mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 05.doc

خامساً: بناء الخط الرسالي

كانت الجماعة الإسلامية تزداد عدداً وتتوسع معها المهام فتتراكم المسؤوليات على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يتحمل أعباء المسؤولية الأولى في الأمة الإسلامية. ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أعدّ لكل شيء عدته فهو الذي أعدّ علي بن أبي طالب(عليه السلام) لمثل هذه المهمة، فقد أوكل إلى الإمام مهمة تربية العناصر الجديدة التي تنتمي للتجمع الإسلامي. فعندما أسلم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب سلمه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي بن ابي طالب قائلاً له. علّم ابن عمك الوضوء والسنة ورح به إليّ.

فقد اطمأن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكفاءة علي بن أبي طالب في مجال تربية العناصر التي سيعتمد عليها الكيان الإسلامي والتي ستتحمل مسؤولية الحفاظ على المعطيات الإسلامية. فكان من أولى المهام التي قام بها علي بن أبي طالب هو تجميع العناصر الجيدة من المسلمين في خط رسالي أخذ ينمو مع الأحداث ومع الأخطار، ومن التيارات الفكريه ومن انحراف الحكام؟ كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مشغولا في توسيع القاعدة، وفي إرسال الرسل والكتب لجذب أعداد جديدة إلى الدين الإسلامي وكان علي مشغولاهو الآخر في جذب العناصر المنتقاة ورعايتها وتربيتها على مبادئ الإسلام لتصبح عناصر إسلامية خالصة.

كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مشغولاً في توسيع الرقعة طولياً وكان علي مشغولاً في تعميق الرقعة عرضاً فكانت مهمة علي تكملة لمهمة النبي إذ لم يكن مجرد اعلان الإسلام وإقامة الشعائر والعبادات بكاف لبناء التجمع الرسالي الذي يفترض به أن يقوم على العقيدة الخالصة وعلى نكران الذات وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

ولطالما اهتم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخط الذي أخذ ينمو على يد علي(عليه السلام) لأنه الخط المكمّل لخط النبوة ولأنه الضمانة لاستمرار الرسالة الإسلامية فوجود أفراد من أمثال سلمان والمقداد وأبي ذر وعمار وحذيفة اليماني وغيرهم في هذا الخط يبعث الإطمئنان على استمرارية هذا الدين واستمرارية المبادئ والقيم الإسلامية.

وجاهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل دعم وتقوية هذا الخط الرسالي، كان يرفده بالعناصر الجيدة التي كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يرتقب على يدها الخير، أو بإشاعة جو من الثقة بين المسلمين بهذا الخط.

فقد ذكر ابو مردويه في كتاب المناقب باسناده إلى عبد الله بن الصامت عن ابي ذر قال:

- دخلنا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت من أحب اصحابك عليك فإن كان أمر كنا معه وإن كانت نائبة من دونه قال هذا عليٌ أقدمكم سلماً وإسلاماً(1).

والظاهر من الخبر إن أباذر لم يكن وحده عندما سأل رسول الله بل كان معه جمع من الصحابة فهم عبد الله بن الصامت ويبدو إن أباذر كان يريد اسماع الآخرين الذي حضروا الإجتماع بهذه الحقيقة وإلا فهو يعرف حقيقة العلاقة القائمة بين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام) ويفهم أيضاً من صيغة السؤال أن عناصر الإمام علي (عليه السلام) كأبي ذر وغيره كانوا يتحركون بين المسلمين في تدعيم خط الإمام فقد تركز سؤال أبي ذر على ثلاث قضايا مهمة الأولى طبيعة العلاقة بين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام)، وإذا وقع الإختلاف مع من يكونوا، وإذا وقعت الكارثة فبأي  شيء يلوذون.

وكلها قضايا كان يتوقع وقوعها أفراد خط الإمام. وكان من فرط ذوبان أبي ذر في هذه الحقيقة إنه كان يصرح بها في كل مناسبة. فقد تعلق بحلقة باب الكعبة يوماً من الأيام كما يذكر حذيفة بن أسيد وكان حاضراً جمع غفير من الصحابة عندما صاح أبو ذر بأعلى صوته.

أنا جندب لمن عرفني وأنا أبوذر لمن لم يعرفني إني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول من قاتلني في الأولى والثانية فهو في الثالثة من شيعة الدجال، إنما مثل أهل بيتي في هذه الأمة مثل سفينة نوح في لجة البحر من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق إلا هل بلغت(2).

ويبدو أن الجمع كان غفيراً بحيث إن أباذر تفوّه أولاً بإسمه الحقيقي قبل الإسلام قبل كنيته فقد جاؤوا من كل أطراف الجزيرة العربية فأراد أبوذر أن يستثمر الموقف ليروج عن خط الإمام علي (عليه السلام) كما كان في البداية يروج للإسلام بهذا الاسلوب وحتى آخر لحظة من حياته كان أبو ذر داعية لخط الإمام فما فتأ وهو يعلن عن حبه لعلي(عليه السلام) وفضله وماضيه المشرق.

يقول أبو سُخيلة: قال حججت أنا وسلمان بن ربيعة فمررنا بالربذة قال فأتيت أباذر مسلماً عليه فقال إن كانت بعدي فتنة وهي كائنة فعليكم بكتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب(عليه السلام) فإني سمعت رسول الله وهو يقول علي أو من آمن بي وصدقني وهو أول من يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر، وهو الفاروق بعدي يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب الدين والمال يعسوب الظلمة(3).

أما سلمان (الفارسي) فكان مشمولاً برعاية خاصة من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الإستيعاب عن السيدة عائشة أنها قالت كان لسلمان مجلس من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولو كانت صاحبة الرواية غير عائشة لقلنا فيها شيء من الغلو ولكن عندما تكون زوجة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، هي الناقلة لهذه القضية فما لنا سوى التسليم بها لانها أدرى بخصوصيات الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم). ويبدو أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يلتقي بسلمان في بيته وليس في الأماكن العامة المخصصة للقاءات الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي ذر، إذ هو الموجب الذي يدفع بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لإستقبال أبي ذر في بيته الخاص وفي وقت متأخر من الليل وقد يطول الإجتماع حسب ما يفهم من حديث السيدة عائشة. ويبدو أن اللقاء كان يتكرر لأنه حسب تعبير السيدة عائشة كاد يغلبنا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فإن معنى ذلك أن هناك أموراً منتظمة كان يتم التداول فيها فما هي تلك الأمور يا ترى؟

سأل أبا جعفر الباقر(عليه السلام) أحد رواة أحاديثهم وهو الفضيل بن يسار.

تروي ما يروي الناس إن علي(عليه السلام) قال في سلمان أدرك علم الأول وعلم الآخر.

أجابه الفضيل: نعم

قال الباقر: فهل تدري ما عني.

أجاب فضيل: يعني علم بني اسرائيل وعلم النبي.

قال الباقر ليس هذا يعني! ولكن علم النبي وعلم علي وأمر النبي وأمر علي صلوات الله عليهما(4).

وهي بالطبع قضايا خاصة، لا يراد لها أن تعرف من قبل الآخرين وحتى لو كانوا مورد ثقة عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وما هي تلك القضايا الخاصة فهل كان للنبي أو لعلي قضايا شخصية تستحق هذا الإهتمام؟ أم إنها قضايا خاصة تتعلق بالكيان الإسلامي واستمرار هذا الكيان في الوجود.

وأما علاقة سلمان بعلي(عليه السلام) فالذي شيدها هو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

فيوماً رأى سلمان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يضرب فخذ ابن عمه وهو يقول:

محبك لي محبٌ مبغضك ليس مبغض ومبغضي لله مبغض.

وفي مرة من المرات سمع سلمان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي وهو يكنيه بإسم ولده الحسن يا أبا الحسن مثلك في أمتي مثل قل هو الله أحد فمن قرأها مرة فقد قرأ ثلث القرآن مرتين فقد قرأ ثلثي القرآن ومن قرأها ثلاث مرات فقد ختم القرآن.

فمن أحبك بلسانه فقد كمل ثلث إيمانه ومن أحبك بلسانه وقلبه فقد كمل له ثلث الإيمان ومن أحبك بلسانه وقلبه ونصرك بيده فقد استكمل الإيمان والذي بعثني بالحق نبياً يا علي لو أحبك أهل الأرض كمحبة أهل السماء لك لما عذب الله أحداً بالنار(5)

فازداد التصاق سلمان بعلي (عليه السلام) وهو يسمع هذه المقولات من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ يتبعه كظله متقمصاً شخصيته فقد كان علي مثله الأعلى في الحياة كان عطاؤه من بيت المال خمسة آلاف وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين وكان يحطب في عبائة يفترش نصفها ويلبس نصفها فإذا خرج عطاؤه تصدق به.

وقيل ولم يكن له بيت يظله إنما كان يدور مع الظل حيث دار.

ولم يكن له بيت إنما كان يستظل بالجدار والشجر وإن رجلاً قال له ألا ابني لك بيتاً تسكن فيه قال لا حاجة في ذلك فما زال به الرجل حتى قال له أنا أعرف البيت الذي يوافقك. قال فصفه لي قال ابني لك بيتاً إذا أنت كنت فيه اصاب رأسك سقفه وإن أنت مددت فيه رجليك اصابها الجدار فقال نعم فبنى له.

وكان سلمان يسف الخوص وهو أمير على المدائن ويبيعه ويأكل منه ويقول لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي وقد كان تعلّم سف الخوص من المدينة وكان يأكل من عمل يده ويطحن مع الخادمة ويعجن عنها إذا أرسلها في حاجة. ويقول لا تجمع عليها عملين وكان يعمل من الخوص قفافاً فيبيع ذلك بثلاثة دراهم فيرد درهماً من الخوص وينفق على عياله درهماً ويتصدق بدرهم كان لا يأكل من صدقات الناس ويقول إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال سلمان منا أهل البيت وكان غالب الناس ممن لا يعرفه يسخرونه في حمل أمتعتهم من السوق لرثاثة ثيابه فربما عرفوه فيعتذرون إليه ويقولون نحمل عنك فيقول لا حتى أصل إلى المنزل(6).

لم يترك النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فرصة إلا وأعلن عن تأييده واسناده للإمام علي (عليه السلام) فقد روى إبراهيم بن ديزيل الهمداني في كتاب صفين بإسناده عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبي سعيد الخدري قال كنا مع رسول الله فانقطع شسع نعله فالقاه إلى علي(عليه السلام) يصلحها ثم قال إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال :لا فقال عمر بن الخطاب: أنا هو يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: لا ولكنه ذا خاصف النعل ويد علي(عليه السلام) على نعل رسول الله يصلحه قال أبو سعيد: فأتيت علياً(عليه السلام) فبشرته بذلك فلم يحفل به كأنه شيء كان قد علمه من قبل(7).

أما عمار بن ياسر فقد اجتمع به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً من الأيام على رواية أبي أيوب الأنصاري فقال له يا عمار إنه سيكون بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم وحتى يقتل بعضهم بعضاً وحتى يبرأ بعضهم من بعض فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني على بن أبي طالب. فإن سلك الناس وادياً وسلك على وادياً فاسلك وادي علي وخلّ عن الناس(8).

ويحتمل إن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بين هذا الأمر لعمار وهو جالس بين جميع من الصحابة أحدهم ناقل الخبر وهو أبو أيوب الأنصاري.

وظلت عبارة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عالقة في ذاكرة عمار فبعد وفاة النبي حدث ما حدث من تغير وتبدل في مواقف الصحابة إلا أن عمار ظل على مواقفه الثابتة من علي بن أبي طالب حتى في فترة الصراع المريرة التي خاضها مع من يعتقد البعض بهم صحابة وأئمة فلم يشك عمار لحظة أن علي على حق حتى كان يقول: والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا إنا على حق وإنهم على باطل(9).

وكان البعض يشهدون على أحقية علي في ذلك الصراع من خلال موقف عمار حيث نزهه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً له تقتلك الفئة الباغية.

ولم يفتر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لحظة في تقوية أواصر المودة بين علي وأفراد التجمع الرسالي الذي سيكون عليهم الأمل في مستقبل الإسلام.

قال انس بن مالك، قال بعثني النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي برزة الأسلمي فقال له وأنا أسمع يا أبا برزة إن رب العالمين عهد إليّ عهداً في علي بن أبي طالب فقال إنه راية الهدى ومنار الإيمان وإمام أوليائي ونورجميع من أطاعني يا أبا برزة علي بن أبي طالب أميني غداً في القيامة وصاحب رايتي يوم القيامة على مفاتيح خزائن رحمة ربي(10).

ومع الزمن اتسعت دائرة هذا التجمع الرسالي وأخذت تضم عناصر جديدة دخلت الإسلام ولم يكن وجود هذا التجمع وجوداً سياسياً وحسب بل كان وجوداً فاعلاً على الساحة الإسلامية، التي كانت ساحة متحركة فتتراكم فيها بعض السلبيات فكان لابد من موقف إيجابي حتى تتواصل المسيرة، فلو استجمعنا الأحداث التاريخية لاستطعنا أن نرصد مهام التجمع الرسالي المتمحور حول علي ابن أبي طالب بهذه النقاط.

1- احتلال المواقع الهامة في الدولة الإسلامية الفتية، فقد كان هذا التجمع يرفد الدولة بالكوادر الذين يقع على عاتقهم مسؤولية ادارة البلاد فقد كان على رأس الجهاز الأمني للدولة الإسلامية حذيفة بن اليمان وهو أحد أفراد هذا التجمع، وعيّن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن سعيد أحد أفراد مدرسة علي(عليه السلام) عينه مرافقاً للوفود القادمة إلى المدينة لمقدرته الكبيرة على التحدث وجلب إنتباه السامعين إليه.

وكان يستعمل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عمار بن ياسر في مهام الإستطلاع العسكري.

كما أنه كان يستخدم أفراد هذا التجمع في مهمة جمع الصدقات، فبعث عدي ابن حاتم إلى طي وبني أسد وبعث مالك بن نويرة إلى بني حنظلة وإنه بعث بعلي بن أبي طالب إلى أهل نجران أما كتاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهم الذين يتوجب عملهم معرفة أسرار الدولة، فكان لابد من اختيارهم ممن يوثق بهم فكان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يتعين بأصحاب علي لشغل هذه الوظيفة، فكان كاتبه الرئيسي هو علي بن أبي طالب. وبالإضافة إلى علي كان أبي بن كعب وعبد الله بن الأرقم ممن يقوم بهذه المهمة. فمن المسلم به أن هذه الوظائف كانت تتضمن على أسرار الدولة وليس كل واحد هو يصلح لها فكان يختار لها أفراداً تشربوا الإيمان والإخلاص والتفاني في مدرسة علي (عليه السلام).

2- مواجهة حالات الضعف واسناد القيادة في المواقف الحرجة فقد دأب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على مشاورة أصحابه وكانوا في بعض الأحيان يشيرون عليه بخلاف ما يريده النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تهربا من المسؤولية وهنا كان أفراد هذا التجمع يتحركون في إضفاء جو من الإيجابية ويبطلون مفعول التيار المحافظ الذي كان يريد أن يسير بالمسلمين نحو اتخاذ مواقف تخاذلية.

ففي معركة بدر عندما استشار رسول الله اصحابه ظهر من بعض الصحابة أقوال تنم عن ضعف وتردد في خوض المعركة، فسارع المقداد بن عمرو وهو أحد أقطاب التيار الثوري الذي يقوده الإمام علي (عليه السلام) فتكلّم بعبارات غيرت الأجواء وشحنت النفوس.

قال المقداد: يا رسول الله امض لأمر الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لنبيها إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والذي بعثك بالحق لو سرت بها إلى برك العماد لسرنا معك.

ودفعت هذه المقالة الأنصار ليتخذوا الموقف الحازم وأن يعلنوا موقفهم في أول معركة يخوضونها ضد أهل مكة.

وفي معركة أُحد وعندما قام المنافق ابن أبي سلول بتثبيط ضعاف النفوس عن الجهاد قائلاً لهم ما ندري علام نقتل أنفسنا وأولادنا ها هنا أيها الناس.

سارع أحد أفراد الخط الرسالي وهو جابر بن عبد الله الأنصاري ليقف بوجه هذه الحركة المضادة لكنه لم يفلح في تغيير موقف المرتدين عن المعركة ومن المحتم لو لا موقف هذا التجمع لكان قد ازداد الإنهيار في الجيش الإسلامي.

وعندما كان المسلمون مشغولين في بناء المسجد النبوي انتحى أحد الصحابة جانباً ولم يشارك في البناء حتى لا يتعب نفسه ولا يلوث جسمه بالتراب وكان من الممكن أن يتأثر البعض من موقف هذا الصحابي إلا أن عمار بن ياسر احس بالأمر فأخذ يردّد هذا البيت وهو مشغول بالبناء:

لا يستوي من يعمّر المساجدا   يدأب فيها قائماً وقاعداً   ومن يرى عن الغبار حائداً

فقد واجه عمار بهذا البيت ظاهرة قد تستشري بين ضعفاء النفوس، إذ قد تدفع هذه الحالة إلى انكماش مشاركة البعض في النشاطات المشتركة التي كان يقوم بها المسلمون كالحفر والبناء والقتال.

لقد دأب أفراد التجمع الرسالي على رصد أية ظاهرة سلبية تبرز في الصف الإسلامي وبسرعة كانوا يواجهونها سواء كانت حركة فردية أو جماعية.

ولو لا هذا الموقف لكان من المحتمل أن تستشري الحالة السلبية في الجسد الإسلامي.

كان أفراد هذا التجمع يشكّلون طوقاً حول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أثناء المعارك فكانت من أولى مهامهم الحفاظ على حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من أي خطر قد يوجه إليه من الأعداء. ففي معركة أحد فر جميع المسلمين ألا أبو دجانة وسهل بن حنيف كانا قائمين على رأسه بيد كل واحد منهما سيف ليذب عنه(11).

وذكر الزمخشري أن عماراً كان بين يدي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يذب عنه والمقداد كان عن يمينه(صلى الله عليه وآله وسلم)(12).

أما علي بن أبي طالب فقد طارد المنهزمين من المعركة منادياً فيهم.

شاهت الوجوه وقُطّت و بُطّت ولُطّت إلى أين تفرون إلى النار؟ ويقول بايعتم ثم نكثتم فو الله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل(13).

وحدث ثانية في معركة حنين حيث انهزم جيش المسلمين ولم يبق مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلا عشرة نفر تسعة من بني هاشم والعاشر أيمن ابن أم أيمن وقتل أيمن وثبت التسعة(14) والتسعة هم علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب والفضل بن العباس وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب وهم بأجمعهم ما عدا عتبة ومعتب كانوا يرتبطون بالإمام علي (عليه السلام).

وهكذا في مواقف عديدة أخرى كان أفراد هذا التجمع هم الصف الأول المدافع عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الإسلام والمسلمين.

ومرة أخرى يقف عمار في يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرون أنا عمار بن ياسر هلموا إليّ وانا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشدّ القتال(15).

وكتب التاريخ تزخر بمواقف هذه الصفوة الطيبة من أبناء الإسلام الذين ضحوابكل شيء حتى ترتفع راية الإسلام.

كان لهذا التجمع دور أكبر في فترة الخلفاء نترك الحديث عنه في الفصل القادم بإذن الله تعالى.

 

آخر وصايا الرسول

لم تكن الحالة التي بلغها المسلمون بخافية على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد دخل الإسلام أفواج وأفواج من العرب سيما بعد فتح مكة، ولم تكن الفرصة سانحة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه لتربية كل تلك الجموع الغفيرة التربية الإسلامية الدقيقة، كما إن عدداً من شخصيات قريش دخلوا الإسلام عن رهبة وليس عن رغبة، إذ لم يكن أمامهم خيار آخر غير التسليم للأمر الواقع، كما وإن بعض العادات الجاهلية كانت بحاجة إلى مدد طويلة لزوالها لعمق تأصّلها في النفوس، منها عادة الانتقام والعصبية القبلبية.

لقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على علم تام بما سيؤل إليه وضع المسلمين من بعده لأنه كان يراقب العلل والأمراض التي أبتلي بها هذا المجتمع، وكان على يقين بأن أول ضربة من بعده ستوجه إلى الخط الرسالي الذي أرسى قواعده الإمام علي (عليه السلام) لأن وجود هذا الخط سيهدد مصالح الكثير ممن كانوا يريدون أن يستفيدوا من الإسلام وليس الإسلام يستفيد منهم.

فما كان منه إلا وأن يعلن موقفه من هذا الخط صراحة ويبين رأيه بأعداء هذا الخط بكل وضوح. فبعين واثقة من المستقبل كان يرى احتراب البعض لعلي ولخط علي. فهذا سعد بن عبادة يقول في ملأ من الناس فو الله لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول (إذا أنا مت تضل الأهواء ويرجع الناس على أعقابهم، فالحق يومئذ مع علي عليه السلام).

فقالوا له: هل سمع هذا الخبر غيرك من رسول الله؟

فقال: معه ناس في قلوبهم أحقاد وضغائن(16).

وكان يكرر(صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: إن تستخلفوا علياً وما أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يحملكم على المحجة البيضاء(17).

وقد تقدّم فيما سبق وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه كلما مرّ بموقف فيه النيل من علي بن أبي طالب(عليه السلام).

فهذا بُريدة بن حُصيب ينقل لنا موقفاً يتطلب التأمل ويستحق التعمق..

يقول بُريدة:

فلما أتيت النبي دفعت الكتاب إليه فقرئ عليه فرأيت الغضب في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت يا رسول الله هذا مكان العائذ بك بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه فقد بلغت ما أرسلت به فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقع في علي(عليه السلام) فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي..

وفي رواية أخرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لبُريدة: إيه عنك يا بُريدة فقد أكثرت الوقوع في علي(عليه السلام) فوالله إنك لتقع برجل انه أولى الناس بكم بعدي(18).

وظلت هذه الكلمات ترن في ذاكرة بريدة الأسلمي فكان بعد ذلك من الصق الصحابة بعلي بن أبي طالب.

وعن ابن عباس لما اشتد برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعه فقال ائتوني باللوح والدواة –أو بالكتف والدواة- أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده قال: فقالوا: إن رسول الله يهجر(19)

ثم ذكر ابن عباس أن عليّ بن أبي طالب خرج من عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس يا أبا حسن كيف اصبح رسول الله؟

قال أصبح بحمد الله بارئاً فأخذ بيده عباس بن عبد الملطلب فقال: ألا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا؟ وإني أرى رسول الله سيتوفى في وجعه هذا. وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت فاذهب إلى رسول الله فاسأله فيمن يكون هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا قال علي والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها الناس أبداً والله لا اسألها رسول الله أبداً(20).

 

 

الهوامش:

1- طبقات الشعية ص238.

2- الشيرازي علي خان طبقات الشيعة239.

3- نفس المصدر السابق ونفس الصفحة.

4- الشيرازي علي خان طبقات الشيعة ص209.

5- علي خان  طبقات الشيعة 213.

6- علي خان  طبقات الشيعة 215- 216.

7- طبقات الشيعة 398.

8- الطبرسي مجمع البيان 3/ 534.

9- طبقات الشيعة 271.

10- حلية الأولياء 1/ 68.

11- المفيد الارشاد 1/ 74.

12- الزمخشري ربيع الأبرار 1/ 833- 834.

13- المجلسي بحار الأنوار 20/ 53.

14- المفيد الارشاد 1/ 126.

15- ابن سعد الطبقات الكبرى3/ 254.

16- علي خان طبقات الشيعة ص36.

17- حلية الأولياء 1/ 64.

18- طبقات الشيعة ص 401.

19- الطبري 3/ 193.

20- الطبري 3/ 194 الرواية لم يذكرها الشيعة في كتبهم فلعلعهم يضعفونها.