mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 16.doc

الدولة في التطبيق

بعد أن ألممنا إلمامة سريعة لنظرية الدولة والحكم عند الامام علي عبر خطبه ورسائله وولاية عهده لمالك الأشتر، جاء الوقت لنراقب علياً(عليه السلام) أثناء التطبيق وما سيكون موقفه وهو يخوض غمار أصعب فترة من فترات التأريخ الاسلامي اتسم بالصراع والتنافس المحموم على السلطة، فهل كان علي وفياً لمبادئه التي أعلن عنها قبل استلام الخلافة؟

وماذا سيكون موقفه من الشطحات التي سقط فيها نظام الحكم في عهد الخليفة عثمان بن عفان؟ هل سيكرر هذه الشطحات أم انه سيقاوم الظرف الصعب، ولا يحني رأسه للعاصفة التي جرفت الكثير من أصحاب المناصب العالية؟

إن دراسة اللحظات الأولى من استلام الامام للحكم هي دراسة في موضوع شائك فقد تباينت آراء من كتبوا عن مواقف الامام علي (عليه السلام) عقب توليه زمام الأمور، فهناك من لامه على السياسة التي انتهجها، وهناك من اتهمه بالضعف وعدم الحكمة. فكان لابدّ وقبل أن نتناول هذا الموضوع أن نذكر بعض الحقائق التي غابت عن بعض الكتاب فأوقعتهم في الإلتباس.

فالإمام علي(عليه السلام) لم يكن يريد السلطة من أجل السلطة فلوكان يريد السلطة من أجل أن يحكم كما يقول حسنين كروم:

الإمام علي لم يحسن استخدام السلطة التي سعى للحصول عليها(1)

لو كان الأمر فعلاً كما يقول حسنين كروم لكان قد حصل عليها بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قرر كل من العباس عم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو سفيان وطلحة والزبيروجمع من الصحابة أن يكونوا مع علي وأن يضعوا كل امكاناتهم الى جانب خلافته بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

فقد كان موقف الإمام من جميع من تقدم اليه بهذا العرض السخي، ينم عن حكمة بالغة وايثار للمصلحة العامة، وانه لم يكن يرغب بالسلطة الا إذا تمكن من تحقيق أهدافه في الحياة.

فقد كان علي رجل أهداف وليس رجل مصالح وكان همه الأول هو البلوغ لتحقيق أهدافه ولم يتحرك لاستلام السلطة خلال عقدين من الزمن مع كونه الأحق بها، بل ترك السلطة لتأتيه تحبو اليه.

2- لم يكن الإمام يتحرك ضمن دائرة الظرف الراهن فقط، بل كانت حركته تنطلق من دائرة أوسع بكثير من دائرة المواقع المعاصرة له. فعلي(عليه السلام) باعتباره إمام فهو لم يكن لعصر معين بل كان لكل العصور، فكان يتحرك في أفق الحاضر والمستقبل معاً، وكان يريد أن يسجل بحركته كلمة الاسلام في كل خطوة وفي كل موقف لتأتي الأجيال من بعده فتسلك خطاه وتقتدي به، وهذا يختلف عندما ينظر الى الإمام بعنوانه حاكما، فالذين تناولوه من هذا المنظار خطأوا الكثير من مواقفه أثناء الحكم.

يقول حسنين كروم:

ومن الطبيعي بالنسبة للسياسي أن يقوم بعملية فرز لكل القوى المؤيدة والمعارضة والمحايدة والسعي نحو كسب أكبر عدد ممكن من الأنصار، وتقليص عدد الأعداء وتحييد من يمكن تحييدهم.. الأ أن علياً قد وقع في خطأ قاتل حينما تردد عن استخدام السلطة أي أنه لم يتصرف كسياسي.

لقد كان على هذا الكاتب أن يدرك قبل أن يحلل تأريخ الامام، إن علياً لم يكن حاكما بل كان إماماً، وكان يتصرف على أساس هذه الوظيفة.

3- كان للإمام مواقف واضحة في عهد الخلفاء الراشدين الثلاثة في قضايا كثيرة منها ظلم الولاة وقسمة العطاء وتنصيب الولاة من ذوي القرابة.

وكان عليه أن يثبت في مواقفه ويكون لديه رأي في كل قضية كان له فيها موقف أو رأي.

وهنا يتجلى جانب آخر من جوانب العظمة في شخصية الامام، إنه كان شخصا واحداً في فترتين مختلفتين الأولى مرحلة المعارضة والثانية مرحلة الحكم. فالكلمة التي قالها والموقف الذي وقفه في عهد عثمان وهو في خانة المعارضة، قالها أيضاً، ووقفها أيضاً وهو حاكم بيده مقاليد السلطة.

ذلك إن معارضته كانت معارضة صادقة، فهو لم يعارض من أجل المعارضة ولم يحكم من أجل الحكم. فقد كان هناك دائما هدف مشترك يسعى من أجله الامام في كلتا المرحلتين من حياته. وتبرز أهمية هذه الحالة لو دققنا النظر في العديد من قوى المعارضة التي وصلت الى السلطة فكم غيرت من مواقفها؟ وكم تخلت عن أفكار ومواقف نادت بها في فترات معارضتها للسلطة؟ ولربما تتخلى قوى المعارضة عن مواقفها السابقة نتيجة ظروف صعبة تمر بها فلا يشفع لها الا الثبات بكل مواقفها بكل مالها من صلادة.

وهكذا كان واقع الحكم في زمن أمير المؤمنين، فقد كان التيار المعاكس عنيفاً ولم يكن هناك خيار الا الصمود بوجهه وتحديه حتى تتثبت المبادىء وتستقيم لمواقف.. فعلي(عليه السلام) هو نفسه عندما كان ثائراً وعندما أصبح حاكما فيما بعد.

عندما كان معارضاً في عهد عثمان، وعندما كان حاكما بعد موت عثمان.

كان المعارض الصادق في عهد الخليفة عثمان بخلاف الآخرين الذين كانوا يعارضونه لمجرد المعارضة أو لمصلحة في نفوسهم. وهم عارضوا حكم الامام علي (عليه السلام) أيضاً لأنهم يعارضون من أجل المعارضة.

بعد تثبيت هذه الحقائق، نقتحم أسوار الموضوع الذي بدأناه سلفاً، فقد ذكرنا ان المسؤولية التي بدأها الامام من اللحظة الأولى من استلامه للسلطة هي كيفية مواجهة ركام من الأوضاع الشاذه بخطوات قوية وسريعة حتى تعود الحياة للجسد المضعضع المترهل.

كان على الإمام أن يحقن هذا الجسد بجرعات من العقاقير التي حملها عقدين من الزمن وكان بانتظار هذه اللحظة التي يضع فيها الدواء على الجرح.

فأول ماقام به الإمام لإصلاح الوضع الإجتماعي والسياسي هو:

ا- إعفاء ولاة الخليفة عثمان من مناصبهم، وتنصيب ولاة جدد في مواقعهم. فأرسل عثمان بن حنيف الانصاري بدل عبدالله بن عامر الى البصرة، وعلى الكوفة أرسل عمارة بن شهاب بدل ابي موسى الأشعري وعلى اليمن عبيدالله بن عباس بدل يعلى بن منبه وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بدل عبدالله بن سعد وعلى الشام سهل بن حنيف بدلاً من معاوية بن ابي سفيان(2)

وكان مصيرهم مختلفاً فبينما ذهب عثمان بن حنيف الى مكان عمله وأصبح والياً على البصرة فإن عمارة بن شهاب عندما وصل الكوفة قال له البعض إن أهل الكوفة لايرضون بغير ابي موسى الأشعري فرجع عائداً.

وذهب عبيدالله بن العباس الى اليمن ليجد واليه السابق قد ترك مكانه بعد أن استولى على بيت المال، أما قيس فقد استقر في مصر والياً من قبل الامام. يبقى مصيرسهيل بن حنيف الذي عينه الامام على الشام فقد رجع قسراً بعد أن أرسل اليه معاوية قوة من جنوده، أرغموه على الرجوع وهو في منتصف الطريق.

وكان وراء هذه التغيرات سياسة حكيمة بخلاف ما ينظر اليها من منظار المصلحة الموقتة وبخلاف ماكان يراه المغيرة بن شعبة كان الامام يرى ضرورة الاسراع في اعفاء معاوية من ولاية الشام، لأن معظم المشكلات والأزمات التي وقعت كانت بسببه وبسبب بقية الولاة. وكانت عملية الإزاحة لهؤلاء على رأس مطالب المعارضة، فكيف يستطيع الامام الإبقاء عليهم وهو الذي انتقد الخليفة عثمان على تنصيبهم والإبقاء عليهم في الولايات؟

أما يعتبر ابقاء هؤلاء نوع من المهادنة والإستسلام للأمر الواقع؟ وماذا سيكون جوابه للثوار الذين ثاروا على هؤلاء الولاة؟

وعلى فرض ان الإمام كان قد أبقى على معاوية، فهل كان بإمكانه أن يزيحه بعد ذلك؟ أليس من المحتمل أن يستغل معاوية وهو المعروف بدهائه الفرصة التي منحها له الإمام ليعلن عن شرعية وجوده في ولاية الشام، ثم رفضه لحكومة الكوفة؟ فما هي الفائدة من ابقائه ياترى؟

بالعكس كان الإمام يرى بأن الوقت المناسب لتنحية معاوية قد حان أوانه، فهو يعرف معاوية جيداً وانه يحاول استغلال كل موقف لصالح ولايته وكان المسلمون لازالوا يعيشون حرارة الثورة، ولم يكن أمام الإمام سوى دعم جهود الثوار لمواصلة عملية تطهير الدولة الإسلامية من المنحرفين والمصلحيين، فلو فتر الإمام لحظة واحدة لفتر الناس سنيناً، ولماتت الروح الثورية في نفوسهم وبالتالي لما كانوا على استعداد لمواجهة معاوية بعدأن يتثبت في مكانه.

من هنا فإن خطة الامام في تغيير الولاة كانت سياسة حكيمة، وعلى العكس ان تثبيته لهم من الممكن أن يضيع عليه فرصة ذهبية. بالإضافة الى الإنطباع الذي يمكن أن يؤخذ عليه بأنه عمله هذا نوع من المساومة.

2- المساواة في العطاء

مبدأ المساواة في العطاء عمل به حتى زمن الخليفة عمر بن الخطاب، حيث ابتكر أسس جديدة في توزيع العطاء واضعاً سلما للأفضلية بين المسلمين، وقد أدت هذه السياسة الى تفشي ظاهرة الطبقية في المجتمع الإسلامي، وأصبح لها نتائج سلبية على الواقع الاجتماعي مما أدى الى تفاقم الأوضاع.

وذكر المؤرخون ان عمر عزم في أواخر حياته الى اعادة النظر في نظام القسمة لكن لم يمهله أبولؤلؤة. وعندما حل الخليفة عثمان محله سارعلى نفس هذا المنهج، بل انغمس أكثر في تفضيل بني أمية مما ضاعف من تعقيد المشكلة الاجتماعية التي أدت في النهاية الى الثورة عليه وعلى ولاته، فقد كانت هذه المشكله احدى عوامل الثورة الشعبية.

وكان هدف الإمام الأول هو تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي الذي ورثه، وماكان ذلك ليحدث الا بقرارات حازمة لامجال فيها للمساومة والمساومين.

فكان أول ماقاله الامام:

ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية لافضل لأحد على أحد، وللمتقين غداً أحسن الجزاء وفضل الثواب وإذا كان غد إن شاء الله- فأغدوا علينا فإن عندنا مالا نقسمه فيكم، ولايتخلفن أحد منكم عربي ولاعجمي كان من أهل العطاء أولم يكن إذا كان مسلما حراً الا حضر أقول قولي هذا واستغفرالله العظيم لي ولكم.

وفي اليوم التالي قال لعمار ولابن عباس:

قوموا فتخللوا الصفوف ونادوا هل من كاره، فتصارخ من كل جانب: اللهم قد رضينا وسلمنا واطعنا رسولك وابن عمه، فقال (عليه السلام): قم ياعمار الى بيت المال فأعط الناس ثلاثة دنانير لكل انسان وادفع لي ثلاثة دنانير، فمضى عمار وأبو الهيثم وجماعة من المسلمين الى بيت المال، ومضى أمير المؤمنين الى مسجد قباء يصلي فيه، فوجدوا ثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا الناس مائة ألف فقال عمار جاء والله الحق من ربكم والله ماعلم بالمال وبالناس وإن هذه الآية وجبت عليكم بها طاعة الرجل.

هكذا ساوى أمير المؤمنين بينه وبين أبسط الناس وعندما سأله سهيل بن حنيف مستفهما هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم.

فقال (عليه السلام): نعطه كما نعطيك.

وأمر الإمام أن يبدأوا في العطاء بالمهاجرين ثم يثنون بالأنصار ثم من حضر من الناس كلهم الأحمر والأسود.

ثم إن عماراً وعبدالله بن رافع وغيرهما لما قسموا المال بين الناس بالسوية أخذ علي (عليه السلام) مكتله ومسحاته ثم انطلق الى بئر الملك، فعمل فيها فأخذ الناس؟ ذلك القسم حتى بلغوا الزبيروطلحة وعبدالله بن عمر، فأمسكوا بأيديهم وامتنعوا عن القبول، وقالوا: هذا منكم أو من صاحبكم، فقالوا: هذا أمره لانعمل الا ، بأمره قالوا استأذن لنا عليه قالوا: ماعليه اذن هو ببئر الملك يعمل، فركبوا دوابهم حتى جاؤوا اليه فوجدوه في الشمس ومعه أجير له، فقالوا؟ إن الشمس حارة فارتفع معنا الى الظل، فارتفع معهم الى الظل فقالوا له: لنا قرابة من نبي الله وسابقة وجهاد وإنك أعطيتنا بالسوية ولم يكن عمر ولاعثمان يعطوننا بالسوية، كانوا يفضلوننا على غيرنا.

فقال (عليه السلام): فهذا قسم أبي بكر الا تدعوا أبابكر وغيره، فهذا كتاب الله فانظروا مالكم من حق فخذوه.

قالوا: فسابقتنا.

قال: أنتما أسبق مني.

قالا: لا فقرابتنا من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

قال: أقرب من قرابتي.

قالا: لا فجهادنا.

قال: أعظم من جهادي.

قالا: لا: قال: فوالله ما أنا في هذا المال وأجيري الا بمنزلة سواء.

وظل جمع من الصحابة مصرين على تغييرموقف الامام من القسمة، الا ان

الامام ظل على موقفه غير مستعد للتنازل.

جاءه هؤلاء الأصحاب وتكلموا معه للمرة الثالثة والرابعة، فأجابهم الإمام قائلاً لهم:

وأما القسم والإسوة فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادىء بدء قد وجدت أنا وأنتم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يحكم بذلك وكتاب الله ناطق به وهو الكتاب الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد.

وأما قولكما (جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا) فقد سبق الى الاسلام قوم ونمروه بسيوفهم ورماحهم، فلا فضلهم رسول لله بالقسم ولا أثر بالسبق والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة بأعمالهم وليس لكما والله عندي ولا لغيركما الا هذا.. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم الى الحق والهمنا وإياكم الصبر، رحم الله امرء رأى حقاً فأعان عليه، ورأى جوراً فرده وكان عوناً للحق على من خالفه، فقام الطلحة والزبير وانصرفا من عند أمير المؤمنين وجاءا مرة أخرى فقالا: قد عرفت حال هذه الأزمنة ومانحن فيه من الشدة، قد جئناك لتدفع الينا شيئاً نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقاً علينا، فقال أمير المؤمنين: قد عرفتما مالي بـ(ينبع) فإن شئتما كتبت لكما عن ما تيسر فقالا: لاحاجة لنا في مالك. فقال أميرالمؤمنين: ما أصنع فقالا: اعطنا من بيت المال شيئاً لنا فيه كفاية. فقال أمير المؤمنين: سبحان الله وأي يد لي في بيت مال المسلمين؟ وأنا خازنهم وأمين لهم. فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك من الناس ماشئتما، فإن أذنوا فيه فعلت. وأنى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم؟ ولكني أبدي لكما عذراً، فقالا: ماكنا بالذي يكلفك ذلك ولو كلفناك لما أجابك المسلمون، فقال أمير المؤمنين، فما أصنع؟ فقالا: سمعنا ماعندك.

ثم خرج الرجلان من دار أمير المؤمنين، وقد يئسا من بيت المال فجعلا يفكران في كيفية الخروج الى مكة. لقد فشلت كل المحاولات التي قام بها كل من طلحة والزبير وغيرهما في دفع الإمام علي (عليه السلام) الى تغييرموقفه في العطاء، فقد أصر الإمام على مبدئه غير متزعزع وغير متأثر بكل محاولات الاستدراج، ، فكان رأيه النهائي أن يقبضوا من ماله الخاص في ينبع وهو رأي ينم عن مبدئية لا حد لها، وكم كان هذا الرأي محرجاً لطلحة والزبير.

3- إعادة الحكم الإسلامي الى وضعه الصحيح

لقد مضى وقت طويل عن فترة صدر الإسلام وماتحمله تلك الفترة من قيم ومبادىء في الحكم. وبالمقابل تفشت السلبيات في غياب القيم الاسلامية الحقة، وانتزعت المشاعر الدينية عن البعض ويذكر المؤرخون لما قدم أهل اليمن زمان ابي بكر وسمعوا القرآن جعلوا يبكون، فقال أبوبكر هكذا كنا ثم قست القلوب.

هكذا تغير واقع المسلمين ولعل اكبر شاهد على هذا التغير ماورد في صحيح مسلم عن تلك الفترة. جاء في صحيح مسلم:

حدثنا عبدالله بن مسلمه بن قعنب، حدثنا سليمان يعني ابن بلال عن يحيى و ابن سعيد، قال كان سعيد بن المسيب يحدث ان معمراً، قال قال رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من احتكر فهو خاطيء فقيل لسعيد فانك تحتكر. قال سعيد إن معمراً الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر(3).

وإذا عرفنا ان رواية الأحاديث بدأت في الفترة المتأخرة وليس في عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فإن معمراً الراوي أخذ يحتكر في تلك الفترة وليس في عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وهذا مايكشف لنا عن وضع المسلمين في غياب الأسس القويمة التي قام عليها النظام الاسلامي. ففي غياب المحاسبة الحكومية وضعف الإلتزام الديني أخذ العديد من الصحابة يبتعدون عن الجادة، فلاغرابة بعد ذلك في الذي لاحظناه من مواقف من كبار الصحابة كطلحة والزبير.

وأمام هذا التسيب كان على الإمام أمير المؤمنين أن يعيد كل شيء الى نصابه.

وأن يدفع بالمسلمين الى الإنسجام التام مع مبادىء الإسلام في الحكم. ويأتي على رأس هذه المبادىء الحرية.. العدل.. المساواة.. فبدأ ومنذ استلامه لمهمة ادارة الدولة الاسلامية بدأ بتكريس هذه القيم الثلاثة، وقد تحدثنا عن المساواة في العطاء وبقي الحديث عن الحرية والعدل.

وسجل أمير المؤمنين في مجال الحرية والعدل مملوءا بالحكايات خلال فترة حكمه لكن مايهمنا هو الفترة الأولى من حكمه أي اللحظة الأولى التي استلم فيها الحكم.

فقد لاحظنا ذلك في قضية طلحة والزبير عندما أراد الامام ارجاعهما الى المسلمين قائلاً لهما: فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك من الناس ماشئتما، فإن أذنوا فيه فعلت. وهو بهذا القول أراد أن يؤكد مبدءاً هاماً من مبادىء الحكم في الإسلام وهو الإعتماد على رأي الناس أومايصطلح عليه اليوم بالإستفتاء الشعبي وهو موقف يتناغم مع روح القرآن الكريم ومبدئيته في مسألة الشورى حيث ورد وأمرهم شورى بينهم.

فالإمام الذي استلم زمام المسؤولية عبر اختيار شعبي منقطع النظير لايخشى رأي الناس بل يرى إن رأي الناس هو دعم لنظام حكمه، فكلما أراد اسناد حكمه التجأ الى المسلمين الذين يشكلون القاعدة القوية في النظام السياسي لأية دولة.

أما عدل الإمام فقد ظهر منذ الدقيقة الأولى.. ومنذ أن جاءه طلحة والزبير وهما يستأذنان أمير المؤمنين بالرحيل عن المدينة وهما يقولان مانريد إلا العمرة. لم تنطل هذه الخدعة الواهية على الإمام علي (عليه السلام) فهو يعرفهما جيداً وانهما سيتآمران عليه، ولو كان الحاكم هو غير الإمام علي (عليه السلام) لاتخذ الإحتياطات الكافية بفرض الإقامة الجبرية عليهما في المدينة المنورة.

فلنستمع الى هذه المحاورة التي جرت بين ابن عباس والصحابيين بعد أن لقيهما وهما يشدان عدة الرحيل.

سألهما: أذن لكما أمير المؤمنين؟

فقالا: نعم.

فأسرع ابن عباس الى أمير المؤمنين وهو يخشى أن يفوته الوقت ويفلت منه

الاثنان.

وكان الامام يعلم بما يختبىء تحت ضلوع ابن عباس فابتدأ قائلاً: يابن عباس: اعندك الخبر.

قال ابن عباس رأيت طلحة والزبير.

قال أمير المؤمنين: انهما استأذنا في العمرة فأذنت لهما بعد أن أوثقت منهما بالإيمان أن لايغدرا ولاينكثا ولايحدثا فساداً..

ثم طرق برأسه وبعد هنيئة واصل الإمام إني لأعلم انهما ماقصدا الا الفتنة، فكأني بهما وقد صارا الى مكة ليسعيا الى حربي فإن يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك وسيفسد هذان الرجلان في أمري، ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري.

فاستثار ابن عباس لهذه الكلمات، فقال بأدب بالغ إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوماً فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما وأوثقتهما بالحديد وكفيت المؤمنين شرهما؟

فقال أمير المؤمنين متعجباً: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم، أبدأ بالسيئة قبل الحسنة؟ وأعاقب على الظنة والتهمة؟ وأؤاخذ بالفعل قبل كونه كلا والله.

لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم والعدل، ولا ابتدأ بالفصل.

منطقان مختلفان..

منطق ابن عباس، ومنطق الإمام علي.

فإبن عباس، كان يرى الأمور من منظار السلطة فهو منطق السلطة في كل زمان ومكان بينما علي(عليه السلام) كان يرى الأمور من منظار المبادىء فهو رجل مباديء همه أهدافه الخالدة في الحياة وليس تثبيت سلطته على حساب مبادئه.

وعجباً لعلي أن يتكلم بذلك المنطق وهو على رأس السلطة.

وعجباً لابن عباس أن يتكلم بذلك المنطق وهو خارج السلطة.

فالذين جربوا الحكومات المتعاقبة يفهمون هذه المقايسة.. فكثيراً مايكون الانسان خارج السلطة فينشد بالمبادىء والقيم ويتغنى بها لكن يتبخر كل شيء بمجرد أن يصل الى السلطة.

فهل جرب العالم حاكما كعلي لايختلف موقفه عندما يكون في السلطة أو خارجها. فالذي جربته البشرية هو العكس تماماً إلاً في الحالات النادرة.

فهي جربت حكاماً كانوا يذوبون في المبادىء، وبمجرد وصولهم الى الحكم يتغير منطقهم ويأخذوا بالتعامل مع منطق السلطة. وقد يحصل أن يضطر بعض الحكام على تغيير مسارهم لأن الكثير من المبادىء التي يطلقونها في زمن العمل السلبي هو مجرد شعارات رنانة قد لاتحظى بأية درجة من أمكانية التطبيق.. لكن علي لايقر بالظروف ومهما كانت قاهرة ولايهمه إن سار عكس اتجاه التيار إذا كان شراعه باتجاه مبادئه.

لقد آل علي (عليه السلام) على نفسه ومنذ الوهلة الاولى من حكومته أن يطلق على الأمة نسيم الحرية حتى تنتعش رئتها بالهواء الطلق فتأخذ في ممارسة دورها الحضاري المرسوم لها لأن الاستبداد يفسد الهواء الذي يتنفسه الناس.

فبعد أن بايعه الصحابة جاؤوا بسعد بن ابي وقاص:

فقال له علي: بايع.

قال: لاحتى يبايع الناس، والله ماعليك مني بأس.

فأراد الصحابة أن يرغموه على البيعة.

فنادى فيهم الإمام.. خلوا سبيله..

وجاؤوا بعبد الله بن عمر، فقالوا: بايع فقال: لا حتى يبايع الناس.

فقال (عليه السلام) إئتني بكفيل.

قال: لا أرى كفيلاً فقال الأشتر: دعني أضرب عنقه.

فقال الإمام: دعوه أنا كفيله.

وبهذا الموقف الخالد أرسى الإمام أساساً متيناً للحكم الاسلامي.. ولايهم ابن أبي طالب بعد تلك الوقفة من يكون المستفيد، ومن يكون المتضرر حتى ولو كان الضرر سيصيب حكمه.

فليس المهم أن يتضرر الحكم والسلطان طالما سلمت المبادىء.

 

الهوامش:

1- كرومي علي نظرة عصرية ص68.

2- محمد الخضري بك اتمام الوفاء ص 170.

3- صحيح مسلم ج 3 ص 1227 وسعيد بن المسيب كان ختن ابي هريرة على ابنته ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب وروي عنه انه قال أصلحت بين علي وعثمان، كان من جلة فقهاء التابعين ونساكهم وخيارهم وأعلم من بقي منهم لقضاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر مات سنة ثلاث واربعين وتسعين (رجال صحيح مسلم ص 227) والظاهر ان فترة نشاطه كان في عهد عثمان بن عفان، معمر بن عبد الله عمر طويلاً أسلم قديماً وهاجر الى الحبشة، روى عنه سعيد بن المسيب والظاهر انه كان في الحياة في عهد عثمان بن عفان. (انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة 400 ج 4).