محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 43 - محاولة قيس بن الأشعث
3- محاولة قيس بن الأشعث.
وهو أحد أبناء أسرة عُرفت بالمكر والغيلة والغدر والخيانة، وبالأمس أخاه محمد أعطى الأمان لمسلم بن عقيل ، قائلاً له أن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك(1) واليوم جاء أخاه قيس ليكرر النغمة نفسها هذه المرة مع الإمام الحسين (عليه السلام) فقد جاء إلى الإمام قائلاً. أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلاً ما تحب،ولن يصل إليك منهم مكروه.
وأجابه الإمام : أنت أخو أخيك؟ (إشارة إلى حادثة مسلم مع محمد بن الأشعث). أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، لا والله لا أعطيهم بيدي أعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد(2).
وهكذا ظلّ الإمام صامداً لا يلوي ذراعاً للعدو حتى آخر لحظة من حياته الكريمة، حتى أن أحد الذين ساهموا في قتله شهد على استقامته وصموده بأروع الكلمات لا زالت الأجيال ترددها، كلما ذكرت مصاب الحسين (عليه السلام) .
"فوالله ما رأيتُ مكثوراً قد قُتل أولاده وأصحابه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً منه، ووالله ما رأيت قبله ولا بعده مثله(3).
4- صمود العباس وأخوته.
اتسمت ثورة عاشوراء بالصمود والثبات، كل عضو في هذه الثورة كان جبلاً من الاستقامة والصمود ، فلم تكن هذهِ الفضيلة حصراً على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) فقط بل كان أصحابه وأهل بيته أسوة حسنة لإمامهم في الصمود والثبات.
فهذا هو العباس وأخوته يردوّن على عروض عبيد الله بن زياد ، عندما قدّم لهم الأمان في حرب غير متكافئة، فقالوا له: " لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أمان له(4).
وذكر الطبري الحادثة بشكل آخر هو: لما قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب قام هو وعبد الله بن أبي المحل، وكانت عمته أم البنين ابنة حزام عند علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فولدت له العباس وعبد الله وجعفراً وعثمان فقال عبد الله بن أبي المحل بن حزام بن خالد بن ربيعة، أصلح الله الأمير إن بني أختنا مع الحسين فإن رأيت أن تكتب لهم أماناً فعلت قال: نعم ونعمة عني فأمر كاتبه فكتب لهم أماناً فبعث به عبد الله ابن المحل مع مولى له يقال له كُزمان فلما قدم عليهم دعاهم فقال هذا أمان بعث به خالكم فقال له الفتية أقرئ خالنا السلام، وقل له أن لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خيرٌ من أمان ابن سمية(5).
وسواء كانت رواية البلاذري أو الطبري هي الصحيحة فإن المغزى هو رفض العباس وأخوته عروض عبيد الله بن زياد مؤكدين على ثباتهم واستقامتهم وولائهم لأخيهم الإمام الحسين (عليه السلام).
5- فحوى رسالة عمر بن سعد الى عبيد الله بن زياد.
ذكر المؤرخون ومنهم الطبري أن ابن سعد بعث برسالة إلى عبيد الله زياد جاء فيها: " أما بعدُ، فانّ الله أطفأ النائرة، وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة، هذا حسين أعطاني عهداُ أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبين رأيهُ، وفي هذا رضا لك وسلامة(6).
ومما لا شك أن هذه الرسالة كتبت لأغراضٍ خاصة، وهي عارية عن الصحة في فحواها، وهي محاولة يائسة من قبل ابن سعد للتخلص من مسؤولية قتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، وربما فكر بتجميد قرار الحرب حتى يُواصل مفاوضاته مع الإمام الحسين لعله ينتهي إلى النتيجة التي أرادها وهي حصوله على أمنياته الشخصية دون وقوع الحرب.
إنّ زعم عمر بن سعد بأن الإمام عهد إليه بالذهاب إلى يزيد أو ما شابه ذلك هو عار عن الصحة، أكدهّ عقبة بن سمعان كما نوهنا إلى ذلك فيما سبق، وحتى الذين عالجوا الموضوع من المعاصرين استبعدوا وجود هذهِ الوعود من قبل الإمام.
يقول محمد الخضري: " وليس بصحيح الاعرض عليهم أن يضع يده في يد يزيد(7).
ويقول القرشي في تعليله لهذهِ الرسالة، لقد أفتعل ابن سعد هذه الرسالة ليتخلص من أثم المعركة، ويكون بمنجى من قتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو أن الإمام قال ذلك لا نفضّ جيش ابن زياد وانتهى كل شيء، لقد رفض الإمام منذُ بداية الأمر الخضوع لعصابة الإجرام، وصمد في وجه الأعاصير، وذلك في جميع مواقفه الخالدة على آبائه وعزة نفسه وصلابة إرادته(8).
وكاد يُكتب لمحاولة ابن سعد النجاح لولا وجود شمر بن ذي الجوشن أثناء وصول الرسالة وإقناعه لعبيد الله بن زياد برفض كل الحلول السلمية ووضعه أمام خيار الحرب أو التسليم له.
سابعاً: مبدأ السلم.
الثورة التغييرية هي ثورة على الواقع الفاسد، وهي تسلك كل الطرق السلمية الموصلة لأهدافها قبل أن تستخدم سلاح الحرب، فالثورة هي نعمة للإنسانية، فهو منهاالأول والأخير هو الإنسان، حقوقه أمنه وسلامته، فإذا كانت سبباً لإزهاق الأرواح والدماء فقد فقدت مبررات وجودها وتحولت إلى عدوان وتحّول الثوار إلى عصابات، لأن الثورة تقوم على المنطق والإقناع فلا تحتاج إلى العنف إلا حين الضرورة.
من هنا فإن ثورة الإمام لحسين علية السلام سلكت مسلك السلام وابتعدت عن استخدام لغة الحرب منذُ البداية، وقد جاهد أبو عبد الله (عليه السلام) لمنع وصول الأمور الى درجة المواجهة العسكرية، ولم يكُن موقفهُ من السلام ومنعه لنشوب الحرب خوفاً أو نتيجة لكثرة العدو بل كان موقفاً ثابتاً ومبدأ راسخاً حملهُ الإمام منذُ مجيئه إلى العراق.
ويوم كانت القوة إلى جانبه، وكان عدوه ضعيفاً كان أيضاً يحمل هذهِ الفكرة، فعندما أرادت المواجهة أن تقع بينه وبين جيش حر بن يزيد الرياحي يوم كان هو الأقوى تجنبّ الحرب واختار طريقاً يُبعده عن خطوط المواجهة من الجيش القادم، وهذا الموقف هو الذي دفع بزهير بن القين لأن يقول للإمام: "إنه لا يكون بعد ما ترون إلاّ ما هو أشدّ منه يابن رسول الله أنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم مما لا قبل لنا به، فماذا كان جواب الإمام (عليه السلام) هل استغل الموقف وضرب ضربته القاضية أم إنه بقي ملتزماً بمبادئه .
قال الإمام لزهير بن القين . ما كنتُ لأبدأهم بقتال ، وظل على هذا الموقف وثبت عنده حتى آخر نفس، خلافاً لما نراه اليوم في السياسة الدولية، فحكومات اليوم لا تتحدث عن السلام إلا عندما تكون ضعيفة، وبمجرد أن تقوى تصبح تملك امكانات المواجهة تتخلى عن فكرة السلام ، وتدق طبول الحرب في أية لحظة.
لقد خطى الإمام الحسين ومنذ وصوله كربلاء خطوات وطيدة نحو السلام، فعندما أراد الأعداء أن يهجموا على معسكره عصر يوم التاسع من محرم طلب من أخيه العباس أن يذهب إلى القوم ويطلب منهم تأخير الحرب إلى اليوم التالي قائلاً له:ارجع فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدٍ، وتدفعهم لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار(9) وتأخير الحرب يوماً واحداً، أو ليلة واحدة هو خطوة ذكية باتجاه السلام لأنه مع وجود قرار الحرب يصبح الوقت هو الفرصة الوحيدة في رأسمال السلام، سيما وأنّ الانقسام بدى واضحاً في جيش عمر بن سعد، وكلّما مرّ وقتٌ كان هذا الانشقاق يزدادُ ويتعمقَّ، فالوقت أفضل سلاح استخدمهُ الإمام الحسين لصالح السلام، وفي صبيحة يوم عاشوراء حاول الإمام أن يتجنبّ المواجهة قدر الإمكان، وذلك أولاً: بعدم الرد على استفزازاتهم، ثانياً: بخطبهِ التي طالب فيها وبإلحاح شديد "السلام" ورفض منطق القتال. فحول النقطة الأولى؛ واجه الإمام استفزازات شمر بن ذي الجوشن الذي كان متحمساً للقتال وكان يُريد باستفزازاته أن يدفع بالطرفين إلى القتال سريعاً، فعندما شاهد شمر بن ذي الجوشن النار تضطرم في الخندق نادى بأعلى صوت- كما أورد الطبري- يا حسين استعجلت النار في الدُنيا قبل يوم القيامة، فقال الحسين من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن، لأنه يعرف مراميه مِن هذا الاستفزاز، وإن هذا الكلام يُعتبر بمثابة إعلان الهجوم وهو يعرف أن الذي يريد الحرب وله مصلحة فيها هو شمر بن ذي الجوشن، فالحرب كانت تجِّسد جميع طموحاته، فأراد أحد أصحاب الإمام الحسين وهو مسلم بن عوسجة أن يردّ عليه بأن يرميه بسهم فمنعهُ الإمام قائلاً أني أكره أن أبدأهم (10) لأنه كان يعلم أنّ هذا الرد هو الذي يريده شمر الباحث عن كل فرصة لتنفيذ مآربه.
وهذا موقف ثابت لدى الإمام منذُ أن التقى بحر بن يزيد الرياحي، ولا زال مصراً عليه. وفي المجال الثاني؛ أخذ الإمام يوعظ الجيش الذي جاء إلى حربه، مطالباً إياهم بالتفكير ولو للحظة واحدة يسألوا فيها أنفسهم عما يرتكبونه من عمل عظيم بقتلهم ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومطالباً إياهم أيضاً بأن يتركوه وشانه، فخطب فيهم خطبة يطالبهم بالسلام ونبذ الحرب قائلاً: أيها الناس: اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حقُ لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإن قبلتمْ عُذري وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد، ولم يكُن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني العُذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكُن أمركم عليكم غُمة ثم أقضوا إليُ ولا تنظرون إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
ثم أخذ يوعظهم بترك الدُنيا ويذكرهم بنسبه وقربه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما قاله فيه وفي أخيه الحسن (عليه السلام) .
وفي مقابل دعوات السلام التي كان الإمام يطلقها، كان قادة الجيش المعادي لا يتوانَ في استخدام التهديد والوعيد، وعندما لاحظ منهم إلحاحاً على الحرب أخذ يُكلِّم ضمائرهم ويخاطب وجدانهم قائلاً لهم: "أيها الناس إذا أكرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض" ولم يقُل هذا الكلام إلاّ خدمةً للسلام ولمنع قيام الحرب، وحتى تستيقظ الضمائر النائمة الغارقة في نوم الغفلة والجهل، وفعلاً بدأتْ بعض الضمائر الحية تستيقظ من غفوتها منها الحر بن يزيد الرياحي الذي أسرع إلى عمر بن سعد متسائلاً مستنكراً: أتقاتل أنت هذا الرجل؟.
فأجابه عمر: أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي. فردّ الحر على قوله غير المنتظر،" أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضي" فحاول عمر أن يخّلص نفسه من المسؤولية ويرميها على عاتق ابن زياد: " لو كان الأمر لي لفعلت ولكن أميرك أبى ذلك".
وهكذا وجد الحر نفسه أمام منطقين مختلفين، منطق ليس فيه إلا النصيحة والموعظة، ولم يسمع فيه أية نبرة للحرب والقتال عند اللحظة الأولى من لقائه بالإمام، ومنطق آخر لا يرى فيه إلاّ رغبة في سفك الدماء والقتل فأدرك أنه بين جبهتين جبهة تُنادي بالسلام، وأخرى تُنادي بالعدوان، فأختار أخيراً الجبهة الأولى، وآثر السلام على الحرب مُستبيحاً في ذلك حياتهُ الغالية التي قدمها ثمناً للسلام، وثمناً للكلمات الرائعة التي قالها في جيش عمر بن سعد.
لقد خدم بموقفه هذا السلام عندما رفض الإذعان لطبول الحرب.
فلقد ظل السلام يُرفرف بأجنحته على مخيم الحسين وأصحابه حتى تكشفت النوايا العدوانية للجيش الأموي، عندما وضع عمر بن سعد السهم في كبد القوس وأطلقه صوب معسكر أبي عبد الله قائلاً: اشهدوا لي عند الأمير إني أول من رمى. وهكذا غلب صوت الحقد صوت المحبة، لكنه لم ينتصر عليه لأن الحقد مهما غلب فهو في أسفل درك . فقد علت أصوات الحق ورفرفت حتى أخمدت كل صوت جامد.
المبحث الثاني: الخطة الإعلامية
للإعلام أهمية كبرى، وخاصة في الحروب، وكان له دور بارز في انتشار الإسلام، ووصف المستشرقون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه أفضل رجل إعلام أنجبته البشرية، فقد استطاع بإعلامه المكثف أن يوصل صوت الحق إلى أرجاء الجزيرة العربية، وعلى نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان هو الآخر مهتماً بالإعلام أكبر اهتمام في صراعه المرير مع الناكثين، والقاسطين والمارقين، وسار الإمام الحسين (عليه السلام) على خطى أبيه وجده في انتهاج سبيل الإعلام، وقد قدّم في حركته الثورية أروع نموذج في الإعلام الرسالي الرصين.
وكان الإعلام من صلب ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) لأنه أراد من خلال شهادته أن يوقظ الضمائر المتخدرة وأن يشل حركة بني أمية بالاتجاه المضاد، ومعنى ذلك أنّ الجزء الأكبر من ثورته كان يتوقف على خطته الإعلامية.
وقد قامت تلك الخُطة على مرحلتين: مرحلة الثورة، ومرحلة ما بعد الثورة، أي بعد استشهاده (عليه السلام)، إذ كانت الخطة بحاجة إلى من يتابع تنفيذها من هنا قام الإمام الحسين (عليه السلام) بحمل النساء والأطفال وأوكل إلى أخته العقيلة زينب مواصلة الدرب وحمل أمانة الدم الذي أريق في كربلاء إلى أرجاء العالم الإسلامي.
وإذا ما لاحظنا الخطة الإعلامية لثورة عاشوراء لوجدنا أنها جاءت خطة متكاملة، منظمة الأجزاء مترابطة الأهداف بالأساليب، ومتداخلة الأدوار بين عمل الإمام الحسين (عليه السلام) وعمل أخته العقيلة زينب، وكان علينا أن نقف لندرس الإعلام الحسيني لنتفهم من خلاله طبيعة الخطاب السياسي لثورة الإمام الحسين (عليه السلام).
ويمكننا أن نقسم الفكر الإعلامي الذي نستنبطه من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى هذه الموضوعات:
1- أهداف الإعلام.
2- خصائص الإعلام.
3- وسائل الإعلام وأساليبه.
4- كيفية استقصاء الأخبار.
المطلب الأول: أهداف الإعلام.
تقوم الخطة الإعلامية التي سلكها الإمام الحسين (عليه السلام) على الأهداف التالية:
1- توعية الأمة لصفات الإمامة:
فقد كانت الأمة تجهل هذه الصفات وتبايع كل من هبّ ودبّ، فكان لا بدّ من توعيتها للصفات التي وضعها الإسلام للإمام، فجاء توضيح الإمام الحسين (عليه السلام) لهذه الصفات في الرسالة الجوابية التي كتبها إلى أهل الكوفة ورد فيها: "فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذلك لله".
فمشكلة الأمة كانت في الواقع مشكلة انعدام الوعي، إذ كانت الأغلبية كما وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام): "همج رعاع أتباع كل ناعق(11).
والنص الذي ذكرناه للإمام الحسين (عليه السلام) يؤكد للأمة مبدأً أساسياً في اختيار الإمام وهو بذلك يخاطب الفريقين، الفريق الذي اختار يزيد بن معاوية عن جهل ولا وعي والفريق الذي سكت ولم ينتخب أحداً، فأراد أن يؤكد للفريقين أنّ عليهم أن يختاروا من تتوفر فيه هذه الصفات، وأن لا يكون المعيار الأشخاص المرشحين للإمامة، بل الشروط التي يجب أن تتوفر في الإمام الصالح.
2- إبراز شخصيته وقربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
فقد كانت شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) مبهمة عند كثير من المسلمين حتى أولئك الذين كانوا في الكوفة، فهم يعرفون الحسين معرفة سطحية، فكان على الإمام أن يعرفهم بنفسه عندما تدور الدائرة ويصبح قتله هو الهدف الذي يسعى من أجله الذين جاءوا إلى كربلاء. فقد وقف بإزاء القوم ليقول لهم: "أمّا بعدُ فانسبوني فانظروا من أنا ثم راجعوا أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن نبيكم، وابن وصيه وابن عمه؟ وأول مؤمن مصدق لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما جاء من عند ربه؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عمي؟ أوليس جعفر الطيّار في الجنة بجناحين عمي، أولم يبلغكم ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق والله ما تعمدت كذباً منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، اسألوا جابر به عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟".
3- إظهار أحقيّة أهل البيت:
لأن البعض كان يفهم الصراع بين بني هاشم وبني أمية، وكأنه نشب من أجل السلطة والنفوذ والزعامة، ويقولون بأنه صراع تاريخي قديم تمتد جذوره إلى ما قبل الإسلام، وقد غرس الأمويون هذه الدعاية في عقول الناس زاعمين أنّ الحسين إنما خرج لينازع السلطة مبررين بذلك فعلتهم الشنعاء في قتلهم آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ الإمام أراد للأمة أن تفهم أنّ الصراع مع بني أمية ليّس صراعاً تاريخياً وليّس من أجل السلطة، بل من أجل إثبات الحق، وكان هذا هو دأب الإمام الحسين منذ اللحظة التي دعا فيها الوليد الإمام الحسين إلى البيعة، فقال: "أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم الله.
وكرر القول نفسه عندما أحاط به جيش الحر بن يزيد الرياحي وأرادوا أن يمنعوه من التوجّه إلى الكوفة، فخطب فيهم قائلاً: "أمّا بعدُ أيها الناس فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله، يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمدٍ أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليّس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان(12).
4- فضح السلطة الأموية:
حيث كان أكثر الناس لا يعرفون إلاّ القليل عن حكام بني أمية والسائرين في ركابهم، فقد قام الإمام بفضح نهجهم وأساليبهم في العديد من المواقف السياسية الحساسة، فخطب وهو في الطريق، "إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون وإنّ الدنيا تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً(13).
وجاء في الرسالة التي كتبها إلى أهل الكوفة: "أمّا بعدُ فقد علمتم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وإني أحق بهذا الأمر بقرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(14).
وفي يوم عاشوراء وقف زهير بن القين بين المعسكرين ليفضح الممارسات الإجرامية لبني أمية، قائلاً: "إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد، وعبيد الله بن زياد فإنكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عمر سلطانهما، يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانيء بن عروة وأشباهه.
5- دحض الإعلام المعادي:
سلك الإمام طريقين في دحض الإعلام المعادي؛ طريق الكلام والرد المنطقي، وطريق الدعاء وطلب العون من الله سبحانه وتعالى.
وهذه نماذج عن ردود الإمام على الإعلام الأموي.
أ- رد الإمام (عليه السلام) على رسالة عمرو بن سعيد والي يزيد بن معاوية على مكة فقد وردت في رسالته إلى الإمام: أُعيذك من الشقاق فإني أخاف عليك من الهلاك، فردّ الإمام على هذه الدعاية الأموية التي كانوا يروجون لها بأن الحسين يريد شقاق الأمة وهلاكها، جاء في الرد: أمّا بعدُ فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عزّ وجلّ وعمل صالحاً، وقال إني من المسلمين(15).
وعندما يتعدى الإعلام المعادي حدوده ويحاول التطاول على شخص الإمام واتهامه بتهم بذيئة فعندئذ لا ينفع الكلام والرد المنطقي خصوصاً إذا كان هذا الإعلام مخالفاً للمنطق والأصول، وهنا يتوسل الإمام بأسلوب آخر لإثبات بطلان إعلام عدوه، وهو الدعاء والطلب من الله سبحانه وتعالى، وهذه نماذج على ذلك.
* يقول الطبري: "أنّ رجلاً من بني تميم يقال له عبد الله بن حوزة جاء حتى وقف أمام الحسين فقال: يا حسين يا حسين، فقال حسين: ما تشاء قال: أبشر بالنار، قال: كلا إني أقدم على ربٍّ رحيم وشفيع مطاع، من هذا قال له أصحابه: هذا ابن حوزة، قال: ربِ حُزه إلى النار، قال فاضطرب به فرسه في جدول فوقع فيه وتعلقت رجله بالركاب ووقع رأسه في الأرض ونفر الفرس فأخذه يحز به فيضرب برأسه كل حجر وكل شجرة حتى مات(16)، وأثّر موته في معنويات جيش عمر بن سعد، حتى أنّ الطبري ذكر لنا عن مسروق بن وائل وكان مع عمر بن سعد: "أنه لمّا شاهد هذا المنظر رجع عن القتال وترك الخيل من ورائه وعندما سُئل عن ذلك قال لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئاً لا أقاتلهم(17).
* وذكر الطبري أيضاً محاروة برير بن خضير مع يزيد بن معقل، قال يزيد لبرير: كيف ترى صنع الله بك، قال : صَنَعَ الله بي خيراً، وصنع الله بك شراً، قال كذبت وقبل اليوم ما كنت كذاباً، هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إنّ عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفاً، وأنّ معاوية بن أبي سفيان ضال مُضل وأنّ إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب، فقال له برير: أشهد أنّ هذا رأيي وقولي، فقال له يزيد بن معقل: فإني أشهد أنك من الضالين فقال له برير: هل لك فلأباهلك لندع الله أن يصلى الكاذب وأن يقتل المبطل ثم أخرج فلأبارز قال فخرج فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المحق المبطل ثم برز كل واحدٍ منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين فضرب يزيد بن معقل برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضره شيئاً، وضربه برير بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ فخّر كأنما هوى من شاهق وإن سيف ابن خضير لثابت في رأسه(18).
4- ومن دعايات بني أمية أنهم منعوا الماء عن الحسين (عليه السلام) مبررين عملهم هذا بمنع الماء عن عثمان، فقد كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد أنّ: "حُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان(19).
وهذا ربط غير واقعي فأين وجه العلاقة بين مقتل عثمان بن عفان عطشاناً وبين منع الماء عن الأطفال والنساء والمرضى، وقد حاول الأمويون من خلال هذه الدعاية أن يبروا جريمتهم الشنيعة، لكنهم فشلوا في إقناع أحد بدعايتهم لأنها غير واقعية، فليّس هناك من لا يعلم بأن الإمام الحسين ومعه أخيه الإمام الحسن أرسلهما الإمام أمير المؤمنين لينقلوا الماء إلى عثمان بن عفان، وهو محاصر فبعد استغاثته لم يجد من يعينه سوى أمير المؤمنين (عليه السلام)(20).
ويقول ابن عبد البر: قال عثمان: "ألا أحد يبلّغ علياً فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك علياً فبعث إليه ثلاث قرب مملوءة ماء، وجرح من سببها من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل إليه الماء، وبلغ علياً أنّ عثمان يُراد قتله فقال: " للحسن والحسين: إذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه بمكروه(21).
الهوامش:
1- مصدر سابق: 4/323.
2- ابن كثير: البداية والنهاية: 8/188.
3- ابن كثير: البداية والنهاية: 8/188.
4- انساب الأشراف: 3/184.
5- الطبري: 4/ 315.
6- ذكره الطبري بألفاظ مختلفة تراجع: ع/ 313.
7- تاريخ الأمة الإسلامية: 1/515.
8- حياة الحسين: 3/ 129.
9- الطبري: 4/316- 317 .
10- المصدر نفسه: 4/322.
11- نهج البلاغة: باب قصار الكلمات، 147.
12- المجلسي: 44/377.
13- المصدر نفسه: 42/381.
14- المصدر نفسه: 44/382.
15- الطبري: 4/292.
16- المصدر نفسه: 4/328.
17- المصدر نفسه: 4/328.
18- المصدر نفسه: 4/329.
19- الإرشاد: ص202.
20- نهضة الحسين: ص103، وأيضاً ذكره ابن الأثير في الكامل: 3/185.
21- العقد الفريد: 5/49.