mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 49.doc

بسم الله الرحمن الرحيم   

انتهينا في محاضرتنا السابقة إلى الحديث عن ظاهرة الدعاء وكان الحديث عن ظاهرة الدعاء امتداداً لما حدثناكم عنه بالنسبة إلى التربية الشعائرية ووعدناكم أن نختم حديثنا عن التربية الشعائرية بمفردةٍ مهمة جداً ترتبط بالبعد التربوي للشخصية ألا وهي ظاهرة التوبة وهذا ما نبدأ فنتحدث عنه الآن ونقول:

التوبه

تبعاً لما لاحظناه طيلة محاضراتنا بالنسبة إلى تركيبة البشر القائمة على الاصطراع بين الشهوة والعقل أو الذاتي والموضوعي، من خلال الوعي لهما، أي من خلال المبدأ المعروف فألهمها فجورها وتقواها نقول تبعاً لهذه التركيبة وطبيعة وعينا الفطري بها حينئذٍ فإن القيام بأية مفارقة في السلوك أي الانصياع للشهوة يظل أمراً لا يكاد يعصم منه إلا من اصطفته السماء وذلك من خلال معرفة الله سبحانه وتعالى سلفاً بالاستعداد الذي يطبع هذه الشخصية أو تلك والسلوك الإيجابي الذي تختاره في غمرة مواجهتها للذائذ الحياة، ومن المعروف أن لذائذ الحياة هي المحرك الوحيد لسلوك الإنسان، وإلا لما أمكن أن نتصور إمكانية أن يصدر عن البشر أي تحرك ما لم تكن ثمة دوافع وحاجات إلى ذلك كل ما في الأمر أن البحث عن إشباع الحاجات يتم حيناً بطرائق مشروعة وأخرى بطرائق غير مشروعة، كل ذلك حدثناكم عنه مفصلاً في أحاديثنا السابقة، أما الآن فوددنا أن نذكّركم بذلك فحسب حتى ننتقل إلى الحديث عن ظاهرة التوبة وما يستجرّه الحديث عن هذه الظاهرة من الإشارة إلى ممارسة الذنب بصفته تجسيداً لبحث الشخصية عن الإشباع غير المشروع لحاجاتها، فالسماء التي أودعت فينا هذه التركيبة رسمت لنا طرائق إشباع حاجاتنا وفق مبادئ خاصة هي الأوامر والنواهي الشرعية مما يعني أننا الآن أمام نمطين من طرائق إشباع حاجاتنا، الطريق المشروعة والأخرى غير المشروعة، وحين نقول إن أحدنا مارس هذا الذنب أو ذاك فهذا يعني أن أحدنا مارس طريقة غير مشروعة لإرواء حاجاته أي إنه اختار بملء إرادته هذا النمط غير المشرع من تحقيق اللذة كما لو اختار أحد الأشخاص أن يسرق أموالاً من الآخرين أو يقتل مؤمناً أو يكذب ويخادع ويتهاون في صلاته ويتخلّف عن الجهاد أو يعمل لغيره.. الخ.

كل أولئك تشكل ممارسات غير مشروعة لدوافع وحاجات من نحو السيطرة والتملّك وتأكيد الذات وسواها حيث أن ممارسة الذنب تجسّد ممارسة لأمثلة هذا السلوك الذي أشرنا إليه، لكن بما أن الإنسان قد يستمرّ في إشباع حاجاته غير المشروعة من جانب وقد يتردد فيها من جانب ثانٍ وقد يقلع عنها من جانب ثالث حينئذٍ فإن الحالة الأخيرة أي الإقلاع عن الذنب والندم على سلوكه غير المشروع، في هذه الحالة تجيء التوبة سلوكاً خاصاً تمارسه الشخصية قبالة الذنب مما تترتب على ذلك آثار عبادية مهمة نحاول الآن الدخول في تفصيلاتها حتى يتسنّى لنا تعديل السلوك في غمرة وظيفتنا العبادية التي خلقنا من أجلها.

في البدء ينبغي أن نتذكر أن مبدأ الحياة العام هو عدم إشباع الحاجات الطليقة من كل قيد، بمعنى أنه لا يمكننا أن نتصور إمكانية أن يحقق الإنسان كل رغباته في الحياة، حتى لو كانت هذه الرغبات مشروعة أيضاً، مما يعني أن السماء وفقاً لحكمتها الخاصة أخضعتنا لتجارب واختبارات وامتحانات أو فتن طالبتنا بأن نتجاوز ما هو غير مشروع منها والوقوف عند المشروع منها فحسب، وحتى الوقوف عند المشروع منها ينبغي أن يتم وفق طرائق خاصة من الإشباع تتكفل العمليات التربوية في خطوطها الإسلامية بتنظيم ذلك.

المهم ينبغي أن نلاحظ أن تحقيق الرغبات الممكن تحقيقها يقترن في الواقع بدرجات أشدّ إمتاعاً ولذة من تحقيق ما هو غير مشروع، وهذا أمر ذكرناه أو تحدثنا عنه بشكل مفصل جداً في أول محاضراتنا عن العمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك لتعديل السلوك البشري، حيث استشهدنا بمقولة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القائلة بما مؤداه من أن المداومة على عمل الخير تستتبع كراهية الشر، المهم إن تحقيق الرغبات المشروعة حينما تقترن بدرجات أشدّ إمتاعاً ولذة من تحقيق ما هو غير مشروع. إن تحقيق أمثلة هذه الرغبات يقتادنا دون أدنى شك إلى أن نتحدث عن مفهوم التوبة أو مفهوم ممارسة الطاعة في الواقع، بمعنى أن ممارسة الطاعة سوف تتم من خلال عمليتين هما:

أولاً تسليط الوعي على ممارستنا لهذا السلوك أو ذاك، ومن ثم التدريب على السلوك المطلوب، وهذا يعني أن مبدءاً عاماً يحكم طبيعة الحياة العبادية هو تأجيل اللذة غير المشروعة وحينئذٍ إذا تم اختيارنا لممارسة ما هو المشروع من الرغبات حينئذ يتجسد مفهوم الطاعة، وإذا تم اختيارنا لممارسة ما هو غير مشروع منها، فهذا هو الذنب كما قلنا وإذا أقلعنا عن الذنب وندمنا عليه فهذه هي التوبة أي إن التوبة هي محاولة جديدة لتأجيل اللذة مما تشكل بدورها واحداً من وجوه الطاعة ولكن وفق تصور خاص ينبغي أن نتبسّط في الحديث عنه ما دام الحديث عن التوبة سيكون خاتمة لأحاديثنا التربوية ومن ثم كونه يجسّد أهم سلوك بشري تختم به حياة الشخصية ويتحدد مصيره الأخروي من خلال ذلك، والآن لنحاول أن نقف عند نماذج من واقعنا اليومي وهذا كافتراضنا بأن شخصاً ما مثلاً كذب في حديثه أو أساء إلى الآخرين، أو تعاون مع الظالمين أو تخلّف عن الجهاد، أو عمل عملاً ظاهره لوجه الله وباطنه من أجل الذات، كأن يجاهد أو يؤلف أو ينفق لكن من أجل السمعة الاجتماعية وانتزاع التقدير والثناء من الآخرين وليس من أجل الله سبحانه وتعالى.. الخ.

إن هذه الألوان من السلوك تعد إشباعاً غير مشروعاً لحاجات الشخصية والمفروض إسلامياً أن تحمل الشخصية وعياً بسلبية هذا السلوك وأن تمارس عملية تأجيل للذائذها فتصدق في القول وتحسن إلى الآخرين وتنعزل عن الظالمين وتسرع إلى ساحة الجهاد وتعمل من أجل الله وحده في ممارساتها الثقافية والاقتصادي وسوى ذلك حتى لو كلّفها ذلك ثمناً غالياً هو سحق ذاتها في نهاية المطاف. لكن تظل لحظات الضعف البشري مسيطرة على الإنسان فيختار بمحض إرادته ممارسة السلوك السلبي الذي أشرنا إليه، ومع ذلك وهنا نلفت انتباهكم، ومع ذلك فإن السماء منحت أمثلة هذا الشخص فرصة جديدة للسيطرة على رغباته غير المشروعة، وذلك من خلال ظاهرة التوبة في ما تعني التوبة كما قلنا الندم على ما صدر من الشخص من سلوك سلبي والعزم على عدم معاودة هذا السلوك. هنا تواجه هذا الشخص عمليات نفسية خاصة قد تبدو صعبة حيناً وقد تتأرجح بين ما هو صعب وما هو سهل حيناً آخر، وقد تكون سهلة لا صعوبة فيها تبعاً لدرجة وعيه من جانب وتماسك بناءه النفسي من جانب ثان ونمط اللذة التي يحاول أن يؤجلها من جهة ثالثة.

فمثلاً إن السيطرة على دافع حيوي كالجنس أو الطعام مثلاً أو السيطرة على دافع نفسي كالعلو وتأكيد الذات والتقدير الاجتماعي، نقول إن أمثلة هذه الدوافع الحيوية والنفسية ذات الطابع الملحّ قد تختلف عن السيطرة على دوافع أقل إلحاحاً أو ما يسمى في اللغة النفسية والتربوية بالدوافع الثانوية، كما أن تماسك البناء النفسي للشخص أو ضعف البناء المشار إليه، يسهم بدوره دون أدنى شك في تصعيد أو تضئيل السيطرة على دوافعه غير المشروعة، وأخيراً فإن درجة الوعي الإسلامي لديه تسهم بدورها في تصعيد أو تضئيل السيطرة على ما هو غير مشروع من رغباته.

لكن هذه المستويات في الواقع لا تعفي الشخص بأية حال من أن يتحمل مسؤوليته لأي سلوك يصدر عنه إلا في درجة المسؤولية وليس في نوع المسؤولية، ومن ثم فإن استثمار ظاهرة التوبة التي أتاحها الله سبحانه وتعالى لنا في هذا النطاق يستتلي أيضاً تحديد نمط التوبة ومستويات التوبة وشروط التوبة.. الخ، أولئك جميعاً ينبغي أن يضعه التائب في موقعه الذي ترسم الشريعة مختلف منحنياته وخطوطه.

إن ما نحاوره في محاضرتنا الآن هو إلقاء الإنارة الكاملة على هذا الجانب أي على معرفة الطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك في التعامل مع ظاهرة الذنب والتوبة من الذنب حتى يتم التعديل للسلوك المطلوب عبادياً. نقول:

إن إلقاء الإنارة الكاملة على هذا الجانب يظل في الواقع ليس من خلال مجرّد تذكير أنفسنا وتذكيركم الذي لا مناص من ممارسته جميعاً، كل واحد منا حيال الآخر بل نحاول رسم طرائق المعالجة للذنب وتحديد ممارسة التوبة ما دمنا ندرك بوضوح أن الذنب بمفهومه الإسلامي لا يشكل مجرّد سلوك غير مرغوب فيه بل هو في واقعه ممارسة مرضية لا تصدر عن رجل سليم العقل وسليم النفس، بل هو إفراز أي إن الذنب هو إفراز لمجموعة من العقد والأعصبة والأمراض التي تصدر عن رجل ساهمت جذور شتى في صياغة شخصيته قد يكون بعض هذه الجذور ذا صلة بوراثة طارئة مثلاً، كما حدثناكم عن ذلك في بداية محاضراتنا المرتبطة بعنصري الوراثة والبيئة حيث أشرنا إلى أن ثمة وراثة طارئة تحدث للشخصية بشكل فصّلنا الحديث عنه. أما الآن فنذكركم فحسب بهذا الجانب حيث نقول إن هذه الجذور المساهمة لشخصية المذنب قد يكون بعض منها ذا صلة بوراثة طارئة وقد يكون بعض منها وهو الغالب بطبيعة الحال نتيجةً للثقافات المنحرفة بيئياً، إلا أنها في الحالات جميعاً أمثلة هذه الأنماط من السلوك الشاذ أي السلوك المذنب قابلة للتعديل دون أدنى شك ما دامت النفس الإنسانية قد ألهمت فجورها وتقواها كما يقول الله سبحانه وتعالى، وما دامت التوبة تشكل طرائق تربوية بالغة الأهمية في علاج المرض المشار إليه.

ويجيء الندم على الذنب نكرّر هذه العبارة، يجيء الندم على الذنب خطوة أولى في قبول التوبة وتعديل السلوك، وحينما نقول خطوة أولى في قبول التوبة وتعديل السلوك فإنما نشير إلى أن الله سبحانه وتعالى سمح لنا بأن نمارس عملية التوبة حتى نتخلّص من ممارسة الذنب، وقولنا إنها خطوة أولى في تعديل السلوك يعني أن التائب عندما يندم على ذنبه حينئذٍ هو سوف يخطو الخطوة الأولى في تعديل سلوكه وإلا فإن مجرّد الندم على الذنب مع كونه يشكّل مفهوم التوبة بشكل أو بآخر، إلا أن الندم على الذنب وحده لا يجسّد التوبة بكل مستوياته بل ثمة شروط كثيرة نحدثكم عنها إنشاء الله بعد قليل.

والآن حين نكرر الإشارة إلى أن الندم على الذنب يجسّد الخطوة الأولى في قبول التوبة وتعديل السلوك، فإن السرّ الكامن وراء ذلك من الزاوية النفسية هو أن ممارسة الذنب لا تتم في الواقع إلا بغلبة النزعة الشريرة عند الشخص وتعجيله لإشباع هذه الحاجة غير المشروعة، فمثلاً المرائي أو العامل عملاً خيراً ولكن من أجل أن ينتزع التقدير الاجتماعي من الآخرين، إن مثل هذا الشخص لا يرائي ويعمل من أجل التقدير الاجتماعي وحده، إلا مع وعيه بحقيقة سلوكه وإصراره على أن يشبع هذه الذات وتحقيق اللذة التي يكتسبها متمثلةً في تلك النشوة التي يتحسسها ويهتزّ لها عندما يمتدحه الآخرون مثلاً، أو عندما يتردد اسمه على الشفاه أو يسمع صوته من المذياع أو تشاهد صورته على صفحة التلفزة أو يحسده الآخرون أو يعجبون به أو يغبطونه على ما يحتله من منصب وجاه وسمعة وخفق النعال حوله.. الخ، وما إلى ذلك من أشكال الضعف الإنساني فيما ينتشي صاحبه ويهتز ويتلذذ بكل ما هو دغدغة للذات الكريهة الملتوية المريضة.. الخ.

ومن البين أن أبسط ضياع عند مثل هذا الشخص هو أنه يتجاهل حقيقة الله سبحانه وتعالى وينسى هدفه الذي يعمل من أجله، ولا يكترث بالحقيقة الموضوعية التي ساقته إلى أن يمارس عملية صلاة مثلاً في أول وقتها أو إنفاق مال على الفقراء أو إلقاء محاضرة على الجمهور أو سعي لإرشادهم.. الخ، نقول مثل هذه الشخصية التي تتجاهل ما هو أساسي في سلوكها المطلوب وتعنى بما هو ذاتي فحسب، إنما تمارس إشباعاً متعمداً لرغباتها غير المشروعة، وهذا يعني إنغلاق سبل الخير في أعماقها وانفتاح ما هو شرير فيها.

وتبعاً لذلك فإن الإحساس بالندم ذات يوم على ما صدر منها وهذا الإحساس يعد يقظة ونقطة تحول في نزعات هذه الشخصية ومراجعة لسلوكها وتأنيباً لجهازها القيمي الذي تحياه وتعيه.

من هنا نفهم دلالة الحديث المأثور عن أهل البيت (عليهم السلام) في ذهابهم إلى القول: (كفى بالندم توبة) كما ورد ذلك عن الإمام الباقر (عليه السلام)  فالندم ذات يوم من خلال تسليط الوعي على حقيقة الباعث إلى المراء وانتزاع التقدير من الآخرين مثلاً نقول الندم على مثل هذا السلوك في بواعثه غير الخيرة بالنسبة إلى من يمارس المراء يعد مؤشراً إلى يقظة وجدان وإنكار للسلوك المهين الذي صدر عن الشخصية، فإذا أنكر مثل هذا السلوك وتمنى لو أنه لم يصدر عنه حينئذ يتحقق مفهوم الندم وما يواكب ذلك من قبول التوبة ما دام الندم يرشّحه لعدم الوقوع ثانية في حبائل الشيطان.

ولكن كما قلنا يظل مفهوم تفادي الندم توبة مجرّد استعداد لممارسة خطوات أخرى في تعديل السلوك، ومع ذلك نظراً لأهمية هذا المبدأ التربوي لا بأس بأن نلقي مزيداً من الإضاءة عليه فنقول:

إن في أدبيات علم التربية الإسلامي أكثر من ملاحظة عيادية في هذا الجانب من مفهوم الندم ومفهوم التوبة ودلالتهما النفسية في تعديل وتنظيم السلوك، ومن ذلك على سبيل المثال الملاحظة العيادية للإمام علي (عليه السلام) في قوله: (إن الندم على الشر يدعو إلى تركه).

لاحظوا إن هذه الملاحظة العيادية أو التقرير التربوي أو التوصية العبادية تفسر دلالة الحديث الذي قدمناه قبل قليل ونعني به حديث كفى بالندم توبة، فالنادم على الذنب يعني كما قلنا وكررنا صحوة ويقظة من سلوك بدأ النادم يسلط الإضاءة عليه متحسساً بأنه سلوك شرير كان الأجدر أن لا يصدر عنه، ومع مثل هذا التحسس يحاول هذا النادم أن لا يعود لممارسة الذنب ثانيةً بمعنى أنه سوف يرشحه لعدم ممارسة الشر جديداً، على النحو الذي قرره (عليه السلام) في مقولته القائلة (الندم على الشر يدعو إلى تركه) فالمرائي وهو المثال الذي قدمناه والباحث عن التقدير الاجتماعي عندما يتحسس بأن ما أنفقه من مال مثلاً أو ما قدمه من خدمات اجتماعية إنما نبع من باعث ذاتي هو اللذة التي تحققها سمعة أو جاه يهتز له، حينئذ فإن هذا التحسس سيدفعه إلى عدم معاودة مثل هذا السلوك في ممارساته اللاحقة وذلك بأن يبدأ مثلاً بإنفاق أمواله بنحو سري حتى يتحاشى الوقوع في هوة البحث عن تقدير زائف من الآخرين، أو يحظى بكلمة شكر من المنفق عليه، أو يبدأ في خدماته الاجتماعية التي تعوّد من خلالها أن يعلنها باسمه الصريح مثلاً ومن خلال الوسائل الإعلامية التي تظهر شخصيته أمام الجمهور يبدأ بممارستها أيضاً سراً من دون اسم أو اسم مستعار حتى تصبح ممارسته خالصة لوجه الله تعالى لا يبتغي بذلك علواً ولا سمعة ولا تقديراً.

إذن الندم على الذنب في المثال المتقدم سيرشح الشخصية إلى ممارسة سلوك جديد هو محاولة عدم الوقوع ثانية في الشر وبكلمة الإمام علي (عليه السلام): (الندم على الشر يدعو إلى تركه) وكفى بها كلمة من حفظها وأدرك دلالتها أمكنه أن يقدر مدى معطياتها التربوية في تعديل السلوك، ومدى ما يترتب على هذا التعديل من معطيات دنيوية وأخروية نتطلع إليها جميعاً في سلوكنا العبادي في هذه الأرض.

والآن وقد عرفنا ذلك سيواجهنا نص أو تقرير أو توصية عيادية أخرى قد ألقت إنارة أكثر على هذا الجانب وهي التوصية الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إشارتها إلى معطيات الندم على الذنب، حيث تشير هذه التوصية إلى المعطيات التربوية بالنسبة إلى التائب حتى لو كان هذا التائب يكرر ممارسته المذكورة أي يمارس الذنب ويتوب ويمارسه ويتوب وو.. الخ، في هذا الميدان نجد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعقب على من يتوب ثم يعود إلى الذنب قائلاً: (فلا تزال تتوب حتى يكون الشيطان هو المدحور)، واضح هنا أن الشخص قد يندم على سلوك شرير مثلا إعانة الظالم الإساءة إلى الآخرين، الممارسة الجنسية غير المشروعة، الكذب، الغيبة، البهتان.. الخ، ثم يعود إلى ذلك من جديد تحت تأثير لحظات الضعف وتكرار المنبهات الخارجية كما لو قرر مثلاً أحد الموظفين في دوائر غير إسلامية أن يهرب من وظيفته أو يتحاشى التعاون في هذا المجال أو ذاك مع الظلمة إلا أن حرصه على استمراريته تسلم مرتبه أو تخوفه من نقله إلى دائرة أخرى تحط من قيمته الاجتماعية أو تطلّعه إلى انتزاع تقدير الظالم بصفته ذا مركز اجتماعي أو يتوجس خيفة من أن يلحق به بعض الأذى مما قد يطيقه لكنه وهو يؤثر الراحة لا يمارس هذا السلوك حينئذ نجد أن أمثلة هذه المنبهات قد تجعل هذا الموظف يقع ثانية في شراك الظلم بعد أن ندم على سلوكه السابق في التعاون مع الظالمين إلا أنه عاد في لحظات الضعف إلى التعاون من جديد.

وهكذا بالنسبة إلى الممارسات الجنسية في مختلف مستوياتها، كم نجد من شخص يمارس عملاً جنسياً غير مشروع والعياذ بالله، أو يمارس مستويات من النشاط الجنسي كالنظر إلى المرأة الأجنبية مثلاً ولكنه يندم على ما صدر منه من ممارسة محرّمة، ثم يتوب إلا أنه عندما يواجه من جديد منبهاً جديداً هو مرور امرأة عليه حينئذٍ سيعاود نفس الممارسة وسيندم من جديد وهكذا..

نقول إن أمثلة هذا النموذج الذي يحيا متصارعاً مع نفسه يظل ذا بناء نفسي متزلزل دون أدنى شك، ولكن في الآن ذاته يحتفظ مثل هذا الشخص بقوى خيرة في أعماقه، كل ما في الأمر أن قواه الشريرة قد تستيقظ من جديد من خلال المنبهات الجديدة الحادة فيعود إلى الذنب، ثم يقرر بجدية على عدم معاودة الذنب وينجح في ذلك فعلاً ولكنه يسقط من جديد في حبائل الشيطان، لكن يتم ذلك ليس من خلال إصراره على ممارسة الذنب بل من خلال ضعف بناءه النفسي الذي يحيا صراعاً لم يرسو جانبه الخير بعد على شاطئ، إنه بحاجة إلى أن يتدرب ويتمرّس بنحو متواصل حتى يقضي على منابع صراعه ما دام الجانب الخير من الصراع يحتفظ بفاعليته لدى مثل هذا الشخص، ولعلّ استشهادنا من جديد بنموذج يومي في سلوك الغالبية من الأفراد يبلور لنا هذا الجانب الذي ينطوي على الصراع بشكل واضح.

الكذب على سبيل المثال في أحاديثنا اليومية أو الغضب الذي ننفعل به في كثير من المواقف، أو الممارسة الجنسية الغير المشروعة كالنظر إلى المرأة، إننا نأتي بأمثلة يومية وإلا فإن هناك من الممارسات ما تتجاوز هذه الدائرة إلى دوائر لا نحبّ الآن أن نعرض لها، ولكنها في أمثلة هذه النماذج التي قدمناها والتي نحياها يومياً ما يكفي لكي نرتدع من خلال التفكير بهذا الجانب عن أية ممارسة نهانا المشرع الإسلامي منها، نقول:

إن الكذب والغضب والنظر إلى المرأة الأجنبية، هذه الممارسات يحياها غالبية الأشخاص يومياً، ولكن تبعاً لجهازنا القيمي يقرر كل واحد منا مثلاً أن لا يكذب بعد الآن أبداً، وأن لا يغضب أبداً، وأن لا ينظر إلى المرأة الأجنبية أبداً. لكن ما أن يضمنا مجلس جديد حتى نمارس عملية الكذب من جديد وذلك لكي نلفت نظر الآخرين إلينا من خلال تقديمنا خبراً يلفت النظر، أو ما أن يشاهدنا أحد إلا وننفعل بالغضب من جديد، وما أن نواجه امرأة إلا ونعود ونتلذذ بالرؤية إليها من جديد وهكذا.. إلا أننا نندم في الواقع على هذا الكذب الجديد ونندم على الغضب الجديد ونندم على الممارسة أو النظرة الجديدة ونقرر ثانية إلى أن لا نعود إلى هذه الأنماط من السلوك في المستقبل، إلا أننا نقع في المفارقة ذاتها في المستقبل وهكذا..

إن أمثلة هذه النماذج لتختلف بطبيعة الحال عن نموذج آخر يصرّ على الكذب والغضب والنظر دون أن تحدثه نفسه بأن يقلع عن ذلك، أو دون أن يندم على ذلك أو دون أن يقرر عدم معاودة هذا السلوك، لذلك فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ألقى الإنارة بالنسبة إلى ملاحظته المذكورة أي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (فلا تزال تتوب حتى يكون الشيطان هو المدحور) إنما هو ناظر كما هو واضح إلى النموذج الأول من الأشخاص حيث يعتزمون صادقين مخلصين على عدم معاودة الكذب والغضب والنظر، إلا أنهم لضعف بنيتهم النفسية يعودون إلى الذنب ثانية ولكن مع ذلك فإن التدريب على عدم معاودة الذنب يفضي في نهاية المطاف إلى أن يتغلّبوا في الواقع على الطرف الآخر من الصراع وهو الشر، حيث يكون الشيطان هو المدحور في النهاية كما قرر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ملاحظته العيادية المتقدمة.

والآن نتحدث عن الإحساس بالندم من حيث كونه عملية نفسية يصحبها نمط من التمزّق نتيجة لما يواكب الندم من إحساس خاص بالذنب، طبيعياً ينبغي أن نتذكر الفارق بين إحساس مرضي بالذنب وبين إحساس صحي به، فالإحساس المرضي بالذنب أو الخطأ وقد حدثناكم عن ذلك في محاضرات متقدمة يشلّ الشخصية عن ممارسة أعمالها الإيجابية أما الإحساس الصحي بالذنب فعلى عكس ذلك يدفع الشخصية إلى مزيدٍ من الأعمال الإيجابية حتى تتلافى بذلك خطأها السابق، مثال ذلك أن يمارس أحد الأشخاص عملاً محرماً في الشريعة الإسلامية ثم يتحسس ضخامة الذنب الذي مارسه بحيث ينغّص عليه الحياة، إلى هنا فإن مثل هذا الإحساس بالذنب يظل سلوكاً صحياً يندب الإسلام إليه، إلا أن الإحساس بالذنب يأخذ شكله المرضي حينما يدبّ اليأس في أعماق هذا الشخص بحيث يعجز عن مواصلة عمله الاعتيادي في الحياة، وبحيث يقنط أو ييأس من رحمة الله سبحانه وتعالى دون أن يأمل نجاة من العقاب الأخروي.

فهنا نجد أن القنوط أو اليأس من غفران الذنب يشكل وفق المنطق العبادي عملاً مشيناً يحاسب عليه الشخص كما أنه يشكل في المنطق النفسي مرضاً لا يتخاصم اثنان في خطورة نتائجه الصحية على المريض، لذلك نجد القرآن الكريم يحدثنا بوضوح عن هذا الجانب في الآية المعروفة: (يا أيها الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) كم أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) حينما مرّ ذات يوم على مذنب قتل نفساً، فقنط من غفران الذنب حيث خاطبه الإمام (عليه السلام) بما مؤداه إن يأسك من رحمة الله أشد ذنباً من ممارستك للذنب المذكور. وهذا يعني بوضوح إن اليأس من رحمة الله يقتاد المذنب إلى تعطيل كل قواه الخيرة والاستسلام لممارسة الأعمال الشريرة أو على الأقل التوقف عن ممارسة ما هو خيّر من السلوك، وفي هذا ما فيه من تعطيل لممارسة العمل العبادي الذي خلق الإنسان من أجله في هذه الحياة.

إذن ثمة إحساس مرضي بالذنب يقتاد صاحبه إلى اليأس من إصلاح نفسه يقابله إحساس صحي بالذنب يقتاد صاحبه إلى إصلاح نفسه، والفرق كبير بين الحالتين، ففي الحالتين صراع وتمزق وتوتر وألم وكآبة، الإحساس المرضي بالذنب يصاحبه صراع تمزق توتر ألم كآبة، إلا أن الفرق بينهما أن الحالة المرضية الأولى تقوم على بناء نفسي مهزوز يجرّ صاحبه إلى اليأس من إصلاح نفسه، بينما نجد أن الحالة الثانية هي حالة صحية تقوم على بناء نفسي متماسك يجرّ صاحبها إلى الأمل في إصلاح نفسه.

إذن في الحالتين إحساس بالذنب وصراع ولكن مع الفارق بينهما في طبيعة الجهاد النفسي عند هذين الشخصين، ولكي يتبلور هذا الفارق بينهما بنحو أشد وضوحاً نقدم نموذجاً أيضاً من السلوك العادي في الحياة لا صلة له بعمليتي الثواب والعقاب بمعناهما العباديين اللذين تقدم نموذج واحد منهما يتمثل في ذل اليائس من رحمة الله، نقول نقدم مثالاً عادياً حتى نستطيع من خلال الخطوات التربوية التي تسلك نستطيع من خلال ذلك أن نعدّل أمثلة هذا السلوك،  هنالك طالب ذكي مجد على سبيل المثال ذات يوم أخفق في أداء مادته الامتحانية أو هناك موظف تعاون ذات يوم مع الظلمة أو هناك شخص أساء ذات يوم إلى أحد الناس، هذه النماذج تحفل بها كافة المجتمعات وغالبية الأفراد، إلا أن السلوك الصحي يفرض على هذه النماذج الثلاثة إذا كانت محتفظة بقوى خيرة في أعماقها يفرض عليها أن تمرّ بأزمة ضمير يؤنبها على الإخفاق في المادة الدراسية وفي التعاون مع الظلمة وفي إهانة الآخرين، أما إذا لم تتحسس بأزمة الضمير فهذا يعني أنها منسلخة من دائرة الإنسان. ولكن التحسس بأزمة الضمير ينبغي أن يكون فاعلاً ومؤثراً وذكياً، بحيث يعكس آثاراً إيجابية في السلوك اللاحق لا أن يشلّ الشخصية عن أداء مهمتها في الحياة، إن النماذج الثلاثة المتقدمة ستتحسس بأزمة ضمير كما قلنا في إخفاقها بالدراسة وتعاملها مع الظلمة وإهانتها للناس، لكن سرعان ما تأخذ على نفسها عهداً بأن لا تقع في الخطأ ثانية فيبدأ الطالب مثلاً بمواصلة دراسته من جديد متجنباً المواقف السابقة التي اقتادته إلى الرسوب في المادة ويكف الثاني في التعاون مع الظلمة ويقرّر الثالث أن يحسن من الآن فصاعداً إلى الآخرين ولا يهينهم كما فعل سابقاً. مع ملاحظة أن كلاً من هؤلاء الثلاثة قد يحتفظ حتى بعد قراره الجديد بتعديل سلوكه قد يحتفظ بمشاعر أو ذكريات من تجاربه المؤلمة في الخطأ، إلا أن تجاربه المتقدمة أو استذكارها أو استحضارها في الذهن لن تؤثر على سلوكه بنحو سلبي، بل على العكس تدفعه إلى ممارسة المزيد من الأفعال الإيجابية كما تقدم مثال على ذلك.

والآن لنتقدم إلى هذه النماذج الثلاثة ونفترضهم لا يمتلكون توازناً مطلوباً في سلوكهم فماذا سيفعلون؟!.

إن الطالب المجد سيحس أن رغبته السابقة في الدراسة قد شلّت تماماً بحيث ما أن يحاول أن يواصل دراسته حتى يتذكر تجربة خطأه السابق فيتعطل عن العمل وتضيع الساعات والأيام الطوال من مراحل دراسته وهو مشلول يجتر ذكرياته ويلوم نفسه ويرثي حاله ويسرف في اللوم على ذاته، ويعيد سلسلة ذكرياته المؤلمة من جديد ويستحضر الموقف السابق من جديد وهكذا.. ثم يطوي هذه الذكريات ثم يعود إليها وهكذا بالنسبة إلى الأشخاص الآخرين.

على أية حال يعنينا أن نلقي إنارة واضحة على الإحساس الصحي بالذنب وما تواكبه من عمليات نفسية تربوية أشار المشرع الإسلامي إليها ومدى ما تنطوي عليه أمثلة هذه العمليات من معطيات في مجال التعديل للسلوك مع أن أو بالرغم مما يواكب هذه العمليات النفسية من صراع وتمزق يبدوان للملاحظ العابر وكأنهما غير صحيين ولكنهما في الواقع يجسدان قمة الصحة النفسية التي يجهل مستوياتها وطبيعتها من انعزل عن الله سبحانه وتعالى.

وسنحدثكم عن ذلك إنشاء الله في محاضرة لاحقة..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..