mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 23.doc

موقف الإمام علي(عليه السلام) من الخوارج

عالج الإمام علي(عليه السلام) ظاهرة الخوارج على مرحلتين:

المرحلة الأولى عندما لم تتجاوز مشكلتهم نطاق المعارضة الفكرية والسياسية.

المرحلة الثانية عندما بدأ الخوارج يمارسون جريمة القتل وسلب الأمن والراحة من المسلمين عندها فكان لعلي(عليه السلام) موقفا آخر. لننطلق من البداية.. فقد لخص الإمام موقفه من الخوارج قائلا لهم:

لاتقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه أي إن الخوارج ليسوا كأصحاب معاوية وأصحاب الجمل، فاذاً هناك التباس وقع فيه الخوارج، ومنشأ هذا الالتباس كما ذكرنا هو انهم فهموا القرآن على انه مجرد كلمات وأحرف ولم يدركوا صلة القرآن بالسنة وصلته بالأئمة فكان لابد من توضيح هذه الحقيقة لهم: قال أمير المؤمنين: هذا القرآن انما هو خط مستور بين الدفتين لاينطق بلسان ولابدّ له من ترجمان وانما ينطق عنه الرجال(1).

 وواصل الإمام نصائحه.

فان أبيتم الأ أن تزعموا أني أخطأت وضللت فلم تضللون عامة أمة محمد صلى الله عليه وآله بضلالي وتأخذونهم بخطئي وتكفرونهم بذنوبي سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب، وقد علمتم ان رسول الله صلى الله عليه وآله رجم الزاني المحصن ثم صلى عليه، ثم ورثه أهله وقتل القاتل وورث ميراثه أهله وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بذنوبهم وأقام حق الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم في الاسلام، ولم يخرج اسماءهم من بني أهله، ثم أنتم شيرار الناس، ومن رمى به الشيطان مراميه وضرب به تيهه. وسيهلك في صنفان، محب مفرط يذهب به الحب الى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض الى غير الحق وخير الناس في حالاً النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة(2).

وأرسل ابن عباس للإحتجاج عليهم. ووصاه بهذه الوصية.

لاتخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة. فانهم لن يجدوا عنها محيصاً(3).

فيعرفوا من السنة موقف القرآن من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).. وسيعرفوا القرآن نفسه لأن القرآن بحاجة الى تفسير والسنة هي مبينة للقرآن، ولا يمكن أن يؤخذ القرآن بلا سنة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وخرج الخوارج من الكوفة.. وانطلق أنصار الإمام ليعلنوا عن موقف ثابت لايلين ولا يتزعزع أمام المغريات.. وقفوا قبال قائدهم وامامهم ليقولوا نحن أولياء من واليت واعداء من عاديت، فشرط لهم فيه سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(4).

وبقي الإمام راسخاً عند موقفه من الخوارج يرسل اليهم الرسل والكتب لعلهم يرجعوا عن غيهم ويتوبوا الى رشدهم، لكن دون جدوى. ذلك لأن المشكلة لا تنحصر في النطاق الفكري وحسب بل هناك حالة من الهزيمة النفسية أصيب بها جيش الإمام علي (عليه السلام) بسبب توقف الحرب في لحظات النصر. فالعلاج إذن هو العودة الى قرار الحرب. من هنا أخذ الإمام يستعد لفصل آخر من الحرب التصحيحية مع معاوية. فقد بدت الحرب مشروعة هذه المرة لأن مؤامرة التحكيم بدت مكشوفة حتى أمام أولئك الذين دعوا الى التحكيم. كما وان الحكمين خالفا القرآن والسنة النبوية باقرارهم لمعاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين مع ما عليه من مآخذ، أخذ الامام يعبىءالمسلمين للجهاد لأن الفتور سيزيد من حالة الاحباط الأمر الذي سيؤدي الى تقوية جبهة الخوارج وكانت غايته الأولى هي اعادة الخوارج الى بيت الطاعة، ولم يذعن لالحاح أصحابه الذين صنفوا الخوارج ضمن أولوية المواجهة، فكان الإمام يقول لهم بلغني انكم قلتم كيت وكيت! وإن غير هؤلاء الخارجين أهم الينا! فدعوا ذكرهم وسيروا الى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكاً ويتخذوا عباد الله خولا(5) لكن تغير موقف الإمام كلياً نتيجة حادث مؤسف وصفها الطبري وابن الأثير بهذه الصورة:

لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجلاً يسوق بامرأة على حمار، فدعوه فانتهروه فأفزعوه وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن ابيك حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنفعنا به، فقال: حدثني ابي عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم انه قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمناً ويصبح كافراً ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً: قالوا: ألهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً. قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقاً في أولها وفي آخرها. قالوا فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على اسمائها لا على أفعالها. والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحداً. فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته، وهي حبلى متم، حتى نزلوا تحت نخل مواقر، فسقطت منه رطبة، فأخذها أحدهم، فقذف بها في فمه، فقال آخر أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فالقاها، ثم مربهم خنزير لأهل الذمة، فضربه أحدهم بسيفه فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير فارضاه، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما ارى مما علي منكم من بأس إني مسلم ما أحدثت في الاسلام حدثاً، ولقد آمنتموني قلتم: لا روع عليك فأضجعوه فذبحوه، فسال دمه في الماء، وأقبلوا الى المرأة فقالت: أنا امرأة الا تتقون الله، فبقروا بطنها. وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أم سنان الصيداوية. فلما بلغ علياً قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس، بعث اليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم وينظر ما بلغه عنهم ويكتب به اليه ولا يكتمه فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه وأتى علياً الخبر والناس معه فقالوا: يا أمير المؤمنين علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا: سر بنا الى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا الى عدونا من اهل الشام(6)

وكان لمقتل عبدالله بن خباب بهذه الكيفية المتوحشة دوي واسع، ووجد الإمام نفسه أمام قضية جنائية لابدّ له من التصدي لها. قبل أن يستشري ويعم فساد هذه الفرقة الضالة. فأرسل الى الخوارج يطلب منهم ان ادفعوا الينا قتلة اخواننا منكم، أقتلهم بهم ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى القى أهل المغرب، فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم الى خيرمما أنتم عليه من أمركم فقد كان الإمام مصرا على المعركة مع معاوية إذ لم يجد حلاً لتمادي معاوية وتراجع الخوارج عنه الا بالحرب.. لكن ماذا يستطيع أن يفعل، وقد واجه الخوارج بهذا الجواب. كلنا قتلهم وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم(7).

وتحدث معهم قيس بن سعد عله يلين قلوبهم للحق ثم تكلم أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله، ومن نزل في بيته عند هجرته الى المدينة، وأبلغ لهم النصح ثم تحدث معهم أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) وحاجج قادتهم فلم يكن لهم أي جواب على أستفهاماته قائلين بأعلى صوتهم: (لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الله، الرواح الرواح الى الجنة)(8).

وعندما أدرك الإمام انهم مصرون على الحرب أعطى لأبي أيوب الأنصاري راية الأمان. فقال من جاء تحت هذه الراية فهو آمن، ومن لم يقتل ولم يستعرض ومن انصرف منكم الى الكوفة أو الى المدائن وخرج من هذه الجاعة فهو آمن لاحاجة لنا بعد أن نصيب قتلة أخواننا منكم في سفك دمائكم.

إذن الهدف هو انزال حكم القصاص بالقتلة. وأخذت النصيحة تعطي مفعولها.

بدأ الوعي يدب في العقول.. قال فروة الأشجعي وهو من الخوارج: والله ما أدري على أي شيء نقاتل علياً أرى أن أنصرف حتى يتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه، فانصرف في خمسمائة فارس(9).

ولم يبق مع عبد الله بن وهب سوى ألف وثمانمائة بعد أن كان عددهم أربعة آلاف(10) وسارع عبد الله بن وهب في الهجوم قبل أن ينفرط جمعهم فكانت المعركة وكانت النهاية المنتظرة للخوارج حيث لم ينج من القتل سوى بضعة انفار بينما لم يقتل من أصحاب علي الا سبعة(11).

 

ديمقراطية الخوارج

انبهر بعض المؤلفين بالخوارج ونعتوهم بأحلى الألقاب ووصفوهم بأجمل الأوصاف فقد قال عنهم الأستاذ حسن ابراهيم حسن صاحب مؤلف تاريخ الاسلام السياسي، بأنهم يمثلون الديمقراطية الاسلامية(12) ولا ندري سبب انبهارهم بالخوارج هل لأنهم يشكلون فئة معارضة أم لانهم عارضوا الإمام أمير المؤمنين؟ وان بغضهم للإمام جعلهم يمتدحون أعدائه، ولا ندري من أين جاء الأستاذ حسن ابراهيم بمصطلح الديمقراطية الاسلامية. إن مجرد اطلاق هذا المطلح هو تجني على الاسلام لأنه لايقر بمبدأ السيادة للأمة بل يعلنها صراحة إن السيادة للشرع ان الحكم الا لله أمر ان لا تعبدوا إلا إياه. كما وانه جهل بالديمقراطية. لأن أساس الديمقراطية هو حكم الشعب وليس في الاسلام من يقول بحكم الشعب إلا الذين لم يفهموا الاسلام على حقيقته هذا من جانب ومن جانب آخر نسأل الأستاذ حسن ماذا وجد في التاريخ ما يشير ولو بقدر أظفر ان الخوارج ديمقراطيون فهل كان جوابهم لعبدالله بن خباب عندما قتلوه هو وزوجته وقتلوا جنيناً في رحمها عندما شموا منه رائحة الولاء لعلي. هل كان عملهم هذا ديمقراطياً، فاذا كانت هذه هي الديمقراطية فالاستاذ حسن ابراهيم محق في نعته لهم.

وياليت قرأ الأستاذ إبراهيم التاريخ بموضوعية. فلو كان موضوعياً لوجد ان  الإمام علي (عليه السلام) هو الديمقراطي بحسب اصطلاحه ومفهومه للديمقراطية. فقد حاججهم وسمع أقاويلهم لكنهم سدوا آذانهم ولم ينبسوا ببنت شفة سوى اصرارهم على القتال.

لقد كان الإمام رقيقاً للغاية معهم.

وياليت قرأ الأستاذ حسن إبراهيم هذه الحكاية عن أحد زعماء الخوارج وهو ابن الكواء كان علي(عليه السلام) في صلاة الصبح فقال ابن الكوا(13) من خلفه (ولقد أوحى اليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) (الزمر- 65)

فانصت الإمام علي(عليه السلام) تعظيما للقرآن حتى فرغ من الآية ثم عاد في قراءته، ثم اعاد ابن الكواء الآية فأنصت علي (عليه السلام) أيضاً ثم قرأ فأعاد ابن الكواء، فأنصت علي (عليه السلام) ثم قال (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)(الروم- 60) ثم أتى السورة وركع(14).

وذكرنا فيما سبق موقف أمير المؤمنين من الذين كانوا يقاطعونه فيجيبهم ولا يمسهم بسوء وكانت سياسته أن يضل متحاججاً معهم حتى يذعنوا للحق فمن هو الديمقراطي إذاً على مفهوم الكاتب؟

هل هو علي أم الخوارج. والطريف ان الكاتب نفسه ذكر في الصفحة التالية (ص 377) ما يناقض كلامه تماماً فقد ذكر بالنص:

(ولكن أمر هذا الحزب الجديد (يعني الخوارج) يدعوا الى العجب، فانهم لم يبنوا خروجهم على أمر معقول يبرر هذا الخروج لانهم هم الذين اشاروا بهذا التحكيم، وإن علياً لم يقبله الابعد أن اكرهوه على قبوله، فكيف إذن يسوغون لانفسهم ان يخرجوا على ما أبرموه. ثم يستنتج قائلاً:

وصفوة القول إن هذه الطائفة الجديدة بنت أمرها على مقدمات لم تتضح بعد فزادوا كلمة المسلمين تفريقاً وخدعوا بما ظهر لهم انه الصواب، كما قال لهم علي حين رددوا قولتهم المشهورة (لاحكم الا لله) كلمة حق يراد بها باطل(15).

على أي حال فإن مجرد ذكر هذه الحقيقة تؤكد لنا ان المؤلف قد أدرك حقيقة الخوارج، لكنه لم يعترف في النهاية ان هذه الحقيقة تتناقض والادعاء بأنهم ديمقراطيون إسلاميون.

 

السياسة العامة للإمام علي (عليه السلام)

اشرنا في فصول هذا البحث الى حقيقة ثابتة هي ان الفرصة لم تتح للإمام لانشاء الدولة بكامل مؤسساتها المعروفة كما هي اليوم ولو كانت الفرصة مواتية للإمام لتطبيق نظريته في الدولة بصورة كاملة والتي أعلن عنها لمالك الأشتر لامتلكنا اليوم تراثاً ذو قيمة حضارية عن دولة الإمام علي، لكن انشغال الإمام في الصراع المرير ودخوله في معركة بعد خروجه من معركة أخرى فوت عليه وعلى الأمة فرصة ذهبية في انشاء دولة تستند الى القانون وتقر للإنسان بحقوقه وتضع أمامه الواجبات ولنكتشف من خلال دولة الإمام علي الكثير من مجاهيل السياسة الإسلامية. لكن وعلى رغم افتقار الإمام لتلك الفرصة التي كان ينتظرها لإرساء دعائم الكيان الإسلامي الا إن المقدار الذي جرى تطبيقه من الفكر السياسي للإمام من خلاله ومن خلال ولادته ليس بالشيء القليل، وقد المحنا في الموضوعات السابقة الى قسم منها وسنضيف ما لم نشر اليه في هذا الفصل.

لكن قبل أن نخوض غمار الحديث عن السياسات العامة للإمام كان لابدّ من الاشارة الى حقيقة هامة هي.. اننا لا نستطيع أن نفهم الإمام ونفهم دوافع سياساته ومتبنياته في الحكم الا من خلال ما يلي:

ا- القرآن وما جاء فيه من قواعد للحكم.

2- السيرة النبوية وما تبناه الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من أساليب للحكم

3- الاسلام وما يطمح اليه ويسعى الى تحقيقه في بناء المجتمع الفاضل وبناء الفرد المؤمن بتركيز المبادىء والقيم التي جاء بها القرآن.

4- المسلمون الذين بايعوا الإمام أمير المؤمنين والذين عارضوا الفجوات في حكم الخليفة عثمان وحكم ولاته.. فكان على الإمام أن يكون وفياً لهؤلاء.

5- ومن خلال الإمام نفسه حياته قبل أن يستلم المسؤولية، زهده وتقواه وتمسكه بالحق وعدم المساومة والمداهنة مع الباطل حتى لو كلفه ذلك دمه.

كان يفترض بالذين انتقدوا سياسة الإمام وهم عدد لا بأس به من الكتاب المعاصرين الاسلاميين والمستشرقين أن ينتزعوا أنفسهم من القوالب السياسية المتعارف عليها حالياً وأن يتعايشوا مع القرآن والسنة ومقاصد الإسلام وقيمه وان يعيشوا مع المسلمين الذين بايعوا الإمام، والإمام نفسه، حينذاك كان باستطاعتهم ان يكتبوا بموضوعية وببصيرة ثاقبة ولما تجرأ بعضهم القول علي(عليه السلام) رجل غير حازم على الإطلاق ولا يمكن أن يوصف قائد من طرازه بأنه سياسي ناجح(16). كما ذكرها هادي العلوي في مؤلفه في السياسة الاسلامية الفكر والممارسة.

كيف استطاع هذا الكاتب أن يكتشف ان علياً ليس بسياسي ناجح؟

فهل بتركه لطلحة والزبير ليغادرا المدينة ويتآمرا عليه مع علمه بقصدهما ويقينه بأنهما يتامران عليه وكان باستطاعته منعهما من الفرار ام بقراره ازاحة معاوية عن الولاية؟

ام لأنه لم يقتل عمرو بن العاص لما كشف له عن عورته؟

أم لأنه عفى عن مروان بن الحكم وعفى عن عبدالله بن الزبير وترك أم المؤمنين تعود الى المدينة معززة مكرمة؟

هل لأن علياً الذي لم يقم حكما بوليسياً يعتقل الناس فيه على الظنة ويحاكمهم على التهمة؟

وهل لأنه ترك أجنحة المعارضة لتنشط وتعمل بحرية شاملة؟

وهل لأنه أراد أن يكون وفياً للذين بايعوه بالخلافة؟

وهل لأنه لم يرد كرسياً مزخرفاً ولا حاشية ولا حرساً خاصاً كما هو المتعارف عند السلاطين والملوك؟

هل لهذه الأسباب أصبح علي سياسياً غير ناجح. فما هو مقياس التقييم. وما هي السياسة التي يفهمها الكاتب؟ هل هي الميكافيلية التي يمارسها حكام الجور؟ لو نظر المؤلف الى علي بنظرة انصاف ولو لمرة واحدة لوجد ان علياً سياسي ناجح بدليل ان البشرية اليوم تمجد مواقفه وتكرم اسمه وتحفظ نهجه وتهتدي بكلماته. فأين معاوية اليوم من علي(عليه السلام).

إذن لا يخدعنا النجاح الموقت الذي أحرزه معاوية بالدهاء والحيلة، فما الذي أعقب هذا النجاح؟ أين هو معاوية اليوم في أية زاوية من التاريخ. وأين هو علي الذي أصبح العظماء يلهثون باسمه ويستلهمون من حكمته في نهج البلاغة.

فلهذا المؤلف ولغيره ولكل من يريد الحقيقة نقول اقرأوا علياً بتمعن ثم بعد ذلك أحكموا عليه. هل كان سياسياً أم لا. ونحن هنا ندلي ببعض ما أرخه لنا المؤرخون من فنون السياسة التي مارسها الإمام علي في الشؤون المختلفة.

 

أولاً: السياسة الإد ارية

كان التنظيم الاداري في الدولة الاسلامية يقوم على نظام الولايات فكانت الدولة مقسمة الى مجموعة ولايات ولاية الكوفة وولاية البصرة وولاية الشام وولاية مصر وولاية البحرين وبمجيء الإمام علي الى الخلافة عزز هذا النظام وذلك بأن أعطى للوالي صلاحيات واسعة فتحول الحكم الى نمط من اللامركزية، ويلاحظ هذا التغير في نمط تنظيم الولاية من ولايته(عليه السلام) لمالك الأشتر عندما ولاه مصر، فقد أعطى لواليه صلاحية تشكيل مجلس للشورى وأعطاه صلاحية تعيين العمال وعزلهم وأعطاه صلاحية وضع الخطط الإقتصادية والثقافية وأكثر من ذلك منح واليه صلاحية وزارة الخارجية في تشخيص العلاقات في حالتي الحرب والسلم وهو غير موجود في نظام الولايات المعمول به حالياً في بعض الدول المتقدمة والولاية بهذه الصلاحيات بحاجة الى والي قوي يتمكن من الادارة، فكان يدقق كثيراً في اختيار الولاة وعرف عنه شدته في الاختيار وعدم التساهل مع الوالي الضعيف وعرف عنه أيضاً حرصه على محاسبة الولاة في الصغيرة والكبيرة ومشهور عنه محاسبته لابن حنيف في رسالته المعروفة التي ذكر فيها:

أما بعد يابن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة، فأسرعت اليها تستطاب لك الألوان. الى آخر الرسالة(17).

هكذا كان دقيقاً في المحاسبة حتى على أمرصغير اقترفه الوالي وهو حضوره مأدبة ليس فيها أحد من الفقراء وفي زمن الإمام توسعت الولايات، خاصة الكوفة التي أصبحت عاصمة الدولة الاسلامية. أما البصرة فقد ساهمت في المعارك ودخلت الصراع فتحولت الى تجمع بشري متهيىء دائماً للقتال. ومع اتساع هاتين الولايتين اللتين كانتا تمدان الدولة بالجنود كان لابدّ من تقسيم اداري لهما فقسم الإمام الكوفة الى سبعة أسباع وقسم البصرة الى أربعة أرباع. وهذه التقسيمات كانت ادارية وليست عسكرية كما اعتقد البعض(18).

فقد أورد المجلسي في بحار الأنوار عن عاصم بن كليب عن أبيه انه قال: اتى علي بمال من اصفهان- وكان أهل الكوفة أسباعاً، فقسمه سبعة اقسام(19) فالراوي يقول (وكان أهل الكوفة) ولم يذكر شيئاً عن الجنود أو الجيش. منها يتبين ان نظام التقسيم السباعي كان تقسيما ادارياً وليس عسكرياً وذلك لتسهيل ادارة الولاية. من كل ما تقدم نلاحظ ان هناك أهدافاً محددة كان الإمام يسعى الى تحقيقها من خلال تنظيمه الاداري وهذه الأهداف هي.

ا- تخفيف العبأ عن المركز بتوزيع المسؤوليات والمهام على الولايات المختلفة .

2- تسهيل عملية التوزيع لبيت المال.

3- تعميق مبدأ التعددية السياسية والاجتماعية في ظل الامامة التي تقوم بدور الجامع لهذه التعدديات.

وقد لاحظنا الفروقات الاجتماعية بين أهالي الولايات المختلفة الشام، مصر، الكوفة، البصرة وحتى الولاءات السياسية مختلفة في هذه الولايات، فالتعددية هي ظاهرة قائمة لا يمكن نكرانها لكنها بحاجة الى مظلة تساهم في توجيه هذه التعددية لأهداف مشتركة تتبناها الدولة الإسلامية.

 

 

 

الهوامش:

1- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة 8/ 103

2- الدليل 574.

3- الدليل 576.

4- الطبري 5/ 76 الكامل 3/ 337.

5- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 341.

6- الطبري 5/ 81- 82 الكامل في التاريخ 3/ 341- 342.

7- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 343.

8- الطبري 5/85.

9- الطبري 5/ 86 الكامل 3/ 346.

10- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 346.

11- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 348.

12- أنظر صفحة 376 الجزء الأول من تاريخ الاسلام السياسي الطبعة 7 للأستاذ حسن إبراهيم حسن.

13- ابن الكوا هو عبد الله بن عمرو من بني يشكر من بكر بن وائل كان خارجيأ، وكان كثير المساءلة لعلي يساله نعنتأ قتل مع الخوارج يوم النهروان.

14- المجلسي بحار الأنوار 46/ 48.

15- حسن إبراهيم حسن تاريخ الاسلام السياسي ص 377- 378.

16- أنظر هادي العلوي في السياسة الاسلامية الفكر والممارسة ص 83.

17- الدليل 721.

18- أنظر هامش صفحة (ج) من الغارات للثقفي.

19- المجلسي بحار الأنوار 41/ 118.19.