محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 40
رابعاً: زَرُود.
وهو منزل يشتمل على بركة وقصر وحوض، وفيه التقى برجل كان معه خبر مقتل مسلم وهانيء، وفي زرود أقام الإمام بعض الوقت، وفيه التقى بزهير بن القين البجلي، وكان عثماناً، وينقل الطبري عن رجلٍ من بني فزارة: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نُسايره في منزل لم نجد بداً من أن ننازله فيه منزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب فبينما نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين حتى سلم ثم دخل فقال: يا زهير بن القين إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه قال: فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأننا على رؤوسنا الطير، فقالت له زوجته دلهم بنت عمر: أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه سبحان الله لو أتيتهُ فسمعت من كلامه ثم انصرفت قالت: فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه قالت: فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدّم وحمل إلى الحسين ثم قال: لامرأته أنت طالق الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك من سببي إلاّ خير، ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلاّ فإنه آخر العهد إني سأحدثكم حديثاً غزونا بلنجر فتح الله علينا وأصبنا من غنائم فقلنا نعم فقال لنا سلمان الباهلي: أفرْحتم بما فتح الله عليكمُ وأصبتمُ من الغنائم فقلنا نعم فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم، فإمّا أنا فإني أستودعكم الله(1)، فماذا أسرّ الإمام الحسين (عليه السلام) لزهير، ولم يذكر لنا التاريخ شيئاً عن ذلك الحديث الذي قلب زهيراً من رجلٍ عثماني إلى فدائي من الطراز الأول، هكذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) يلتقط أصحابه الأفذاذ من آلاف الناس، وبعد زرود وصل الإمام الثعلبية وهي تبعد (32ميلاً) عن الخزيمية، وفي الثعلبية تأكد الإمام من شهادة مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة.
خامساً: الثعلبية.
بات الحسين (عليه السلام) حتى الصباح في الثعلبية، وفي الصباح جاءه رجلٌ من أهل الكوفة يُكنّى أبا هرة الأزدي، قد أتاه وسلّم عليه ثم قال له: يا بن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "ويحك يا أبا هرة إنّ بني أمية أخذوا مالي فصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت، وأيم الحق لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسهم الله ذُلاً شاملاً ويسلَ عليهم سيفاً قاطعاً، وليسلّطن عليهم من ينلهم حتى يكونوا أذلّ من قوم سبأ، إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم(2).
وذكر الصدوق: "لما نزل الحسين الثعلبية أتاه رجلٌ وسأله عن قول الله تعالى [يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ]، فقال (عليه السلام):" إمام دعا إلى هدى فأجابوا إليه، وإمام دعا إلى الضلالة فأجابوا إليها، هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وهو قوله تعالى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ].
وروى الصدوق أيضاً: قال أبو مختف: "لمّا نزل الحسين الثعلبية أقبل إليه رجلٌ نصراني ومعه أمه فأسلما على يده(3).
وفي الثعلبية وعلى مسافة 29 ميلاً وصل إلى بطان وعلى مسافة 22 ميلاً وصل إلى شقوق.
سادساً: الشقوق.
في الشقوق رأى الإمام الحسين (عليه السلام) رجلاً مقبلاً من الكوفة فسأله عن أهل العراق فأخبره أنهم مجتمعون عليه فقال (عليه السلام): "إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء وربنا تبارك وتعالى هو كل يوم في شأن ثم أنشد:
فإن تكن الدنيا تعدُّ نفيسة*****فدار ثواب الله أغلى وأنبلُ(4)
وعلى مسافة 21 ميلاً وصل إلى زبالة.
سابعاً: زبالة.
وهي مدينة عامرة فيها الأسواق وفيها حصن وجامع لبني اسد، وذكر الشيخ المفيد أنّ خبر شهادة عبد الله بن يقطر قد وصل إلى الإمام الحسين في هذا المنزل، ومن قبل ذلك وصل خبر مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة فجمع أصحابه وخطب فيهم قائلاً: "أمّا بعدُ فإنه قد أتانا خبر فظيع: قتل مسلم بن عقيل، وهانيء بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليّس عليه زمام، فتفّرق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقيّ في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر يسير ممن انضموا إليه، وإنما فعل ذلك لأنه (عليه السلام) علم أنّ الأعراب الذين اتبعوه إنما اتبعوه وهم يظنون أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهلها، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون، وبعد مسافة 18.5ميل وصل الإمام إلى منزل القاع، وبالقرب منه منازل لبني أسد وطيء وبعد ثلاثة أميال وصل الإمام إلى العقبة، وهي منازل بكر بن وائل.
ثامناً: العقبة.
لقيه في العقبة شيخ من بني بكر يقال له عمر بن لوذان سأل الإمام الحسين (عليه السلام): أين تريد فحدثه فقال له: إني أنشدك الله لما انصرفت فوالله لا تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوّك مؤنة القتال ووطأوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فإني لا أرى لك أن تفعل قال: فقال له: يا عبد الله، إنه ليّس يخفى عليّ، الرأي ما رأيت ولكن الله لا يغلب على أمره ثم ارتحل منها(5) .
ثم سار (عليه السلام) من بطن العقبة حتى نزل شراف وهو موضع لبني إسرائيل، فبينما هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه، فقال له الحسين (عليه السلام): الله أكبر لو كبّرت؟ فقال الحسين (عليه السلام): فما ترونه؟ قالوا: والله نراه أسنّة الرماح وآذان الخيل، فقال: وأنا والله أرى ذلك.
تاسعاً: ذو الحُسم.
وهو مكان مرتفع يقع إلى جانب الطريق العام بين مكة والكوفة، وقد انحرف الإمام عن الطريق بعد أن لاحت له قوات ابن زياد بقيادة حر بن يزيد الرياحي، ولمّا كان الإمام لم يرد المواجهة العسكرية فقد سأل أصحابه: أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم في وجهٍ آخر، فأجابه أحد أصحابه ممن يعرف الطريق بلى هذا ذو حُسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت إليه فهو كما تريد وبينما كان موكب الإمام يسير نحو الجبل أدركه جيش الحر بن يزيد الرياحي، الذي كان لقاءً بين القوتين، وقد حاول الإمام أن يستفيد من هذا اللقاء وأن يوجه سير الأحداث بصورة إيجابية وليّس بصورة متشنجة.
واحتج الإمام الحسين (عليه السلام) على القوم بأنهمّ هم السبب من مجيئه وأنه لم يأتِ إلاّ ملبياً لطلباتهم ورسائلهم، وخطب فيهم خطباً عديدة مرة عند لقائه الأول بهم، ثم خطب فيهم في "البيضة" تلك الخطبة المشهورة ناقلاً قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)"من رأي سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسوله الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقاً على الله أن يدخله مدخله.. إلى آخر الخطبة".
وقد أثّر هذا الموقف، في قائد الجيش الحر بن يزيد الرياحي، وظهر أثر ذلك عندما اكتشف الغاية الدنيئة التي جاء من أجلها جيش ابن زياد فترك موقعه العسكري والتحق بالإمام الحسين (عليه السلام) واستشهد بين يديه.
عاشراً: عُذيب الهجنات.
وسار الإمام من ذي الحُسم إلى مغيثة مسافة (32 ميلاً) حتى وصل إلى عُذيب الهجنات وكان الحر يسايره في الطريق فوافاه أربعة أشخاص من أهل الكوفة جاؤوا لنصرته، وأراد الحر منعهم من الالتحاق بالإمام فصاح به الإمام "إذن أمنعهم بما أمنع فيه نفسي، إنما هؤلاء أنصاري، وأعواني وقد جعلت لي أن لا تعرض بي حتى يأتيك كتاب ابن زياد، وكفّ الحر عنهم، فالتحقوا بالإمام فرحّب بهم وسألهم عن أهل الكوفة فقالوا: أمّا الأشراف فقد عظمت رشوتهم وملئت غرائرهم ليستمال ودهم وتستنزف نضائحهم، فهم عليك ألباً واحداً، وما كتبوا إلاّ يجعلوك سوقاً ومكسباً، وأمّا سائر الناس فأفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك(6).
والأربعة الذين التحقوا به هم:
1- نافع بن هلال المرادي.
2- عمرو بن خالد الصيدواي.
3- سعد مولى عمرو بن خالد.
4- مجمع بن عبد الله العابدي من مذحج.
وكان يقود هؤلاء الأربعة دليل يعرف الطريق هو الطرماح بن عدي وكان معه تجارة كان يريد إيصالها إلى أهلها، وقد اقترح على الإمام أن يلتجأ إلى جبل أجا رفضه جملةً وتفصيلاً ولأهميته نذكر المحاورة التي تمت بينه وبين الإمام كما نقله الطبري: "دنا من الحسين فقال له: والله إني لأنظر فما أرى معك أحداً ولو لم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم ترَ عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه فسألت عنهم فقيل اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحوّن إلى الحسين فأنشدك الله أن قدرت على ألا تقدم عليهم شبراً، إلاّ فعلت فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى أجا امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر والله إن دخل علينا ذلّ قطّ فأسير معك حتى أنزلك القرية ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وتلتمن من طيء فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك طيء رجالاً وركباناً ثم أقم فينا ما بدا لك فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم والله لا يوصل إليك أبداً وفيهم عين تطرف فقال له: جزاك الله وقومك خيراً، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبة.
ويواصل الطرماح القول: فودعته وقلت له دفع الله عنك شر الجن والإنس إني قد امترت لأهلي من الكوفة مسيره ومعي نفقه لهم فآتيهم فأضع ذلك فيهم ثم أقبل إليك إن شاء الله فإني ألحقك فوالله لأكونن من أنصارك قال: فإن كنت فاعلاً فعجّل رحمك الله قال: فعلمت أنه مستوحش إلى الرجال حتى يسألني التعجيل قال: فما بلغت أهلي وضعت عندهم ما يصلحهم وأوصيت فأخذ أهلي يقولون إنك لتصنع مرتك هذه شيئاً ما كنت تصنعه قبل اليوم، فأخبرتهم بما أريد وأقبلت في طريق بني ثُقل حتى إذا دنوت من عُذيب الهجنات استقبلني سماعة بن بدر فنعاه إليّ فرجعت(7).
تُبين لنا هذه الحادثة عدة أمور وهي:
1- إصرار الإمام (عليه السلام) على هدفه المرسوم وهو الذهاب إلى العراق.
2- ملاحظة الإمام (عليه السلام) لظروف الثورة كاملة، فالثورة ليّست بعدد الرجال حتى لو زادوا على العشرين ألفاً ولا بوجود الأماكن المحصنة ولو كانتا جبلا سلمى وأجأ فما الفائدة من إعلان الإمام ثورته في منطقة نائية في قلب صحراء الجزيرة العربية حيث تقع المنطقة التي اقترحها الطرماح للإمام، قطعاً الثورة من هناك لا قيمة لها لأنها ستقمع في قلب الصحراء دون أن يعلم بها أحد، أو في أحسن الفروض ستتحول الثورة إلى حرب عصابات مع القوات الأموية وهذا لا يمنحها بعداً إعلامياً ولا يترك لها أي أثر في الوجدان الإنساني.
3- رفض الإمام العودة إلى الجزيرة العربية، لأنه أبدى موافقته للحر بن يزيد الرياحي أن لا يذهب إلى الكوفة ولا يعود إلى الحجاز حتى يأتيه كتاب من عبيد الله بن زياد في مقابل عدم تعرّض الحر إلى أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وقد احتجّ الإمام على حر عندما أراد أن يمنع الأربعة من اللحاق بالإمام فقال له الإمام: لأمنعهم لما أمنع منه نفسي إنما هؤلاء أنصاري وأعواني وقد كنت أعطيتني ألا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد، فمن المتوقع من الإمام أن يلتزم بما تعاهد مع الحر بعدم الذهاب إلى الكوفة أو الحجاز.
الحادي عشر: قصر بن مقاتل.
ذكر ياقوت الحموي، قصر مقاتل، وهو قصر كان بين عين التمر والشام، وذكر قول السكوني: هو قرب القطقطانة وسلام ثم القريات، وهو منسوب إلى مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس(8).
وفي قصر مقاتل التقى الإمام بعبيد الله بن الحر الجعفي، يقول الطبري عن هذا اللقاء: "إنّ الحسين بن علي رضي الله عنه قال: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل لعبيد الله بن الحر الجعفي قال: ادعوه لي وبعث إليه فلما أتاه الرسول قال: هذا الحسين بن علي يدعوك فقال عبيد الله بن الحر: إنّا لله وإنّا إليه راجعون والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها والله ما أريد أن أراه ولا يراني فأتاه الرسول فأخبره فأخذ الحسين نعليه فانتعل ثم قام فجاءه حتى دخل عليه فسلّم وجلس ثم دعاه إلى الخروج معه فأعاد إليه ابن الحر تلك المقالة فقال: فإلاّ تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ هلك، قال: أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله(9).
وفي هذا المكان التقى الإمام بعمرو وبن قيس المشرقي وكان معه ابن عمٍ له، فسلّم على الإمام وقال له: يا أبا عبد الله هذا الذي أرى خضاباً؟
قال (عليه السلام) خضاب والشيب إلينا بني هاشم أسرع وأعجل، والتفت (عليه السلام) لهما فقال: جئتما لنصرتي؟ قالا: لا، إنّا كثيرو العيال، وفي أيدينا بضائع للناس ولم ندرِ ماذا يكون؟ ونكره أن نضيع الأمانة، فقال لهما الإمام: انطلقا فلا تسمعا لي واعية، ولا تريا لي سواداً فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا أو يغثنا كان حقاً على الله عزّ وجلّ أن يكبه على منخريه في النار(10). وكان هذا آخر موقع يلتقي فيه الإمام (عليه السلام) بالناس، ومن بعد هذا الموقع ورد الإمام إلى أرض كربلاء ليبدأ فصولاً أخرى من ثورته المقدّسة.
النتائج التي حصل عليها الإمام من خلال هذه الجولة الطويلة التي دامت أربع وعشرين يوماً قطع خلالها عشرات المنازل والمدن هي:
1- كسب أنصاراً جدداً، وذكر الطبري هذه العبارة:" كان الحسين لا يمرّ بأهل ماءٍ إلاّ اتبعوه(11).
2- تصفية الأنصار وإمرارهم في مخاضات عسيرة حتى لا يبقى معه إلاّ صلب الإيمان والعقيدة، فقد كانت هذه الفترة وما لاقاه الإمام من الصعاب في الطريق وما وصلته من أنباء حزينة من الكوفة تجربة ضرورية لاختيار أصحابه وتصفية العناصر الجيدة عن العناصر الرديئة.
3- مراقبة الأحداث بالأخص التطورات اللاحقة في الكوفة.
4- بعث الرسل والكتب، وانتظار الأجوبة.
5- تربية أصحابه وتوعية الناس من خلال الخطب والنصائح والمواعظ التي ألقاها في الطريق.
6- نشر أنباء ثورته إلى مختلف مناطق الجزيرة العربية، فقد كان طريقه على القبائل العربية المختلفة التي كانت تقطن في الطريق إلى الكوفة، وكانت تلتقي مع الإمام الحسين (عليه السلام) ومن خلال اللقاء كانت تدرك أهداف وأسباب الثورة فالحسين (عليه السلام) ومن خلال رحلته الطويلة تلك ولقاءاته المكثفة كان بمثابة جهاز إعلامي متجول يبث لمختلف القبائل العربية المسلمة أنباء الثورة ودعوته الصريحة بالنصرة ضد الحكم الأموي.
الأسس التي اعتمدها الإمام في تعامله مع الأمة:
كان الإمام الحسين (عليه السلام) على بينّة من طبيعة المجتمع العراقي وما يعانيه من ازدواجية وانهزامية وعصبية وروح مادية. وتتبين معرفته بهذا المجتمع من خلال معالجاته له، فمنذ الوهلة الأولى أخذ الإمام الحسين (عليه السلام) يتعامل مع هذا المجتمع من أفقٍ واسع بخلاف الحكام والولاة الذين حكموه في فترات من التاريخ، إذ كان هذا المجتمع ضحية السياسات الخاطئة لهؤلاء الحكام.
وقد أرسى الإمام الحسين (عليه السلام) أسلوبه في التعامل مع أهل العراق بصورة خاصة والأمة بصورة عامة على هذه الأسس التي كان فيها العلاج لأمراضها التي تحدثنا عنها.
أولاً: الصراحة.
كان الإمام صريحاً مع الأمة منذ اللحظة الأولى من نهضته، فقد خطب بالأمة وهو في المسجد الحرام قبل أن تبدأ رحلته إلى العراق، جاء في أولى خطبه: الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلاّ بالله، وصلى الله على رسوله، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خطّ بالقلم(12).
فهل هناك صراحة أكبر من أن ينعى القائد نفسه أمام الأمة، خلافاً للمعهود بين الحكام والولاة الذين يتحدثون دائماً عن الانتصارات، وحتى نكساتهم يسمونها انتصارات فهؤلاء يخشون الصراحة، لأن بالصراحة ستكشف عن ثغراتهم، أمّا الإمام فليّس عنده ما يخشى من الصراحة عندما وصل إليه اثنان من الكوفة، وكانا يحملان خبراً محزناً قالا للإمام: إنّ عندنا خبراً فإن شئت حدثنا علانية وإن شئت سراً فنظر الإمام إلى أصحابه وقال: ما دون هؤلاء سر(13) فذكرا للإمام ما جرى لمسلم بن عقيل وهانيء بن عروة في الكوفة، وتخاذل أهل الكوفة عن تلبية دعوته وخيانتهم لبيعته.
وهناك مواقف أخرى للإمام تتجلى فيها الصراحة، وتكشف لنا أنّ الصراحة هي سياسة ثابتة للإمام الحسين (عليه السلام).
ثانياً: وضعها عند مسؤوليتها، ومنها حق الاختيار.
فالقائد المثالي هو الذي يحدد واجبات الأمة ومسؤولياتها بدقة وصراحة، وهو لا يجبر أمته على اختيار طريقها ولا يفرض عليها تلك الواجبات والوظائف فقد جاء في خطبته الأولى: "ألاّ ومن كان فينا باذلاً مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا(14). لكنه كان يبين لهم نتائج النكوص والإنهزامية طالباً منهم نصرة الدين، فقد خطب فيهم وهو على مقربة من كربلاء، وفي منزل "البيضة": "أيها الناس إنّ رسول الله (عليه السلام) قال: "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (عليه السلام) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قولٍ كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، وكتب إلى بني هاشم "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين. وليّس هناك إجباراً أو إكراه فقد منح الإمام الحسين (عليه السلام) حرية الاختيار للأمة بعد أن منحها الوعي الكافي، وذكرها بالكتب والرسل التي طلبت منه المجيء إلى الكوفة. خطب في جيش حر بن يزيد قائلاً: "أيها الناس إنها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم.. إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت بها عليّ رسلكم أن أقدم علينا فإنه ليّس لنا إمام، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئن به من عهودكم ومواثيقكم وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم".
وخطب أيضاً: "فإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم".
وعند لقائه بأشخاص من أمثال عبيد الله بن الحر كان أيضاً يمنحهم حق الاختيار فلا يجبرهم على عملٍ يسلب منهم الإرادة، وبهذه الطريقة كان الإمام يعالج حالة الازدواجية التي منشأها الاستبداد الذي يوّلد في النفس حالتين متعاكستين.
ثالثاً: تذكيرهم بشخصيته وقرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنه صاحب الحق.
ولربما كان غائباً على البعض مكانته وشخصيته الدينية وقربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يذكرهم بين الحين والآخر بهذه الحقيقة ليعرّفهم نفسه أولاً، ولكي يثير حفيظة بعضهم فمن تنكّر للإمام. خطب في جيش حر بن يزيد الرياحي: "أيها الناس، إنكم إن تتقوا الله، وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليّس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان.
وقال أيضاً في خطابه في مكة:" رضا الله، رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله (عليه السلام) لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده".
رابعاً: المشاركة الواجدانية.
الأمة التي ترى قائدها مشاركاً لها في الصعاب تتفاعل معه وتكون إلى جانبه وتفدي نفسها من أجله.
وإذا نظرنا إلى حياة ملوك وولاة بني أمية لوجدنا أنهم كانوا بعيدين عن الأمة لا يشعرون بآلامهم ولا بمعاناتهم فكانوا يعيشون في بحبوحة العيش متنعمين بألذ الطعام والشراب بينما كانت الأمة تعيش حالة الفقر والحرمان وكان لهذا التناقض أثراً واضحاً في سلوك الأمة، فالارتداد والازدواجية جانب من أسبابها مرتبط بالحكام والولاة الذين حكموا البلاد الإسلامية، وكان الموقف الإسلامي الصحيح أن يعيش الحاكم حياة الفقراء المستضعفين كما كان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا أفضل وسيلة لتربية الأمة وتعويدها على تحمّل الصعاب والمشاكل، فقد خطب الإمام في جيش الحر بن يزيد الرياحي الذين أحاطوا به من كل جانب فقال لهم: "وأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، ولكم فيّ أسوة". فلم يكتفِ الإمام بنفسه بل ذكر أهله أيضاً فالذي سيصيب أهلهم سيصيب أهله أيضاً بدليل أنه جاء بعياله أيضاً ليضحي بهم أيضاً، وهذا مدى ما يبلغه القائد من المشاركة الوجدانية مع أبناء الأمة، وفعلاً كان الإمام الحسين (عليه السلام) عند كلامه فقد قدّم أبناءه قرابين على طريق الشهادة، ولم يكتفِ بالأنصار وأبناء الأنصار، وكما شمل الأسر عوائل الأنصار شمل بنات رسول الله أيضاً.
الهوامش:
1- الطبري: 4/298-299.
2- الملهوف: ص62.
3- الأمالي: ص93.
4- المناقب: 2/213.
5- الطبري: 4/301.
6- أنساب الأشراف: 1/241.
7- الطبري: 4/307.
8- الحموي: معجم البلدان مادة، (قصر مقاتل).
9- الطبري: 4/308.
10- رجال الكشي: ص72.
11- الطبري: 4/300.
12- كشف الغمة: 2/241.
13- الطبري: 4/299.
14- كشف الغمة: 2/241.