mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 44.doc

المطلب الثاني: خصائص الإعلام الحسيني:

امتاز الإعلام الحسيني بعدة خصائص أفردته عن الإعلام الأموي وأي إعلام آخر، من هذه الخصائص:

 

أولاً: الصدق والواقعية:

فالإعلام الصادق هو القادر على التأثير في الرأي العام، وإذا مارس الكذب ولو لمرة واحدة فإنه سيفقد تأثيره في الناس، وقد  التزم الإمام الحسين (عليه السلام) جانب الصدق في إعلامه منذ إعلانه الأول عن الثورة، فقد جاء في هذا الإعلان ذكر الموت والشهادة ليعرف الناس أنه لم يذهب لأخذ السلطة والاستيلاء على الدولة، بل ذاهب إلى الموت، وإنّ الطريق الذي سيسلكه هو طريق محفوف بالمخاطر، وعندما وصله نبأ مسلم بن عقيل في الثعلبية قال له اللذان أوصلا الخبر، إنّ عندنا خبراً فإن شئت حدثنا علانية وإن شئت سراً، قال: فنظر إلى أصحابه وقال: ما دون هؤلاء سراً(1).

فالإعلام السليم هو الذي لا يتخوّف من ذكر الواقعيات ولا يخشى الصدق، لأن حبل الكذب قصير، وعندما وصل إليه الكتاب الذي يذكر فيه شهادة عبد الله بن يقطر أخرج الكتاب وقرأه على أصحابه دون أن يتهيب من الخبر ومن نتائج بثه على الناس.

يقول الشيخ المفيد: "فأخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم: أمّا بعدُ فإنه قد أتانا خبر فظيع: قُتل مسلم بن عقيل، وهانيء بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف، في غير حرج، ليّس عليه ذمام(2).

لأنه كان على يقين بأن البعض ممن كان معه سيتركه بمجرد سماعه بهذا الخبر، فلم يخفيه على أحد وتحمل كل النتائج السلبية المحتملة من وراء بثه، طبعاً لم تكن هذه النتائج سلبية ولو بدت في الظاهر هكذا، إذ أنّ التخلص من العناصر الضعيفة والمترددة هو أمر إيجابي لأنه سيصفي المجموعة ويبقي على العناصر الشجاعة، لقد قدّم الإمام الحسين ومن خلال هذه الخصيصة أعظم الدروس للإعلاميين في العالم مؤكداً على قاعدة مهمة هي لا بدّ أن يأتي الإعلام صادقاً وواقعياً إذا أريد له النجاح والتأثير.

 

ثانياً: الإستدلال المنطقي.

لا بدّ أن يكون الإعلام منطقياً بمعنى أن يكون فارغاً من الشعارات الرنّاناة، بل يشتمل على كلام رصين متين قائم على الدليل، وعلى مبدأ مقبول، قائم على المنطق السليم، وهذا ما نجده في الإعلام الحسيني في كل موقف وخطاب من خطاباته.

خطب في الجيش الذي جاء لحربه، فبعد أن أكدّ على نسبه وقرابته من رسول الله (عليه السلام) ذكر لهم حديث رسول الله فيه وفي أخيه هذان سيدا شباب أهل الجنة، ثم قال بلغة المنطق والدليل: فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمدت كذباً مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ويضر به من اختلقه وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري أو أبا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (عليه السلام) لي ولأخي، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي.

وعلى فرض عدم قبولهم لكل ما ذكره من فضائل وأنكروا عليه حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل ينكرون أنه ابن بنت رسول الله (عليه السلام) بهذه الطريقة الاستدلالية قال لهم: فإن كنتم في شكٍ من هذا القول أفتشكون أني ابن بنت نبيكم خاصة، وإذا لم ينفع بهم حتى هذا الاستدلال لسبب أو لآخر، فلعله سينفع بهم هذا السؤال المحرج: "أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مالٍ لكم استهلكته أو بقصاص من جراحه فأخذوا لا يكلمونه(3). لأنهم لا يستطيعون مواجهة المنطق، ثم نراه يقول لهم أخيراً: "أيها الناس إن كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض(4).

نلاحظ كيف تدرّج الإمام في كلامه، وكيف طرح استفهاماته على جيش عمر بن سعد وكيف استخدم المنطق والاستدلال لإقناع أشدّ أعدائه بمظلوميته وبظلم أعدائه الذين يريدون قتله دون أدنى سبب مقنع، ولعلنا لا نجد إلاّ القليل من الخطب التي جاءت هادئة بمنطقها، هادرةً بقوتها الوجدانية كالخطبة التي خطبها الإمام في يوم عاشوراء على الملأ والتي جاء فيها: "أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعِظكم بما هو حق لكم عليّ وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف من أنفسكم، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكون أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون(5). فلنتصور الأجواء التي أحاطت بالإمام في لحظة إلقاء هذا الخطاب، سيل الأعداء من ناحية وهم يحاصرونه، الأطفال والنساء من جانب آخر، ومن ناحية أخرى تقترب ساعة المواجهة الدامية لحظة بعد لحظة.

 

ثالثاً: مخاطبة الضمير.

الإعلان الناجح هو الذي يخاطب الضمير البشري، ويحاول الوصول إلى أعماق الإنسان، هذا ما فعله الإمام الحسين(عليه السلام) بكلماته، وبالصور العملية التي جسدها في يوم عاشوراء ففي مجال مخاطبة  الضمير، قال الإمام: فانسبوني فانظروا من أنا ثم  ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي(6).

وفي الرسالة التي بعث بها إلى أهل الكوفة جاء فيها، وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، إنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم.

 

رابعاً: الاستدلال بالقرآن الكريم:

فذكر الآيات يجّمل الإعلام ويعطيه قوة ويجعل تأثيره على السامعين أشد وأقوى، وهكذا كان دأب الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد كان كلامه القرآن الكريم وسنعطي نماذج عن استدلال الإمام بالقرآن الكريم.

1- بعث عمرو بن سعد بن العاص الوالي الأموي في مكة بجماعة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) لمنعه من الخروج من مكة فقالوا له: يا حسين ألا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفّرق بين هذه الأمة فأجابهم الإمام قائلاً:[  لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ](7).

2- وعندما طلب من القوم سماع موعظته وأن يعطوه النصف من أنفسهم فإذا رفضوا طلب منهم أن يفعلوا ما يشاؤوا ذاكراً لهم الآية الكريمة [فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ ](8).

3- وفي وصفه لأهل الكوفة الذين خانوا عهودهم وغدروا بإمامهم ذكر لهم الإمام [ هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم  الظالمين ](9).

4- ذكر قول موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل [إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ](10) ، والآية [وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ](11)، وذلك في رده على قيس بن الأشعث.

4- وأخذ أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) هذا النهج في إعلامهم مقتدين بإمامهم الحسين (عليه السلام)، فقد خرج حنظلة الشبامي أحد أصحاب الإمام وأخذ يعظهم بهذه الآيات الكريمة، يا قوم [إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ô يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ](12). ثم أضاف جملة واحدة على الآيات: يا قوم لا تقتلوا حسيناً فيستحكم الله بعذاب وقد خاب من افترى.

5- وتلا الإمام (عليه السلام) هذه الآية [إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ  ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ](13).

عندما برز عليّ الأكبر ليكشف عن صلته بأولئك الأنبياء العظام وكيف أنّ ذرّية آدم ونوح وإبراهيم وآل عمران الذين اصطفاهم الله قد أستبيح دماؤهم وأصبحوا هدفاً لسيوف الأعداء.

 

خامساً: إظهار القوة.

ذكرنا آنفاً أنّ الإمام عمل في خطته الإعلامية على إظهار مظلوميته، لكن ليّس عن ضعف، بل عن قوة، فهناك من يظهر نفسه مظلوماً بذل مستعطياً الرحمة ومستدراً العطف والشفقة، وقد ظن الأعداء إنما أظهر الإمام  مظلوميته ضعفاً وأنه يخشى الحرب فأسرعوا يكتبون إلى عبيد الله بن زياد بأن الحسين يريد التسليم، لكن اشتبهوا في حساباتهم وأخطئوا التقدير، فالحسين إنما كشف عن مظلوميته لاقتضاء الموقف لأنه كان يحسب حساب الكثير ممن سيتأثرون بكلامه، فلم تكن مظلوميته استسلاماً، بل ظلّ على موقفه الصارم والقوي من أعدائه غير مستسلم لهم، ففي وقفته بإزاء حر بن يزيد الرياحي، وقف الإمام ليقول لمن جاء إلى قتاله: "لا أرى الموت إلاّ سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برما(14).

2- وفي يوم عاشوراء وعندما تجمع العدو من كل مكان وأحاطوا به من كل جانب أراد قيس بن الأشعث استغلال الموقف لعله يدفع مشهد الجيش الزاحف بالإمام إلى الاستسلام، أولاً تنزل على حكم بني عمك فإنهم لن يروك إلاّ ما تحب ولا يصل إليك منهم مكروه، فأجابه بتلك العبارة التي خلدها التاريخ حتى يومنا هذا وستبقى خالدة بخلود المبادئ والقيم الإنسانية الرفيعة: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل لا أقرُّ إقرار العبيد(15).

وظلّ الإمام حتى آخر لحظة من حياته الشريفة، كريماً عزيزاً، وفي آخر لحظة يوصي عياله بأن يكونوا أعزّاء كرماء قائلاً لهم: "واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شر الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب عدوكم بأنواع العذاب، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألستنكم ما ينقص قدركم(16).

 

سادساً: التدرّج.

لا بدّ من مراعاة التدرج في الإعلام، والغاية من التدرج أن لا تتم مفاجأة الرأي العام بأمرٍ لا يستطيع استيعابه لو عُرض عليه مرةً واحدة، لكنه يستطيع استيعابه إذا ما طُرح عليه بصورة تدريجية.

وإذا ما دققنا في خطابات الإمام الحسين (عليه السلام) نجد أنها تزداد حرارةً في التعبير عندما يشتد الوضع وتتأزم العلاقة وتظهر النوايا الشريرة للمعتدين.

نلاحظ الخطبة الأولى التي خطبها الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء، نلاحظ هدوء الكلمة وحيادية التعبير، فلا تشتم في هذه الخطبة رائحة التصعيد أو الرغبة في المواجهة، فقد بدأ الإمام خطبته بالدعاء: "اللهم أنت ثقتي في كل كرب".

ثم أخذ يعتذر إليهم من القدوم إليهم، ويطالبهم بأن يستمعوا إلى نصائحه فهي خيرهم، ثم أخذ يتحدث عن الدنيا ومساوئها ويرغبهم في الآخرة، وبدأ بعد ذلك يوجّه إليهم رذاذ العتاب والإدانة، لكنه رذاذ خفيف: "بئس العبد أنتم أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد ثم إنكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم

ثم يتطور الخطاب السياسي ليصبح متضمناً شيئاً من الألفاظ والتعابير الصارمة التي تضع الأعداء أمام أحد طريقين؛ إمّا أن يختاروا طريق النجاة أو طريق الهلاك..

فإن كنتم في شكٍ من هذا القول، أفتشكون إني بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم أتطلبونني بقتيلٍ منكم قتلته، أو مالٍ لكم استهلكته أو بقصاص جراحة..

ثم يأخذ وتيرة التصعيد تزايد عندما لم يجد أذناً صاغية إلاّ من عدد قليل، وعندما وجدهم مصممين على قتاله أخذ يقول: "تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم سيفاً في إيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم.

كلما اشتد القتال كان الخطاب السياسي يزداد حماسةً، فكأنك تسمع من خلف نبرات صوت الإمام وقع الانتقام الإلهي الذي سينزل على أولئك الظالمين الذين استباحوا الدماء الزكية وقتلوا العترة الطاهر.

فعندما برز عليّ الأكبر رفع الإمام يديه إلى السماء قائلاً:  اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خلقاً وخُلقاً ومنطقاً وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه اللهم امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا.

فقد عبر الإمام (عليه السلام) عن غضبه وألمه بصورة دعاء لأنه أوقع على النفوس الحائرة التي لا زالت ترى في الحسين (عليه السلام) إماماً وإنه مستجاب الدعوة.

وتشتد نبرات الإمام عندما يسقط ولده شهيداً.

"قتل الله قوماً قتلوك، يا بني ما أجرأهم على الله، وعلى انتهاك حرمة الرسول(17).

وعند شهادة القاسم بن الحسن تصل سخونة الخطاب حدودها القصوى فتسمع وراء كلماته دقات قلبه وهي ترن في تلك الصحراء القاحلة من الإنسانية، "اللهم أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً ولا تغفر لهم أبداً(18).

كأن السماء تريد أن تقع على الأرض من فرط الفاجعة.

ثم تتولى وتيرة التصعيد مع مقتل عبد الله بن الحسين.

"اللهم إن منعتهم إلى حين ففرقهم تفريقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترضي الولاة عنهم أبداً فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا(19).

وبعد توالي الأحداث وتلاحق المصائب على الإمام أخذ الخطاب يتجه صوب تأنيب الضمائر مع الحفاظ على النبرة القوية والعبارات النارية.

فبعد شهادة عليّ الأصغر نجد الإمام وهو يناجي ربه والأعداء يسمعون كلماته: "هوّن ما نزل بي إنه بعين الله تعالى: اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل، إلهي إن كنت حبست عنّا النصر فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين، واجعل ما حلّ بنا في العاجل ذخيرة في الآجل، اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)(20).

وعندما بقي وحيداً وقد حاموا حوله يريدون قتله بدأ التصعيد في الخطاب بشكل أعمق، وذي أبعادٍ أوسع، حيث أخذ الإمام يُشكك حتى في إنسانيتهم وفي أنسابهم وآبائهم

"يا شيعة آل سفيان، إن لم يكن لكم دين، وكنتم تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرباً كما تزعمون(21).

وبلغ الخطاب أقصى درجاته من السخونة عندما بدأ يواجه أعدائه وجهاً لوجه فأخذ يخاطبهم: "يا أمة السوء بئسما خلفتم محمداً في عترته، أمّا أنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله، بل يهون  عليكم ذلك عند قتلكم إياي، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون(22).

أعلى قتلي تجتمعون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.

وهذه هي آخر الكلمات التي نطقها أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) في مواجهة أعدائه قبل أن تطير روحه إلى الملكوت الأعلى، وينال درجة الشهادة ليصبح سيد شهداء البشرية على الإطلاق.

نلاحظ في هذا التدرج، كيف انتقل الخطاب السياسي إلى مستويات متعددة لينسجم والظرف والحالة القائمة وليلبي الحاجة المطلوبة من الإعلام.

 

سابعاً: الإلتزام بالخلق الرفيع.

الإعلام الملتزم هو الإعلام المتخلق بالأخلاق الفاضلة، والذي يفرُّ من السباب والشتائم، وعندما يكون الإعلام جزءاً من رسالة أية ثورة تغييرية، فإن هدف الإعلام سيكون أيضاً تغيير الواقع من سيء إلى حسن، ولا يتغير الواقع إلاّ بتغير الإنسان.

من هنا؛ كان على الإعلام الرسالي الالتزام بالخلق النبيل والفضائل العالية حتى يتمكن من إعداد الإنسان إعداداً جيداً.

لقد كان الإمام وأصحابه على قدرٍ عالٍ من الأخلاق والمناقبية ليّس في سلوكهم وحسب بل في إعلامهم أيضاً، حيث جاءت خطبهم وكلماتهم مرآة صادقة لنفوسهم العالية ومناقبهم الرفيعة.

انظروا إلى زهير بن القين وهو يخطب في جيش العدوان بأدب إسلامي رفيع، ملتزماً بالأخلاق والفضائل وهو يتكلم مع أعدائه "يا أهل الكوفة: نذارِ لكم من عذاب الله. إنّ حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا أمة وأنتم أمة، إنّ الله ابتلانا وإياكم بذرّية نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لينظر ما نحن وأنتم عاملون.

يمكننا أن نلاحظ تأدّب زهير في بداية خطابه، وكأنه يتكلم مع أخٍ له وليّس عدو شرس، ثم نلاحظ كيف يبين أنهم أهل للنصح، وحتى عندما يقع السيف وتقوم الحرب بين الطرفين تجده يكتفي بالقول: كنّا أمة وأنتم أمة

وبعد كل تلك المقدّمات الضرورية يأخذ زهير بن القين بسرد ما يريد سرده، "إنّ الله ابتلانا وإياكم بذرّية نبيه محمد لينظر ما نحن وأنتم عاملون.

هذا هو الإعلام السليم الذي يتفق والموازين العلمية والشرعية والقانونية‎، ومثل هذا الإعلام يكون مستثيراً للضمائر مؤثراً في القلوب، فماذا كان الموقف الآخر.

يقول الرواة فسبّوه وتوعدوه بالقتل قائلين: "لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً".

ثم يجيب زهير على خطابهم بأدبٍ عهدنا منه في خطابه الأول: عباد الله، إنّ ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروه فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلوا بين الرجل وبين يزيد فلعمري إنه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.

هكذا نجد أنفسنا بين لغتين لغة مؤدبة ملتزمة ولغة سفيهة غير مؤدبة ويتكرر النموذجان مرة أخرى في هذا الحوار الذي تمّ بين شمر بن ذي الجوشن وزهير بن القين بعد أن أكمل خطاب.

قال شمر لزهير: اسكت أسكت الله ناقتك، أبرمتنا بكثرة كلامك، وكان على زهير أن يضع النقاط على الحروف إذ طفح  الكيل لكنه ظلّ محافظاً على اتزانه متأدباً بآداب الإسلام، فأجابه قائلاً: ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة، والعذاب الأليم.

فأعاد شمر الكرّة: إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة، فردّ عليه زهير: "أبالموت تخوفني، فوالله للموت أحبّ إليّ من الخلد معكم". وهنا نجد التكتيك الإعلامي الرائع الذي استخدمه زهير عندما أفرز شمر عن بقية مخاطبيه ونعته بالبهيمة، وقصد بها عدم فهم القول مستثنياً الآخرين من ذلك.

ثم نأخذ نموذجاً آخر من الإعلام الملتزم، وبعد زهير بن القين خرج برير بن خضير مخاطباً جيش عمر بن سعد: "يا معشر الناس إنّ الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، هذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله أفجزاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا؟.

فماذا كان جوابهم، قالوا: يا برير أكثرت الكلام فأكفف عنّا، فوالله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله.

يمكننا أن نلاحظ الفارق بين اللغتين لغة برير ولغة هؤلاء الأعداء.

أجاب زهير: "يا قوم إنّ ثقل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أصبح بين أظهركم، وهؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه فهاتوا ما عندكم، وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم، نلاحظ أنه لم يجبهم بالطريقة نفسها التي ردّوه بها، بل ظلّ برير محافظاً على مستواه الرفيع، ولم ينزل إلى مستوياتهم المنحطة.

وأخيراً عندما أخذ يلحّ عليه برير بالوعظ والإرشاد قالوا له باستهزاء: ما ندري ما تقول؟ فكان جوابه عنيفاً، لكن عنف مع تأدب والتزام بالخُلق الرفيع، قال لهم: الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم، الله ألقِ بأسهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان، فجعلوا يضحكون منه، وعمدوا إليه فرشقوه بسهامهم(23).

وعندما يأتي إليه الرجل من الأعداء وهو يقذف من لسانه الشتائم متهماً بريراً بالكذب قائلاً: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذاباً، وأنا أشهد أنك من الضالين فماذا سيكون جواب برير: هل ردّ على الشتيمة بما يعادلها أم أنه التزم بالآداب التي تأدب بها، ردّ برير على ذلك العدو، هل لك أن أباهلك أن يلعن الله الكاذب منّا ويقتل المبطل، لأنه عرف أن ردّ التهمة لا يفيد في تلك الأجواء الساخنة، وإنّ ردّ التهمة بمثلها سوف يحوّل الموقف إلى جدال كلامي عقيم، وهو غير نافع في تلك الأجواء حتى لو جاء بالدليل: فكان جوابه جواب الشخص الواثق من نفسه، الواثق بالله الذي سيقف إلى جانبه، وكانت نهاية المباهلة نصراً مؤزراً لبرير.

ذكرنا بعض النماذج من تأدب أصحاب الإمام الحسين، الذي استمدوا هذه التربية من إمامهم وسيدهم ذلك الإمام الذي كان قدوة حسنة لهم في كل موقف، فهم قد تعلموا منه عندما شاهدوه في مواقفه كيف يلتزم بأدب الحوار وبأخلاق الصراع.

صاح أحد الأعداء بالحسين (عليه السلام) عندما شاهد مقتل أخيه وكان هو في جيش عمر بن سعد: يا حسين، يا كذاب ابن الكذاب أضللت أخي حتى قتلته، فماذا كان رد الإمام على هذه الكلمات البذيئة.. هل نزل إلى مستواه والعياذ بالله أم ترفّع عن مماثلته بالرد، قال له الإمام: إنّ الله لم يضل أخاك، ولكنه هداه وأضلك.

وهكذا يجب أن يواجه الإعلام الملتزم الإعلام المبتذل والمضلل، هكذا يواجه التجهيل والتطبيل، أن لا ينزل إلى تلك المستويات المنحطة من الإعلام.

 

الهوامش:

1- الطبري: 4/399.

2- الإرشاد: ص207.

3- الطبري: 4/323.

4- المصدر نفسه: 4/323.

5- المصدر نفسه: 4/322.

6- المصدر نفسه: 4/322.

7- يونس/41.

8- يونس/71.

9- المؤمنون/41.

10- غافر/27.

11- الدخان/19.

12- غافر/30-33.

13- آل عمران/33.

14- الطبري: 4/305.

15- المصدر نفسه: 4/323.

16- المقرم: مقتل الحسين، ص337.

17- ابن الأثير: الكامل، 3/293

18- الخوارزمي: مقتل الحسين، 2/28.

19- الطبري: 4/345.

20- المقرم: مقتل الحسين، ص333.

21- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 3/294.

22- المقرم: مقتل الحسين، ص339.

23- مناقب آل أبي طالب: 5/129.