mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 45.doc

المطلب الثالث: وسائل الإعلام.

الإعلام السليم هو الذي يستخدم شتّى السبل للوصول إلى الغاية المقررة، ومن أهم الوسائل التي استخدمها الإمام الحسين في إعلامه:

1- الخطابة.

2- الدعاء.

3- الاتصال المباشر.

4- الشعر.

5-  التجسيد  الحي.

 

أولاً: الخطابة.

أثرى الإمام الحسين (عليه السلام) تاريخ الأدب العربي بأروع الخطب التي خطبها في كربلاء، وفي طريقه إلى كربلاء، وقد تناقلت الألسن تلك الخطب الرائعة التي اجتمع فيها الأدب الرفيع والعقيدة الراسخة وإبراز دور أهل البيت (عليهم السلام)، فكان الإمامً (عليه السلام) قد هيأ المكان المناسب للخاطبة، فقد اختار عندما وصل إلى كربلاء أعلى مكان ليكون مقراً له ولأصحابه، وكان يمتطي الفرس أثناء الخطاب ليزداد علواً في أعين الناس.

يقول الطبري: "وكان مع الحسين فرس يدعى لاحق حمل عليه ابنه عليّ بن الحسين، قال فلما دنا منه القوم دعى براحلته فركبها ثم نادى بأعلى صوته بصوتٍ عالٍ دعاء يسمعه جلّ الناس(1).

فكيف يستطيع إنسان في ساحة الحرب أن يُسمع جلّ الناس إذا لم يكن في كلماته ما يلفت انتباههم، لمّا وقف جلّ المعسكر ليستمع إلى كلمات الإمام في تلك الساعات العصيبة وهكذا كان الإمام فعلاً. وجاءت خطبه متضمنة المحاورة التالية:

 

1- رفض التعلّق بالدنيا، وأنّ الدنيا لا تدوم لأحد.

ففي الخطاب: "الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال".

كان ذلك أول خطاب له في يوم عاشوراء، أمّا آخر خطاب له فقد تضمن أيضاً هذا المعنى "عباد الله، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر فإنّ الدنيا لو بقيت لأحد، وبقي عليها أحد لكان الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولى بالرضا، وأرضى بالقضاء، غير أنّ الله تعالى خلق الدنيا للبلاء، وخلق أهلها للفناء فجديدها، بالٍ ونعيمها مضمحل، وسرورها مكفهر والمنزل بلغة، والدار قلعة فتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلكم تفلحون(2).

 

2- التأكيد على قرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال لهم: "انسبوني فانظروا من أنا ثم راجعوا أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول مصدقٍ لرسول الله ثم يقول لهم: فإن كنتم في شك من هذا أفتشكون أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم".

وركزّ الأصحاب على هذه النقطة في خطبهم، منهم زهير بن القين: "فإن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذرّيته وعترته وبناته وحرمه، والتذكير بهذه النقطة هي لإثبات حقهم في الإمامة وأنّ يزيد وبني أمية هم غاصبون للخلافة".

 

3- التذكير بالكتب والرسائل التي بعثوها إليه:

خطب في جيش الحر بن يزيد الرياحي: "أيها الناس معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم.. إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت بها عليّ رسلكم أن أقدم علينا فإنه ليّس لنا إمام". وفي يوم عاشوراء صاح ببعض قادة الجيش: "يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحرث، ألم تكتبوا إليّ أن أقدم قد أينعت الثمار وأخّضر الجناب وإنما تقدم على جندٍ لك مجندة.

وخطب برير بن خضير فيهم مؤكداً لهم بأنهم بعثوا بالرسائل والكتب إلى الإمام: "ويلكم يا أهل الكوفة أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها، يا ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم.

 

4-  ذكر مآثرهم على أهل العراق:

فتأريخ أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليه السلام) تاريخ ناصع، فالإمام علي هو الذي اختار الكوفة عاصمة له، هو الذي رباهم على الكفاح وجعلهم في مواجهة معاوية ثم أصحاب الجمل الذين كانوا يريدون إذلالهم فأصبحت لهم كرامة وشخصية بفضل أبيه وأخيه، وجاء في خطبة له (عليه السلام): "تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفاً في إيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن.. ثم ذكرهم الإمام بفضل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم وعلى جميع المسلمين:

أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أنكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، أفجزاء محمد هذا، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم".

 

5- التذكير بما أصابهم من بني أمية:

خطب الإمام في جيش الحر بن يزيد: "ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان".

وخطب في "البيعة" ألا أنّ هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلّوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلو حرام الله، وحرّموا حلاله.

وخطب زهير بن القين فذكر معايب بني أمية ويزيد بن معاوية: "إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد، وعبيد الله بن زياد فإنكم لا تدركون إلاّ سوء عمر سلطانهما يسملون أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عديّ وأصحابه وهانيء بن عروة وأشباهه.

 

6- التذكير بما يرتكبونه من جرائم شنيعة:

ما زال الإمام الحسين (عليه السلام) يذكرهم بالجريمة التي يُراد لهم ارتكابها، فقال في خطبته: "وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نعمته

وجاء أيضاً في خطابٍ آخر للإمام: "أجل والله غدر فيكم وشجت عليه أصولكم وتأزرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة شجىً للناظر وأكلةٍ للغاصب".

وخطب الحر في جيش عمر بن سعد: "يا أهل الكوفة لامكم الهبل والعبر أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه؟ أمسكتم بنفسه، وأحطتم به، ومنعتموه من التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن أهل بيته، فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، وها هو وأهله قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمداً في ذرّيته لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتفزعوا عمّا أنتم عليه.

 

7- تحريك المشاعر الإنسانية:

خطب فيهم الإمام قائلاً: "يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إذا كنتم أعراباً".

وعندما أمسى وحيداً أخذ يستغيث وقصده من ذلك تحريك المشاعر الإنسانية لدى المعتدين ليلقى عليهم الحجة الدامغة: "هل من ذابٍ يذب عن حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل من موحدٍ يخاف الله فينا، هل من مغيثٍ يرجو الله في إغاثتنا، فلم يجبه سوى ولده العليل، فجعل يتوكأ على عصاه من شدة المرض وأراد أن يخرج لنصرة أبيه فقال الإمام لأخته: احبسيه لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد".

 

8- تذكيرهم بالمستقبل وما سوف يجري عليهم:

وكان الإمام ينوّه بمستقبل تلك الفئة الضالة التي جاءت إلى قتاله على شكل الدعاء، فقد صاح بعمر بن سعد عندما خرج عليّ الأكبر لقتال القوم: "قطع الله رحمك ولا بارك الله بك في أمرك وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك  كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يؤكد لأهل الكوفة أنهم سينالون جزاء ما يرتكبون من أعمال شنيعة وأنّ التاريخ سوف لا يغفر لهم جرائمهم تلك فما ورد في خطبته الأولى التي خطبها يوم عاشوراء:"ألا ثم لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم الرحى عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدي".

وعندما حاموا حوله من كل مكان قال لهم بأعلى صوته: "أعلى قتلي تجتمعون أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله، وأيمُّ الله أني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.

وإنما كان الإمام يذكرهم بسنة التاريخ في الذين يعبثون ويتجاوزون ويقتلون الأبرياء فمن قبلهم قتلوا الأنبياء والصالحين، واليوم يعودوا ليقتلوا أبناء الأنبياء.

 

9- رفع المعنويات والتخفيف من المصاب:

لم يكن الخطاب موجهاً للأعداء وحسب، بل كان موجهاً لأصحابه أيضاً، فقد وقف بينهم قائلاً: "صبراً بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنات الواسعة، والنعم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، إنّ أبي حدثني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبت، ولا كُذّبت(3).

وخطب في عياله وأطفاله وأهل بيته "استعدوا للبلاء، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شر الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب، ويعوضكم عن هذا بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم(4).

هذه هي أهم الأعراض السياسية التي وردت في خطب الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد كان لها أثراً كبيراً حيث أنها أعطت نتائجها سريعاً بتراجع عدد من جيش عمر بن سعد والتحاقهم بالإمام الحسين (عليه السلام).

وقد ساهم البيان الفصيح والبلاغة المؤثرة في دفع البعض للإسراع إلى التوبة قبل فوات الأوان.

وقد شهد الأعداء والأصدقاء ببلاغة الإمام الحسين (عليه السلام) وقوة بيانه فهذا عمر بن سعد يقرُّ بهذه الحقيقة: "ويلكم كلموه فإنه ابن أبيه، والله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حصر(5).

هذه شهادة من عدوٍ لدود للإمام، وهناك شهادة لرجل محايد هو الضحاك المشرقي قال عن بلاغة الإمام الحسين (عليه السلام): "فوالله ما سمعت متكلماً قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه(6).

ثانياً: الدعاء.

الدعاء شكل من أشكال الإعلام غير المباشر، وهو نمط من أنماط الخطاب إلاّ أنه يتم بصورة الطلب من الله سبحانه وتعالى. لذا كان تأثيره أقوى من الخطابة، لأن من يدعو يستمد العون والأزر من الله سبحانه وتعالى، وقد بدأ الإمام الحسين (عليه السلام) باللجوء إلى أسلوب الدعاء بعد أن انتهى أثر الخطب والمناشدات من أولئك الطغاة إلاّ القليل منهم، وكان الإمام يتوجه إلى الدعاء كلما وقعت عليه مصيبة، وبعد أن نقد الخطاب أثره في المخاطبين.

فكان يوجه الإمام خطابه إلى الله سبحانه وتعالى حتى يسمعه الأعداء الذين يعرفون حقاً قدره ومنزلته عند الله سبحانه فيهابون دعاءه.

نماذج من أدعية الإمام الحسين (عليه السلام):

 

1- عندما أراد علي الأكبر البراز إلى الميدان.

"اللهم أشهد على هؤلاء القوم فقدر برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خلقاً وخُلقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه اللهم امنعهم بركات الأرض، وفرقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا".

2- وعندما استشهد ولده قال (عليه السلام): "قتل الله قوماً قتلوك يا بني ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا(7).

3- وعند شهادة القاسم قال (عليه السلام): "اللهم احصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً، صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً(8).

4- وأخذ الإمام يدعو على الظالمين لما ضُرب عبد الله بن الحسن بالسيف، وهو لا يتجاوز إحدى عشر سنة. قال الإمام: "اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترضى عنهم الولاة أبداً فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا يقاتلوننا(9).

5- وعند شهادة ولده الرضيع قال الإمام: "هوّن ما نزل بي إنه بعين الله تعالى، اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل، إلهي إن كنت حبست عنّا النصر فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين، واجعل وما حلّ بنا في العاجل ذخيرة في الآجل، اللهم أنت الشاهد على قومٍ قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)".

6- وعندما اشتد الهجوم عليه وأخذوا يضربونه من كل ناحية ومكان قال الإمام: "اللهم إنك ترى ما أنا فيه من عبادك العصاة، اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً(10).

7- عندما رُميّ الإمام بسهم محدد له ثلاث شعب أخرج السهم من قفاه وقال بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله (عليه السلام): إلهي إنك تعلم إنهم يقتلون رجلاً ليّس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري".

8- وكان يناجي ربه وهو في آخر لحظات حياته: "صبراً على قضائك لا إله سواك، ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك، يا غيّاث من لا غياث له، يا دائماً لا نفاذ له يا محيي الموتى يا قائماً على كل نفس، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين(11).

9- وكان الإمام (عليه السلام) يتلقى السيوف والرماح وهو يقول: "اللهم إنّ هذا فيك قليل".

نلاحظ من هذه المجموعة التي قدمناها من الأدعية، أنها تضمنت خطاباً سياسياً موجهاً لكل الفريقين؛ الأعداء الذين عليهم أن ينتظروا العذاب الأليم، والأصحاب الذين عليهم أن يوكلوا أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى فهو مولاهم ومولى كل مؤمن.

 

ثالثاً: الاتصال المباشر.

في بعض الأحيان يستدعي الإعلام أن يتم التبليغ بصورة مباشرة وجهاً لوجه سيما في المواطن التي تستدعي الأخذ والرد.

وقد قدمنا نماذج من اتصالات الإمام في موضوعات سابقة، وهنا نحاول أن نكتفي بنموذجين اثنين:

 

1- لقاء الإمام الحسين (عليه السلام) بعبيد الله بن الحر.

التقى به في قصر بني مقاتل، فقال له: "يا بن الحر إنّ أهل مصركم كتبوا إليّ أنهم مجتمعون على نصرتي وسألوني القدوم عليهم، فقدمت، وليّس رأي القوم على ما زعموا فإنهم أعانوا على قتل ابن عمي مسلم وشيعته، وأجمعوا عليّ ابن مرجانة عبيد الله بن زياد، يا بن الحر أعلم أنّ الله عزّ وجلّ مؤاخذك بما كسبت من الذنوب في الأيام الخالية، وأنا أدعوك إلى توبة تغسل بها ما عليك من ذنوب، أدعوك إلى نصرتنا أهل البيت(12).

فأجابه عبيد الله بن الحر: "والله إني لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك، ولم أخلف لك بالكوفة ناصراً فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة، فإن نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرسي هذه "الملحقة" والله ما طلبت عليها شيئاً إلاّ لحقته، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلاّ وسبقته فهي لك".

واعتقد بأن الإمام سيقبل منه هذا اليسير، أجابه الإمام: "ما جئناك لفرسك وسيفك، إنما أتيناك لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك، ولم أكن بالذي اتخذ المضلين عضداً، وإني أنصحك إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلاّ أكبه الله في نار جهنم.

وأخذ منه الإمام عهداً ووعداً بأن يكون على الحياد، لا له ولا ضده، فقال عبيد الله: أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله تعالى(13).

ثم أنّ عبيد الله ندم أشد الندم على عدم نصرة الإمام، زار قبر الإمام بعد الواقعة ونظم قصيدة جاء فيها:

فيا لك حسرة ما دمـــــت حــــياً*****تــــــردد بين صــــدري والتراقي

غداة يقول لي بالقصر قـــــــولاً*****أتـــــتركنا وتـــــزمع بـــــالفــــراق

حسين حين يطلب بذل نصري*****علــــى أهل العداوة والشـــقاق

فلو فلــــق التلــــهف قلــــب حر*****لـــــهمّ الـــــيوم قلــبي بانفــــلاق

ولــــــو واسيـــــته يوماً بنــــــفسي*****لنــــلت كــــرامة يـــــــوم التلاقِ

مــــع ابن محــــمد تفـــــديه نفسي*****فـــــودّع ثـــــم أسرع بانـــــطلاق

لقــــــد فاز الأولى نصروا حسيناً*****وخاب الآخرون ذوو النفاق(14)

2- ذهاب حبيب بن مظاهر إلى بني أسد ودعوتهم للنصرة قائلاً: "إنّ ها هنا حياً من بني أسد أعراباً ينزلون بالنهرين وليس بيننا وبينهم إلاّ رواحة، أفتأذن لي في إتيانهم ودعائهم، لعلّ الله أن يجد بهم إليك نفعاً، أو يدفع عنك مكروهاً". فأذن له الإمام، فانطلق عندما وصل إليهم جمعهم، وقال لهم: "إني أدعوكم إلى شرف الآخرة وفضائلها وجسيم ثوابها، أنا أدعوكم إلى نصرة ابن بنت رسول الله نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أصبح مظلوماً، ودعاه أهل الكوفة لينصروه فلما أتاهم خذلوه وعمدوا عليه ليقتلوه(15).

فاستجاب لدعوته عدد منهم، وكان من بين المستجيبين عبد الله بن بشر الأسدي فقال: أنا أ ول من يجيب هذه الدعوى وأخذ يقول شعراً:

قــد علم القوم إذا تواكلوا*****وأحجم الفرسان أو تثاقلوا

إني شجاع بــطل مقــــــاتل*****كأنــــني لــــيث عرين باســل

نلاحظ أثر الإعلام المباشر في المخاطب، فلأنّ المخاطب يعرف أنه هو المقصود بهذا الإعلام، ولأن الخطيب يحاول أن يصوغ خطابه بما يناسب وضع المخاطب، فإن للإعلام المباشر تأثيراً كبيراً، مثلما لاحظنا ذلك ففي قصة عبيد الله بن الحر ظهر تأثير الإعلام في وقته بصورة محدودة لكنه برز فيما بعد عندما أحسّ عبيد الله بن الحر بالندم الشديد لعدم نصرته للإمام. أمّا تأثيره على بني أسد فقد كان فعالاً جداً، فقد تجهّز عدد كبير من بني أسد للقتال إلى جانب الإمام الحسين (عليه السلام)، ولولا منعهم من الوصول إلى كربلاء لكان لهذه القوة التي بلغت زهاء التسعين ذات أثر حاسم في المعركة الفاصلة.

 

رابعاً: الشعر.

للشعر دور بارز في التعبئة القتالية، فقد استخدم الإمام وأصحابه هذه الوسيلة الإعلامية أفضل الاستخدام.

1- عندما أخبره الفرزدق بأن قلوب الناس معه وسيوفهم عليه، فأخذ ينشد قائلاً:

لئــــن كـــــانت الدنيــــا تعد نفيـــسة*****فــــدار ثــــواب الله أغلى وأنـــــبل

وإن كانت الأبدان للموت أنشئت*****فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل

وإن كانت الأرزاق شيئاً مقــــــدراً*****فقــــلة سعي المرء في الرزق أجمل

وإن كانت الأموال للترك جمعــها*****فما بال متــروك بـــــه المرء يبـــخلُ

2- وعند لقائه بالحر بن يزيد الرياحي، أخذ الحر يهدد الإمام قائلاً له "لئن قاتلت لتقتلن ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى، فقال له الحسين: أفبالموت تخوفني، وهل يعدو بكم الحطب أن تقتلوني ما أدري ما أقول لك ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه فقال:

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى*****إذا مــــا نوى حــــقاً وجاهدَ مسلما

وآس الرجــــــال الصـــالحين بنــــفسه*****وفــــارق مثبــــوراً يــــغشُ  ويرغما

فلما سمع ذلك منه الحر تنحى عنه(16).

3- ارتجز الإمام في ساحة الحرب، عندما حمل على الميمنة قائلاً:

القتل أولى من ركوب العار*****والعار أولى من دخول النار

والله من هذا وهذا جاري

ثم أنه حمل على الميسرة وهو يرتجز ويقول:

أنـــــا الحـــــسين بــــــن علي*****آلـــــيـــــت أن لا أنـــثــــنـــــي

أحـــــمي عيـــــالات أبـــــي*****أمـــــضي على ديـــــن النبي

نجد في هذا الإشعار أنها ليست كلمات وقافية، بل اشتملت على أغراض دينية وسياسية، فهي تؤكد على عزم الإمام على الشهادة واستقامة على المبدء، وأوضح الإمام ما يريد أن يقوله للناس، رؤيته عن الدنيا، وعن الآخرة، وهي تكشف عن الداء الوبيل الذي ألمّ بالأعداء عندما استأثروا حطام الدنيا على ثواب الآخرة فكانت النتيجة أن أصبحوا في قبال الإمام  الحسين (عليه السلام)، وكان الأصحاب يرتجزون أثناء القتال، فكل واحدً منهم كان يخرج للقتال وهو يعرّف نفسه، ويعرض كفاءته القتالية ووسيلته في ذلك هو الشعر.

 

خامساً: التجسيد العملي.

الكلام وحده لا يكفي في الإعلام، فلا بدّ من إسعافه بالوسائل العملية فهي تؤثر في عوام الناس أكثر من الخطب الرنّانة، والاحتجاجات الدافعة بالأدلة القاطعة، ولم يتوانَ الإمام (عليه السلام) في استخدام الوسائل العملية في الإعلام، وسنذكر نماذج من هذه الوسائل:

1- خروجه من مكة:

يقول الشيخ المفيد: "لمّا أراد الإمام التوجه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة لأنه لم يتمكن من إتمام الحج(17).

وقد أثار هذا العمل التساؤل الواسع لدى الذين حضروا الحج في ذلك الموسم، فكان خروجه من مكة يوم التروية الثامن من ذي الحجة بمثابة احتجاج كبير على السلطات الأموية الجائرة، وأخذ الناس يتساءلون عن مقصده، فعرفوا أنه ذاهب إلى العراق، وإنه لم يذهب في نزهة سياحية أو رحلة تفقدية، بل ذهب بقصد الثورة على الظالمين.

فلقد كان خروجه في الزمان والمكان الخاصين مبعث تساؤل وأثار علامات استفهام ضد الحكم الأموي الذي أخذ يطارده حتى داخل البيت الحرام، فقد كان ذلك العمل إعلاماً بليغاً قد لا تستطيع عشرات الخطب والكلمات أن تؤدي مؤداه.

 

2- خطاب يوم عاشوراء:

عندما أراد الإمام أن يخطب خطبته الأولى يوم عاشوراء، قام الإمام على رأي بعض الرواة بلبس عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وارتداء ردائه وتقلّد بسيفه وركب ناقته أو فرسه المعروفة ثم خرج إلى العدو بهيئة جده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزيّه، ولمّا كانت ملامحه تشبه ملامح جده(18)، فقد كان منظره منظراً مؤثراً في النفوس، فذكرهم الإمام بهذا العمل برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤكداً من خلال هذا التجسيد العملي صلته وقربه برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان حقاً على أولئك الذين يزعمون أنهم تابعون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذعنوا لكلامه ويلتحقوا به وينصروه بدلاً من محاربته، وقد قال الإمام في خطبته تلك كلاماً يتناسب ومظهره الشبيه برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أمّا بعدُ، فانسبوني من أنا؟ ثم راجعوا أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيكم؟ وبعد أن يُبين مناقبه وفضائله قال لهم: فإن كنتم في شك من ذلك أو تشكون في أني ابن بنت نبيكم، فوالله لا يوجد بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري لكن يبدو أنّ هؤلاء الذين جاءوا إلى قتاله لا صلة لهم بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد، ولا صلة لهم حتى بالإنسانية، فقد تخلوا عن كل القيم والمقدسات والأعراف عندما أصروا على قتل الإمام مع جماعة قليلة من أصحابه على كثرتهم، وكثرة ما لديهم من الأسلحة.

 

3- الطفولة البريئة:

أخرج الإمام طفله الرضيع حتى ترق له بعض القلوب وأخذ يقول: "يا قوم ‍! إن كنّا في زعمكم مذنبين فما ذنب هذا الرضيع؟ وقد ترونه يتلظى عطشاً، وهو طفل لا يعرف الغاية ولم يأتِ بجناية، ويلكم اسقوه شربة ماء فقد جفت محالب أمه(19).

فلقد استخدم الإمام كل السبل والوسائل التي يمكنها أن تستثير عطف حتى الصخور الصمّاء ليقيم الحجة والدليل على أولئك الوحوش الكواسر التي لم تتأثر لا بالكلام ولا بالصورة ولا حتى بالطفولة البريئة التي لحقها ما لحق بالكبار.

 

4- الاستهانة بالموت:

لقد تثقف أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) بثقافة إعلامية، فلم يترك الأصحاب وسيلة إعلامية إلاّ واستخدموها في التعبير عن مبادئهم وأهدافهم.

عندما كان مسلم يسير باتجاه الكوفة مرّ بماءٍ لطيء فنزل به ثم ارتحل عنه، فإذا رجل يرمي الصيد فنظر إليه قد رمى ظبياً حين أشرف له فصرعه، فاستغل مسلم هذا المنظر المجسد أمامه فقال: نقتل عدوّنا إنشاء الله تعالى.

ويخفي هذا الكلام في طياته استعداداً للتضحية، فهو من قبيل ما نسميه اليوم بالإيحاء الذاتي.

 

الهوامش:

1- الطبري: 4/322.

2- المصدر نفسه.

3- حياة الإمام الحسين: 3/238.

4- المقرم: مقتل الحسين، ص377.

5- المجلسي: بحار الأنوار، 45/6.

6- الطبري: 4/322.

7- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 3/293.

8- مقتل الخوارزمي: 2/28.

9- الطبري: 4/245.

10- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/201.

11- المقرم: مقتل الحسين، ص 34.

12- ابن الأعثم: الفتوح، 5/130.

13- ابن الأثير: الكامل، 3/282.

14- الخوارزمي: مقتل الحسين، 1/228.

15- البلاذري: أنساب الأشراف، 3/180.

16- الطبري: 4/305.

17- الإرشاد: ص243.

18- هبة الدين الشهرستاني: نهضة الحسين، ص155.

19- الشهرستاني: نهضة الحسين، ص127.