mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 06.doc

المعارضة البناءة

خفت الأضواء عن الإمام علي (عليه السلام) بعد ارتحال الرسول الأكرم إلى رحاب الله جل وعلا. فقد أسدل التاريخ عنه الستار ابتداءً من السنة الحادية عشرة للهجرة ولم يلبث أن عادت الأضواء إليه مع نهاية عام خمس وثلاثين للهجرة عندما بايعه المسلمون. إذ لم يسجل أرباب التاريخ شيئاً من حياة الإمام خلال هذه الفترة العصيبة من تاريخ الكيان الإسلامي إلا النزر القليل، ذلك التاريخ الذي دون فيما بعد، والذين دونوا التاريخ دونوه بعين عوراء فقد اقتصروا على تدوين أحوال الخلفاء والولاة وأصحاب المناصب، وما جرى لهم من حروب وثورات.

وبقدر ارتباط الإمام علي (عليه السلام) بتلك المفردات سجّل في كتب التأريخ وهو جزء ضئيل من حياة الإمام (عليه السلام)، أما الجزء الأكبر من حياته والقسم الأعظم من أعماله فلم يسجلها المؤرخون للسبب السابق ولسبب آخر هو اعتقادنا الجازم بأن الإمام (عليه السلام) في هذه الفترة بدأ يتكتم على تحركاته وأخذ ينتهج نهجاً آخر في أسلوب العمل كما سنرى لاحقاً.

وقد دفع هذا الأمر بالبعض إلى إطلاق مقولات لا واقع لها فقالوا عنه إنه كان قعيد البيت لاستدرار العواطف مع إن اللقطات القليلة التي سجلها لنا التاريخ عن حياة الإمام فيه هذه الفترة تناقض هذا الإدعاء كما وإن فرصاً ذهبية قد سنحت للإمام في عهد الخلفاء كان من الطبيعي أن يستثمرها الإمام في العمل من أجل إعلاء كلمة الدين.

كما وإن حلقات مفقودة من التاريخ عن مسيرة التحرك الذي انتهجه الإمام تؤكد وبلا تردد وجود عمل مكثف من نوع آخر كان يقوم به الإمام في تلك الفترة الهامة من حياة الدعوة الإسلامية.

وعلى رغم الصعوبة البالغة التي تواجه كل راصد لهذه الفترة من حياة الإمام حيث لا يوجد في كتب التاريخ إلآ القليل من المعلومات إلا أن المشكلة قابلة للحل وذلك بإعادة النظر إلى أحداث هذه الفترة وتحليل وقائعها بأسلوب يكفل التغطية الشاملة.

 

علي(عليه السلام) رجل المبادئ

استقبل الإمام علي(عليه السلام) الأحداث التي أعقبت وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأعصاب هادئة، لذا كان يتوقع ما سوف تؤول إليه الأمور، وحتى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حينما أحس بدنو أجله كان على بصيرة مما سيجري بعد غيابه، فكان يقرأ ما في نفوس البعض من رغبة جامحة إلى السلطة. وكان يخشى أن يؤدي ذلك إلى صراع وحروب داخلية تقوض الكيان الإسلامي الناشئ، فقد حاول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في أيامه الأخيرة أن يرتب أمراً يدرأ به مخاطر المستقبل فجهز جيشاً لحرب الروم وأعطى زمام الجيش إلى أسامة بن زيد وهو شاب لم يتجاوز العقدين من العمر وطلب من المهاجرين والأنصار اللحاق بجيش أسامة مؤكداً لزعماء المهاجرين عدم تخلفهم عنه، وهم يشكلون القوة العسكرية الضاربة التي كان يتخوف من توثبها على السلطة وتنصيبها من تريد بالقوة. وذكر ابن سعد أن مرض النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ابتدأ يوم الأربعاء وعقد لأسامة يوم الخميس وكان يخرج للمسلمين وهو معصوب الرأس ويخطب بهم ويقول انفذوا بعث اسامة يكررها كل يوم ثلاث مرات.

وقد فسر الشيخ المفيد أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يريد الحرب بل كان يريد إبعاد القوة العسكرية وقادتها عن المدينة وذلك لأبعادهم عن دائرة التوتر التي قد تنشأ بعد وفاته.

وعندما أحس النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بتخلف البعض عن جيش اسامة أرسل إليهم كما نقل عن عبد الله بن مسعود(1) وتكلم بكلماته الأخيرة ومما قال لهم على رواية ابن عباس(2) فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً فدب النزاع بين الأصحاب بين قائل يقول ما شأنه أهجر استفهموه وأخذوا يكررون هذه العبارة وقد أدركوا ماذا يريد أن يكتب لهم، فانصرف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن عزمه وسكت ولم يظهر ما كان يريد.

وارتحل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العالم الآخر وتحققت التوقعات وتسارعت السيقان وهي تحمل المهاجرين والأنصار إلى سقيقة بني ساعدة لانتخاب الخليفة والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لازال مسجى وحوله عليّ والعباس وأهل البيت مشغولون بتغسيله وتكفينه، واحتدم التنافس في السقيفة بين الأنصار والمهاجرين ولم يسأل أحد نفسه كيف يمكن أن ينتخب خليفة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهناك الكثير من المهاجرين لم يخبروا بالأمر؟ بل كيف يمكن أن يجري هذا الانتخاب في غياب أقرب الناس إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه؟

وهل يصحّ هذا الانتخاب في غياب شخصية مهمة كعلي بن أبي طالب.

وهل سأل أحد ممن حضر السقيفة هذا السؤال؟ هل من الإنصاف ترك جثمان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مسجى على الأرض والإنشغال بالانتخابات؟ أما كان هناك متسع من الوقت بعد التفرغ من دفن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أما كان من حق النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الذي قدم كل حياته من أجل الإسلام والمسلمين قليلاً من التأخير؟

أما كان من الأفضل الإنتظار حتى يتمكن بنو هاشم الذين كانوا مشغولين في تجهيز رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من المشاركة في الإقتراع.

ومضت الأمور في سقيفة بني ساعدة مصنفة المسلمين إلى ثلاثة تيارات تيار الأرستقراطية القرشية وهي تمثّل طبقة المهاجرين الذين كانوا يزاولون التجارة وكان بأيدي هذه الطبقة الأموال الكثيرة بالإضافة إلى أنها كانت تشكل القوة الضاربة في الجيش الإسلامي، والتيار الثاني هو الحزب الأموي بزعامة أبي سفيان، أما الصنف الثالث فهو تيار بني هاشم مع مجموعة من المهاجرين وقد انضم إليهم جمع غفير من المستضعفين والمحرومين.

وكانت التوقعات كلها تشير ومنذ البداية إن التيار الأول سيفوز بمنصب الخلافة بسبب قدراته المالية الهائلة كما وإنه يمتلك القوة العسكرية التي أوجدت لديه شعوراً مفعماً بالقوة والرغبة في التنافس.

أما الحزب الأموي فقد كان منبوذاً يومذاك، إذ لم يمرّ على دخول أبو سفيان وأبناءه الإسلام سوى أعوام قليلة وهي غير كافة لأن تعطي لهذا الحزب شرعية التنافس على الخلافة.

أما التيار الثالث فقد كان مشغولاً بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) غائباً عن مكان الإنتخاب.

وانتشر خبر الإجتماع المعقود في السقيفة وتسللت إلى بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبلغت مسامع الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه فغضب البعض، أما أبو سفيان فقد سارع إلى علي قائلاً له أبسط يدك أبايعك فو الله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجلاً.

فزجره الإمام علي (عليه السلام) وقال والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة وإن والله طالما بغيت للإسلام شراً لا حاجة لنا في نصيحتك(3).

ونتوقف هنا هنيئة للبحث عن الأهداف والدوافع التي بيتها أبو سفيان عندما تقدم لمبايعة الإمام علي (عليه السلام) وسر ذلك الموقف الصلب الذي وقفه الإمام.

يبدو أن الحزب الأموي من ذلك اليوم كان يخطط للوثوب على السلطة واسترجاع الزعامة التي كانت لهم في مكة.

وكان من الطبيعي أن تصطدم هذه الرغبة بوجود النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحياة لكن الآن وبعد غيابه فقد وجد أبو سفيان الفرصة السانحة لأن يقرع الأبواب الموصلة إلى الزعامة والنفوذ.

وكان الحزب الأموي يراهن على علي بن أبي طالب الأوفر حظاً من غيره في الخلافة لوصايا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) به ولأن مؤهلاته تجعله المفضل على الأخرين، ولأن الحزب الأموي يومذاك كان ضعيفاً فكان لابد له أن يتحالف مع أحد الجناحين الآخرين ولاعتقاد أبي سفيان بأن الأمر سيكون لعلي بن أبي طالب، فقد سارع وقبل أن تفوت الفرصة وأقبل لمد يده لبيعة الإمام علي (عليه السلام).

وكان باستطاعة الإمام أن يستجيب لأبي سفيان وأن يستفيد من القوة التي يشكلها الحزب الأموي للمطالبة بحقه في الخلافة، إلآ أنه رفض هذا العرض أولاً لأن وراءه أهداف غير صادقة وثانياً لأن الإمام يرفض مثل هذه الأساليب الملتوية في إقرار حقه بالخلافة. فقد كان الإمام (عليه السلام) ملتزماً باستراتيجية واضحة تخطت مساحة تحركه وتحرك أصحابه وأهل بيته وهي صيانة الكيان الإسلامي والتضحية بالمصالح الخاصة من أجل المصلحة العامة وهو موقف أثار اعجاب كل من دون لهذه الفترة من التأريخ الإسلامي.

 

مهام الإمام علي ما بعد السقيفة

واصل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) طريقه كوريث للرسالة الإسلامية. ولم تكن نتائج الإجتماع الذي انعقد في سقيفة بني ساعدة لتعفيه عن التزاماته نحو الأمور التالية:

1- الحفاظ على الأسس والقواعد التي قام عليها الإسلام.

2- خلق رأي عام حول الخلافة بطريقة سلمية لرفع ما التبس على المسلمين بعد السقيفة.

3- صيانة الكيان الإسلامي من عوامل الضعف والوهن.

كان الإمام  يرى نفسه مسؤولاً عن الرسالة وحتى لو كان بعيداً عن منصب الخلافة وتعامل مع الأحداث بهذه الروح الإيجابية.

فكان أول عمل قام به هو جمعه للقرآن الكريم، فالقرآن قد نزل منجماً(4) فكانت الآيات تنزل حسب الحاجة إلى ذلك وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من الآيات من تلقاء أنفسهم أو يأمر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانوا يكتبون على سعف النخل والرقاع وقطع الأديم وعظام ألواح الشاة والإبل واضلاعها.

ومع انقطاع الوحي بوفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان لابد من جمع كل ما نزل من الآيات القرآنية سيما وأن بعض الألواح كانت عرضة للضياع والتبعثر وحتى عرضة للتحريف إن لم يسرع أحد ويبادر بجمع القرآن وبعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يبق سوى القرآن والعترة. فصيانة القرآن من الضياع يعني صيانة للإسلام من عوامل التحريف والتخريب.

من هنا كان على رأس ما قام به الإمام علي (عليه السلام) بعد ارتحال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو جمعه للقرآن فقد عكف ستة أشهر(5) في داره مشغولاً بهذه المهمة وكان يقول لمن يطلبه بالخروج من البيت ومبايعة الخليفة أبي بكر (آليت الا أرتدي عليّ ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه)(6).

وفي الإتقان في علوم القرآن نقل السيوطي عن ابن حجر أنه قال: وقد ورد عن علي(عليه السلام) أنه جمع القرآن على ترتيب نزوله بعد وفاة الرسول، وذكر أيضاً أن محمد بن سيرين كان يقول لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم.

وعلى الظاهر إن الإمام لم يكتف بجمع الآيات القرآنية فبالإضافة إلى ذلك قام بترتيب الآيات حسب النزول وأشار إلى عامه وخاصه ومطلقه ومقيده ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه كما وأشار إلى أسباب النزول وأملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن وذكر لكل نوعٍ مثالاً يخصّه.

وبهذا العمل الجبار استطاع الإمام أن يحافظ على أهم أصل من أصول الإسلام وأن يوجه العقل نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن ليصبح المنبع الرئيسي للفكر والمصدر المباشر الذي يستمد منه كل ما يحتاجه الإنسان في حياته من قوانين وتعليمات وبرامج للحياة وبعد أن أكمل جمع القرآن أتى به يحمله على جمل فقال هذا القرآن قد جمعته(7).

وبعد أن فرغ الإمام علي (عليه السلام) من انجاز هذه المهمة توجه إلى عمل آخر لا يقل خطورة عن العمل الأول وهو جمع ما دونه من أحكام دينية في كتاب واحد سمي بالجامعة أو كتاب عليّ.

والجامعة كتاب طوله سبعون ذراعاً من إملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وخط علي (عليه السلام) مكتوب على الجلد المسمى بالرق(8) ويبدو أن اضافة الجلود بعضها إلى البعض الآخر كوّنت منه جلداً واحداً طوله سبعون ذراعاً وقد احتوت هذه الجامعة على جميع الأحكام حتى أرش الخدش(9).

وإذا عرفنا إن أئمة أهل البيت عليهم السلام كانوا يتوارثون هذا الكتاب ويعتمدونه كمصدر أساسي في الأحكام الشرعية لأدركنا أهمية العمل الذي قام به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في تجميع ما دونه من أحكام شرعية بإملاء من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ولولا هذا العمل الجبار لاندرست الأحكام الشرعية ولضاعت أو أصابها التحريف وحتى القرآن كان عرضة للتحريف أو النقصان بسبب الصراع السياسي الذي انفجر بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واستمر لقرون عديدة. من هنا يبرز حجم المهمة التي صرف الإمام ستة أشهر من عمره من أجلها في المحافظة على القرآن الكريم من عوامل الدس والتحريف وما إلى ذلك.

 

خلق رأي عام حول الخلافة

لم يكن الإمام طامعاً في كرسي الخلافة وهذه حقيقة يمكن أن يلمسها كلّ مؤرخ مطلع على سيرته بعد أن اتته الخلافة عام 35 للهجرة. فقد كان همّه الأول والأخير هو تثبيت الإسلام بعد الذي لحق به خلال العقود الماضية و ليس تثبيت كرسيّ الخلافة، ويجد المتتبع لحياة الإمام (عليه السلام) أنه ضحى بالكرسي من أجل الإسلام وليس العكس كما فعل خصومه. فلو كان قد تنازل ولو قليلاً عن مبادئه لدامت له الخلافة عقوداً من الزمن.

فتسليط الاضواء على حياة الإمام خلال فترة حكمه تكشف عن مسلك في الحياة انتهجه الإمام في كل الأطوار التاريخية وكان هذا هو موقفه بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فعلي كان يرى نفسه الأحق بالخلافة من الآخرين وهذا ما كانت تراه الأكثرية المطلقة من المسلمين ما عدا أقلية من قريش كانت تفضل الأكبر سنا وكانت ترى في علي بن أبي طالب شاباً لا يتناسب عمره والخلافة، وعلى رغم شعوره بالأحقية إلا أنه لم يندفع اندفاعة المتهالك إلى الخلافة وكان يكفي حضوره إلى سقيفة بني ساعدة لينتخب خليفة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه كان الرجل الذي تتفق عليه الآراء بين المهاجرين الذي استندوا على أحقيتهم بالخلافة، باعتبار قربهم لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الأنصار الذين كانوا يفضلون علياً ويرونه الرجل المناسب لهذا المنصب كما كشف عن ذلك وقائع الإجتماع الذي تم في السقيفة، فقد ورد ذكر الإمام علي (عليه السلام) وهو غائب عن الإجتماع في عدة مواقف أثناء المحاورة بين المهاجرين والأنصار.

فقد قام عبد الرحمن بن عوف وتكلم فقال: يا معشر الأنصار إنكم وإن كنتم على فضل فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي وقام المنذر بن الأرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت وإن فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد –يعني علي بن أبي طالب-(10)

وعندما احتدم الجدال بين المهاجرين والأنصار حول الرجل المناسب، قالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلآ علياً(11) فقد كان علي على قاب قوسين أو أدنى من الخلافة لو كان حاضراً السقيفة.

لكن هل من المعقول أن يترك الإمام جسد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مسجى على الأرض ويذهب لمنافسة الآخرين على الخلافة.

من المؤكد أن الإمام علي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكل المجتمعين في بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد عرفوا باجتماع السقيفة أثناء انعقاده كما عرف غيرهم بها كأبي بكر وأبو عبيدة إذ من غير المعقول أن يقع مثل هذا الحدث وسط المدينة وفي وضح النهار ولن يصل خبره إلى الإمام علي (عليه السلام) وربما كان لتباطئه ما يبرره ولربما كان قد ا حسن الظن بالمجتمعين إنهم لن يختاروا غيره فقد ذكر ابن أبي الحديد إن علياً(عليه السلام) كان لا يشك في أن الأمر له وأنه لا ينازعه فيه أحد من الناس وذكر في شرحه لنهج البلاغة هذه المحاورة بينه وبين العباس ويبدو أنها وقعت بعد سماعهم باجتماع السقيفة.

قال عمه العباس: امدد يدك أبايعك فيقال عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك اثنان فقال يا عم: وهل يطمع فيها طامع غيري.

قال العباس: ستعلم!! وكأنه اراد أن ينبهه إلى حسن ظنه المتزايد.

فأجابه الإمام علي (عليه السلام): إني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج.

والرتاج هو الباب المغلق أي إني أريد أن أنتخب بطريقة علنية وعن قناعة شاملة لدى جميع الناخبين وأرفض الطرق الملتوية.

وعندما بويع الخليفة أبو بكر وأتوا به الى المسجد سمع العباس وعلي التكبير في المسجد فقال علي: ما هذا. فأجابه العباس: ما روي مثل هذا قط!! ما قلت لك؟ يريد أن يذكره بكلامه السابق عندما قال له ستعلم(12).

وما أن انتهى الإمام من دفن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بدأت حملته الواسعة في المطالبة بحقه في الخلافة ومعه جميع أصحابه وأهل بيته وهو يريد بذلك إقرار مبدأين:

الأول: إجتماع السقيفة لم يكن كافياً لانتخاب الخليفة، فقد تم الإجتماع في غياب عشيرة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

الثاني: أحقيته في الخلافة بحسب المقاييس التي انتخب على أساسها الخليفة أبو بكر فكان يتنقل بين الأنصار ومعه زوجته فاطمة الزهراء.

كانت فاطمة(عليه السلام) تسألهم النصرة بعد أن تذكّرهم بمواقف علي بن أبي طالب وتضحياته من أجل الإسلام فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به.

فقال علي: أفكنت أترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميتاً في بيته لم أجهزه وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه.

فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ولقد ما صنعوا، الله حسيبهم عليه(13).

ولم يكتف الإمام بالأنصار فقط بل راح يخطب بالمهاجرين من أجل صنع رأي عام حول موضوع الخلافة، طريقة الإنتخاب، مؤهلات المرشحين، فقال: يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه فو الله يا معشر المهاجرين إن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ما كان منا القارئ لكتاب الله الفقيه لدين الله، العالم بالسنة المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا عن الحق بُعداً.

قال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان(14).

وتحرك تكتل بني هاشم وبدأ كل فرد من موقعه في شرح الملابسات التي سادت اجتماع السقيفة وإيضاح بعض ما التبس من الحقائق الهامة التي غابت عن الناخبين والمرشحين فعندما يلتقي الخليفة أبو بكر ومعه بعض اركان الدولة وعمر بن الخطاب، أبو عبيدة الجراح والمغيرة بالعباس عم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليلاً لإقناعه بالذي جرى من أمر البيعة والطلب إليه بالمشاركة معهم في أمور الدولة، رفض العباس هذا العرض مبدياً استغرابه من أعطاء بني هاشم جزءاً من الأمر بينما الخلافة حق في بني هاشم.

قال لهم العباس: رسول الله من شجرة، بني هاشم أغصانها والآخرون جيرانها فخرجوا دون أن يحصلوا على شيء. وعلى هذا النمط تحرّك تكتل الصحابة وانتشروا في المسجد وأخذوا يخطبون بالمسلمين ويحتجون على المهاجرين تركهم للإمام علي (عليه السلام) فهذا سهيل بن حنيف يقف بين المهاجرين ليذكرهم بمواقف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من علي بن أبي طالب وذاك أبو أيوب الأنصاري يناشد المهاجرين أن يتذكروا ما كان يكرره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في كل مقام وكل مجلس.

اهل بيتي أئمتكم بعدي

أما أبو الهيثم بن التيهان فقد احتج على المهاجرين بمقولة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير حيث قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، أما سلمان المحمدي وأبو ذر الغفاري والمقداد، فكانوا من أكثر الصحابة نشاطاً في توجيه الرأي العام نحو الخلافة الصالحة.

وعلى الرغم من إقتناع الإمام علي (عليه السلام) بعدم جدوى محاولاته هذه لأن كل شيء قد تم وبويع أبو بكر البيعة العامة في المسجد إلا أنه ومن أجل توكيد المبدأين الأساسيين وهما:

لا يصح الإنتخاب في غياب أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

الانتخاب هو حق لمن تم التأكيد عليه من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان الإمام في دفاعه عن قضية الخلافة ينطلق من معايير دينية، فهو كان يطالب بحق فرضه الدين عليه وعلى المسلمين وتوقف عن ذلك بمجرد سماعه ارتداد بعض العشائر العربية في أطراف جزيرة العرب فيهب هو وجمع من صحابته للدفاع عن حياض الإسلام.. وهنا نلاحظ الإمام في موقف اخلاقي رائع إذ يقدم المصلحة الإسلامية العليا على المصلحة الإسلامية الخاصة وينسى خلافاته ويصمت عن حقه وحق عائلته الكريمة ويبدأ وبإيجابية بالتعاون مع السلطة لمواجهة الأخطار المحدقة.

 

صيانة الكيان الإسلامي من عوامل الضعف

جرت أحداث جسام بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم تُنس علياً إنه الوصيّ على هذه الأمة.

فإذا كانت بيعة الخليفة أبي بكر قد رفعت بعض ما عليه من تكليف ومسؤولية إلا أن التزامه بوصايا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحرصه العميق على الرسالة جعلته في قلب المسؤلية، أليس هو أو المؤمنين بالرسالة وأكثر المدافعين عنها وأشد المضحين لها. هذان الأمران وصايا الرسول والرسالة جعلا من أمير المؤمنين في طليعة المدافعين عن الكيان الإسلامي وكلما تحسس بالخطر استشعر بالمسؤولية تجاه الدين.

وبعد غياب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أحدقت الأخطار شيئاً فشيئاً بالكيان الإسلامي مما دفعت بالإمام إلى تغيير سياسته إزاء السلطة، فكان على أعلى درجات من الإيجابية إلى درجة اصبح منافسيه بالأمس يستشيرونه في أمور البلاد، ويتقربون إليه ويتمنون أن يتحمل جزءاً من أعباء مسؤولياتهم في الحكم، فلم يشكوا في نواياه ولم ينظروا إليه نظرة الريبة بعد أن وجدوه أعلا شأناً من أن يتنافس على حطام الدنيا. والذي ليس في اهتمامه إلا إعلاء الدين ورفعةالمسلمين وحسب. وأكبر دليل على صدق نوايا أمير المؤمنين هو موقف الخليفة عمر بن الخطاب من الإمام يوم أعلن قائلاً لولا علي لهلك عمر ولا جعلني الله لمعضلةٍ ليس لها أبو الحسن فهذه العبارة تدل على مدى ما بلغه الإمام من الإيجابية في علاقته مع الخليفة على رغم ما لديه من تحفظات وإشكالات، كل ذلك من أجل المصلحة العامة، وإنطلاقاً من هذا الموقف اتخذ الإمام علي (عليه السلام) سياسة مبنية على الأهداف التالية:

1- صيانة وحدة الصف الإسلامي.

2- إسداء النصحية والمشورة للخلفاء.

3- المساهمة في الأعمال الإيجابية.

4- الدفاع عن الكيان الإسلامي.

5- المراقبة المتواصلة والمحاسبة البناءة.

 

الهوامش:

1- انظر الطبري 2/ 335.

2- انظر الطبري 2/ 336.

3- ابن الأثير الكامل في التاريخ 1/ 326.

4- أي على شكل دفعات.

5- سيرة الائمة الاثني عشر 1/ 275.

6- السيوطي الاتقان في علوم القرآن 1/ 205.

وهناك قرآن بخط الإمام علي (عليه السلام) موجود حالياً في الخزانة الملحقة بالروضة العلوية المباركة وهو غير القرآن الذي جمعه في عهد الخليفة الأول لأن الإمام كتبه في عام 40 للهجرة.

7- تأريخ اليعقوبي 2/ 135.

8- الأمين أعيان الشيعة 1/ 93.

9- الأمين أعيان الشيعة 1/ 93.

10- تاريخ اليعقوبي 2/ 103.

11- تاريخ الطبري 3/ 208.

12- ابن عبد ربه العقد الفريد 3/ 63.

13- ابن قتيبة الامامة والسياسة ص12.

14- ابن قتيبة الامامة والسياسة ص12.