mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 04.doc

وهفوة أخرى وقع فيها الجيش الإسلامي الزاحف نحو مكة لفتحها من أيدي المشركين كادت أن تؤدي إلى كارثة فأسرع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واستنجد بالإمام علي (عليه السلام) لمعالجة الموقف.

بدأت المشكلة هكذا، قسّم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين إلى ثلاثة أقسام وأمر كل قسم أن يدخل مكة من نقطة معينة وأمر الجميع بأن يضعوا سيوفهم في الأغماد وأن لا يقتلوا أحداً وأن يكون دخولهم لمكة بصورة سلمية.

والمجموعة التي أوكل لها دخول مكة من نقطة (كداء) تحت قيادة سعد بن عبادة، وقد أخذه الحماس وهو يقتحم أسوار الشرك فرفع صوته قائلاً:

اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، فسمعها أحد المهاجرين فنقلها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فغضب الرسول لهذه العبارة لانها كانت تخالف الاستراتيجية التي حددها للمسلمين أثناء دخولهم مكة، فقد قرر أن يكون دخولهم لمكة سلمياً للحفاظ على قدسية بيت الله الحرام.

أما مقولة سعد بن عبادة فبالإضافة إلى ما تحملها من عدم انصياع لأوامر القيادة فإنها تثير ما كمن في القلوب خلال المواجهة المريرة مع المشركين ومن شأنها أن تطلق العنان لحملات الثأر أن تتفجر وهذا يعني إعلان المواجهة السافرة وانفلات الأمور من أيدي القيادة وهو مخالف تماماً للخطة التي وضعها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). ولمعالجة الموقف على عجل أرسل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام علي (عليه السلام) وأمره أن يأخذ الراية من يد سعد بن عبادة قائلاً له: أدركه فخذ الراية منه وكن أنت الذي تدخل بها(1).

واستبدل شعار سعد بن عبادة بهذه الصيغة اليوم يوم المرحمة اليوم توصل الحرمة.

وأخذ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يردد هذا الشعار ومعه كافة المسلمين الأمر الذي أدى إلى فتح مكة بصورة سلمية.

ولم يكتف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بارسال علي (عليه السلام) لحل المشكلات المستعصية وحسب بل كان يبعثه في كل مهمة تتطلب الحنكة والشجاعة والجرأة. فعندما يعجز الآخرون عن انجاز المهام إليهم يسعفهم بعلي(عليه السلام) فتلك خيبر شاهدة على قدرته الفائقة، وتلك ذات السلاسل شهادة أخرى لعلي(عليه السلام)   في مضائه وشجاعته وجرأته. وبالإضافة إلى المهام القتالية التي ذكرناها فيما سبق هناك المهام الخاصة التي لا يستطيع القيام بها إلا من تتوفر فيه مزايا معينة.

وقرر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن تخلفت قريش عن تنفيذ اتفاقية الحديبية أن يفتح مكة بصورة سلمية، وجهز جيشاً كبيراً قوامه عشرة آلاف مجاهد وكانت الخطة تستوجب مفاجأة قريش بهذا الجيش فلا ترى خياراً من الإنصياع والإستسلام وبذلك تتحقق الغاية من فتح مكة سلماً.

وكان أهم عامل لإنجاح الخطة هو السرية ومنع وصول أنباء التحشيد العسكري إلى قريش، وتسرّب الخبر إلى حاطب بن بلتعة وكان له دار وأهل في مكة فأراد كسب ود قادة قريش فأرسل لهم كتاباً يحمل معلومات وافية عن تحرك الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لتحرير مكة، وبعث الكتاب مع امرأة من مزينة فأخذت الكتاب ووضعته في رأسها ولفته في شعرها وقبل أن تتمكن مزينة من الخروج إلى مكة لإيصال الخبر أوحى الله إلى نبيه بذلك الأمر، فأرسل علياً والزبير وأمرهما بأن يُسرعا للقبض على المرأة والحصول على الرسالة.

فجد الإثنان في طلب المرأة حتى وصلا إليها فأسرع الزبير وسألها عن الكتاب فأنكرت كل ذلك وأخذت تبكي، فرق لها الزبير ورجع إلى علي(عليه السلام) ليخبره بأنه لم يجد عندها شيء وإنها بريئة وطلب منه الرجوع لإخبار الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك. رفض علي(عليه السلام) العودة لأنه كان واثقاً من أمر المرأة إذ لا يمكن أن يكذب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أخبره بأمر مزينة من عند الله.

قرر علي(عليه السلام) أن يواصل المهمة وجاء إلى المرأة فجرد سيفه في وجهها مهدداً إياها:

والله إن لم تخرجي الكتاب لأكشفنك، فخافت المرأة وكيف لا تخشى من رجل قتل الأبطال وهزم الجيوش، إن مجرد سماعها بعلي(عليه السلام) ومشاهدتها لسيفه وهو يلمع أمام وجهها يكفي للإعتراف بالحقيقة فأسرعت إلى إخراج الكتاب قبل أن ينفذ فيها تهديده، فعاد علي(عليه السلام) بالكتاب إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فنجحت الخطة السلمية لتحرير مكة بفضل تلك المفاجأة التي صدمت بها قريش، فشلت حركتها فلم يكن أمامها سوى الإذعان للأمر الواقع.

في السنة التاسعة للهجرة وصلت أنباء مزعجة مفادها أن الروم يتجهزون لغزو الحجاز، فأخذ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعدّ العدة لمواجهة جيش الروم وبعد صعوبات بالغة تمكن من تجهيز ثلاثين ألف وقيل أربعين ألفاً من المقاتلين وقد لعب المنافقون دوراً مؤثراً في تثبيط العزائم وشل الهمم، فتقاعس آلاف منهم الذين بقوا في المدينة وكان يخشى أن يقوموا بدور تخريبي بعد أن فشلت خطتهم في احباط عملية التعبئة للقتال. وكان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يدرك خطورة هؤلاء المنافقين القابعين في المدينة وقدرتهم على تنفيذ ما يصبون إليه من تضعيف لمعنويات المسلمين وتثبيط عزائمهم.

وقرر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون برفقة المجاهدين وكان هذا يحتم عليه أن يبحث عن رجل مدبّر يستطيع أن يقوم مقامه في إدارة دفة البلاد ويستطيع مواجهة مؤامرات المنافقين ويشلّ حركتهم التآمرية. وما كان ذلك الشخص الذي سيقع عليه الإختيار سوى علي بن أبي طالب(عليه السلام). فاستخلفه في المدينة وهي الغزوة الوحيدة التي لم يشترك فيها الإمام علي (عليه السلام).

وتلقى المنافقون نبأ تنصيب علي لهذه المهمة بشيء من عدم الإرتياح البالغ لأنهم كانوا على ثقة بأن خططهم ستفشل مع وجود علي (عليه السلام). فعملوا جاهدين على إلغاء هذا التنصيب. فأخذوا يبثون الشائعات وينشرون الدعايات قائلين إن محمداً لم يستخلفه في المدينة إلاّ إستثقالاً له وكُرهاً به ووصلت الدعاية أسماع علي (عليه السلام)، فأراد أن يُبطلها بطريقة عملية وسريعة فأخذ سلاحة ولحق بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو نازل بالجرف فقال يا نبي الله لفد زعم المنافقون بأنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني فقال له النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي(2).

فرجع إلى المدينة وقام بإدارة شؤونها خير قيام.

وما أن حلّت السنة العاشرة للهجرة حتى أسلمت جزيرة العرب بأغلبها ولم يبق منها إلا بعض القبائل ومنها قبائل همدان في اليمن فأرسل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد ومعه جمع من الصحابة لدعوة هذه القبيلة إلى الإسلام وظلم خالد في اليمن ستة أشهر دون جدوى فلم يُجبه أحد(3). إذ لم يتمكن خالد من التأثير في هذه القبيلة فبعث إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره بانصراف القوم عنه وعدم إيمانهم بالإسلام حينذاك بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ابن عمه علي بن أبي طالب(عليه السلام) وطلب منه أن يعيد خالد إلى المدينة ويحلّ محله ويُبقي من شاء وكان البراء بن عازب من بين من كان في ركب خالد بن الوليد وممن بقي في اليمن مع علي بن أبي طالب (عليه السلام).

والبراء هو شاهد العيان على ما حدث في اليمن فيقول:

كنت ممن خرج مع خالد فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيببوا ثم إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأمره أن يقفل خالداً ويكون مكانه، فما دنونا من القوم خرجوا إلينا وصلى بنا علي ثم صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بإسلامهم فأسلمت همدان جميعاً(4) وقيل إن الحادثة وقعت في السنة الثامنة للهجرة وإن لعلي ثلاث مهمات في اليمن الأولى في السنة الثامنة والثانية بين الثامنة والتاسعة والثالثة في السنة العاشرة للهجرة.

وهنا يتجلي بُعد آخر من ابعاد شخصية الإمام علي (عليه السلام) وهو القدرة الخارقة في التأثير والإقناع بحيث أن العشرة آمنت بالإسلام في يوم واحد بعد أن ظلت ستة أشهر رافضة للإسلام.

وأرسل علي بن أبي طالب(عليه السلام) إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالخبر السار فخر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ساجداً(5) ثم رفع رأسه وقال السلام على همدان.

وظلت قبيلة همدان في ركب الإمام علي (عليه السلام) ومن أخلص الناس إليه وكان لها دور مهم في التأريخ أثناء المعارك التي خاضها الإمام علي (عليه السلام) مع التيار الأموي والتيار الإنحرافي المتمثل بالخوارج، فقد كانت همدان مفخرة للتأريخ وطالما مجد الإمام علي مواقفها في حروبه القاسية مع النظام الأموي. فهو الذي كان يردد دائماً.

ولو كنت بواباً على باب جنة*****لقلت لهمدان أدخلوا بسلام

وقد سجل التاريخ السياسة الحكيمة للإمام علي (عليه السلام) في اليمن التي أدت إلى أذعان هذه القبيلة وتفانيها في الإسلام كمنقبة خالدة من مناقب الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

وإذا ما أضفنا هذه اللقطات التأريخية إلى اللقطات السابقة لأدركنا ابعاداً أخرى لشخصية الإمام علي (عليه السلام) فهو لم يكن فقط البطل الشجاع الذي يهابه الأعداء متى سمعوا باسمه والذي كان وجوده في معسكر المسلمين السبب المباشر لإنتصارهم في أغلب الحروب بل جمع إلى جانب البطولة القدرة الكبيرة في البيان والإقناع والقدرة الكبيرة على الإدارة والقضاء، فقد بعثه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرة أخرى إلى اليمن ليقضي بين أهلها وذكر المؤرخون جملة من القضايا التي صادفته في اليمن والتي كشفت عن ذكاء خارق وحنكة كبيرة.

لقد خاض علي بن أبي طالب كل تلك التجارب والتي أضافت إلى مؤهلاته الأخرى قدارت قيادية جديدة أهّلته لقيادة الأمة الإسلامية، فهو مارس وظيفة إدارة الدولة عندما استخلصه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على المدينة في غزوة تبوك، وقام بأعمال كبيرة لإحباط مؤامرات المنافقين فأوجدت لديه قدرة خارقة لكشف المؤامرات قبل وقوعها وسنعرض ذلك من خلال مطالعة سيرته في الحكم كيف كان يكتشف المؤامرة قبل وقوعها.

وقد مكنه حضوره المستمر في الأزمات من مواجهة كل أزمة سياسية وإجتماعية وإذا عرفنا إن فترة حكمه كانت فترة أزمات في التاريخ الإسلامي لأدركنا عظمة شخصية الإمام(عليه السلام) حيث تمكن من التصدي لها.

فلم يحن هامته لأكبر أزمة واجهته بل وقف يواجهها بروح إسلامية عالية وبصدر كبير. وأخذ يرمي بها بوابل من المبادئ والقيم والمُثل.

 

ثالثاً: التمثيل الرسمي

مهما أردنا أن نستوضح العلاقة القائمة بين الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام) لعجزنا عن الوصف لأننا كلما توغلنا في البحث بُعدا آخر من هذه العلاقة، فهي علاقة معلم وتلميذ. فقد علمه ألف باب من العلم وهي علاقة أب لإبنه، لأنه ابنه بالتربية وهي علاقة أخ لأخيه في نطاق الأخوة الإسلامية التي جمعت كل المسلمين في علاقة مشتركة واحدة، وهي علاقة ابن عم لإبن عمه من حيث النسب والإرتباط العائلي. وهي علاقة والد الزوجة مع صهره فهو زوج ابنته وعزيزته فاطمة الزهراء(عليه السلام).

وهي علاقة رجل العائلة الكبير مع امتداده النسبي.

فعليّ (عليه السلام) هو الذي حفظ لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نسله من بنته فاطمة الزهراء. وهي علاقة قائد مع جنديّه. إذ كان جندياً مطيعاً لا يلوي عنقه لأي أمر يصدر إليه.

وهي علاقة رئيس دولة مع مساعده الأول حيث كان علي أقرب الناس إليه يستشيره في كل شيء ويكتب له مواثيقه وعهوده.

وكان حاصل جمع هذه العلائق المتينة أن اصبح علي (عليه السلام) ممثلاً لرسول الله بمفهوم أعمق مما هو متداول في العرف السياسي.

فقد كان علي(عليه السلام) هو نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بصريح الآية الكريمة (وأنفسنا وأنفسكم) وليس هناك تعبير أشمل وأدق وأوسع من تعبير القرآن الكريم في ترسيم مفهوم التمثيل.

وهكذا كان علي (عليه السلام) يتصرف بما يريده الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وما يُفكر به فلو فرضنا جدلاً إن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في مكان علي(عليه السلام) لكان قد عمل نفس الشيء. فقد بلغ التواصل الروحي بين الإثنين حداً يصعب على المؤرخ أن يجد أية فروق بينهما إلا فرق النبوة. وهذه الفكرة تلقي بظلال ساطعة على سيرة الإمام علي (عليه السلام) خلال فترة حكمه، وليس أدل على أحقيته في تلك المواقف التي وقفها، عندما نتصور رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك المواقف. فهل كان يعمل غير الذي عمله علي (عليه السلام).

هل كان يسكت على من حمل السلاح بوجهه وأراد شق عصا المسلمين.

إن عبارة (وأنفسنا وأنفسكم) هي المنطلق الذي يجب أن نحاكم به كل الذين وقفوا بوجه الإمام علي (عليه السلام) ومن خلال هذا المنطلق يجب أن ندرس حياة الإمام (عليه السلام) ونتعرف على مواقفه من الزبير وطلحة ومعاوية وكل من حمل السلاح بوجهه.

إن رزمة من الأحاديث والروايات التي قيلت في الإمام علي (عليه السلام) تتجانس تماماً مع هذه العبارة التي سجلها القرآن الكريم وسجلها التاريخ في الحادثة التي ذكرها المؤرخون.

وفد إلى المدينة جماعة من نصارى نجران، وكانت الغاية التحاور مع المسلمين بهدف التشكيك في دينهم وكان يضم الوفد عدداً من القساوسة وقد قضوا فترة في المدينة يتحاجون مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يسألونه الأسئلة المبهمة فيجيبهم عنها فلم يبق لهم عذر إلا الإيمان أو المصالحة وقد نوهّت الآية الكريمة عن ذلك.

(فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم، فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(6)

فعندما جاؤوا للمحاججة –دعاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمباهلة، فطلبوا مهلة حتى يستشيروا زعيمهم وعندما استشاروا العاقب دعاهم إلى الموادعة وفي الغد عندما حضروا المكان المقرر وجدوا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، محتضناً الحسن وآخذاً بيد الحسين وقاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها.

فلما رأوهم قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على الله أن يزيل الجبال لأزالها ولم يباهلوا وصالحوه على ألفي حلّة ثمن كل حلة أربعون درهماً(7)

في السنة العاشرة للهجرة أصبحت السيادة في جزيرة العرب كاملة للإسلام، فأصبح للإسلام كيان سياسي وشعب وارض وحدود ولم يعد هناك مكان للشرك والوثنية على تلك الأرض التي طهرت بالإسلام فكان لابد من تصفية أي وجود آخر غير الإسلام. فمن غير الممكن القبول بوجود تجمّع دخيل إلا أن يكون تجمعاً غير معاد وتحت مظلة الإسلام فنزلت سورة البراءة لتحدد معالم المرحلة الجديدة ولترسم معالم العلاقة مع القبائل الوثنية. فقد منح القرآن الكريم وهودستور الدولة مهلة أربعة اشهر لكل القوى غير الإسلامية لتحدد موقفها وعلاقتها مع التجمع الإسلامي، فالتي نقضت عهدها لا عهد لها مع الإسلام، أما التي وفت بعهدها فالمسلمون يمضون معها حتى نهاية الأجل.. كما وقرر الآية (إنما المشركون نجس) فلاحق لهم بالحج بعد عامهم هذا ولاحق لهم بالطواف في البيت وهم عراة وكان الملطلوب أن تذاع هذه السورة في الملأ أمام المشركين. وكان أفضل مكان لقراءة هذا البيان هو البيت الحرام وأفضل وقت له هو اليوم العاشر من ذي الحجة حيث سيجتمع المشركون من كل مكان ويلتقون في هذا المحل العام.

حينها ستتوفر كل الشرائط المطلوبة لنشر هذا الإعلان بين القبائل غير المسلمة.

ويورد المؤرخون إن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل في بداية الأمر الخليفة الأول أبي بكر، وإذا بالوحي ينزل عليه ويأمره أن يرسل علياً مكان أبي بكر(8).

فمضى علي نحو مكة وهو على ناقة رسول الله حتى التحق بأبي بكر في ذي الحليفة فلما سمع رغاء الناقة عرفها فخرج فزعاً وهو يظنه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا هو عليّ فأخذ الآيات منه ورجع أبو بكر إلى المدينة خائفاً أن يكون قد نزل فيه ما يغضب النبي، فقال يا رسول الله أنزل فيّ شيء فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل مني(9).

وربما كان وراء قرار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باستبدال أبي بكر بعلي هو ما يلي:

1- المواد الأربعة في اعلان البراءة هي بمثابة الإمضاء على عهد جديد حيث تقرر انتهاء العمل بموجب الاتفاقيات المبرمة عند انتهاء أجلها وهذا يقضي حضور رئيس الدولة أو من ينوب عنه ممن هو أقرب الناس إليه.

2- اقتضاء الاعلان وما يحمله من جدية وقرارات حاسمة وخطيرة أن يكون من يتلوه رجلاً معروفاً بالشجاعة والمهابة يستطيع أن يقذف الرعب في قلوب المشركين أثناء تلاوته للبيان. إذ لا يمكن أن نتجاهل دور الإلقاء في مثل هذه المواقف فلنتصور الموقف برمته في تلك اللحظة التي تجتمع فيها القبائل غير المسلمة من كل أطراف الجزيرة، ولنتصور ردود فعلها عندما تسمع بتلك القرارات الحاسمة لا يحق لأفرادها دخول مكة في العام القادم، ولا يحق لهم الطواف وهم عراة كما كانوا يفعلون في الماضي، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته ولا يدخلن الجنة مشرك فقد كان لابد لهذه القرارات من وقع قوي وسريع على المشركين يلزمهم تطبيقها وبالتالي تدفعهم إلى الإسلام إن أرادوا العيش في الجزيرة. فكان لابد من إيجاد جو من القوة والجدية أثناء تلاوة البيان، ومن يستطيع أن يصنع مثل ذلك الجو غير علي (عليه السلام)؟ الذي يهابه كل المشركين فمجرد السماع باسمه كان يبعث على الهلع والخوف. وفعلاً اصغى المشركون إلى هذا القرار بقلوب ترتعد من الخوف ثم رجعوا إلى أنفسهم وتلاوموا وقال بعضهم لبعض.. ما تصنعون وقد أسلمت قريش فأسلموا(10) قبل انقضاء المدّة المقررة وهي أربعة أشهر.

 

رابعاً: المشاور الخاص

جاء الإسلام بنظرية جديدة في الحكم تقوم على مبدأ المشاركة الفاعلة بين الشعب ومؤسسات الحكم ومن اسس هذه المشاركة التشاور بين الحاكم والشعب، فقد أقرّ القرآن هذا الأساس عندما ذكر (وأمرهم شورى بينهم) وأمر الله رسوله الكريم بإتباع هذا المبدأ عندما طلب منه وشاورهم في الأمر.

وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يشاور أصحابه قبل أن ينزل عليه الوحي ليأمره بهذا الأمر وكان من عادته مشاورة اصحابه بأجمعهم في الأمور العامة التي تتعلق بالمسلمين كافة أما في الأمور الخاصة فكان يشاور بعض الأصحاب ممن يثق برجاحة عقلهم وحصافة رأيهم ويأتي الإمام علي (عليه السلام) في طليعة من كان يحظى بثقة عالية عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فكان محط مشورته في أموره الخاصة وفي الأمور العامة فقد تشاور مع علي في أسرى بدر(11).

وعندما تلبدت الأجواء بالدعايات المغرضة التي كانت تمس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في زوجته(12) دعا رسول الله الإمام علي (عليه السلام) وشاوره في أمر زوجته فقال إن النساء لكثير وسل الخادمة تصدقك(13).

فسأل رسول الله الخادمة فقالت والله ما أعلم إلا خيراً. وما كنت أعيب عليها إلا أنها كانت تنام عن عجينها فيأتي الداجن فيأكله.

ويواصل النبي الأكرم مشاورة الإمام علي (عليه السلام) في قضايا الحرب والسلم في قضاياه الخاصة والعامة واثقاً بأنه أهل للمشورة ولم يكتف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك القدر من المشورة بل كان يشاور ابن عمه في سن قوانين الدولة أو ما نصطلح عليه بالأحكام.

فعندما نزلت آية: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) المجادلة12.

قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب ما ترى: دينار، قال الإمام لا يطيقونه فقال النبي فنصف دينار قال الإمام لا يطيقونه قال النبي: فكم قال علي: شعيرة(14).

وفي تفسير الطبري والرازي إن هذه الآية ما عمل بها أحد إلا علي بن أبي طالب كان معه دينار فصرفه بعشرة دراهم فكان كلما أراد مناجاة الرسول تصدق بدرهم ثم نسخت الآية قبل أن يعمل بها أحد غير علي(15).

وفي روح البيان عن عبد الله بن عمر أنه قال: كان لعلي ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى(16)

ويذكر لنا أرباب التاريخ أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخلو بعلي (عليه السلام) في أوقات الليل وكانا يتحدثان في شؤون الدولة وأمور المسلمين ومن البديهي ان يستشيره في الكثير من الأمور التي تهمّ البلاد الإسلامية.

 

الهوامش:

1- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 246.

2- ذكره جمع من المؤرخون المحدثين منهم أصحاب الصحاح الستة 1/299 من فضائل الخمسة من الصحاح الستة وج2 ص203 من الخصائص للنسائي وذكره ابن الأثير في الكامل 2/278.

3- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 300.

4- الأمين السيد محسن أعيان الشيعة 1/ 410.

5- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 300.

6- أجمع المفسرون على كلمة أنفسنا المقصود بها علي (عليه السلام) لأن المرء لا يمكن أن يدعو نفسه إلا كناية عن الغير وقد أجمع المؤرخون أن المشاركون في المباهلية هم الحسنان وفاطمة علي فقط.

 7- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 293.

8- ورد ذلك في البداية والنهاية وفي الكامل في التأريخ وأوردته كتب الحديث أجمعها ومنها الصحاح الستة وقد جمع صاحب كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة في الجزء12 الصفحة343 وما بعدها كل ما ورد في هذا الشأن.

9- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 291.

10- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 291.

11- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 136.

12- على رأي بعض المؤرخين المستهدفة من حديث الأفك هي السيد عائشة ورأي آخر يرى أنها السيدة ماريا القبطية.

13- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/197.

14- رواه الترمذي في فتح الباري 17/ 103.

15- الطبري جامع البيان في تفسير القرآن 28/ 20 والتفسير الكبير للرازي 27/ 270.

16- روح البيان9/ 406.