mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 46.doc

المطلب الرابع: استقصاء الأخبار.

الحصول على الأخبار قضية ضرورية لا غنى عنها في جميع الثورات والتحركات لأن الخبر الواحد قد يتسبب في تغيير الخطط، وقد يؤدي عدم وصول خبر واحد إلى هزيمة جيش بأكمله من هنا؛ كان الإمام الحسين (عليه السلام) حساساً شديد الحساسية إزاء الأخبار، فقد وضع خطة خبرية لكسب الأخبار من ناحية، ومن ناحية أخرى وضع خطة لتغطية أخبار الثورة وتسجيل الأحداث بكل تفاصيلها.

 

أولا: خطة الحصول على الأخبار.

وضع الإمام (عليه السلام) عيناً يوصل إليه الأخبار أولاً بأول في أهم موقع هو المدينة المنورة، والشخص الذي اختاره لهذه المهمة هو أخيه محمد بن الحنفية.

فعندما أراد الإمام (عليه السلام) الخروج من مكة التقى أخيه محمد بن الحنفية وطلب منه، أمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عيناً لا تخفي عني شيئاً من أمورهم(1).

فقد طلب منه العودة إلى المدينة، ومراقبة أوضاعها وإبلاغه بكل التطورات التي تجري في هذه المدينة.

فالمدينة مركز العالم الإسلامي، فكان لا بدّ من الإحاطة بما يجري فيها، أما المكان الآخر الذي كان يهتم به الإمام بأخباره فهو الكوفة، وكان يحصل على أخبار الكوفة عبر الرسل الذين كان يبعثهم ثم ينتظر أخبارهم، وما ينقلونه من صور وتطورات.

 

ثانياً: التغطية الخبرية للثورة.

لم يُغطى حدث في التاريخ الإسلامي كما جرى لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) حيث استطاع المؤرخون أن يذهبوا في تفاصيل أحداث الثورة بشكل لم يوصف من حيث الشمول والدقة قياساً بالأحداث التاريخية الأخرى، كل ذلك بفضل رواة الخبر من الطرفين، إذ كان مع الإمام الحسين من يُسجل الأحداث واحدة بعد أخرى، كذلك كان في جيش عمر بن سعد من يُسجّل لهم هذه الأحداث.

وبملاحظة دقيقة للأخبار المروية من جانب معسكر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، نجد أنّ ثلاثة ممن كانوا مع الإمام رووا الكثير من الأحداث الواقعة وهؤلاء الثلاثة هم؛ الإمام زين العابدين (عليه السلام)، عقبة بن سمعان، الضحاك بن عبد الله المشرقي.

فقد كان الإمام زين العابدين الشاهد القريب لجميع الأحداث والتطورات منذ لحظة خروج الإمام من المدينة حتى شهادته.

أمّا عقبة بن سمعان،فهو مولى للرباب بنت امرئ القيس زوجة الإمام الحسين (عليه السلام) وكان يسجل الأحداث بدقة متناهية، وبفضله استطاع المؤرخون أن يحصلوا على أدق وأصح الأخبار عن واقعة الطف.

وقد تحدث عقبة بن سمعان عن عمله في ركب الإمام الحسين (عليه السلام) قائلاً: صحبت حسيناً فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق ولم أفارقه حتى قُتل وليّس من مخاطبتة الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلاّ وقد سمعتها(2).

وهذا وصف دقيق لوظيفة الصحافي الذي يرافق المسؤولين، ويسجل كل ما يشاهده ويسمعه ويبدو من الشواهد والقرائن إنّ اختصاص عقبة بن سمعان بهذه الوظيفة جاء ضمن الخطة الإعلامية التي وضعها الإمام الحسين (عليه السلام) للتغطية على أخبار ثورته. فذكر عقبة بن سمعان تفاصيل دقيقة لخطبه ولقاءاته في الطريق، وحتى نقل لنا أحداث وقعت في آخر الليل(3).

ونرى شدة حرصه على عمله كصحافي صادق في نقل الأخبار أنه يعترض أشد الإعتراض على القائلين بأن الإمام (عليه السلام)، أراد أن يهادن الحكم الأموي(4).

أمّا الشخصية الثالثة فهي الضحاك بن عبد الله المشرقي، وقد التحق بالإمام في الطريق وحدد لنفسه وظيفة جمع الأخبار، فقد روى عنه الطبري: "قدمت ومالك بن النضر الأرحبي على الحسين فسلمنا عليه ثم جلست إليه فردّ علينا ورحبّ بنا وسألنا عمّا جئنا له فقلنا لنسلم عليك وندعو الله لك بالعافية ونحدث بك عهداً ونخبرك خبر الناس(5).

ولم يكتفِ المشرقي بجمع الأخبار ونقلها إلى الإمام الحسين (عليه السلام) بل قام بتغطية أحداث الثورة لحظة بلحظة، وقد أنهى مهمته مع آخر رجلين كانا مع الإمام الحسين (عليه السلام) وهما سويد بن عمرو بن أبي المطاع وبشير بن عمرو الحضرمي فأراد من الإمام إعفائه من الاستمرار حيث كان يرى نفسه معنياً بالأخبار أكثر من شيء آخر، فأذن له الإمام بالانصراف بعد أن ظلّ وحيداً في الميدان إلاّ أنّ المشرقي أبى أن يترك الميدان دون أن يشهر سيفه ضد الأعداء فقتل رجلين وقطع يد آخر ثم خرج من المعركة، أمّا لماذا خرج من المعركة وترك نصرة الإمام؟ هل من أجل أن يروي للتاريخ أحداث الثورة؟.

أم لشيءٍ آخر؟ هذا ما لا نعرفه حتى الآن؟ لكننا مدينين للمشرقي الذي نقل لنا عدداً لا بأس به من أحداث الثورة.

 

المبحث الثالث: الخطط العسكرية.

 

لم تظهر عبقرية الإمام الحسين (عليه السلام) في التعبئة الشعبية، وخلق الاستعداد للثورة لدى أصحابه وحسب، بل ظهرت أيضاً في الخطط والبرامج التي وضعها للوصول إلى أفضل النتائج ومنها الخطط العسكرية التي وضعها والتي تكشفت هي الأخرى عن عبقرية عسكرية موازية للعبقريات الأخرى.

 

المطلب الأول: الخطة العسكرية الأولى.

كانت خطة الإمام (عليه السلام) عندما أراد التقدم نحو الكوفة، إلحاق البصرة بالكوفة، إذ بعث برسائل إلى رجالات وشخصيات البصرة مطالباً إياهم بتأييده، وقد شكّل الشيعة هناك مجلساً ثورياً وكانوا يجتمعون في بيت امرأة من سبي عبد القيس يُقال لها ماربة ابنة سعد أو منقذ(6).

واستمدت هذه الخطة من خلال تجربة تاريخية، فقد كانت وشائج البصرة متداخلة مع وشائج الكوفة بحيث لا يمكن الفصل بينهما في أي خطوة إصلاحية، فأي عمل عسكري في الكوفة سيواجه بالفشل إذا كان بمعزل عن تحرير البصرة أو العكس، وهذا التاريخ شاهد ينبض بالعبر في هذا المجال، فأصحاب الجمل فشلوا في الإبقاء على البصرة عندما كانت الكوفة خارجة عن أيديهم، فتحرير أحد البلدين لوحده يجعله مفتوحاً عسكرياً أمام الهجمات المحتملة من البلد الآخر، فكان لا بدّ من السيطرة على البلد الآخر أو على الأقل تحييده عسكرياً، فالطرق كلٌ واحد، فإذا ثار فلا بدّ أن يثور بكامله، إذ لا نتيجة حاسمة من قيام الثورة في بلد دون آخر، إذ من السهل إسقاطه بواسطة البلد الآخر. وهذه الحقيقة كانت ماثلة أمام الإمام الحسين (عليه السلام) يوم أقدم على الإرتباط بأهل البصرة بموازاة ارتباطه بأهل الكوفة.

 

المطلب الثاني: الخطة العسكرية الثانية.

بعد أن تأكد الإمام أنّ المواجهة العسكرية حتمية بينه وبين الجيش  المعادي أخذ يبحث عن المكان المناسب ليقيم عليه معسكره، لكن كانت هذه الرغبة تصطدم مع قرار حر بن يزيد الرياحي الذي وصلته للتو رسالة من عبيد الله بن زياد جاء فيها: "أمّا بعدُ: فجعجع بالحسين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفادك أمري والسلام(7).

وكان معنياً بتنفيذ أوامر عبيد الله بن زياد بكل حذافيره، وقد عقد الإمام اجتماعاً مع أصحابه فكان رأيهم عدم الاعتناء بالأوامر القادمة من الكوفة، ومواجهة قدرهم بقتال هؤلاء الأعداء، لكن الإمام رفض مقترح القتال قائلاً: "ما كُنت لأبدأهم بقتال". عندها لم يكن أمامه خيارٌ آخر سوى اختيار مكان يتصف بأمرين، يكون حصيناً أولاً: وعلى شاطئ الفرات ثانياً، وهذا ما جاء في مقترح زهير بن القين، "سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فإنها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم".

فسأل الإمام عن اسم تلك الأرض؟ فقالوا له: أنها تسمى العفر، فتشأم منها وأخذ يقول: اللهم إني أعوذ بك من العفر؟، وكان الإمام يعرف بأن التوجه إلى هذه المنطقة بمثابة إعلان الحرب، وهذا ما لا يريده الإمام الذي كان يحمل رسالة سلمية ويتجنب الحرب مهما كلّفه ذلك من ثمن.

وأمام إصرار الحر بن يزيد الرياحي بالنزول في المكان الذي وصله كتاب عبيد الله زياد، اضطر الإمام إلى النزول في ذلك المكان لأن رفضه كان يعني الحرب التي لا يريدها، فالتفت إلى أصحابه قائلاً لهم: "ما اسم هذا المكان، كربلاء".

فتذكر الإمام اسم هذه المدينة، فدمعت عيناه قائلاً: "اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء"، وأخذ يتحدث لأصحابه قصة هذه الأرض كما أورده الدميري: "لقد مرّ أبي  بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه فوقف وسأل عنه فأخبروه باسمه، فقال: ها هنا محط رحالهم وها هنا مهراق دمائهم فسئل عن ذلك؟ فقال: نفرٌ من آل محمد ينزلون ها هنا، ثم أمر بأثقاله فحطت في ذلك المكان(8).

فأخذ الإمام يجول في المنطقة فأختار موضع معسكره في المكان الذي لا زال يؤشر إليه بالمبنى المتواضع المسمى "خيمكاه".

وقد اختار الإمام مكاناً لعسكره، بالمواصفات التالية:

1- اختار أعلى مكان في المنطقة، حيث كانت مجموعة من التلال تمتد من نقطة في الناحية الشرقية الشمالية من كربلاء، وهي باب السدرة الحالية، وتواصل التلال امتدادها نحو  الشمال والغرب وحتى الجنوب الغربي مشكلة هلالاً، وفي وسط هذه التلال هناك تلة مستطيلة مستوية اختارها الإمام معسكراً له، يقول عن ذلك السيد هبة الدين الشهرستاني: وكان لهذا الحائر وهذه فسيحة محدودة سلسلة تلال وربوان تبدأ من الشمال الشرقي متصلة بموضع باب  السدرة في الشمال وهكذا إلى موضع الباب القبلي في جهة الجنوب، وكانت هذه التلال المتقاربة تشكل للناظرين نصف دائرة مدخلها الجبهة الشرقية حيث يتوجه منها الزائر إلى مثوى سيدنا العباس بن علي (عليه السلام) آثار ارتفاعها القديم في أراضي جهات الشمال والغرب ولا يجدون في الجهة الشرقية سوى تربة رخوة واطئة، الأمر الذي يرشدنا إلى وضعية هذه البقعة، وأنها كانت في عصرها القديم واطئة من جهة الشرق ورابية من جهتي الشمال والغرب على شكل هلالي، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ابن الزهراء (عليه السلام) في حربه حين قتُل(9).

2- اختار مكان مخيم  النساء في الوسط، ثم أحاط بخيمهنّ خيم الأصحاب، وخيم أهل البيت(10)، وجعل هذه الخيم متداخلة حتى لا يمكن النفوذ إليها.

3- أمر الإمام أصحابه ليلة العاشر من محرم بحفر خندق حول المخيم، مستعيناً أيضاً بطبيعة الأرض التي كانت على شكل روابي تتخللها الحفر من كل جانب وقد وضعوا في الحفر الحطب والقصب، وأشعلوها يوم العاشر من محرم حتى لا يستطيع العدو أن يأتيهم من الخلف.

4- وكان معسكرهم لا يبعد عن شاطئ الفرات بأكثر من خمسمائة متر وهي مسافة لا أهمية لها للفارس الذي يريد الوصول إلى المكان (أنظر الصورة التخطيطية صفحة 365) والسؤال الذي يبدو واقعياً، لماذا لم يختر الإمام موقعاً على النهر ويبني معسكره على ذلك الموقع في الإجابة نقول:

 

1- منطقة شاطئ الفرات المسمى فيما بعد بالعلقمي، منطقة مكشوفة يمكن محاصرتها بسهولة، ولما كانت المنطقة فيها النخيل والأشجار فلا تصلح كمعسكر إذ يمكن تعريضها للنيران بسهولة حتى من مكان بعيد، إذ بمعنى آخر يمكن القضاء على معسكر الإمام بالنيران فقط ودون أي قتال، أو على الأقل يمكن تشتيت قوته بفعل هجوم أو بفعل النيران.

2- يرى البعض؛ لو كان الإمام قد اختار معسكره في المكان المناسب الذي اختاره ثم وضع قوة على النهر، أي أن يكون للإمام معسكران أحدهما في المرتفع المذكور والآخر على شاطئ النهر.

في الجواب نقول: أنّ القوة التي كانت مع الإمام لم تكن كافية لإيجاد معسكرين في العدد متلاحمة في مكان واحد، لأن وجودهما في نقطة واحدة يجعلها قوة مشتتة وهذا ما كان يخشاه الإمام كثيراً وكان يعمل على تجنبه عند وقوع الهجوم من قبل العدو، حيث كانت قوته محدودة في وسط بحر متلاطم من الأعداء فكان يخشى لهذه القوة أن تتبعثر وتتشتت مما يفقدها تمركزها القتالي.

من هنا نجد أنّ الإمام (عليه السلام) كان قد رتب أصحابه يوم عاشوراء على أعلى درجات التنظيم من أجل أن لا تتشتت هذه القوة أثناء الهجوم.

وهذا ما نلاحظه في موضع المعسكر الذي بناه، فقد جاء معسكره على شكل هلال حتى تتم  المواجهة مع العدو في أصغر نقطة ممكنة، لأن زيادة طول جبهة القتال ليس في صالح المعسكر الذي لا يملك إلاّ أعدداً محدودة من المقاتلين، وقد نوّه الطبري إلى ذلك قائلاً: وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلاّ من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها في بعض، فلما رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالاً يقوضونها على إيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم، فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون  البيوت فيشدون على الرجل وهو يقوّض وينصب فيقتلونه ويرمونه من قريب(11).

3- وقد طرحت السؤال المتقدم على الأستاذ عبد الحسين الصالحي فأجابني: بأن الإمام جعل نهر الفرات منطقة حيادية بينه وبين العدو، وقد ظلّ الوضع هكذا حتى يوم السابع من محرّم عندما جاءت الأوامر من عبيد الله بن زياد بقطع الماء عن الإمام الحسين (عليه السلام)، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكننا القول أنّ المفترض بجيش الكوفة أن لا يرتكب هذه الجريمة الفضيعة لعدة أسباب هي:

أ- إرواء الإمام الحسين لجيش حر بن يزيد الرياحي عندما وصل إلى ذي الحُسم، وهو يكاد أن يهلك من الظمأ فمن المفترض من أن لا ينسى هذا الجيش هذه المأثرة وأن يردوا جميل الإمام الحسين (عليه السلام) بأقل ما يمكن وهو السماح له بأخذ الماء من الفرات.

ب- كان العرب يستهجنون قطع الماء، ويعدون مثل هذا العمل منافياً للشهامة والرجولة فالشجاع الذي يقابل أقرانه بحد السيف لا يتوسل بهذه الوسائل الدنيئة، وأول من ارتكب هذه الجريمة في الإسلام هو معاوية بن أبي سفيان، وعندما نقرأ رسالة عبيد الله بن زياد نجد أنّ مثل هذا العمل خارج عن العُرف القتالي وهو مستهجن.

ج- إنّ إغلاق الفرات ومنع الإمام وأصحابه من الوصول إلى شواطئه بحاجة إلى قوة عسكرية كبيرة جداً، ولم تكن القوة التي جاءت مع الإمام الحسين بقيادة الحر بن يزيد الرياحي التي بلغت الألف، ولا حتى الحصار الكامل على الماء ولم يكن المتوقع من عبيد الله بن زياد أن يبعث لقتال الإمام الحسين إلاّ قوة تناسب العدد الموجود في معسكر الإمام، لكن أن يصل تعداد هذه القوة إلى ثمانين ألف على رأي أبي مخنف(12)، أو ثلاثين ألفاً على رأي ابن عنبة(13)،

وخمس وثلاثين ألف على رأي أبن شهر آشوب(14)، فهذا أمر غير قابل للتصور، فلقد أعد ابن زياد قوة كانت كافية لفتح دولة بأكملها وليّس لمواجهة جيش لا يزيد قوامه على مائة وعشرين نفراً في أحسن الفروض.

من هنا نعرف أنّ القوة الإضافية التي أرسلت من الكوفة كانت للسيطرة على شاطئ الفرات أولاً وللسيطرة على الطرق الموصلة إلى كربلاء لمنع وصول أيّة إمدادات إلى الإمام الحسين (عليه السلام).

من هنا فإن إرسال قوة من ثمانين ألف لمواجهة مجموعة لا يزيد عددها عن مائة وعشرين هو خلاف كل القواعد العسكرية، فالمستقرئ للوضع العسكري كان يرى أنّ عبيد الله بن زياد سوف يكتفي بقوة لا تزيد في أكثر الفروض عن أربعة آلاف نسمة، وفي هذه الحالة لا يمكن لهذه القوة من فرض سيطرتها بصورة تامة على ماء الفرات بالإضافة إلى قيامها بأدوارها العسكرية الأخرى.

 

المطلب الثالث: فنون قتالية.

لم تخلُ واقعة الطف من فنون قتالية التي يمكن أن تسميها بـ "التكتيك القتالي" منها :

 

1- كتيبة الفرسان:

وكانت هذه الكتيبة تتكون من اثنين وثلاثين فارساً، وكان لهذه الكتيبة دور مهم في تمزيق صفوف العدو، إذ كانت هي القوة الهجومية الضاربة في معسكر الإمام والتي كانت تهاجم العدو وتبعث الرعب والفزع في قلبه، وقد وصف لنا الطبري هذه القوة والدور البارز الذي قامت به، وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم اثنان وثلاثون فارساً وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلاّ كشفته فلما رأى ذلك عزرة بن قيس، وهو على خيل أهل الكوفة أنّ خيله تنكشف من كل جانب بعث إلى عمر بن سعد بن عبد الرحمن بن حصن فقال: أما ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة إبعث إليهم الرجال والرماة(15).

 

2- فنون دفاعية:

شنّت القوات المعادية عدة هجمات فاشلة على معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)، وفي كل هجوم كانت تتكبد خسائر كبيرة، وذلك لحسن التكتيكات الدفاعية التي كان يستخدمها الإمام في الدفاع عن معسكره.

فلنتصور هجوم واحد من جيش العدو، لنتصور هذا العدد الكبير من الجنود المدججين بالسلاح يهاجمون فريقاً صغيراً، فماذا كان يجب على هذا الفريق علمه لمواجهة هذا الهجوم؟.

يقول ابن الأثير: "زحف عمرو بن سعد بن الحجاج في ميمنة عمر، فلما دنا من الحسين جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم، رجلاً وجرحوا آخرين(16).

والتفسير الذي أراه لرجوع الخيل أنّ الشمس كانت في جهة معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)؛ وعند بدأ الهجوم تقدم أصحاب الرماح في الصف الأول ووضعوا رماحهم في عين الشمس، فأخذت أشعتها تنعكس في عيون الخيول المهاجمة فكانت تصاب بالخوف والهلع فتضطر للرجوع من حيث أتت، بعد ذلك كان يأتي دور الرماة الذين كانوا يشكلون الصف الثاني من خطوط الدفاع، فكانوا يرمون الجيش المهاجم المضطر للرجوع على أعقابه، وبهذه الطريقة استطاعوا أن يصدوا الهجوم وتمكنوا أيضاً من قتل أعداد كبيرة من المعسكر المعادي.

 

3- المبارزة الفردية:

كان من مصلحة الإمام الحسين (عليه السلام) تطويل المعركة إلى أطول مدة ممكنة، لأن الزمن كان يسير لصالح الإمام، فكلما مرّت فترة كان الشقاق والتمزيق ينخر في جيش عمر بن سعد، وكان عدد التائبين يزداد وعدد الملتحقين بمعسكر الإمام يكثر أيضاً، وكان ذلك واضحاً في إحساس قادة الجيش الأموي الذين كانوا يريدون الإسراع في الأمر، لأن التباطؤ يعني في مفهومهم زيادة  في التمزق، وبالتالي قوة للمعسكر الآخر.

ومن الأساليب التي ابتكرها الإمام في تطويل أمد الحرب هو دعوة أصحابه بأن يبارزوا العدو فرداً أو مثنى، فكان الواحد والاثنان والثلاثة يخرجون للقتال مكبدين أعدائهم بأشد الخسائر وأعظم الهزائم حتى ضجّ الأعداء من عدد القتلى، فارتفع صوت عمرو بن الحجاج وهو يصرخ بأصحابه: يا حمقى أتدرون من تقاتلون، فرسان المصر قوماً مستميتين لا يبرزنّ لهم منكم أحد(17)، فاضطر ابن سعد إلى الإذعان فأصدر أوامره إلى جميع قواته بترك المبارزة مع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)(18).

 

الهوامش:

1- المجلسي: مجار الأنوار، 44/329.

2- الطبري: 4/313.

3- أنظر الطبري: 4/308.

4- أنظر المصدر السابق: 4/313.

5- المصدر نفسه: 4/417.

6- المصدر نفسه: 4/263.

7- أنساب الأشراف: 1/240.

8- الدميري: الحيوان، 1/60.

9- الشهرستاني: النهضة الإسلامية، ص90.

10- حياة الإمام الحسين: ص92.

11- الطبري: 4/333.

12- راجع حياة الإمام الحسين: 3/120.

13- ابن عنبة: عمدة الطالب، ص181.

14- المناقب: 4/98.

15- الطبري: 4/332.

16- ابن الأثير: الكامل، 4/66.

17- الطبري: 4/331.

18- أنساب الأشراف: 1/1.