mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 31.doc

ومِن المخاطر التي واجهها معاوية، المعارضة الشعرية التي تمثلت بمجموعة الشعراء الذين رفضوا بيعة يزيد وأخذوا يعددون مفاسده ورذائله.

وقد نقل لنا ابن أعثم الكوفي (314هـ) الكثير من تلك المواقف الشعرية ضد بيعة يزيد، وكيف تعامل معاوية مع هؤلاء الشعراء المعارضين.

قال عقيبة الأسدي شاعر أهل البصرة في بيعة يزيد:

معـــاوي إننا بشــــرٌ فأسجـــع*****فــــــلسنا بالجبال ولا المديد

أكلتم أرضــنا فـــجردتموهــــا*****فهل من قائم أو من حصيد

أتطمع في الخلود إذا هلكــــنا*****وليس لنا ولا لك مِن خلود

فهبها أمة هلكـــــت ضياعــــاً*****يزيدُ يسوسها وأبــــو يــــزيد

دعوا حق الإمارة واستقيموا*****وتأمــــيل الأراذل والعــــبيد

وأعطونا السوية لا تزركـــــم*****جنــــود مردفــــــات بالجنود

فبعث إليه معاوية بعشرة آلاف درهم ليكفّ لسانه فأنشأ يقول:

إذا المــــنبر الغربي حــــل مكانــــه*****فـــإن أمـــــير المؤمنيــــن يـــزيدُ

على الطائر الميمون والجدُّ صاعدٌ*****لكـــل أنــــاس طـــائرٌ وجدود

بنــــى خــــلفاء الله مــــهلاً فإنمـــــا*****ينـــوءُ بها الرحمن حيثُ يُريدُ

وعندما سمع عبد الله بن همّام السلولي شاعر أهل الكوفة بذلك، وكان ممن يبغض يزيد فنظم في ذمه هذه الأبيات:

فإن بـــــــاتوا برمــــلة أو بـــهندٍ*****يُــــــبايعهُ أمـــيرةُ مـــــؤمنيـــــنا

وكـــــل بنـــــيك تراضـهم وإن*****شئــــتم بعـــــملهم المــــــنتمينا

إذا مات كسرى قـــــام كسرى*****يعـــدُّ ثـــــلاثة متـــــــناســــقينا

فلما بلغ معاوية ذلك قال: ما ترك ابن همّام شيئاً، ذكر الحُرم وعيّرنا بالسخينة، ثم وجه إليه معاوية ببدرة فلما وصلت إليه شكرها لمعاوية ثم كتب إليه هذه الأبيات:

أتاني كتاب الله والـــــدين قائـــمُ*****وبالشام أن لا فيه حكمٌ ولا عدلُ

أريـــــد أمــــير المــــؤمنـــين فـــإنــهُ*****على كُلِّ أحوال الزمان له الفضلُ

أبــــــــو خالد أخلْق بهِ أن يُصيبنا*****بسجلٍ مِن المعروف ينبعه سجلُّ(1)

وسار يزيد على منحى أبيه في شراء الذمم بالمال، فذكر الطبري قائلاً: "قدم عبد الرحمن بن زياد على يزيد بن معاوية مِن خراسان بعد قتل الحسين (عليه السلام) واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم، قال: وحدثني مسلم بن محارب وأبو حفص قالا: قال يزيد لعبد الرحمن بن زياد، كم قدمت به معك مِن المال مِن خراسان، قال: عشرين ألف ألف درهم، قال: إن شئت حاسبناك وقبضناها منك ورددنا على عملك وإن شئت سوّغناك وعزلناك وتعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم، قال: بل تسوغني ما قلت ويستعمل عليها غيري، وبعث عبد الرحمن بن زياد إلى عبد الله بن جعفر بألف ألف درهم، وقال: خمسمائة ألف من قبل أمير المؤمنين وخمسمائة ألف مِن قبلي(2).

وليست هناك إشارة إلى شخصية عبد الله بن جعفر، هل هو زوج زينب الكبرى أم غيره، على أيّ حال فإنّ في الخبر إشارة واضحة إلى أسلوب الرشوة في شراء الذمم والذي بات سياسة ثابتة في الحكم الأموي.

 

سابعاً: سياسة التهديد.

وهي إحدى طُرق الضغط التي تمارس بحق الأشخاص أو الجماعات بهدف تغيير مواقفهم وآرائهم وهي تُستخدم بشكل خاص ضد القريبين نحو النظام، فقد استخدم بُسر أسلوب التهديد مع زياد بن أبيه عندما أراد أن يأتي معاوية ويُبدي طاعته واستعداده للانضواء تحت قيادته، فقد كتب إلى زياد: لتقدمن على أمير المؤمنين أو لأقتلنّ بنيك(3).

واستخدم الحكم الأموي أسلوب التهديد ضد الناس البسطاء بقصد إرعابهم لتغيير مواقفهم فلما أصبح زياد والياً على العراق في عهد معاوية خطب خطبة شديدة جاء فيها: إني رأيت آخر هذا الأمر لا يُصلح إلاّ بما صلح أوله: لين في غير ضعف وشدة في غير جبرية وعنف وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي والمُقيم بالطاعن والمقبل بالمدبر والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجُل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيداً وتستقيم لي قناتكم إن كذبة المنبر تبقى مشهورة فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم     معصيتي.. (4) وسار ابنه عُبيد الله على نهج أبيه في اتبّاع هذه السياسة، إذ استخدمها مع مسلم بن عقيل في أول ولايته على الكوفة.

يقول الطبري: "ودعا عبيد الله كثير بن شهاب بن الحصين فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب ويحذرهم عقوبة السلطان، وكذلك طلب مِن القعقاع بن سور الذُهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري أن يفعلوا ذلك(5).

وكان لهذا التهديد أثره في تفتيت جبهة المعارضة وخذلان أهل الكوفة لمسلم بن عقيل، فأخذ الناس ينصرفون عنه عندما سمعوا بهذه التهديدات، ولربما من فرط التهديد والخوف قد يندفع الناس إلى القيام بما هو معاكسٌ تماماً لأمانيهم، لنتمعن في هذه الحادثة التي ذكرها الطبري، وهي تحمل دلالات مهمة: "وفد عمرو بن العاص إلى معاوية ومعُه أهل مصر فقال لهم عمرواً: انظروا إذا دخلتُم على ابن هند فلا تسلموا عليه بالخلافة فإنه أعظم لكم في عينه وصغروه ما استطعتم، فلما تقدموا عليه قال معاوية لحجابه: إني كأني أعرف ابن النابغة وقد صغّر أمري عند القوم فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها فلا يبلغني رجلٌ منهم إلاّ وقد همته نفسه بالتلف، فكان أول من دخل عليه رجلٌ من أهل مصر يُقال له ابن الخياط، فدخل وقد تعتع فقال: السلام عليك يا رسول الله فتتابع القوم على ذلك، فلما خرجوا قال لهم عمرو: لعنكم الله نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة فسلمتم عليه بالنبوة(6) هذه الحادثة ذات دلالات مهمة، لا بُدّ من الإشارة إليها:

1- فهي تُبين لنا طبيعة العلاقة التي كانت قائمة بين معاوية وعمرو بن العاص، وهي نفسها نجدها بأشكال متنوعة في أكثر الحكومات الاستبدادية.

2- معرفة الحاكم لنفسيات أصحابه، وتعامله على أساس تلك المعرفة التي بدونها لا يستطيع أن يُماشيهم ويُسايرهم ضمن أهدافه.

3- الأثر الذي يتركه الخوف في الناس بحيث أنهم يعطون الحاكم المستبد أكثر مما هو مطلوبٌ منهم إيغالاً منهم في النفاق.

4- أثر الخوف في خلق موقفٍ مُوحّدٍ مِن السلطة، لكن هذا الموقف لا يمثل الحقيقة كلها، بل هو نمط من أنماط النفاق.

 

ثامناً: فرّق تسد.

الحاكم المستبد يعيش على التناقضات، فإذا لم تكن هذه التناقضات موجودة فهو يوجدها بمختلف الأساليب والطُرق، وكان دأب معاوية التصيّد في الماء العكر وخلق التناقضات بين أرباب السُلطة التي يحكمها، فهو يدفع بالجميع إلى العداء السافر ويضع البعض في مواجهة البعض الآخر، ليتمكن من السيطرة عليهم.

 

يقول العقاد: "ودأبه في الوقيعة بين أهل بيته كدأبه في الوقيعة بين النظراء من أعوانه، فلم يكُن يطيق أن يتفق بنو أمية من غير بيت أبي سفيان، ولم يكُن ليهدأ ويستريح أو يوقع بين آل عمومته من بني العاص(7).

ونستدرك بما ذكره الطبري: "إن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص يأمره بقبض أموال مروان كلها فيجعلها صافية ويقبض فدك منه، وكان وهبها له، فراجعه سعيد بن العاص في ذلك وقال: قرابة قريبة، فكتب إليه ثانية آمره باصطفاء أموال مروان فأبى وأخذ سعيد بن العاص الكتابين فوضعهما عند جارية فلما عُزِل سعيد عن المدينة فوليها مروان كتب معاوية إلى مروان بن الحكم يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص بالحجاز وأرسل إليه بالكتاب مع ابنه عبد الملك فخبره أنه لو كان شيئاً غير كتاب أمير المؤمنين لتجافيتُ فدعا سعيد بن العاص بالكتابين اللذين كتب بهما معاوية إليه في أموال مروان يأمره فيهما بقبض أموال سعيد وكتب سعيد بن العاص إلى معاوية؛ العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا أن يُضفى بعضنا على بعض، فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره من الأخبثين وعفوه وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء وتوارث الأولاد ذلك فوالله لو لم نكُن بني أبٍ واحد إلاّ لما جمعنا إليه عليه مِن نصر الخليفة المظلوم وباجتماع كلمتنا لكان حقاً علينا أن نرعى ذلك والذي أدركنا به خير فكتب إليه يتنصل من ذلك وأنه عائدٌ إلى أحسن ما يعهده(8).

ومن أساليب الوقيعة بين سعيد ومروان أنه: "لما ولي مروان كتب إليه أهدم دار سعيد فأرسل الفعلة وركب ليهدمها فقال له سعيد: يا أبا عبد الله أتهدم داري، قال: نعم، كتب إليّ أمير المؤمنين، ولو كتب في هدم داري لفعلت، قال: ما كنتُ لأفعل، قال: بلى والله لو كتب إليك لهدمتها، قال: كلا أبا عبد الملك وقال لغلامه انطلق فجئني بكتاب معاوية فجاء بكتاب معاوية إلى سعيد بن العاص في هدم دار مروان بن الحكم، قال مروان: كتب البدء يا أبا عثمان في هدم داري فلم تهدم ولم تعلمني، قال: ما كنتُ لأهدم دارك ولا أمنُّ عليك، وإنما أراد معاوية أن يحرضّن بيننا، فقال مروان: فداك أبي وأمي أنت والله أكثر منا ريشاً وعقباً، ورجع مروان ولم يهدم دار سعيد(9).

وكان معاوية قد كتب قبل ذلك إلى سعيد بن العاص وهو على المدينة أنه أهدم دار مروان فلم يهدمه، فأعاد عليه الكتاب بهدمها فلم يفعل فعزله وولى مروان(10).

وكانت هذه سياسة جميع ولاته: "قدم المغيرة على معاوية واستعفاه وشكا إليه الضعف فأعفاه وأراد أن يولي سعيد بن العاص وبلغ كاتب المغيرة ذلك فأتى سعيد بن العاص فأخبره وعنده رجلٌ من أهل الكوفة يُقال له ربيعة أو الربيع من خزاعة فأتى المغيرة فقال: يا مُغيرة ما أرى أمير المؤمنين إلاّ قد قلاك ورأيت ابن خنيس كاتبك عند سعيد بن العاص يخبره أن أمير المؤمنين يوليه الكوفة قال المغيرة: أفلا يقول كما قال:

أم غابَ ربُّكَ فاعترتْك خَصاصةٌ*****ولعلَّ ربَّك أن يعود مؤيِّدا

رُويْداً أدخلُ على يزيد فدخل عليه فعرضّ له بالبيعة فأدى ذلك يزيد إلى أبيه فردّ معاوية المغيرة إلى الكوفة فأمره أن يعمل في بيعة يزيد فشخّص المغيرة إلى الكوفة فأتاه كاتبه ابن خُنيْس فقال: والله ما غششتك ولا خُنْتُك ولا كرهت ولايتك ولكن سعيداً كانت له عندي يدٌ وبلاء فشكرت ذلك له فرضي عنه وأعاده إلى كتابته وعمل المغيرة في بيعة يزيد وأوفد في ذلك وافداً إلى معاوية(11).

ولم يكتفِ معاوية بالوقيعة بين أفراد الهيئة الحاكمة، بل كانت هذه هي سياسته على الصعيد العام أيضاً. فقد خلق التناقضات بين العرب والموالي – كما لاحظنا ذلك في أول الحديث  عن قواعد الحكم عند النظام الأموي، كذلك وجدناه يُفرِّق بين اليمانية والقيسية، فقرّب حسان بن مالك سيد القحطانيين.

كذلك خلق النزاع بين اليمانية والمضرية بالرغم من كونه مضرياً، ولكنه كان يبدو في بعض الأحايين كأنه من أبناء اليمن عدواً لأبناء مضر.

إذن لم يكن لمعاوية عقيدة ولا مبدأ ولا حتى فئة أو قوم، فكل ما يهمهُ ويشغل باله هو كرسي الحكم، وكان يندفع في سلوكه وأعماله من خلال ضرورات الحفاظ على المنصب وحاول أن يوقع بين ابن عباس وأميرالمؤمنين (عليه السلام) فكتب إليه برسالة مما جاء فيها: "فاتقوا الله في قريش، فما بقي من رجالها إلاّ ستة: رجلان بالشام ورجلان بالعراق، ورجلان بالحجاز، فإما اللذان بالحجاز: فسعد، وعبد الله بن عمر، وأما اللذان بالشام: فأنا وعمرو وأما اللذان بالعراق: فعليّ وأنت، ومن الستة رجلان ناصبان لك وآخران واقفان عليك، وأنت رأس هذا الجمع اليوم وغداً، ولو بايع الناس لك بعد عثمان كنا أسرع إليك منا إلى عليّ(12) وقد ألقمه ابن عباس حجراً بجوابه البليغ.

 

تاسعاً: ضرب الخصوم بعضهم ببعض.

تعاني الحكومات المستبدة من جماعات الضغط المعارضة، وعندما لم يكُن بمقدورها مواجهة هذه الجماعات فإنها تستعين بخصومها الآخرين لضرب هذه الجماعات، وهذه السياسة انتهجها معاوية لكي يستطيع من خلالها تثبيت ركائز سلطانه على المناطق المتوترة، فقد ضرب الخوارج بأهل الكوفة عندما عجز أهل الشام من المواجهة، فقد جاء معاوية إلى الكوفة وقال لهم: "لا أمان لكم والله عندي حتى تكفو بواثقكم فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم فقالت لهم الخوارج ويلكم ما تبغون منا أليس معاوية عدونا وعدوكم دعونا حتى نقاتله وإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم وإن أصابنا كُنتم قد كفيتمونا قالوا: لا والله حتى نقاتلكم، فقالوا: رحم الله إخواننا من أهل النهر هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة(13).

وعلى خطى أبيه قام يزيد بن معاوية في حربه مع الإمام الحسين (عليه السلام) فقد دفع بأهل الكوفة لقتال الإمام الحسين (عليه السلام) ليتخلص من خصومه جميعاً، ولم تفلح المحاولات التي بذلها الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه في إفشال مخططه هذا، وعندما نتأمّل ما قاله زهير بن القين تتضح لنا صورة هذه السياسة، خطب زهير بن القين في جيش عمر بن سعد: "يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله، نذار إن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف وأنتم للنصيحة منا أهلٌ فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وأنتم أمة إنّ الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لينظر ما نحن وأنتم عاملون إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد فإنكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عُمْرَ سلطانهما كله يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويُمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانيء بن عروة وأشباهه(14) ففي هذا الخطاب تحذير من نتائج الانسياق وراء هذه السياسة وتنفيذها لصالح الحكم الأموي.

ونحن نسمع بنتائج هذه السياسة على لسان زيد بن أرقم بعدما شاهد رأس الحسين وهو موضوع بين يدي ابن زياد وهو ينكثه بقضيبه، قال زيد بن أرقم: "يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبُعداً لمن رضي بالذُل(15).

 

عاشراً: جنودٌ من عسل.

ويجهد الحاكم المستبد للتخلص من العناصر المعادية والمخالفة والتي يصبح وجودها حجر عثرة أمام بسط سلطانه، وقد انتهج الحكم الأموي هذا الطريق لتحقيق أهدافه يقولُ جُرجي زيدان: "على أن سياسة بني أمية كانت من أول أمرها مبنية على الشدة والحزم ثم تجاوزوا الحدود ولم يبالوا بالفتك والقتل في سبيل تأييد دعوتهم والتغلب على أعدائهم(16). وقد عُرف العهد الأموي بجملة اغتيالات للخصوم أو المنافسين للحُكم وفيما يلي بعض هذه الاغتيالات والتصفيات:

 

1- اغتيال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد:

يقول الطبري: "كان قد عظم شأنه بالشام ومال إليه أهلها لما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم ويأسه حتى خافهُ معاوية وخشي على نفسه منه لميل الناس إليه فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه جباية خراج حمص، فلما قدم عبد الرحمن بن خالد حمص منصرفاً من بلاد الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه فشربها فمات بحمص، فوفى له معاوية بما ضمن له، وولاه خراج حمص ووضع عنه خراجه(17).

 

2- اغتيال مالك الأشتر:

واغتال مالكاً بالطريقة نفسها: يقول ابن الأثير: "خرج الأشتر يتجّهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك، فعظم عليه، وكان قد طمع في مصر، فعلم أن الأشتر أن قدمها كان أشدّ عليه من محمد بن أبي بكر، فبعث معاوية إلى المقدّم على أهل الخراج بالقُلزُم، وقال له: إن الأشتر قد وليَ مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجاً ما بقيتُ وبقيتَ، فخرج الحابسان حتى أتى القُلزم وأقام به، وخرج الأشتر مِن العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القُلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول فنزل عنده، فأتاه بطعام، فلما أكل أتاه بشربة مِن عسل قد جعل فيه سُماً فسقاه إليه، فلما شربهُ مات(18).

 

3- اغتيال الإمام الحسن (عليه السلام):

وذلك تمهيداً لأخذ البيعة ليزيد فوجود الإمام الحسين (عليه السلام) كان يحول دون تحقق هذه الأمنية، ومع الأسف غفل بعض المؤرخين عن هذه الحادثة ولم يكتبوا فيها شيئاً سيما الطبري الذي لم يترك شاردة ولا واردة إلاّ وذكرها إلاّ وفاة الإمام الحسن فلم يأتِ على ذكرها حتى بالإشارة وهذا دليل على وجود سرّ في هذا التجاهل المتعمد.

بينما ذكر المسعودي وأفصح في ذكر الحادثة بشيء من الدقة، فهو يورد الروايات مسندة إلى علي بن الحسين يقول: دخل الحسين على عمي الحسن لما سقي السم فقام لحاجة الإنسان ثم رَجَع، فقال: لقد سقيت السم عدة مرات فما سقيت مثل هذه لقد لفظت طائفة من كبدي فرأيتني أقلبه يعود في يدي، فقال له الحسين: يا أخي، من سقاك؟ قال: وما تريد بذلك؟ فإن كان الذي أظنه فاالله حسيب وإن كان غيره فما أحبُّ أن يؤخذ بي بريء، فلم يلبث ذلك إلاّ ثلاثاً حتى توفي(عليه السلام).

وذُكر أنّ امرأته جَعْدة بنت الأشعث بن قيس الكندي سقته السّم، وقد كان معاوية دسّ إليها: إنك إن احتلت في قتل الحسن وجهَّت إليك بمائة ألف درهم، وزوجتك من يزيد، فكان ذلك الذي بعثها على سمّه، فلما مات وفى لها معاوية بالمال، وأرسل إليها: إنا نحب حياة يزيد، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه(19).

وقد حلل طه حسين آراء المؤرخين وأخبارهم في عرضهم لكيفية استشهاد الإمام الحسن (عليه السلام) وخلُص في النهاية قائلاً: "ولستُ أقطع بأنّ معاوية قد دسّ إلى الحسن مَن سمّه، ولكني لا أقطع كذلك بأنه لم يفعل، فقد عُرف الموت بالسم في أيام معاوية على نحو غريب مُريب، مات الأشتر - فيما يقول المؤرخون – مسموماً في طريقه إلى ولاية مصر، فخلصت مصر لمعاوية وقال معاوية وعمرو: "إن لله لجنداً مِن عسل" ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مسموماً بحمص في خبر طويل، ومات الحسن بين هذين الرجلين مسموماً كذلك في أكبر الظن، وخلُصت الخلافة لمعاوية وابنه يزيد(20).

 

4- محاولة اغتيال الإمام الحسين (عليه السلام):

لم يشك الإمام الحسين (عليه السلام) لحظة واحدة أن يزيد مصمم على التخلص منه بأيّ شكل من الأشكال فقد خرج من مكة عندما وصلت إليه أنباء عن هذه المحاولة، وقد أشار ابن عباس في رسالته الجوابية ليزيد: "فلستُ بناسي أطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودس إليه الرجال تغتاله(21) وفي هذه الرسالة تأكيد واضح على إصرار يزيد على قتل الإمام الحسين (عليه السلام).

 

الحادي عشر: سياسة التآمر.

الأنظمة التي تفتقر للقاعدة الشعبية التي لا تركن لرأي الأكثرية تضطر لتنفيذ سياستها بطريقة تآمرية، وينطبق ذلك على الحُكم الأموي الذي جاء إلى السّلطة بطريقة تآمرية فلم يكُن أمامه إلاّ وسيلة واحدة لتنفيذ سياساته هي التآمر، ويرى جُرجي زيدان إن وصول عثمان إلى كرسي الخلافة هو في الأصل مؤامرة أموية(22).

وقد اتبع معاوية خططاً دنيئة في الدس والتآمر منها طريقته الملتوية في أخذ البيعة لابنه يزيد، فقد أورد ابن قتيبة قصة هذه البيعة بهذا الشكل:

"وذكروا أنه لما استقامت الأمور لمعاوية، استعمل على الكوفة المغيرة بن شعبة، ثم همّ أن يعزله ويولي سعيد بن العاص، فلما بلغ المغيرة قدم الشام على معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، قد علمت ما لقيت هذه الأمة من الفتنة والاختلاف، في عنقك الموت، وأنا أخاف إن حدث بك حدثٌ أن يقع الناس في مثل ما وقعوا فيه بعد قتل عثمان، فاجعل الناس بعدك علماً يفزعون إليه، واجعل ذلك يزيد ابنك، قال: فدخل معاوية على امرأته فاختة بنت قرطة بنت حبيب بن عبد شمس، وكان ابنها منه عبد الله بن معاوية، وقد كان بلغها ما قال المغيرة، وما أشار به عليه من البيعة ليزيد، وكان يزيد بن الكلبية ميسون ابنة عبد الرحمن بن بجدل الكلبي، فقالت فاختة معادية الكلبية، ما أشار به عليك المغيرة، أراد أن يجعل لك عدوّاً من نفسك، يتمنى هلاكك كل يوم فشقّ ذلك على معاوية، ثم بدا له أن يأخذ بما أشار عليه المغيرة بن شعبة.

فلما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق، وفيهم الأحنف بن قيس، دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري، فقال له: إذا جلست على المنبر، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي، فاستأذني للقيام، فإذا أذنت لك، فاحمد الله تعالى، وأذكر يزيد، وقل فيه الذي يحق له عليك، من حسن الثناء عليه، ثم ادعني إلى توليته من بعدي، فإني قد رأيت وأجمعتُ على توليته، فأسأل الله في ذلك، وفي غيره الخيرة وحسن القضاء، ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبد الله بن مسعدة الفزاريّ، وثور بن معن السلميّ، وعبد الله بن عصام الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن يصدّقوا قوله، ويدعوه إلى بيعة يزيد(23). وقام كل واحد من هؤلاء الخمسة وتكلموا في يزيد وأخذوا البيعة له بمثل ما أمرهم معاوية، وفي نهاية المسرحية، قال لهم معاوية: أوكلكم قد أجمع رأيه على ما ذكرنا؟ فقالوا: كلنا قد أجمع رأيه على ما ذكرنا، وبدى الأمر للوهلة الأولى وكأنه قد تم بصورة طبيعية لكن احتجاج الأحنف هو الذي أحبط الخُطة وكشف عن زيف هذا الاجتماع. وكان الرابح من هذا الاجتماع هم الخمسة الذين حصل كل واحدٍ منهم على رئاسة إحدى الولايات.

وعندما جاء معاوية إلى المدينة حاول أن يحصل على موافقة النفر الخمسة على بيعة يزيد وكان يخشى من رفضهم، لأنّ رفضهم كان يعني رفض أهل المدينة لهذه البيعة.

فماذا عمل معاوية من أجل الحصول على أصوات هؤلاء الخمسة، بالطبع التجأ إلى أسلوب التآمر والخداع. يقول الطبري: "لما قدم معاوية المدينة أرسل إلى الحسين بن علي، فقال: يا ابن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة من قُريش أنت تقودهم قال: فأرسل إليهم فإن بايعوا كنتُ رجلاً منهم وإلاّ لم تكن عجلت عليّ بأمر قال: وتفعل قال: نعم، قال: فأخذ عليه ألا يخبر بحديثهم أحداً..

ثم جاء معاوية إلى ابن الزبير وقال له بمثل ما قال للحسين، ثم جاء إلى ابن عمر، وقال له بمثل ما قال لابن الزبير، وهكذا حتى أكمل حديثه مع الخمسة، ثم جلس ودعا الناس لمشاهدة البيعة التي تم التخطيط لها...

قام معاوية في هذا الاجتماع ومدح يزيد وأكثر من مدحه وذكر فضائله، وقال: يا أهل المدينة، لقد هممتُ بيعة يزيد، وما تركتُ قرية ولا مدرة إلاّ بعثت إليها في بيعته، فبايع الناس جميعاً وسلموا، وأخرت المدينة بيعته، وقلت بيضته وأصله، ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبو البيعة منهم من كان أجدر أن يصله، ووالله لقد علمتُ مكان أحدٍ هو خيرٌ للمسلمين من يزيد لبايعتُ له، فقام الحسين فقال: والله لقد تركت من هو خير منه أباً وأماً ونفساً، فقال معاوية: كأنك تُريد نفسك؟ فقال الحسين: نعم، أصلحك الله. وجرى نقاش بين الإمام الحسين ومعاوية حول مؤهلات يزيد، يقول الإمام الحسين: يزيد شارب الخمر، ومشتري اللهو خيرٌ مني، وتجرأ الآخرون بعد ذلك في التكلّم فتكلّم ابن الزبير وبقية الخمسة وخابت مساعي معاوية وعاد قافلاً إلى الشام بعد أن مُني بالفشل الذريع(24).

وحيلة رفع المصاحف هي جزء من هذه السياسة التي انتهجها معاوية في إدارة دفة أموره، فقد كان مصدر الاقتراح هو عمرو بن العاص، يقول اليعقوبي: "وزحف أصحاب علي وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً، حتى لصقوا به فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فقال له عمرو بن العاص: إلى أين؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك؟ قال: لم يبق إلاّ حيلة واحدة أن ترفع المصاحف، فتدعوهم إلى ما فيها، فتستكفّهم وتكسر من حدّهم، وتفتّ في أعضادهم، قال معاوية: فشأنك، فرفعوا المصاحف، ودعوهم إلى التحكم بما فيها، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله، فقال علي: إنها مكيدة، وليسوا بأصحاب القرآن(25).

وإذا صحّت رواية أُرينب بنت إسحاق ونية معاوية بتزوجيها ليزيد والخطة التي دبرها معاوية لتطليقها من زوجها، ثم زواج يزيد منها، لو صحت هذه القصة التي ذكرها ابن قتيبة وغيره فإنها تعدُّ هي الأخرى أسلوباً من أساليب التآمر(26) واستمر الحكم الأموي على هذا النهج، فكلّما أُغلقت الطرق بوجه حكامِه سلكوا طريق التآمر والمكر والخداع، فهذا عبيد الله بن زياد عندما يُريد أن يدخل الكوفة يتنكر بزي الإمام الحسين (عليه السلام)، فلا يمرّ على مجلس من مجالس أهل الكوفة إلاّ وسلّموا عليه قائلين السلام عليك يا ابن بنت رسول الله، وهم يظنون أنه الحسين بن علي(27).

والنظام الذي يقوم على سياسة التآمر والمكر يحاول أن يجذب حوله من يتصف بهذه الصفة، بل أن تقبيحه للأشخاص يقوم على مقدار ما يمتلك من مقدرة في المكر والحيلة، فالذين كانوا إلى جانب معاوية كان عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم الذين عرفوا بالمكر والحيلة والدهاء، ومنهم زياد بن أبيه الذي كان وراء إلحاقه بالحكم الأموي خطة تآمرية معروفة ومذكورة في الكتب ولا مجال لذكرها(28) والذين كانوا إلى جانب يزيد لم يكونوا بأفضل من أولئك فكان عبيد الله بن زياد وسرجون المسيحي المتواطئ ضد الإسلام ومروان بن الحكم.

ونظامٌ يقومُ على الدهاء والمكر يعني أنه فقد صدقيته في التعامل مع الناس ومع الأحداث وهذا ما أثبتته الوقائع من خلال حكم بني أمية.

 

الهوامش:

1- ابن أعثم الكوفي: الفتوح، 4/333.

2- الطبري: 4/234.

3- الطبري: 4/128.

4- المصدر نفسه: 4/166.

5- المصدر نفسه: 4/276.

6- الطبري: 4/244.

7- معاوية في الميزان: ص40.

8- الطبري: 4/219.

9- المصدر نفسه: 4/219.

10- المصدر نفسه: 4/218.

11- الطبري: 4/224.

12- الإمامة والسياسة: 1/113.

13- الطبري: 4/129.

14- المصدر نفسه: 4/324.

15- المصدر نفسه: 4/349.

16- ابن أعثم: الفتوح، 4/366.

17- الطبري: 4/171.

18- الكامل: 3/353.

19- المسعودي: مروج الذهب، 3/2.

20- طه حسين: علي وبنوه، ص193.

21- تاريخ اليعقوبي: 2/249.

22- راجع تاريخ التمدن الإسلامي: 3/332.

23- الإمامة والسياسة: 1/165-166.

24- الطبري: 4/255-266، وأيضاً الإمامة والسياسة: 1/184-191.

25- اليعقوبي: 2/188.

26- الإمامة والسياسة: 1/193-202.

27- الطبري: 4/258.

28- المصدر نفسه: 4/163.