mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 47.doc

بسم الله الرحمن الرحيم   

لا نزال نتحدث عن التربية الشعائرية حيث أنهينا حديثنا بالإشارة إلى التربية العسكرية وكان الحديث عن التربية العسكرية يتضمن مفهوم الجهاد والدلالات الإنسانية المترتبة عليه، والطرائق التربوية التي رسمها الإسلام في التعامل مع عملية الضبط الخارجي، وقلنا أن المناسبة تستدعي الحديث أيضاً عن الضبط الداخلي ولذلك تحدثنا عن القوانين الجزائية في الإسلام داخل المجتمع الإسلامي ذاته وانتهينا إلى أن الجزاء في الإسلام ينشطر إلى ما هو ذاتي أو داخلي يمارسه الشخص حيال نفسه دون تدخلٍ من الأجهزة المسؤولة، كما لو كفّر الشخص عن أخطائه العبادية التي تصدر عنه أو لو أخلّ بمبادئ الصلاة والصوم والحج والزواج واليمين والمعاملات المالية ونحو ذلك حيث يترتب عليها وجوب التكفير وذلك بأن يلزم نفسه مثلاً بتعويض ذلك ببذل مالي يدفعه إلى الآخرين، أو القيام بمراسم خاصة كالصوم.. الخ.

وهذا فيما يرتبط بالجزاء الذاتي وأما فيما يرتبط بالجزاء الخارجي فقد قلنا عنه أنه متمثل في الأجهزة القانونية التي تمارسها الدولة أو المرجعية أو أو.. الخ، فبالنسبة إلى الجزاء الذاتي نجد أن هذا الجزاء في الواقع يحقق نفس نتائج الضبط الخارجي حيث تفضي معاقبة الشخص لنفسه، وهو جزاء عاجل يدرء به عقوبة أخروية، نقول في الواقع مثل هذا الجزاء يفضي إلى أن يتدرب الشخص تلقائياً وهذا هو من الأهداف التربوية المهمة جداً، يفضي إلى أن نتدرب تلقائياً على عدم ممارسة الانحراف وتصبح جزءاً من عملية التنشئة أو التربية أو المبادئ التي يتشرّبها الشخص، وهذا النمط من الجزاء الذي لا تخبره مجتمعات الأرض، لا تنحصر فاعليته في النطاق الفردي بل يتجاوزه إلى المعطيات الاجتماعية المتمثلة في تحقيق التوازن الاقتصادي وغيره.. كإطعام الفقراء مثلاً أو تحرير العبيد أو إرجاع الحقوق المالية إلى أصحابها.. الخ، وهذا فيما يرتبط بالجزاء الداخلي الذي يمارسه الشخص تربوياً حيال ذاته دون مصدر خارجي يمده بذلك.

وأما الجزاء الخارجي أو الجزاء المتمثل في الأجهزة القانونية التي يمارسها المجتمع نفسه من حكومة أو مرجعية أو مؤسسة أخرى، أو حتى المجتمع نفسه فيتمثل في عنصري الضغط والقوة اللتين تمارسهما الأجهزة المسؤولة حيال المنحرفين ويتم ذلك من خلال أدوات متنوعة بعضها أداة نفسية والبعض الآخر أداة بدنية، وأما الأداة النفسية فتتم من خلال ممارسات كالتشهير ببعض المنحرفين مثلاً، وهذا من نحو التطواف بشهود الزور وفضحهم أمام المجتمع.

وأما الأدوات البدنية فتتمثل في ممارسات كالقصاص والحدود والتعزيرات أو في ممارسات مالية كالغرامات أو الضمانات أو الديات، فبالنسبة إلى القصاص كلنا يعرف أن القصاص هو معاقبة المعتدي بالمثل كإعدام القاتل مثلاً وأما الحدود فهي ضرب المنحرف عدداً معيناً من الأسواط، وأما التعزير فهو ضربه بعدد أقل غير محدود، وأما الديات فهي تعويض مالي بدلاً من القصاص في عمليات القتل والتجريح، إما بناء على التراضي بين المعتدي والمعتدى عليه في حالة الجرح وبين أولياء الأخير في حالة القتل، أو بناء على عدم إمكان المقاصة كالصدمة العقلية التي تنجم مثلاً من الإضراب، حيث لا يمكن أن يقاس المعتدي الذي سبب بضربه صدمة عقلية للآخر، لا يمكن أن يقاس بإصدامه عقلياً كما هو واضح.

المهم يمكن الذهاب إلى أن أهم ما ينبغي لفت الانتباه اليه هو أن استخدام القوة أو الضغط بالنحو الذي رسمه المشرع الإسلامي يظل متميزاً عما رسمته مجتمعات الأرض بكونها أداة للضبط تحتفظ بفاعلية ملحوظة في تعديل السلوك الاجتماعي، بخلاف أدوات الضبط التي تمارسها مجتمعات الأرض من حيث فشلها في تحقيق المهمة الاجتماعية المشار إليها، فالقصاص على سبيل المثال، وهو من أبرز أشكال الجزاء الاجتماعي في الإسلام، يظل أداة من حيث الضبط ضخمة في ميدان التوازن الاجتماعي حيث وصفه النص القرآني الكريم بأنه حياة المجتمعات، تبعاً لقوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) وعبارة حياة ليست رمزاً فنياً لمفهوم التوازن أو الأمن بقدر ما تفصح حقيقة عن المفهوم المشار إليه، طالما ندرك جميعاً بأن من يهم بالعدوان قتلاً أو جرحاً سوف يعاقب بالقتل وبالجرح وليس بالسجن مثلاً، حينئذ سوف يحتجزه الخوف من أمثلة هذا العقاب ولا يمارس حينئذٍ العدوان وبذلك يتحقق مفهوم الحياة التي تعني حفظ النفس من الموت أو العاهة الجسمية، ومن ثم تحقيق الأمن أو التوازن الاجتماعي، والأمر نفسه بالنسبة إلى سائر أدوات الضبط الاجتماعي، ومنها الحدود مثلاً فالسارق حينما تقطع يده، فإن الخوف من مجرد القطع وليس السجن سوف يحتجزه عن ممارسة الانحراف المذكور لأن قطع أصابع يده أو رجله في حالة التكرار تجعله لا يقوى على معاودة الجريمة فحسب بل إن قتله في المرة الرابعة مثلاً يلغي إمكانية السرقة أساساً، بل إنه يظل وسيلة تخويف من الصعب أن يتجاهله الآخرون ممن تحدثهم أنفسهم ذات يوم بالسرقة.

وكذلك فإن الأمر ذاته أيضاً بالنسبة لأشكال الحدود وفي مقدمتها الجزاء المتصل بالانحرافات الجنسية أو انحرافات الخمر، فهذان النمطان من الممارسات التي تضج منها مجتمعات الأرض وتقرّ بما أحدثته من أشد أشكال التصدع في البنيان الاجتماعي، هذان النمطان من الممارسة لم تصغ حيالهما أية عملية ضبط في مجتمعات الأرض، بينما أخضعها الاجتماع الإسلامي للجزاء المتمثل في إقامة الحد على ممارستها ومن ثم تنفيذ الإعدام أيضاً في حالة التكرار، أو الحالات الأشد شذوذاً.

ومن البين أن مجرد إقامة الحد من الممكن أن لا تحجز المنحرف عن معاودة الجريمة، كما يمكن أن لا يحجز الآخرين من ممارستها أيضاً، لذلك فإن عملية القتل في حالة التكرار أو الشذوذ الحاد سوف تحجز المنحرفين من التفكير بممارسة ذلك نهائياً، والحق إن الجزاء الاجتماعي في الإسلام لم يقف عند هذا النطاق من ممارسة الضبط بل تواكب عملية الجزاء ذاتها مجموعة من المبادئ التي تحقق الضبط في مستويات متنوعة، منها أولاً ما دام الهدف الاجتماعي هو الضبط وليس الجزاء، حينئذ أتاح الإسلام فرص تعديل السلوك حتى لا يصل الأمر إلى المرحلة الجزائية، وهذا ما يتمثل في مفهوم التوبة التي يطالب المشرع الإسلامي بالتوفّر عليها قبل أن تنكشف جريمته حيث تحقق التوبة فاعلية الضبط دون الحاجة إلى ممارسة الجزاء كما هو واضح، وتعرفون جميعاً أن التوصيات الإسلامية بالنسبة إلى عدم فضح المنحرف بجريمته إلى الدرجة التي نجد من خلالها أن كلاً من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي عبر ممارستهما للحكم يحاولان أن يثنيا أكثر من شخص يقر بجرائم جنسية غير مشروعة بحيث تتطلب إقامة الحد من خلال إقرارات أربعة، ولكن كلاً من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) حاولا بوسائل شتى أن يثنيا المنحرف من إتمام إقراره حتى يبعد عنه إقامة الحد حرصاً على تحقيق مهمة الضبط من خلال التوبة من جانب وحفظاً على سمعته الاجتماعية من جانب ثانٍ، وحرصاً على عدم إبراز الظواهر الانحرافية من جانب ثالث.

المهم إن هذا النمط من الضبط لا تخبره مجتمعات الأرض التي تفتقر إلى مفهوم العلاقة الرئيسة بين الله تعالى والعبد بما تفرضه من تلقائية في تعديل السلوك ما دامت السماء تعي وتثمّن هذا الندم على ممارسة الانحراف، أما من حيث أهمية التوبة وانعكاساتها على التوازن الاجتماعي فيمكن أن نشير إلى أن التوبة في الواقع تمثل احتفاظ الشخص بأهم حاجاته الاجتماعية وهما الانتماء والتقدير الاجتماعيين بحيث أن الفضح في حالة تعرض الشخصية بالجزاء، سوف يرتطم دون أدنى شك بإشباع هاتين الحاجتين، هذا فضلاً عن أن فضح المنحرف وتسليم المنحرف إلى ساحة القضاء يسهم في ما يطلق عليه مصطلح العدوى الاجتماعية، أي تشجيع الآخرين على ممارسة نفس الانحراف، لذلك نجد وهذا ما يشكّل مبدءاً تربوياً آخر من مبادئ الضبط التي تواكب عملية الجزاء، هو أن التوصيات الإسلامية تطالب بعدم فضح المنحرف حتى في حالة ثبوت الجريمة أيضاً، حيث تمنع الآخرين من مشاهدة إقامة الحد عليه إلا في حالات ذات ضرورة اجتماعية كما أشرنا إلى ذلك بالنسبة إلى التشهير بالمنحرفين اجتماعياً كشهود الزور مثلاً حيث أن شهادة الزور سوف تترتب عليها مفاسد اجتماعية ضخمة وحينئذٍ فإن التطواف بشهود الزور يجسّد حالة استثنائية خاصة حفظاً لجهاز القيم الاجتماعية في هذا المجتمع أو ذاك.

المهم بغض النظر عن الحالات الاستثنائية نجد أن المشرع الإسلامي يحرص تماماً حتى على عدم إتاحة الفرصة للآخرين بأن يشاهدوا مثلاً إقامة حد ما على شخص، وهذا ما حدث أيضاً في حكومة الإمام علي (عليه السلام)، حيث عقب على حشد حضر إقامة الحد قائلاً لهم: (لا مرحباً بوجوه لا ترى إلا في كلّ سوء، هؤلاء فضول الرجال)، فالإمام علي (عليه السلام) يصف هذا الحشد بسمة السوء وبسمة الفضول، أما سمة السوء فتعني الجريمة التي ينبغي أن لا تشاع من خلال رؤية صاحبها، وأما الفضول فيعني انتفاء الحاجة إلى مثل هذه المشاهدة، والمهم أن عدم السماح للآخر بمشاهدة الجزاء ينطوي على عملية تربوية من خلال ضبط اجتماعي خاص حيال كلٍّ من المنحرف والحشد من حيث عدم تعريض المنحرف للفضح ومن حيث عدم إشاعة الفحشاء أي العدوى الاجتماعية بالنسبة إلى الآخرين، فضلاً عن ضبط سلوكهم وهو تدريبهم تربوياً على عدم الفضول.

هذا إلى أننا نجد بأن عملية عدم الفضح وهو مبدأ آخر من المبادئ التربوية المرتبطة بالضبط المواكبة لعملية الجزاء، نقول تشمل مطلق الأشخاص الذين مارسوا الانحراف وقدر لهم بأن يرشحوا لإقامة الحدود على المنحرفين حيث تمنع التوصيات الإسلامية السماح لهم بإقامة الحد وهو حظر يحقق ضبطاً لسلوكهم من خلال تذكيرهم بانحرافاتهم التي لم تتعرض لعملية فضح وهذا ما حدث في حكومة الإمام علي (عليه السلام) أيضاً حينما طالب المرشحين لإقامة بعض الحدود بأن يتلثموا بحيث لا يعرف أحدهم الآخر، ثم طالب بأن لا يتقدم إلى ممارسة الجزاء إلا من لم يمارس عملاً انحرافياً يتطلب الحد، ولذلك انسحب من الحشد أكثرهم.

على أية حال نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن الجزاء الاجتماعي المرتبط بالداخل بعد أن حدثناكم عن عملية الضبط المرتبطة بالتعامل مع الخارج متمثلاً فيما أطلق عليه مصطلح الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو ما أدرجناه ضمن أحد أنماط التربية فيما أسميناه بالتربية العسكرية، وبهذا ننتهي من الحديث عن التربية العسكرية بصفتها نموذجاً لأحد أشكال التربية الشعائرية، حيث ننتقل الآن إلى تربية شعائرية أخرى تتسم بأهمية كبيرة، وهذا ما سوف نختم به محاضراتنا في التربية بنحوٍ عام وهو أمر يتصل بأحد أنماط الشعائر المهمة فيما يتمثل بظاهرة الدعاء. كما سنحدثكم بعد ذلك عن ظاهرة التوبة بصفتها مرتبطة أيضاً بالدعاء على نحوٍ نفصل الحديث عنه إنشاء الله في هذه المحاضرة وفي المحاضرتين الأخيرتين اللتين بقيتا من محاضراتنا التربوية في هذا الميدان.

 

الدعاء

إذن لنتحدث أولاً عن الدعاء ثم لنتحدث ثانياً عن التوبة بصفة أن كلاً منهما يظل ممارسة تكاد تكون يومية بالنسبة إلى حياتنا العبادية ومن جانب آخر تظل هاتان الممارستان أي الدعاء والتوبة من أهم الأسلحة التي نتوسّل بها لتدريب ذواتنا على تعلّم السلوك العبادي المطلوب.

على أية حال إذن لنتحدث عن هاتين الظاهرتين ونقف أولاً مع ظاهرة الدعاء فنقول:

لا نحسب أننا بحاجة ماسة إلى أن نقدم تعريفاً للدعاء ما دمنا جميعاً على إحاطة تامة بهذا النمط من التعامل مع الله تعالى، ولا بأس بأن نقول الدعاء هو محاورة بين العبد وبين الله تعالى، إلا أنها محاورة من طرف واحد أو لنسمها محاورة انفرادية ما دمنا نعرف تماماً أن المحاورة قد تتم بين طرفين يتجه أحدهما إلى الآخر بالكلام ويتلقى الآخر إجابة منه، وقد تتم بين طرفين أيضاً إلا أن أحدهما ينفرد بالكلام والآخر يستمع إليه، ومثال ذلك محاورتنا مع الله تعالى إذ نتجه بالكلام إليه ويتلقى سبحانه وتعالى هذا الكلام والعكس هو الصحيح أيضاً حيث يمكننا أن نستمع إلى كلام الله يوجهه تعالى إلينا وهذا من خلال قراءتنا للقرآن الكريم.

المهم أننا نتجه إلى الله تعالى بكلامنا وهو تعالى يستمع إلينا، ولكن الأهم من ذلك أن نتعرّف أهمية هذا النمط من الكلام والآداب التي ينبغي أن تسلك حيال تعاملنا مع هذه المحاضرة مع الله سبحانه وتعالى، أي يتعين علينا أن نقف على المستويات التربوية التي ينبغي أن تسلك من حيث تعاملنا مع ظاهرة الدعاء، ولعلّ أول ما يتبادر إلى الذهن هو أنه إذا كان ثمة كلام انفرادي وثمة مستمع بالنسبة إلى لقاءاتنا اليومية مع الآخرين فإن المستمع إما أن يجيب على الكلام وإما أن يفيد فائدة منه ولكن كيف يتم ذلك مع الله تعالى؟.

الجواب: الكلام مع الله تعالى ينطوي على جملة من المعطيات التي تتجاوز ما ألفناه في حياتنا البشرية ولعلّ الإجابة عن كلامنا تجسد أحد هذه المعطيات والإجابة منه تعالى ليست بكلام كما نعرف ذلك بداهة، بل يمنحنا ما كنا نتطلّع إليه في دعائنا وقد لا تحقق الإجابة لأسباب سوف نشرحها لكم فيما بعد، إلى أن هناك معطى آخر هو أن مجرد الإحساس بتوجيه الكلام إلى مبدع الكلام وأنه تعالى يستمع إلى المتكلم إن هذا وحده لكاف بأن يمنح الشخصية التي تدعو زهواً وشرفاً وكرامة، فلو تقدمنا مثلاً بكلام إلى شخصية بشرية ذات موقع اجتماعي رفيع وأحسسنا بأنها تستمع إلينا بجوارحها جميعاً نشعر حينئذ بزهو الموقف وقيمته وأهميته، وإذا كان الأمر كذلك فكيف بنا ونحن نتحدث مع الله تعالى والمستمع إلينا هو الله تعالى، ألا نتحسس بأن الموقف لا يمكن أن يقدر ويثمن قيمته.

هنا قد تقفز إلى الذهن ملاحظة أخرى تترتب على سابقتها وهي: إن الإنسان أياً كانت بيئته وتركيبته لا يمكنه أن يحيا منعزلاً عن أطراف أخرى تحاوره ويحاورها، ومع غياب الأطراف المشار إليها لسبب أو لآخر يظل الإحساس لديه بالغربة وبالوحشة وبالتوتر بالغاً مداه الأقصى، لذلك فإن المحاورة من خلال قنوات الغير أي الدعاء تكتسب فاعليتها الضخمة لإزاحة التوترات المذكورة بغض النظر عن الدرجة التي يستجيب لنا من خلالها طرف المحاورة، بيد أن المهم في الحالات جميعاً أننا نحس بالحاجة إلى من نحاوره اتساقاً مع تركيبتنا الذهنية والنفسية، ونحس بالحاجة إلى من يستمع إلينا ثانياً، ونحس ثالثاً بالحاجة إلى من يحقق لنا تطلعاتنا المتنوعة، أو لنقل حاجاتنا المتنوعة نفسياً وعقلياً وجسمياً.

لكن إذا كانت ثمة حواجز لا تسمح بالمحاورة مع الآخرين فهل ؟؟ بطرف للمحاورة غير السماء، الدعاء هو المتكفل بذلك.

إذن الدعاء هو المجسد لصدى حاجات لا تنفك عن الإنسان هي حاجته إلى الانتماء من جهة وحاجته إلى التقدير من جهة أخرى، ومع إدراكنا لهذه الحقيقة حينئذ نكرر الإشارة إلى أن الدعاء في الواقع هو ممارسة وجدانية لا توازنها أية ممارسة أخرى من حيث كونها تمثل توجهاً نحو المبدع الذي يتكفل بإشباع الحاجات البشرية بمختلف أشكالها وفي مقدمتها الحاجة إلى الانتماء والحاجة إلى التقدير، وكلكم يعلم تماماً ما سبق أن حدثناكم عنه في محاضرات سابقة عن الفارق بين التقدير الاجتماعي والتقدير الإلهي ثم الفارق بين الانتماء الإلهي والانتماء الاجتماعي، مع ملاحظتنا لهذه الفوارق نكرر الإشارة إلى أن الشخصية الأرضية في الواقع لا يمكن لها بحكم إمكاناتها المحدودة بأن تحقق إشباعاً تاماً لحاجاتنا حتى مع فرضية أن هذه الشخصية الأرضية تتسم بالطابع السوي، حيث لا يحجزها مرض نفسي أو التواء نفسي عن أن تحقق إشباعاً للشخصية، ولكن نظراً لمحدودية إمكاناتها حينئذ بشكل عام لا يمكن أن نرتكن إلى الشخصية الأرضية في إشباع حاجاتنا مهما بلغت إمكاناتها، لذلك سيكون الإحساس بفاعلية الانتماء الاجتماعي متضائلاً بل قدر يتلاشى أساساً وهذا على العكس تماماً من الانتماء إلى الله سبحانه وتعالى فيما تضخم فاعلية هذا الانتماء.

والأمر كذلك بالنسبة إلى ما يتصل بالدافع إلى التقدير الاجتماعي، حيث تستند الشخصية الإسلامية بتقدير من الله سبحانه وتعالى،وهو تقدير وحب لا حدود له كما كررنا الإشارة إلى ذلك في أكثر من موضع من محاضراتنا، عندها يمكننا أن نتحسس مدى حجم الإشباع الذي يتوفر لدى الشخصية وهي تتجه إلى مالك الكون في تحقيق الإشباع لحاجاتها في شتى مستوياته، والحق أن أهمية الدعاء تقترن فضلاً عما لاحظناه بإحدى طرائق التفريج عن شدائد الحياة أيضاً، ومن الواضح أن التربية الأرضية أو علم النفس الأرضي يقدم في توصياته العلاجية واحداً من طرائق العلاج، ألا وهو البوح بالأسرار وبالشدائد وبمختلف أشكال الإحباط التي تواجه الشخصية، يطالب تربوياً ببوح هذه الأسرار إلى آخرين بصفة أن مجرد البوح بالشيء يكفي لأن يخفّف جانباً من توتر الشخصية أي التفريج عن مكنوناتها.

ومن البين أيضاً أن التفريج يتسع حجمه بقدر الاستجابة التي تصدر عن الآخرين حيال الشخص المذكور، فإذا افترضنا أن الشخصية المباح لها بالسر ذات طابع مرضي بحيث لا تعنى بالشخصية المذكورة أو إذا افترضنا أنها لا تمتلك إمكانات عملية لمساعدة هذه الشخصية، حينئذ فإن مجرد البوح يحقق قدراً محدداً من التفريج، وهذا بعكس التوجه إلى المبدع أي الله سبحانه وتعالى، فإن مجرد إدراك الشخصية الإسلامية بأنها تتجه إلى من يثمّن شكواها حتى لو بقيت شدائدها دون حل مثلاً، حينئذ فإن التفريج يكتسب فاعلية كبيرة، أما في حالة ازداد وعي الشخصية لصفات الله سبحانه وتعالى، وإنه تعالى حتى في حالة عدم إجابته للدعاء إنما يعد هذا الدعاء بتعويض أخروي، أو تحسيسه بأن الشدائد هي محك الشخصية وتدريب على أن تكتسب سمة الاستواء وتمكين لإشباع سيتحقق لاحقاً دنيوياً أو أخروياً، حينئذ فإن التفريج يأخذ حجماً أوسع لدى الشخصية بحيث يتحقق التوازن الداخلي لديها بالشكل الذي لا يدع مجالاً لأي توتر أو صراع تحياه.

مضافاً إلى التثمين والتفريج النفسيين الذين تفرزهما ممارسة الدعاء تظل في الواقع مقترنة بعطاءات أخرى في ميدان العلاج التربوي، منها الدعاء والذكر القلبي، أي التواصل مع الله سبحانه وتعالى حتى دون الممارسة اللفظية بل من خلال التواصل الوجداني أو الذهني، إن التوصيات التربوية الإسلامية تندب إلى مثل هذه الممارسة غير اللفظية وتعد بثواب أشد حجماً على ذلك من الممارسة اللفظية وسر ذلك يعود إلى أن التواصل القلبي مع الله يعني أن الشخصية منشغلة تماماً عن متاع الحياة الدنيا بكل أشكاله التي تقترن بتوترات وصراعات تفرضها طبيعة تركيبة الحياة، وإذا افترضنا أن الشخصية حتى في غمرة تعاملها مع الآخرين أو مع الأشياء لا تتغافل عن التواصل مع الله سبحانه وتعالى، بل تفكر في الله تعالى في نفس اللحظة التي تتعامل فيها مع الظواهر المذكورة، حينئذ فإن التوازن الداخلي لديها سيتصاعد إلى الذرى ما دامت تتحسس بأنها تتسلم تثميناً لا ينقطع من السماء وما دامت في غمرة التحسس المذكور تغيب تماماً عن أي منبه خارجي كالأشخاص والمواقف والأشياء الدنيوية، يعرضها لقلق أو ركون نفسي أو انشداد إلى أمتعة الحياة، وو.. الخ.

ولعلّ أشد طرائق العلاج فاعلية في ميدان التدريب على السلوك السوي ما نلحظه من العنصر الغيري في الدعاء، أي إيثار الآخرين على الذات في ممارسة الدعاء بحيث سنحدثكم عن هذا الجانب مفصلاً، إلا أننا نعرض له الآن في تمهيدنا عن الدعاء عابراً فنقول إذا عرفنا وفقاً لمعايير الصحة النفسية التي أجمع التربويون على كونها معايير تفرز السوي عن الشاذ، أن الغيرية في السلوك تعد أبرز معايير السوية حينئذ أدركنا أهمية العلاج التربوي في التوصيات الإسلامية النادبة إلى أن تبدأ الشخصية بهموم الآخرين ودعائها لهمومها الفردية وهذا مثل قوله (عليه السلام): (أسرع الدعاء نجحاً دعاء الأخ لأخيه المؤمن) وقوله (عليه السلام): (المؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب فيقال له: لك مثل ما سألت وقد أعطيت ما سألت بحبك إياه)، وقوله (عليه السلام): (من قدم في دعائه أربعين من المؤمنين ثم دعا لنفسه استجيب له) لاحظوا كيف أن هذه النصوص صريحة في الندب إلى أن ندعو للآخرين قبل أن ندعو لأنفسنا وهذا النمط هو تدريب وتربية وتعلّم يتسم بأهمية كبيرة بالنسبة إلى ما ستسفر عنه نتائج مثل هذا التدريب من حيث المعطى الشخصي للنفسية، حيث يمكن أن نقول بشكل عابر وسريع أن تدريب الشخصية على أن تدعو لغيرها قبل أن تدعو لنفسها سوف تجعل الشخصية متماسكة سوية تصعد إلى الذرى من درجة الاستواء النفسي حيث ستنسى همومها في الواقع، وتعنى بهموم الآخرين ومن ثم فإن الله سبحانه وتعالى نظراً لرعايتها لهذا الجانب سوف تحقق حاجات الآخرين فضلاً عن أنها تحقق حاجات هذا الرجل إذا دعا لأخيه، ونحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الداعي من الممكن أن لا يستجاب دعائه إلا أن ثمة توصيات تقول: (الداعي بلسان الغير يستجاب له دعاؤه) فإذا كان هذا الداعي يقدم سواه حينئذ فإن الدعاء لسواه سيستجاب وضمناً سوف يستجاب دعاؤه لنفسه تبعاً للتوصيات المتقدمة.

إذن في الحالات جميعاً ثمة تدريب على تعلّم السلوك السوي، على تعلم الإيثار والتضحية من جانب ثم النتائج الدنيوية والأخروية المترتبة على ذلك ألا وهو تحقيق الحاجات التي يطلب إشباعها هذا الشخص أو ذاك عندما يدعو لسواه قبل أن يدعو لذاته.

على أية حال نتجاوز الآن هذه الملاحظات لنتجه إلى عنوان جديد وهو العنوان الذي يحمل العبارة الآتية وهو (كيفية الدعاء).

ثمة أسئلة تثار في هذا النطاق وهي: إذا كان الدعاء أداة تعبيرية عن حاجات العبد في شتى مستوياتها حينئذ كيف نتعامل مع الله سبحانه وتعالى من حيث العبارة ومن حيث القلب؟، إن هذا يتطلب إجابات تربوية في غاية الأهمية والادعية ستقدم لنا في الواقع الطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك في تعاملنا مع الله سبحانه وتعالى، وإذا كانت الطرائق التربوية التي نعنى بها في ما بين تعاملنا اليومي مع الآخرين تتطلب عناية خاصة حينئذٍ فكيف بنا إذا كنا نتعامل مع الله سبحانه وتعالى حيث أن التوصيات التربوية في هذا الميدان ينبغي أن تأخذ ذراها في صياغة ما هو مطلوب عبادياً.

وفي سياق الإجابة عن السؤال المتقدم سوف نطرح أيضاً أسئلة أخرى فنقول: إننا حين نتعامل مع الله سبحانه وتعالى، العبارة التي نتفوه بها في أدعيتنا أو من حيث نمط التوجه القلبي حيال الله سبحانه وتعالى حينئذ بالنسبة إلى السؤال الأول هل يتحتم علينا أن ننطق بكلام مسموع أو مهموس أو بذكر قلبي كما سبقت الإشارة قبل دقائق؟ هل يمكننا أن نستحضر ألفاظ الدعاء لدينا دون أن ننطق به البتة مثلاً؟ هل ينحصر الدعاء في النصوص الواردة في القرآن الكريم وفي المأثور من كلام المعصومين (عليهم السلام)؟ هل الدعاء يقتصر على ما هو طلب لحاجة من حاجات الإنسان، هل يتجاوز ذلك لمجرد ثناء وتقديس لله تعالى دون أن يشفع بطلب حاجة فردية؟.

إن هذه الأسئلة المتنوّعة تترتب على سؤال آخر هو هل إن الأفكار والأوراد ونحو ذلك تندرج أيضاً ضمن مصطلح الدعاء؟ هذه الأسئلة وسواها عندما تثار ينطوي في الواقع بعضه على فائدة يعتد بها خاصة إذا استحضرنا في الذهن أن تأكيد المشرع الإسلامي على الدعاء يستاقنا إلى معرفة هذه الزواية المثارة وهو أمر يتطلب الاستجابة التفصيلية دون أدنى شك.

وبالنسبة إلى التساؤل الأول يمكننا أن نجيبكم فنقول: إن الأصل في الدعاء أن يتم بكلام منطوق، لأن الدعاء نفسه قد صيغ بنحو منطوق به، وحينئذٍ لا يختلف الدعاء عن قراءة القرآن الكريم مثلاً في الصلاة، أو مطلق القراءة، يضاف إلى ذلك أن الطلب يتضمن بالضرورة كلاماً منطوقاً، وهنا قد يعترض على ما ذكرناه لأن الطلب يتضمن كلاماً منطوقاً لكي يعرفه الآخرون، هذا صحيح، ولكن بالنسبة إلى الطلب من الله تعالى فإنه تعالى نظراً لمعرفته سلفاً بأفكار الإنسان حينئذ هل من الضرورة أن يكون الدعاء منطوقاً؟.

الحق أننا ملتزمون بما يقرره المشرع الإسلامي في هذا الميدان حيث نجد أن النصوص الشرعية تطالبنا بأن نقرأ، ليس هذا فحسب بل بعض النصوص الشرعية تطالبنا بالقراءة الصحيحة، وتشير إلى أن الدعاء الملحون أي المقروء بما يخالف القواعد اللغوية غير مقبول، كما نجد في نصوص أخرى تحديداً لطبقة الصوت فمثلاً ورد أن المعصوم (عليه السلام) لقي شخصاً يقرأ بصوت عال فمنعه من ذلك وقال له بما مؤداه أن الله تعالى يسمع صوتك، وكما ورد المنع من التغيير أو التلاعب بألفاظ الدعاء.. هذه المواقف جميعاً تؤشر إلى حقيقة واحدة هي (الدعاء مقرون بالقراءة كما اتضح)، ولكن كما ذكرنا قبل دقائق وكما استشهدنا أيضاً إلى أن الذكر القلبي قد يكون أشد فاعلية من الذكر اللفظي وحينئذ في أمثلة هذا السياق ألا يمكننا أن نطرح السؤال الآتي: إن بعض المواقف تدلنا على إمكانية عدم القراءة أساساً ومنها مثلاً ما ذكره القرآن الكريم من موقف إبراهيم (عليه السلام) من أعداءه حيث تشير الرواية الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) من حيث موقف إبراهيم من جبرائيل (عليه السلام) حينما سأله جبرائيل عما يطلب إلى الله تعالى في مثل هذا الموقف وقد ألقي في النار المتحولة من بعد إلى برد وسلام حيث قال له بما مؤداه: إن الله تعالى أعلم بحاله، حينئذ نقول ألا يدل مثل هذا الموقف على أن الدعاء لا يشترط فيه القراءة بقدر ما يتمثل في التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، أعم من أن يكون ذلك ذكراً قلبياً أو ذكراً لفظياً بل نستفيد من هذه الرواية أن الذكر القلبي هو أشد فاعلية من الذكر اللفظي كما أشرنا في محاضراتنا هذه من حيث تمهيدنا عن الدعاء، والإجابة في الواقع على هذا السؤال يمكن أن نشير إليها متمثلة في الكلام الآتي وهو: الأصل في الدعاء هو القراءة وبخاصة في الأدعية المنصوصة وإلا لما كان معنى لمئات الأدعية الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).

لكن من الممكن أن نشير من جوانب أخرى إلى أن الدعاء في الواقع يخضع لملابسات متنوّعة منها ما يتمثل ذلك في الأدعية البشرية التي يصوغها قارئ الدعاء، ومنها ما يتمثل في مجرد استحضار الحاجة في الذهن دون التلفّظ بها، ومنها ما يتمثل حتى في عدم استحضار الحاجة بل إن ثقة الشخص بمعرفة الله تعالى لحاجته كافية في تحقيق ذلك.

الإجابة عن هذه الأسئلة سوف تتحدد لاحقاً إنشاء الله، ونكتفي بهذا القدر من الحديث..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..