجرد طلب الحماية كان يستثير في العربي المروءة وتجعله يدافع حتى لو كان الطالب عدواً للقبيلة أو حتى لو كان قد هدر دمه لجريمة ارتكبها.

رابعاًَ: افتقرت الصحراء إلى المركزية في السلطة بسبب تباعد الأفراد ووجود القبائل في أماكن متناثرة، فكانت كل قبيلة بذاتها تشكل حكومة مستقلة، فأعرافها وتقاليدها هي قوانين يجب على كل فرد في القبيلة مراعاتها، وبعد سلطة القبيلة لم تكن هناك أية سلطة تتحكم بالإنسان العربي، وبقدر ما كان لهذا الواقع من أثار سلبية كانت له أثار إيجابية أيضاً على نفسية الإنسان العربي، فقد منحته حالة التجرد عن السلطة فسحة كبيرة من الحرية وبالتالي جعلته على أهبة الاستعداد للتمرد بعنف أمام أي واقع يرفضه.

فقد كانت في نفس العربي حالة من التمرد إلى جانب حالة من الالتزام، وهذا يفسر لنا خروج البعض من القرشيين على قوانين العشيرة يوم أعلنت مقاطعتها لبني هاشم، وبفضل الحرية كان البعض يتجرأ لا بداء رأيه حتى أمام الملوك ، فيذكر لنا التاريخ ان أحد الملوك طلب من رجل من بني تميم في الجاهلية فرساً يقال له سكاب فامتنع الرجل وقال ابياتاً هي:

أبيت اللعن أن سكَابَ علق ٌ    ***               نفيس لا تُعارُ ولا تباع

فلا تطمع أبيتَ اللعن فيها       ***                ومنعكسَها بشيء يستطاع

خامساً: وفي هذه البيئة التي يتنافس فيها الأقوياء ويقهر فيها الفقراء يصبح الثأر هو الوسيلة الوحيدة لرد الاعتبار وهو الضمان في إقرار الآخرين له بأنه إنسان قوي ذو كرامة وعزة فباعتقاد العربي ان السكوت عن الإهانة جبن وضعف وأن السكوت يشجع الآخرين على التهامه ويطمعهم في الإغارة عليه فكان لا بد وان يظهر قوته وحتى لو كان فيه موته.

ومما يستدعي الثأر للشرف - وللشرف عند العربي مفهوم خاص- فأقل كلمة نابية يعتبرها مساً لشرفه يجب عليه الثأر.. أما التعيير فالرد عليه بحرب شعواء.

ذكر لنا المؤرخون ان الشاعر عمرو بن كلثوم قتل ملك الحيرة عمرو بن هند وهو في ضيافته وذلك عندما استخفت هند أم الملك عمرو بن هند بليلى أم الشاعر عمرو بن كلثوم طالبة منها ان تناولها الطبق فرفضت ليلى لأنها وضعتها في موضع الخدم وعندما كررت هند طلبها صاحت ليلى: (واذلاه يا لتغلب) فوثب الشاعر عمرو إلى سيف للمملك كان معلقاً في السقف فتناوله فضرب رأس الملك وهو في ضيافته نتيجة لتلك الحادثة الصغيرة التي اعتبرها الشاعر أنها مسته في شرفه.

سادساً: وفي مواجهة إعباء الحياة الشاقة لم يكن العربي ليجد بداً من التعاون مع أفراد قبيلته ومع كل من هو على استعداد لمديد التعاون إليه.

أما الكرم فهو من مصاديق روح التعاون التي أوجدتها حياة الصحراء والتي شجع عليها الامتداد التاريخ بين بعض القيم التي كانت موجودة في جزيرة العرب وبين القيم التي جاء بها الأنبياء فالجدب والحرمان لم يلغيا هذه الصفة الخالدة منذ عهد الأنبياء فالفقر والحرمان يصقلان في بعض الأوقات النفوس، فيصبح التنافس في أمر أسمى من جمع الثروة وخصوصاً عندما يكون هناك عنصر معنوي موروث يعتمل في النفوس، فبينما كان البعض يتنافسون على المال كان البعض الآخر يتنافسون على الشرف والسمعة بين أبناء القبيلة وليس الكرم والجود إلا مفردات في قاموس الشرف وهي ذات دلالات كثيرة عند الفرد العربي.

سابعاً: نفسية العربي نفسية بسيطة غير معقدة فهو يعيش حياة فطرية لا يشوبها التعقيد ولا تعرف العقد ولا الازدواجية لأنها حياة مشحونة بحركة مستمرة فوق أرض قاسية وتحت سماء صافية.. والاحتكاك العنيف بالبيئة القاسية كان يزيل العقد قبل ان تطفح والحركة العنيفة في تلك الصحراء كانت تقلع المشكلات قبل ان تتفاقم وتتحول إلى عقد. وكانت أشعة الشمس الحارقة قادرة على صهر الازدواجية والكراهية فتغدو النفوس بسيطة موصدة الأبواب أمام الحسد والحقد ولم تظهر هذه العقد إلا بعد الانتقال من حياة الصحراء إلى حياة الحضر.

ثامناً: فرضت حياة الصحراء على العربي حالة التنقل المستمر من مكان لآخر من ديار لأخرى ومع التنقل يحن الإنسان بطبيعته للديار التي كانت على طريقة.

وعندما يجن الليل ويرخي سدوله ويرمي الظلام بأجنحته الوادعة فوق تلك الصحراء الشاسعة وعندما تبدأ النجوم بالتلألؤ وسط ذلك الظلام الحالك، وعندما يعصف الحنين بذلك الإنسان الراقد لوحده في الخيمة والمتوجه بمشاعره ووجدانه نحو تلك الأجواء الساحرة عند تلك اللحظات تبدأ رحلة ذلك الإنسان مع الشعر.

فالشعر في الواقع هو انعكاس لحياة الإنسان وهو يستمد جذوره من الحالات النفسية والفكرية التي يعيشها الشاعر.

تولد الشعر في جزيرة العرب من عنصرين:

الأول: وجود تلك الأجواء الصحراوية بقساوتها في النهار وبسحرها الآخذ في الليل بما تحمله تلك الأجواء من دموع وابتسامات، دموع القسوة عند لحظة التوديع وابتسامة عند استقبال الفجر، وعند توديع اشهر الحر واستقبال فصل الأمطار.

فحياة الصحراء حياة توديع واستقبال حزن وفرح دموع وابتسامة خوف ورجاء.. يأس و أمل.

العنصر الثاني: هو وجود إنسان يبحث عن شيءٍ في أعماقه.. إنسان لا تنتهي رحلته مع نفسه وهي رحلة تبدأ مع سكون الصحراء في الليل ولا تنتهي إلا بـ (الشعر) تلك الكلمات التي تعبر عن خلجات النفس والتي يحاول الشاعر من خلالها ان يضفي حوله طابعاً جميلاً للحياة تنسيه آلامه.

والشعر نتيجة للحياة الفردية التي يحياها الإنسان العربي فالذي يجد نفسه وحدها يأنس لصرخات الذات وتوجعات الضمير ويستجيب لدموع القلب وابتساماته.

والشعر في حياة العربي يمثل جانباً من الإبداع وهو يعبر عن حالة قوة وضعف في آن واحد وإذا أردنا أن نسمي المجتمعات بخصائصها الإبداعية فإن سمة المجتمع العربي هو قول الشعر وتذوقه وإقامة المهرجانات من أجله.

تاسعاً: وهناك تأثير آخر لحياة الصحراء على الإنسان هو توجيهه نحو الخرافة أيضا، فليالي الصحراء الطويلة ونجومها البديعة التي تتراءى له وكأنها شياطين دفعت بالإنسان العربي دفعا نحو الاعتقاد بالخرافة وأصبح يرث هذه المعتقدات من آبائه وأجداده فأخذ العرب يعتقدون بأن هناك أرواح شريرة هي التي تسبب لهم المرض فيقوموا باستحضارها في أماكن مجهولة وكانوا يؤمنون بأقوال العرافين وكاشفي البخث وأكثرهم لا يعتقد بالآخرة والذي يعتقد بها يربط بعيراً إلى قبره ويجوعه حتى يموت، معتقداً بأنه إذا مات سيمتطي بعيره في يوم القيامة.

واعتقدوا أيضا بان روح الإنسان بعد الموت تحول فوق قبره على صورة بوم فإذا كان مقتولاً فإن البوم سيصرخ بعشيرة القتيل حتى يأخذون له الثأر فكانوا يتشاءمون ويتفاءلون لأتفه الأسباب فإذا مر عليهم طير من الشمال إلى اليمين تفاءلوا، وإذا مر من فوقهم من اليمين إلى الشمال كان ذلك مبعثاً للتشاؤم وإذا ما حلت عليهم كارثة كانوا يدخلون من الباب الخلفي إذ كانت لبيوتهم باب من الإمام وباب من الخلف.

وفي أيام الجدب كانوا يربطون الأعشاب اليابسة في ذيل البقرة فيضرمون فيها النيران، ويدفعون بها إلى أعالي الجبال وكانوا يعتقدون بان لهب النار في أعالي الجبل المطر للشبه الموجود بينه وبين البرق.

عاشراً: وكان للبيئة الصحراوية وما تثيره من إحساس عميق بالرهبة والضعف أثر في تشكيل الحياة الدينية لدى الإنسان العربي، فهناك من عبد النجوم والسماء والقمر والهواء معتقدين بأنها مهيمنة على مصائرهم..

وهناك من عبد الأشجار والأحجار فكلما وجدوا حجراً جميلاً سجدوا له وبعضهم عبد كثبان الرمل وكانوا يأتون بنياقهم فيحلبونها على الرمال فتذهب ألبانها سدى. والذين عبدوا الأصنام كانوا يقدمون لها القرابين فيهدرون أموالهم سداً، فانعكست الصحراء في حياة العرب انعكست سلباً وايجاباًُ، وصاغت منهم شخصية متميزة بالسمات التي ذكرناها، والتي بقيت على قوتها حتى مع الانتقال إلى الحضر، فكانت قواسم مشتركة قائمة بين البدو والحضر على رغم التباين في البيئة من حالة لأخرى.

ولا يخفى أن البيئة الصحراوية كانت صاحبة الفضل في الإبقاء على بعض القيم التي جاءت بها الرسالات السماوية، فأكثر الفضائل التي كانت موجودة في المجتمع الجاهلي كالكرم والوفاء بالعهد هي في الواقع قيم جاءت بها تلك الرسالات والتي لم تستطع الأيام ان تزيلها أو تخفف منها على رغم ما طرأ على هذه السمات الخيرة من تحوير عند بعض الجماعات العربية، فالكرم أصبح عند البعض مفخرة شخصية يقصد به السمعة والوجاهة، وهكذا بقية الصفات الخيرة الأخرى.