mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 46 (2).doc

بسم الله الرحمن الرحيم

نتابع حديثنا في المحاضرة السابقة عن التربية العسكرية حيث بدأنا حديثنا في ذلك من خلال ممارسة الجهاد في الإسلام وفي حينه أوضحنا مجموعةً من التوصيات الإسلامية التي تواكب مفهوم الجهاد حيث تنطوي هذه التوصيات على دلالات إنسانية مع أنها تمارس سلوكاً قائماً على المقاتلة، أي مقاتلة طرف آخر هو العدو، ولكن مع ذلك فإن هذه المقاتلة تنطوي على بعدٍ إنساني يقوم على المحبة وعلى إشاعة النزعة الإنسانية بالنحو الذي حدثناكم عنه في محاضرةٍ سابقة من خلال الاستشهاد بجملة من المبادئ الإنسانية ومنها التعامل مع المرأة المقاتلة حيث قلنا في حينه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منع المقاتلين من مقاتلة المرأة حيث أشار (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً: (فإن قاتلن أيضاً فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللا) في حينه أوضحنا أن هذه التوصية المشيرة إلى أن النساء حتى لو قاتلن فمن المفروض على المقاتل الإسلامي أن يمسك عن المرأة، ولكن متى؟ إذا لم يخف أن يترتب على ذلك ضرر على المسلمين، وحينئذٍ يظل المبدأ العام أو القاعدة هو عدم محاربة المرأة حتى لو ساهمت المرأة في عملية القتال.

واستخلصنا من ذلك كله أن أمثلة هذه التوصية تكسب البعد الإنساني حجماً واسعاً كل سعته، عندما يمنع حتى قتل المرأة الممارسة للشر المقاتل.

والآن نتابع هذا الجانب ونعقب على التوصية المذكورة بقولنا: إن هذه التوصية أخذت بنظر الاعتبار تركيبة المرأة وبناءها النفسي القائم على الضعف، وهو بعد إنساني ملحوظ ينبغي أن نضيفه إلى قائمة الأبعاد الإنسانية التي تواكب ممارسة الجهاد عند المسلمين، وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى البناء النفسي المذكور في توصيته العسكرية القائلة: (لا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراؤكم وصلحاؤكم فإنهن ناقصات القوى والأنفس والعقول).

إن تلميحه (عليه السلام) إلى ضعف تركيبتهن جسمياً ونفسياً وعقلياً يعد ملاحظة عيادية في حقل الطب النفسي الإسلامي فيما لا يأتلف إنسانياً مع إلحاق أي أذى بهن مهما مارسن من سبّ وشتم للمؤمنين كما لاحظتم ذلك في الرواية المشار إليها، وبيّن أيضاً أن التوصية بعدم قتل المرأة بقدر الإمكان إلا في حالات خاصة فضلاً عن التوصية بعامة بعدم قتل الشيخ والطفل أيضاً بيّن أن أمثلة هذه التوصية تظل متصلة بطبيعة التعامل مع المدنيين الذين لا يمارسون عملاً عسكرياً كما أن تلميح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (ولم تقف خللا) تظل محكوماً بمعيار إنساني موشح بدلالتين ينبغي ملاحظتهما في آن واحد، الدلالة الأولى تتمثل في المعيار العام الذي سبق أن لاحظناه في ممارسة الجهاد، وهو عدم ممارسة القتل الزائد على الحاجة بما يؤكد ذلك من نمط النزعة إلى العدوان والتلذذ به.

وأما المعيار الآخر فيتمثل في عملية الرد على العدوان من جانب وضرورة تثبيت الحاجة إلى الأمن والحياة من جانب آخر، وإشاعة المبادئ الخيرة التي تسعى البشرية إلى تحقيقها من جانب ثالث، وأولئك جميعاً لا يمكن أن يحقق إلا مع فرضية إزاحة قوى الشر من الساحة الاجتماعية وما تتطلبه من مقدمات تتوقف إزاحة هذا الشر على تلكم المقدمات، ومنها ردّ العدوان بالمثل في ضرب المدنيين مثلاً بل حتى المسلمين في حالات ما يسمى في اللغة الفقهية بالتترس، ما دام انتصار قوى الخير على الشر تتوقف على إزاحة كل العوائق التي يزرعها العدو وإلا فإن قوى الشر ستستثمر سماحة الإسلام وإنسانيته بحيث يترتب على ذلك انتصار الشر والسماح بانتكاس البشرية تتعارض أساساً مع تطلعات البشر إلى مبادئ الخير التي تكرس كلّ محاولاتها بغية الوصول إلى تحقيقها.

وتأسيساً على الحقيقة المتقدمة نجد توصية في هذا المجال لا تمانع من ذلك ما دام الأمر متوقفاً على إزاحة قوى الشر، لكن خارجاً عن ذلك يظل كما قلنا مبدأ عدم الممارسة الزائدة عن الحاجة هو المعيار في التعامل مع العدو بالشكل الإنساني الذي رأيناه متمثلاً في التعامل أولاً مع ظاهرة قتال العدو حيث الدعوة أولاً إلى الإسلام وعدم البدء بالقتال ثانياً وبعدم التعرض للنسوة والصبية والشيوخ وما إلى ذلك من الممارسات المتصلة بعملية القتال وفي مقدمتها ما يواكب القتال من عملية قتل ثم ما يواكب هذ القتل أيضاً من سلوك سادي نجده عند المجتمعات الأرضية حيث يقومون بالتمثيل بالقتلى وبعدم مراعاة الشيوخ والأطفال والنساء ونحوهن، وهذا ما حدثناكم عنه جميعاً ونبدأ الآن فنتابع حديثنا عن هذه المستويات الإنسانية في عملية الجهاد أو بالأحرى ما أسميناه بالتربية العسكرية في ضوء التصور الإسلامي لهذا السلوك.

إذن لنتابع التوصيات الإسلامية في هذا الميدان؛ نقول إننا حينما نتابع سائر الدلالات الإنسانية في ممارسة الجهاد بمفهومه الإسلامي نجد أن عامة الممارسة الزائدة عن الحاجة حيال العدو تأخذ أبعاداً جديدة من الخير حينما تشدد التوصيات الإسلامية في المنع من ملاحقة الهارب من ساحة المعركة مثلاً أو حينما تشدد في المنع من الإجهاز على الجريح شريطة أن تضمن عدم فاعليتهما في ممارسة الشر. وفي هذا الحقل يقدم الإمام علي (عليه السلام) التوصية الآتية: (لا تتبعوا مولياً ولا تجهزوا على الجرحى) ومن البين أن الهارب من ساحة المعركة يعني أن ممارسته للشر قد انتفت، وكذلك بالنسبة إلى الجريح حيث تشل فاعليته عن القتال، ويترتب على ذلك أن كلاً منهما لا ضرورة تستلزم قتلهما ما داما عديمي الفاعلية.

كما أنه من البين أن الدلالة الإنسانية في هذا الضرب من التعامل مع الهارب ومع الجريح تتمثل في أن الهدف الإسلامي : هو إزاحة قوى الشر وليس الصدور عن باعث عدواني يتلذذ بعملية القتل كما هو سائر الاتجاهات غير الملتزمة بمبادئ السماء.

إذن التوصية المذكورة بعدم متابعة الهارب وبعدم الإجهاز على الجريح تظل واضحة في أبعادها الإنسانية إلا أن الممارسة المذكورة تبقى مشروطة بسياق خاص هو انعدام فاعلية الهارب والجريح من حيث ممارستهما لعمل شرير ولكن في حالة العكس فإن كلاً من الهارب و الجريح ستطبعهما نفس السمة التي تطبع العدو الذي يقاتل المسلمين، فإذا افترضنا مثلاً أن الهارب سوف يعود ثانية إلى ممارسة قتال بعد إمداده بالذخيرة أو إذا افترضنا أن الجريح سيعود بدوره إلى ممارسة عمله الجريح بعد أن تبرأ جراحه، حينئذ فإن قتلهما يظل من الضرورة بمكان ما داما لا يفترقان عن سائر أفراد العدو الذين يصرّون على محاربة المسلمين.

ولعلّ سيرة الإمام علي (عليه السلام) في تعامله مع هذين النموذجين في معركة الجمل وفي معركة صفين، تلقي إنارة كاملة على الموقف المشار إليه، الذي يحكمه في الواقع سياقان؛ سياق عدم القتل وسياق القتل.

وإليكم النص الآتي حيث يشرحه الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) عبر أحد أجوبته لمستفسر يتساءل عن سبب قتل الإمام علي (عليه السلام) في معركة صفين لكل من الهارب والجريح بينما في معركة الجمل لم يمارس عملية القتل للنموذجين أو للشخصين المذكورين، إن هذا النص الذي وجهه أحد الأشخاص للإمام الهادي (عليه السلام) يشرحه الإمام (عليه السلام) على النحو الآتي حيث يلقي إنارة كاملة على الموقف حيث يقول علي الهادي (عليه السلام) مخاطباً السائل: (وأما قولك أن علياً (عليه السلام) قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين وأجهز على جريحهم وأنه يوم الجمل لم يقتل مولياً ولم يجهز على جريح فإن أهل الجمل قتل إمامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين.

أما أهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة ومن  يجمع لهم السلاح والدروع والرماح والسيوف ويثني لهم العطاء ويهيئ لهم الأموال ويعود مريضهم ويدني  كسيرهم ويداوي جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم).

إذن السياق هو الذي يحدد القتل وعدمه في ضوء الدلالة الإنسانية التي تستتبعها طبيعة المعركة، ففي صفين كما لاحظنا كان كل من الهارب والجريح يعودان إلى المحاربة والقتال فتطبعهما حينئذ نفس الممارسة التي تتطلبها طبيعة القتل ألا وهي القضاء على العدو، أما في معركة الجمل فقد رجع كل من الهارب والجريح إلى منزله وكف عن القتال حيث يستتبع ذلك تعاملاً إنسانياً قائماً على عدم متابعة الهارب وعدم الإجهاز على الجريح ما دام هدف المجاهد الإسلامي موضوعياً صرفاً لا رائحة للذات فيه كالتلذذ بالقتل ونحو ذلك..

والآن إذا كان كل من الهارب والجريح في حالة انعدام فاعليتهما يحظيان بمعاملة إنسانية فإن الأسير يظل بطريقة أولى موضع الرعاية المذكورة، ولعلّ عناية الإسلام بهذا الجانب تظل لافتة للانتباه إلى الدرجة التي قد يستثمرها الأسير أحياناً فيعامل المحسن إليه بخلق غير مقبول مثلاً، وتتمثل الدلالة الإنسانية في العناية بالأٍسير من حيث الرفق به ومن حيث إطعامه ومن حيث مداواته الخ، وفي هذا الميدان يقول الإمام علي (عليه السلام): (إطعام الأسير والإحسان إليه حق واجب) ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) مقرراً التوصية ذاتها مشيراً إلى ضرورة الاحتفاظ بالسمة الإنسانية حياله مهما كانت هوية الأسير، بل حتى في حالة افتراض سياقات خاصة تستلزم قتله فيما بعد مثلاً فإن التعامل الإنساني ينبغي أن لا يفقد طابعه البتة، وفي هذا الميدان يقول (عليه السلام): (رعاية الأسير حق على من أسر وإن كان يراد من الغد قتله فإنه ينبغي أن يطعم ويسقى ويرفق به كافراً كان أو غيره) لاحظوا إن هاتين التوصيتين تتضمنان جملة من الدلالات الإنسانية منها:

أولاً: التلميح إلى أن رعاية الأٍسير حق لا أنه مجرد عمل مندوب إليه، بغض النظر عن درجة هذه الرعاية التي يمكن أن يستخلص بعض منها ضرورة الإلزام أو ما يسمى في اللغة الفقهية بالوجوب، أو أن نستخلص منها عدم الإلزام وهو الندب، ففي الحالتين ثمة استخلاص واضح الدلالة في تأكيد الرعاية مما يشفّ عن كثافة البعد الإنساني الذي تلحّ التوصيات الإسلامية على مراعاته.

ثانياً: التوصية بإطعامه وسقيه.

ثالثاً: التوصية بكل من الإحسان والرفق به بشكل عام.

رابعاً: عدم التمييز بين هوية أسير وآخر.

خامساً: ضرورة مراعاة البعد الإنساني المذكور حتى لو كان الأسير خاضعاً لسياق خاص هو القتل مثلاً.

والآن تتجسد الأبعاد التربوية في الأمثلة المذكورة من خلال ذهابنا إلى أن الإطعام وحده مثلاً مع أنه يجسد بعداً إنسانياً، ولكن إذا صاحبه إرهاق أو شدة نفسية حينئذ يضمر أو يتضاءل الحجم الإنساني من التعامل، كما أن التمييز بين أسير أو آخر يفضي إلى النتيجة المذكورة ذاتها.

وهكذا سائر الأبعاد الإنسانية التي تمت الإشارة إليها حيث تشكل بمجموعها تصاعداً بالغ المدى في ممارسة العمل الموضوعي الصرف حيال الأسر في مختلف ظواهره.

إن المسوغ التربوي لهذا النمط من التعامل الإنساني يتمثل في الذهاب إلى أن الأسير هو في الواقع لا يمتلك أية فاعلية في ممارسة العمل الشرير، مما تنطفي الحاجة إلى أن يقتل كما أنه في حالة فرضية القتل لاحقاً فإن مكوثه إلى حين القتل لا يستوجب إلحاق الأذى النفسي به، ما دام الأذى بدون مسوّغ يعد عملاً زائداً عن الحاجة لا يقوم به إلا من مرضت نفسه وتلذذت بتعذيب الآخرين.

على أية حال بهذا ننتهي من الحديث عن التربية العسكرية وما تواكب هذه التربية من ظواهر متنوعة استخلصنا منها مدى الأبعاد الإنسانية التي تختزنها عملية الجهاد في التصور الإسلامي، هنا تسلك من العمليات التربوية حيال هذا الموضوع بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه وبهذا ننتهي كما قلنا عن التربية العسكرية بصفتها واحدةً من الممارسات الشعائرية المرتبطة بعملية الجهاد من أجل الله سبحانه وتعالى، إلا أن هذا الجانب ونعني به التربية العسكرية يظل في الواقع كما أشرنا في مقدمة محاضراتنا واحداً من أشكال الضبط الاجتماعي وهو الضبط الاجتماعي خارج المجتمع الذي تحياه المؤسسة التي تمارس هذا السلوك، وهناك في الواقع ضبط داخلي من الممكن أن نطلق عليه هذا المصطلح من خلال التعامل مع داخل المجتمع الذي تصدر منه ممارسات تتطلب ضبطاً اجتماعياً، وهذا مع كونه قد لا ينتسب إلى مصطلح الطقوس العبادية إلا أنه يندرج ضمن مصطلحات أخرى، ولكننا بما أننا قد تحدثنا عن الضبط الخارجي حينئذٍ يجدر بنا أن نحدثكم عن الضبط الداخلي وهذا ما نبدأ به حديثنا الآن.

 

الضبط الداخلي

والأجدر في الواقع أن نعرّف عملية الضبط الاجتماعي نفسها بقولنا أن الضبط الاجتماعي مصطلح يستخدمه علماء الاجتماع ويقصدون به الوسائل أو الطرائق التي تتم من خلالها السيطرة على المجتمعات من حيث ضبطها وعجزها من الوقوع في الانحرافات أو الخلل الذي يؤثر على توازنها واستمراريتها وثباتها، فما دام الاجتماع البشري يتكون من أفراد وجماعات تنزع إلى الذاتية والعدوان وهما من أبرز السمات التي تطبع سلوك الإنسان وتحتجزه عن تحقيق الخير، حينئذ فإن السيطرة على هذه النوازع وحجز ذلك من الممارسات التي تترك أثرها على أمن المجتمعات تظل في مقدمة النشاط الذي يعنى به الباحثون التربويون، كما أن الاجتماع البشري ما دام الأفراد والجماعات التي تنتظمه عرضة للخطأ أو القصور أو الجهل، حينئذ فإن السيطرة على ذلك تفرض ضرورتها حفاظاً على توازن المجتمعات.

هذا إلى أن دوافع الانتماء الاجتماعي والتقدير الاجتماعي ونحوهما من الحاجات التي تمثّل النزوع نحو الآخرة على العكس من الذاتية والعدوانية تفرض عمليات الضبط الاجتماعي أيضاً بصفتها وسيلة لضبط السلوك ومنعه من الانحراف عن معايير الجماعة التي يفترض حرص الإنسان على كسب تقديرها والانتماء إليها.

والآن في ضوء هذه الحقائق يتقدم المعنيون بشؤون التربية لدراسة وسائل الضبط التي تحقق للمجتمعات توازنها وأمنها وثباتها حيث أفاضوا في الحديث عن وسائل الضبط وأشكالها وفصلوا الكلام فيها فأشاروا إلى ما هو تلقائي منها وما هو قهري وما هو أهلي وما هو رسمي.. الخ، ثم ما هو في نطاق العلاقات الأولية وما هو في نطاق العلاقات الثانوية وما هو ذو طابع تعليمي وما هو ذو طابع جزائي وما هو مادي.. الخ، ويمكن تقسيم ذلك إلى نمطين أحدهما الضبط الداخلي والآخر الضبط الخارجي، ونقصد بالضبط الخارجي هنا غير ما قصدناه قبل قليل بل نقصد به إلى ما يشير إلى القوانين التي يترتب عليها ثواب وعقاب من قبل المؤسسة التي تمارس هذه القوانين الجزائية، بخاصة ظاهرة العقاب التي تعد فاعلية كبيرة في عملية الضبط الاجتماعي سواء أكان ذلك في نطاق الوسائل النفسية كالتحقير والشتم والفصل من العضوية أو في نطاق الوسائل المادية البدنية كالضرب أو السجن.. الخ.

وأما المقصود بالضبط الداخلي فهذا ما يتم من خلال المبادئ الاجتماعية التي يتشربها الأفراد  والجماعات عبر تنشئتهم الاجتماعية في العائلة وفي المدرسة وفي سائر المؤسسات التي تحمل طابعاً تعليمياً أو طابعاً إعلامياً كالإذاعة والتلفزة والصحافة والتأليف، أو عبر المبادئ الاجتماعية التي يفرضها ما يطلق عليه مصطلح الرأي العام في تقاليده وعاداته وأعرافه المختلفة.

والمهم أن عملية الضبط الاجتماعي تظل في حدود التصور الأرضي الذي حدثناكم عنه الآن أمراً لا مناص منه إلا أن تحديد مشروعية بعض الوسائل التي يستخدمها أو خضوع ذلك إلى نسبية الثقافة في مجتمعات متفاوتة حينئذٍ تفضي إلى أن يظل هذا الموضوع موضع تفاوت أيضاً بين المربين مما تترتب على أمثلة هذا التفاوت مفارقات لا يمكن خلالها أن نحقق المهمة التربوية المطلوبة في عملية الضبط، وهذا مثلاً من نحو التفاوت الذي نلحظه بين التربويين بالنسبة إلى فاعلية القوة في ظاهرة العقاب كما هو الأمر بالنسبة إلى ممارسة الضرب للأطفال في عملية التعلم أو معاقبتهم على الانحرافات الصادرة من جانبهم أو استخدام القوة مثلاً حيال معارضة سياسية حيث يظل التربويون في تناولهم لهذا الجانب بين من يقرّ بمشروعية هذه الممارسة وبين من يقرّ بعدم مشروعية ذلك، أو التفاوت الذي نلحظه مثلاً في تحديد مستويات الأداة المذكورة ذاتها، أي أداة القوة من حيث كونها ضرباً أو سجناً أو إعداماً أو .. الخ.

حيث يقر البعض مشروعية الأدوات المشار إليها، لكننا نجد أن بعضاً آخر لا يقر مشروعية العقوبة الأخيرة وهي الإعدام مثلاً وهكذا..

هذا فضلاً عما نلاحظه من التضاد الملحوظ بين أدوات الضبط لظاهرة اجتماعية واحدة، وهذا مثلاً من نحو ما نلاحظه من أداة الضبط المتمثلة في التنشئة الاجتماعية أرضياً، وبين أداة الضبط المتمثلة في قوانين الدولة بالنسبة إلى ظاهرة واحدة، وليكن استشهادنا في هذا المجال بالمجتمع الأمريكي على سبيل المثال حيث يذكر المعنيون بشؤون التربية والاجتماع قضية التفرقة بين البيض والسود حيث يكوّن الطفل خبرة سلبية حيال السود في تنشئته الأسرية الخاصة، بينما يواجهه القانون بمبادئ مخالفة لخبرته العائلية المشار إليها، وهذا التضاد يكشف عن فساد كل من الوسيلتين المذكورتين، أما التنشئة العائلية فهي انحراف وليس ضبطاً للانحراف، وأما القانون فلأنه مظهر زائف مفروض من الخارج لكسب سمعة دولية وليس قناعة داخلية بمساواة الإنسان لأخيه الإنسان، ولذلك نجد أن التفرقة لا تزال حتى لحظاتنا المعاصرة فارضة فاعليتها كما هو واضح.

هذا فضلاً عن فشل الأداة ذاتها في ضبط المجتمعات بصفتها أداة تستمد مبادئها من تصورات أرضية يلفها القصور المعرفي بطبيعة السلوك الاجتماعي وضبطه، ولعلّنا نستشهد مثلاً بإحدى العقوبات المتمثلة في السرقة، حيث تعد هذه العقوبة أوضح نموذج لفشل الضبط حيالها في مجتمعات الأرض، وكذلك الانحرافات الجنسية وإدمان الكحول ونحوها حيث تنتفي عمليات الضبط حيال بعضها فيما يتصل بالجنس والخمر، وحيث تفشل أداة العقاب بالنسبة إلى السرقة عن ضبط ذلك بسبب عزلتها عن مبادئ السماء التي حددت ذلك بقطع اليد بالنسبة إلى السرقة وإقامة الحد البدني بالنسبة إلى الجنس والخمر ونحو ذلك..

المهم إذا تجاوزنا التصور الأرضي لهذا الجانب واتجهنا إلى الإسلام نجد أن عملية الضبط الاجتماعي تظل في الواقع في مقدمة المبادئ التي يلحّ المشرّع عليها ما دام هدف الإسلام أساساً هو قيام المجتمع العبادي المطلوب وهو مجتمع لا يمكن أن يحقق توازنه وأمنه إلا من خلال تنشئته وفق مبادئ السماء ومن ثم ضبط ذلك عن الانحراف عنها حيث أن التنشئة من جانب والجزاء من جانب آخر يتكفلان بتعديل السلوك الذاتي والعدواني أو ربط ذلك كما هو بيّن.

إن كلاً من التنشئة والجزاء في الإسلام يأخذ طابعاً تربوياً متميزاً عن الضبط الأرضي سواء أكان ذلك من  حيث مسبباته أو من حيث وسائله فمن حيث المسببات لا تمارس عملية الضبط أو تترك إلا حيال أنماط محددة من الأفعال الاجتماعية، كما أنه من حيث الوسائل تمارس عمليات الضبط وفق طرائق لا يألفها البحث الأرضي البتة.

أما التنشئة فإنما يفرز أهميتها إسلامياً بوضوح هو إن تشرّب المبادئ الإسلامية يتم من خلال العلاقة الرئيسة بين الله تعالى والإنسان، حيث تسبق هذه العلاقة علاقته الثانوية بالآخرين كما أوضحنا ذلك في محاضرات سابقة، وحيث تتميز علاقته بالله تعالى بكونه تقترن بمعرفة وبتقدير وبجزاء غيبي منه تعالى كما أوضحنا ذلك أيضاً، إن تشرّب الشخصية الإسلامية بمبادئ الله تعالى حينما تقترن بمعرفة وتقدير وجزاء من نمط خاص يظل ذا فاعلية من حيث الضبط لا ترقى إليها فاعلية المعرفة والتقدير والجزاء الأرضي الذي تطبعه سمة القصور، وهو قصور معرفي يحتجزه عن تقدير المبادئ السليمة للتنشئة، فيما يكشف هذا التفاوت الملحوظ بين المبادئ التي تصل إلى حد التضاد فيما بينها متمثلاً في المدارس التربوية التي نواجهها قديماً وحديثاً من حيث التفاوت الملحوظ في وجهات النظر التي تصدر عنها،ويترتب ذلك أن يطبع الربط الجزائي أيضاً بنفس القصور المعرفي مما يفسر لنا سبب الفشل في ضبط المجتمعات الأرضية بالنحو الذي تعرفونه جميعاً، وهذا على الضد من المجتمع الإسلامي الذي يتسلم مبادئ التربية من السماء غير مطبوعة بسمة القصور التي يغلف مبادئ الأرض، فمثلاً إن المبدأ القائل: (كلكم لآدم وآدم من تراب) والمبدأ القائل: (لا فرق لعربي على عجمي إلا بالتقوى) نقول عندما يتشرب الشخص بهذين المبدأين في تربيته العائلية في صعيد الإرشاد وحينما يواجههما في صعيد التجربة الإسلامية حيث نرى مثلاً أن بلال الأسود وسلمان الفارسي وأبو ذر الفقير يحيون مع الأبيض والعربي والثري، أي إن الأسود والفارسي والفقير لا يفرّق بينهم وبين الأبيض والعربي والثري، أي دون أي تفاوت عنصري أو سلالي أو طبقي بل على العكس من ذلك يسعى هؤلاء المتقون أي الأسود والفقير والفارسي يصعدون إلى هرم السلم الاجتماعي من خلال معيار التقوى والعمل الصالح والخدمة الاجتماعية وو.. الخ.

نقول حينما يتشرب الأفراد بهذه المبادئ التربوية في صعيد النظرية والتطبيق حينئذ لا نتوقع فشلاً في قيام المجتمع الإسلامي المتوازن على ما نواجهه من فشل المجتمعات الحديثة التي تتعامل مع الملوّنين أو الطبقات الدنيا أو الأقليات على نحو الاستعلاء العنصري والسلالي والطبقي.

وفي هذا الميدان نشير إلى أن الدراسات الاجتماعية التي قام بها المعنيون بها الشأن أشاروا مثلاً إلى أن ربع سكان الولايات المتحدة الأمريكية وهي في تصور القاصرين زعيمة المجتمعات الأرضية في مظهرها الحضاري والثقافي الزائف، ربع هؤلاء يحيون مشاعر العزلة والنبذ الاجتماعي من نحو الزنوج والهنود الأمريكيين.. الخ، فضلاً عن البناء الطبقي الذي يفرز الطبقة العليا فحسب بينما تتصاغر الأغلبية حيالها كما هو واضح.

المهم سر ذلك جميعاً أن هذه المجتمعات لم تتشرب بمبادئ التقوى، أي كلكم لآدم ولا فضل لعربي على عجمي.. الخ، ولم تتشرب بتعاليم الله تعالى الذي خلق الزنجي والمغولي والقوقازي والغني والفقير.. ولم تتشرب المبادئ العبادية للمفهوم الإنساني ووظيفته التي أوكلها الله سبحانه وتعالى إليه، وإن هدف خلقه شعوباً وقبائل لكي يتعارفوا وليس ليستعلي بعضهم على البعض الآخر، إن أمثلة هذه المبادئ التربوية لم تتشرب بها المجتمعات الأرضية مما يترتب على ذلك أن تصاغ قوانينها بنحو هش بالرغم من أن أصواتاً قد تكون مخلصة ترتفع بالمطالبة بإزالة الفوارق المشار إليها إلا أنها تفشل للأسباب التي قدمناها.

وأياً كان الأمر إن ما يعنينا الآن من ظاهرة الضبط الاجتماعي في الإسلام أن نشير إلى أن الشطر الأول من عملية الضبط وهو التنشئة أو التربية تفرض فاعليتها في صياغة المجتمع المتوازن من حيث كونها تساوق مبادئ يتم التشرب بها من خلال قناعة ويقين بكمال المصدر الذي تستمد مبادئها منه، أي العلاقة الرئيسة بين الله تعالى والإنسان مضافاً إلى أن معرفة ذلك تقترن بتقرير وبجزاء خاص يجعلان الالتزام بهذه المبادئ مصحوباً بفاعلية لا سبيل للتشكيك بها، فمثلاً عندما يتحسس الشخص أن الله سبحانه وتعالى يثمن سلوكه المشار إليه وهو أمر أوضحناه لكم في محاضرات سابقة، وأن الله تعالى يكافأه أخروياً وأيضاً دنيوياً، حينئذٍ يصرح مثل هذا الشخص على أن يلتزم بالمبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى دون أدنى شك، وهذا على العكس تماماً من مبادئ الأرض التي لا تتحدد في مصدر واحد مثمن مكافئ بل تغيم في حبر على ورق، أو في أعراف وتقاليد وعادات يسهل تجاوزها نظراً لضآلة فاعلية الرقيب عليها، فضلاً عن عدم الانطواء على حقائق ثابتة بقدر ما هي عرضة للخطأ والقصور بالنحو الذي خبرته مجتمعات الأرض قديماً وحديثاً.

إذن مفهوم التربية أو التنشئة بصفتها أداة ضبط للمجتمعات تتحدد إسلامياً وفق تصور خاص هو سلامة المبادئ التي يتم تشرّبها من جانب بصفتها مستمدة من الله تعالى الذي خلق الإنسان ورسم مبادئ الضبط لمجتمعاته وقناعة الإسلاميين بها من جانب آخر، مما يعمق هذه القناعة من تثمين والتزام من جانب الله سبحانه وتعالى على الالتزام بهذه المبادئ وذلك فيما يترتب عليه من نجاح عملية الضبط المشار إليها.

وهذا جميعاً في ما يتصل بالأداة الأولى للضبط ألا وهي التربية الاجتماعية أو التنشئة الاجتماعية، أما ما يتصل بأداة الضبط الأخرى وهي ما نود الآن أن نفصل الحديث عنه ونعني بها الجزاء الاجتماعي وليس التنشئة الاجتماعية، فإن للتصور الإسلامي حيالها فاعلية خاصة أيضاً تفترق عن التصورات الأرضية التي يمكن ملاحظة إخفاقها بوضوح في ميدان صياغتها لمبادئ الجزاء الاجتماعي.

إن الجزاء الاجتماعي في الإسلام يكتسب نفس سمة التنشئة الاجتماعية من حيث كونها مبدءاً اجتماعياً موسوماً بكمال المصدر الرسمي لأداة الضبط بحيث تتوافق مع طبيعة ما يتطلبه نمط الانحراف من أداة خاصة لضبطه مضافاً إلى أن الخبرة العملية أثبتت فعالية الأدوات التي استخدمها الاجتماع الإسلامي في بعض فتراته التي أتيح له من خلالها أن يمارس مسؤوليته في نطاق المؤسسة الحكومية أو المؤسسة المرجعية أو المؤسسة الأهلية أو مطلق الممارسات حتى الفردية منها حيث أتاح المشرع الإسلامي من خلالها مجالاً لاستخدام بعض الجزاءات الاجتماعية في ما ترتب على ذلك فعلاً ضبط الانحراف أو تضئيله على نحو ما سنعرض له بعد قليل أو في محاضرة لاحقة إنشاء الله، والمهم هو أن نعرض لمبادئ الجزاء الاجتماعي في خطوطه الإجمالية من حيث أنماطه ومجالاته، ولكن بما أن المجال لا يسع في محاضرتنا الحالية التفصيل في ذلك ومن هنا نبدأ فنقدم بعض الخطوط الإجمالية لهذا الجانب على أن نفصل الحديث عنها في محاضرة لاحقة إنشاء الله.

ولكن يمكننا أن نذكّر قبل أن ننهي المحاضرة أن نذكر بأن الجزاء في الإسلام كما سبقت الإشارة في مقدمة الحديث عن الجزاء ينشطر إلى ذاتي أو داخلي يمارسه الشخص حيال نفسه من خلال الجهاز الذي نشأ عليه عائلياً أو لنقل اجتماعياً من خلال التربية التي استهدفت تنشئته بهذا الشكل أو ذاك، ثم إلى جزاء خارجي تمارسه الأجهزة القانونية، وأما الجزاء الذاتي فمع أنه يحقق نفس نتائج الضبط الاجتماعي حيث تفضي معاقبة الشخص لنفسه وهو جزاء عاجل تدرأ به عقوبة الآخرة إلى أن يتدرّب تلقائياً على عدم ممارسة الانحراف وتصبح جزءاً من عملية التربية التي يتشرّبها، وهذا النمط من الجزاء الذي لا تخبره مجتمعات الأرض لا تنحصر فاعليته في النطاق الفردي بل يتجاوزه إلى المعطيات الاجتماعية المتمثلة في تحقيق التوازن الاقتصادي وغيره كإطعام الفقراء وتحرير العبيد وإرجاع الحقوق المالية لأصحابها، وأما الجزاء الخارجي فكما قلنا يتمثل في عنصري الضغط والقوة اللتين تمارسهما الأجهزة المسؤولة، أي المؤسسات الرسمية والأهلية والجماعات والأفراد.. الخ، حيال المنحرفين، ويتم ذلك من خلال أدوات متنوعة نفسية كالتشهير ببعض المنحرفين مثلاً أو بدنية كالقصاص والحدود والتعزيرات أو مالية كالغرامات والضمانات والديات.. الخ.

إننا سوف نفصل إنشاء الله هذه الموضوعات في محاضرة لاحقة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..