mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 42.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

بدأنا في محاضرتنا السابقة بالحديث عن المؤسسات الاجتماعية العامة وما ينبغي أن يسلك حيالها من العمليات التربوية لانتظام تلكم المؤسسات، وبدأ الحديث من خلال ذلك بالمؤسسة الاقتصادية حيث تكلمنا عابراً عن الخطوط التربوية العامة لهذا الجانب وانتهينا إلى الحديث عن الجانب التربوي للمؤسسة السياسية متمثلةً في الدولة حيث مهدنا الحديث عن ذلك بالإشارة إلى أن قيام الدولة أو المرجعية أو حتى الأمة الإسلامية بشكل عام ينبغي أن يسلك حيالها مبدأ تربوي معين لتنظيم شؤون الناس سواء أكان ذلك في نطاق المؤسسة السياسية وهي الدولة أو المؤسسة الفقهية وهي المرجعية أو المؤسسة العامة وهي الأمة الإسلامية أو حتى في نطاق السلوك الفردي الصرف.

المهم نود الآن أن نرسم خطوطاً عابرة سريعة لما يرتبط من إقامة العلاقات السياسية في أكثر من صعيد واحد وهو أمر نبدأ بالحديث عنه أولاً من حيث التنظيم ثم من حيث الوظائف ثم من حيث العلاقات مع الأطراف الاجتماعية المتنوعة، أي نريد الآن أن نرسم خطوطاً تربوية بما يتطلبه التخطيط لمؤسسة الدولة من سلوك اجتماعي يحقق الهدف الإسلامي بنحوه المطلوب وهذا ما نبدأ به الآن فنقول:

من الممكن أن نتبين وجهة نظر الإسلام حيال المؤسسة السياسية الدولية من حيث مشروعية وجودها أساساً، وأما من حيث مستوياتها التي اعتادت البحوث الأرضية أن تبحث عنها وهي تنظيم الدولة ووظيفتها والعلاقة المتبادلة بينها وبين رعايها.. الخ، فيمكننا أن نحدد ذلك على نحو هذا العرض العابر والسريع فنقول:

العلاقات السياسية

- أولاً: من حيث التنظيم اعتادت البحوث الأرضية وهي تحدد تنظيم الدولة اعتادت أن تحددها وفقاً للسلطات التقليدية الثلاث، السلطة التشريعية حيث تتولاها نخبة من المفكرين أو خلال المشاركة الجماهيرية أيضاً بالنسبة إلى مهمة تخطيط المبادئ التي تنتظم شؤون الناس، وهذه خاصة بالسلطة التشريعية.

وأما السلطة التنفيذية فتضطلع بتطبيق المبادئ المشار إليها متمثلةً من الوجهة السياسية في الرؤساء والوزراء وسواهم من الإداريين، وفي مطلق الموظفين من الوجهة الإدارية والسلطة الثالثة وهي السلطة القضائية تتولى فصل الخصومات بين الناس.

هذا من حيث التصورات الأرضية لهذا الجانب، وأما من حيث التصور الإسلامي فإن المشرّع الإسلامي يظل في الواقع منحصراً في مبادئ الله سبحانه وتعالى، أي لا وجود لنخبة مشرعة بل وجود لنخبة تقوم بعملية توصيل لمبادئ الله تعالى، أي إن المشرع هو الله سبحانه وتعالى وأن البشر هم المنفذون، إلا أن عملية التنفيذ تتطلب مستويات خاصة أو نماذج خاصة من البشر يتقدّمهم بطبيعة الحال المعصوم (عليه السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بشكل عام في عصر الحضور، وأما في عصر الغيبة فيتمثلون في الفقهاء.

حيث يجسدون الولاية العامة أو النيابة العامة عن المعصوم (عليه السلام)، وهذه الولاية أو النيابة تنحصر مهمتها في توضيح المبادئ من خلال اجتهاداتهم المستقاة من النصوص الإسلامية وهي نصوص أو تشريعات أو مبادئ ثابتة من قبل الله سبحانه وتعالى ولكن مع ملاحظة أنها تنطوي في الآن ذاته على حيوية خاصة بحيث تتناول أيضاً ما هو مستحدث من الظواهر التي تفرضها عمليات التغير الاجتماعي أو ما يطلق عليه بسياقات المكان والزمان، لذلك تظل هذه الولاية أو النيابة متمثلةً في النطاق الأول فيما يصطلح عليه بالمؤسسة المرجعية، وهي السلطة التي تتولى مهمة التنظيم لشؤون المجتمع الإسلامي، حيث يتحدد نشاطها حيناً في طابع رسمي وحيناً آخر في طابع أهلي، أما الطابع الرسمي فيتمثل في حالة قيام المؤسسة الحكومية أي ممارسة الدور الذي تقوم به الدولة الحديثة وذلك في حالة تسلّم الإسلاميين للحكم وأما الطابع الأهلي فيتمثل في ممارسة المرجعية لأدوار خاصة في نطاق الأمة الإسلامية وليس في نطاق الدولة، حيث تتولى في المقام الأول مهمة توعية الأمة الإسلامية بمبادئ الله تعالى في مختلف مجالاتهم العبادية والاقتصادية والأسرية وو..الخ، وحيث تتدخل المرجعية في بعض الشؤون الاقتصادية كتسلمها مثلاً للأخماس والزكوات ونحوها من الموارد المالية التي تدير بها ميزانيتها في مجالات التفقه والتربية والضمان وو.. الخ، وحيث تتدخل أيضاً - أي المرجعية - في فصل الخصومات بين الناس مع ملاحظة أن ممارستها لهذه الأدوار تتم طوعياً أي بقدر ما يبديه الإسلاميون أنفسهم كأفراد وكجماعات من علاقات التعاون مع هذه المؤسسة المرجعية.

وفي ضوء هذه الحقائق المرتبطة برسمية أو أهلية المؤسسة المرجعية من حيث الهيكل التنظيمي لها يمكننا أن ننتقل إلى الحديث عن وظائف المرجعية أو الدولة الإسلامية في ما يمكن عرضه تحت العنوان الآتي وهو (من حيث الوظائف).

من الحقائق المعروفة في ميدان الدولة الحديثة أن ثمة وظائف عامة تضطلع بها الدولة، أياً كان اتجاهها الفكري متمثلةً في وظائف تستقلّ بها مثلاً كالأمن الداخلي والخارجي وفي وظائف تشترك فيها مع النظم الاجتماعية الأخرى كالأسرة والاقتصاد وسواهما حيث أخذت الدولة الحديثة على عاتقها أن تتدخل في هذه المؤسسات التي كانت يوماً ما محتفظة باستقلال كامل أو نسبي في مجتمعاتنا الماضية، إلا أن درجة التدخل هي التي تفرز الفارقية بين أنظمة يغلب على بعضها التدخل الشامل كالمجتمعات الاشتراكية مثلاً، وعلى بعضها الآخر التدخل الجزئي كالمجتمعات الرأسمالية،وعلى بعضها التدخل الذي يراوح بينهما مثل بعض المجتمعات التي يصطلح عليها بالمجتمعات النامية، أما إسلامياً فإن النمط الثالث من التدخل هو الذي يطبع الدولة الإسلامية وذلك لسبب واضح هو مراعاة كل من الفرد والجماعة في صعيد الإشباع لحاجاتهما من جانب، وفي صعيد التنمية تربوياً وعلمياً واقتصادياً.. الخ، من جانب آخر فالحرية الفردية في صعيد الإشباع للحاجات لا مناص من تحقيقها نظراً لتركيبة الإنسان القائمة أساساً على تأكيد الذات، كما أن تقيدها بمصلحة جماعة تحقق للآخرين نفس الحرية والإشباع، ويكبح في الآن ذاته جماح الرغبات غير المشروعة عند كل الأطراف، فمثلاً عندما تسمح الدولة الإسلامية للفرد بإحياء الأرض الموات إنما تمنحه الحرية في تملك نتاج عمله، وعندما تتدخل فتنتزع منه الأرض في حالة عدم ممارسته للإنتاج إنما تهب للآخر الحرية أيضاً وتتيح مضافاً إلى ذلك للجماعة أن تفيد من محصولات الأرض محققة بذلك مصطلحتي كل من الفرد ومن الجماعة من خلال الحرية وتنمية الإنتاج.

والآن عندما ننتهي من الحديث عن هذا الجانب ننتقل إلى الحديث عن العلاقات السياسية أو العلاقات التي تنتظم الدولة ورعاياها من جانب والدولة والدول أو الأمم الأخرى من جانب آخر، فمن حيث العلاقات المتبادلة بين الدولة ورعاياها وما يتطلبه هذا من سلوك تربوي خاص ينبغي أن يقف عنده كل من المسؤول السياسي والمسؤول الأهلي أي الأفراد، نقول لعل أبرز ما يميز الدولة الإسلامية عن الدولة الأرضية هو نمط العلاقات القائمة على الوثاقة والتعاون والمسالمة بين الدولة ورعاياها بدلاً من العزلة والصراع والكراهية التي نلحظها في غالبية مجتمعات الأرض، فالمجتمعات الأرضية تعاني أبرز مشكلاتها الاجتماعية في الواقع من خلال الهوّة الفاصلة بين الحاكم والمحكوم فيما يترتب على هذه العزلة من مشكلات جمة لا مجال للحديث عنها الآن لأنها خارج عن النطاق التربوي الذي نتحدث عنه.

ولكننا نريد أن نقول إسلامياً أن مبادئ العلاقة بين الدولة ورعاياها تظل من الإحكام بنحو يستتبع بالضرورة تلافي كل المشكلات التي تطبع دولة الأرض ورعاياها، ولعلّ الإدراك لوظيفة الحاكم أو الدولة يقف سبباً رئيساً في إحكام العلاقة بينهما وهذا ما تستهدفه التربية الإسلامية وتؤكد عليه بنحوٍ لا تجد له أي مماثل في التصورات الأرضية فخلافاً لهذه الأنظمة الأرضية التي فسّر بعضها كما لاحظتم قيام الدولة على مبدأ القهر أو الغلبة، ما نلحظه فعلاً من طغيان هذا المبدأ وهو القهر على سلوك الدول، وإن كانت نظرياً تشجب هذا المبدأ ولكن عملياً نجد أن الدول الأرضية أو بالأحرى المؤسسات الأرضية تخضع لمبدأ القهر والغلبة وليست تخضع لمبدأ الحب والتعاون والمسالمة بين الدولة ورعاياها.

نقول خلافاً لهذه الأنظمة نجد أن الإسلام أو الحاكم الإسلامي لا يستهدف من ممارسته لدور الحاكم إشباعاً لنزعة ذاتية كالعدوان والسيطرة والتفوق والثروة، بل يستهدف من ذلك تحقيق مبادئ خلافة الإنسان أو الممارسة العبادية في الأرض امتثالاً لأوامره تعالى، ولستم ببعيدين عن مقولة الإمام علي (عليه السلام) المعروفة غداة تسلمه للحكم حيث أوضح الأسباب التي دفعته إلى أن يتخلّى عن الحكم في فترة ويتولى الحكم في فترة أخرى، هذه المقولة تبلور لنا بوضوح هدف الإسلام من ممارسة الحكم حيث ألمح (عليه السلام) كما تعرفون ذلك جميعاً إلى أن ممارسة الحكم كحكم لا تساوي عنده شيئاً ما لم يستهدف الحكم تحقيق الإصلاح أو التوازن الاجتماعي بعامة وإذا كان الأمر كذلك حينئذ لا نتوقع بروز أية هوة بين المحكوم والحاكم. إلا في حالة الانحراف مثلاً كما حدث للبغاة في عهد الإمام علي (عليه السلام).

على أية حال هذا المبدأ التربوي المهم ينبغي أن نضعه في الاعتبار عند تفكير أية شخصية أو جماعة أو مؤسسة في حالة تفكيرها بأن تمارس عملاً سياسياً متمثلاً في إقامة الدولة.

وهذا كله فيما يتصل بالجانب المذكور من حيث العلاقة المتبادلة بين الدولة ورعاياها والمبادئ التربوية التي يجب أن تنتظمها وأما من حيث العلاقات الخارجية والمبادئ التربوية التي يجب أن تتحلى بها فتتمثل في الذهاب إلى القول الآتي وهو:

ما دامت صياغة العلاقات الاجتماعية تقوم على مبدأ التعاون أو على مبدأ البر والتقوى وعلى مبدأ الحب كما ذكرنا في محاضراتنا السابقة ثم على التكيف المصحوب بالتعاون في صعيد ما هو إنساني مع جماعات غير إسلامية من جانب، أو الانسحاب في الواقع أو الصراع من جانب ثالث في حالة ما إذا كان التعاون مع المؤسسات الأخرى يفضي إلى الانحراف.

المهم بالنسبة إلى العلاقات الخارجية التي ينبغي أن تنتظم الدولة في علاقاتها مع الدول أو الأمم الأخرى فإن هذا المبدأ يتمثل أو بالأحرى توضّحه بجلاء آية قرآنية كريمة حيث تقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من دياركم.. الخ)، على أن البر والقسط تظل مبادئ تعاونية لا غموض فيها بحسب ما ورد في هذه الآية الكريمة، حيث لا تنحصر في العلاقات الداخلية فحسب بل تتجاوزها إلى العلاقات الخارجية أيضاً، ولا نحسب أن أية أيديولوجية أخرى في العالم جميعاً تحيى على التضاد الأيديولوجي مع غيرها بحيث تسمح لها مبادئها الأرضية بأن تمارس البر وتمارس العدالة مع الأيديولوجية المخالفة لها، إلا أن الإسلام فحسب وهو ينزع إلى الخير المحض لا يجد أي غضاضة من البر والقسط حيال القوة المخالفة له أيديولوجياً، وهو أمر ينسحب حتى في حالة الصراع على القوى الخارجية حيث يرسم الإسلام توصياته الخاصة بهذا الجانب فمثلاً في حالة قيام الدول الخارجية بممارسة الظلم فيما أشارت إليه الآية الكريمة ونعني بها القتال والبغي، حينئذ فإن العلاقات الصراعية هي التي تفرض فاعليتها في هذا الميدان وفي مقدمتها ممارسة القتال، لكن في حالة ما إذا كان الأمر عكس ذلك أي إن الدول الخارجية لم تقاتل المسلمين ولم تخرجهم من ديارهم، فإن التعاون مع أمثلة هذه الدول لا حرج فيه.

بيد أن الجدير بالملاحظة هو أن عملية القتال مصحوبة في الواقع بمبادئ خاصة تجعل من عنصر العلاقات بين طرفي الصراع مصبوغاً بطابع إنساني لدى الإسلاميين اتساقاً مع سائر العلاقات المطبوعة بالسمة المشارة إليها، ومع أننا سنحدثكم مفصلاً عن التربية العسكرية في الإسلام، وما تواكبها من العمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك لتنظيم هذه الممارسات العسكرية مع أننا سنحدثكم عن ذلك مفصلاً إنشاء الله في محاضرة مستقلة إلا أننا نشير الآن عابراً لنتحدث عن العلاقات بين الدولة بمعناها الإسلام وبين الدول الأخرى فنقول في هذا الجانب مشيرين إلى بعض التوصيات الإسلامية في إشاراتها مثلاً في حالة القتال طبعاً وإلا في حالة المسالمة التي ذكرناها يظل مبدأ التعاون قائماً بين الإسلاميين وبين سواهم من الدول، ولكن في حالة الصراع حينئذٍ فإن التوصيات الإسلامية أو التوصيات التربوية تشير إلى الإسلاميين بممارسة عمليات تربوية في غاية الأهمية متمثلة أولاً في الإشارة إلى عدم البدء بالقتال ثم إلى تذكير العدو بمبادئ الخير وفي حالة عدم انصياعه تشير التوصيات الإسلامية إلى إعطاء الأمان لمن يطلب ذلك، وتمنع بشدة من الغدر حتى أنها تخرج الغادر من عصمة الله تعالى، أي عندما يغدر المؤمن بالمنحرف.

وتمنع بشدة أيضاً من عدم مراعاة المواثيق أي عند الهدنة تطالب التوصيات الإسلامية بمراعاة المواثيق مع العدو وتشدد التوصيات أيضاً في عدم التمثيل وفي عدم الإجهاز على الجريح وفي عدم التعرض للنساء والشيوخ والأطفال.

وتطالب في حالة الأٍسر مثلاً بالرفق بالأسير وإطعامه مثلاً..

إن صوغ أمثلة هذه العلاقات الإنسانية تظل تعبيراً واضحاً عن سوية الاجتماع الإسلامي وابتعاده عن أدنى ما يمكن تصوره من الانحراف حتى في علاقاته مع العدو في ساحة المعركة.

ومن الممكن أن نستخلص المعطى التربوي لأمثلة هذه العلاقة متحددة تماماً حينما نضع في اعتبارنا أن المبادئ المشار إليها كالمطالبة بعدم البدء بالقتال مثلاً، هذا المبدأ يكشف عن أن المسالمة وليس العدوان هو طابع المجتمع الإسلامي، كذلك فإن التذكير قبل القتال بالمبادئ الخيرة عن الحرص على إيثار المسالمة والمطالبة بعدم التمثيل تتحدد تماماً حينما نضع في الاعتبار بأن الهدف من المقاتلة هو إزاحة الشوك عن الطريق، فمع قتل العدو تحسم المسألة وحينئذ لا مسوغ البتة لأن نمثل به، حيث أن التمثيل بالعدو يعد تعبيراً عن نزعة سادية تتلذذ بتعذيب الآخرين، كذلك فإن إزاحة هذه الأحجار عن الطريق لا ترتطم بوجود الأطفال والشيوخ والنساء، فما هو المسوغ لقتلهم إذاً؟.

وحتى في حالة فاعلية بعض العناصر كالنساء مثلاً إذا شاركن في الحرب مع العدو فإن التوصيات الإسلامية تشير إلى أن ضعفهم لا يحتجز المقاتل من تحقيق عمله في النصر، وحينئذ لا مسوغ لقتلهن وذلك لضعفهن، والأمر كذلك بالنسبة إلى الأسير حيث أن الأسير قد افتقد الفاعلية على ممارسة أي موقف عدائي وحينئذ ما هو المسوغ لإيذائه، إذاً النزعة الإنسانية في هذه التوصيات التربوية لا تسمح بإلحاق الأذى لمن لا فاعلية له في القتال، وأما الإحسان إلى الأسير فيظل تصعيداً في الواقع للنزعة الخيرة وتفريجاً للأسير عن شدة الإحساس بأسره من جانب وتوقعاً لأن يصلح هذا الأسير من جانب آخر.

إذن في الحالات جميعاً تظل النزعة الخيرة وليس مجرد القتال هي التي تحكم العلاقات الإسلامية بأعدائهم المقاتلين، وهو أمر يسم الاجتماع الإسلامي دون سواه من المجتمعات الأرضية التي خبرت ولا تزال تخبر وتمارس مختلف الأساليب العدوانية في تعاملها العسكري وهو ما نشاهده اليوم بوضوح.

وهذا كله فيما يتصل بالعلاقات بين المؤسسة الحكومية وبين الحكومات الأخرى، وأما من حيث العلاقة بين هذه المؤسسة ومع الرعايا في داخل الدولة أو ما يسمى بالأقليات التي تخالف مذهب الدولة أيدلويوجياً، نقول في هذا المجال إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مبدأ ما يسمى في اللغة الاجتماعية بالضبط الاجتماعي يفرض ضرورته في قيام المجتمعات وتوازنها النسبي، أي الضبط الاجتماعي يتمثل في قوانين العقوبات أو في قوانين الثواب والعقاب المختلفة في ما لا يمكن ضبط المجتمعات إلا بإخضاعها للقوانين المشار إليها.

نقول إن مبدأ الضبط الاجتماعي يفرض ضرورته في قيام المجتمعات وتوازنها النسبي وهذا الضبط هو موضع قبول لدى المجتمعات الأرضية جميعاً، وعندها فإن ممارسة هذا الضبط سواء أكانت هذه الممارسة داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه، سوف تأخذ مشروعيتها دون أدنى شك.

ولكن نجد أن مبادئ الضبط، هذه المبادئ في الواقع تصب إسلامياً في نفس النزعة الإنسانية في العلاقات، كالأقليات مثلاً التي تعيش في المجتمع الإسلامي هي من جانب لا إكراه في حملهم على أيديولوجية خاصة بيد أن كل ما يترك فاعلية سلبية على أيديولوجية المجتمع الإسلامي يتعين حينئذ ضبطه، وخارجاً عن هذه الفاعليات تظل الحرية المذهبية مصونة لدى الاتجاهات المخالفة، مع ملاحظة أن هذه الاتجاهات تتفاوت في درجة انحرافها عن المبادئ الإسلامية كالكتابيون مثلاً تظل أيديولوجيتهم مصبوغة بسمات انحرافية أقل درجة من الانحرافات التي تطبع الاتجاهات الملحدة مثلاً.

وتبعاً لذلك تصاغ العلاقات مع هؤلاء وفق خطوط تتناسب مع طبيعة المناخ الإسلامي الذي لا يمارس سلوكاً صراعياً مع الاتجاهات الفاقدة للنشاط المقترن بفاعلية سلبية وهذا من نحو السماح لممارسة طقوسهم في أماكنهم الخاصة بمنأى عن مرأى المسلمين.

وفي ميدان العلاقات الخارجية الأخرى يطالب هؤلاء بدفع الضرائب خاصة تحسيساً بكونهم قد انسلخوا من دائرة المجتمع، وهو أمر لا يكلف أصحابه بأية شدة اقتصادية بقدر ما يحسسهم بالفارقية فحسب، وهذا الإحساس في الواقع تفرضه طبيعة النزعة الخيرة التي تتطلب إبرازاً لمظهرها الاجتماعي وإلا تفتقد ميزتها الأيديولوجية وتصبح كأية أيديولوجية أخرى، وبكلمة ثانية إن الأيديولوجية الإسلامية وبما تسلك طرائق مسالمة كعدم الغدر وعدم التمثيل وعدم الإجهاز على الجريح.. الخ، حينئذ فإن إبراز مثل هذه الأيديولوجية الخيرة وإكساب هذه الأيديولوجية مظهراً اجتماعياً يظل أمراً مفروغاً منه، وحينئذ لو ساوينا هذه الأيديولوجية الخيرة مع أيديولوجيات منحرفة لا تصدر عن مثل هذه النزعة، نكون بذلك قد ألغينا هذه الخصوصية المتميزة للأيديولوجية الخيرة وهذا هو إلغاء في الواقع للدلالة الإنسانية، فلا يحسن بنا حينئذ أن نمنح قيمة متساوية لشخصين أحدهم مسالم والآخر عدواني، بل لابد من إبراز الشخصية الأولى وإكسابها قيمة تتناسب مع خطورة النزعة المسالمة لديها، وهذا يعني أن الفارقية المتمثلة في تمييز الأقليات من خلال الضرائب وسواها دون أن يقترن ذلك بشدائد نفسية أو مادية إنما تتطلبها طبيعة الفارقية بين ما هو إيجابي من الأيديولوجيات وبين ما هو دون ذلك حيث يتعين إبراز الأيديولوجية الإيجابية وتحسيس الأيديولوجية السلبية بمفارقاتها حتى تكتسب الأيديولوجية الخيرة طابعها التربوي الذي ينبغي أن يصبح مثالاً للآخرين..

إذن بهذا الحديث نكتفي في محاضراتنا الخاصة الآن بالتربية السياسية ونتجه بعد الآن إلى محاضرات تتصل بشؤون تربوية أخرى، إن الشؤون التي سوف نتجه إليها ونختم بها محاضراتنا المتبقية وهي محاضرات ذات عدد قليل نقول سوف نخصص المحاضرات المتبقية لعنوان تربوي مهم بدوره ألا وهو ما أسميناه بالتربية الشعائرية،

 

التربية الشعائرية

ونقصد بالتربية الشعائرية ما يرتبط بالأحكام الشرعية التي نسجها الإسلام لنا لنمارسها على مختلف المستويات.

وكلنا يعلم أن أي تشريع إسلامي هو في الواقع ينطوي على معطىً خاص، ومن ثم فإن كل تشريع ترسم له التوصيات الإسلامية مبادئ خاصة لتنظيمه، فكما لاحظنا أن المشرّع الإسلامي يرسم لنا طرائق تربوية خاصة لتنظيم الدوافع حيث لاحظنا في حينه كيف أن الإسلام رسم لنا طرائق تربوية خاصة في تنظيم الدوافع النفسية كدافع التقدير الاجتماعي والانتماء الاجتماعي والتملّك وو.. الخ.

وكذلك حينما رسم لنا طرائق لتنظيم الدوافع الحيوية كالحاجة إلى الطعام والنوم و.. الخ.

وهكذا حينما رسم لنا الإسلام الطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك في تنظيم علاقاتنا مع الآخرين على مستوى الفرد والجماعة على مستوى العلاقات المباشرة أو الجماعة الأولية وعلى مستوى الجماعة الثانوية، وهكذا حينما وجدنا أن الإسلام يرسم لنا طرائق تربوية متنوعة في المجالات جميعاً، حينئذ فإن الإسلام نفسه يرسم لنا طرائق تربوية متنوعة ترتبط بطبيعة المبادئ التي رسمها لنا شعائرياً، ونحن نطلق مصطلح الشعائر أو الطقوس لنشير بذلك إلى ممارسات عبادية كالصلاة مثلاً أو الزكاة أو الحج أو أو.. الخ، فإن هذه الممارسات كما سنلاحظها وقد لاحظتم بعضها فعلاً خلال محاضراتنا السابقة، هذه التوصيات أو بالأحرى هذه الشعائر في الواقع أيضاً ينظمها الإسلام تنظيماً خاصاً بحيث ينبغي أن نسلك طرائق تربوية بموجب التوصية الإسلامية لصياغتها بالنحو المطلوب، فالصلاة مثلاً أو الصوم مثلاً ليس مجرد ممارسة طقسية أو شعائرية يقوم بها العبد حيال الله سبحانه وتعالى بل تقترن بمبادئ متنوعة تقترن بأساليب مختلفة تقترن بتوصيات تربوية خاصة في تنظيم هذه الشعائر وفي طريقة ممارستها حتى تفضي بالنتيجة إلى ما هو مطلوب عبادياً.

على أية حال نبدأ بالحديث عن هذه السمات أي السمات الشعائرية أو التعبدية أو العبادية ونلفت النظر قبل ذلك جميعاً إلى أهمية هذه التربية أو إلى أهمية هذه الشعائر لأن البحث الأرضي غائب تماماً عنها، ولا نريد أن نكرر الحديث في ذهابنا إلى أن مجتمعات الأرض لا تزال تعج بمشكلاتها المتنوعة وفي مقدمتها مشكلة السلوك السوي وما يقابله من السلوك المنحرف حيث أخفقت العيادة الأرضية نفسياً وتربوياً أن تقضي على الانحرافات المتفشية في المجتمعات الحديثة فشلت تماماً مع أن علماء النفس والتربية من الكثرة ومن التنوع ومن النشاط ومن المؤسسات ما يعجز أحد عن إحصاءها ومع ذلك كله لا نجد أثراً ملموساً لهذه الجوانب حيث اتفقت الإحصائيات المتنوعة إلى أن ما يزيد على ثلاثة أرباع الشخوص في العالم يعانون من أمراض العصاب، فإذا كانت الغالبية من البشر تعاني أمراضاً نفسية متنوعة  في ميدان السلوك الفردي وما دامت المشكلات الاجتماعية تعج في عالمنا المعاصر على مختلف الصعد في ما لا حاجة إلى أن  نحدثكم عنه نقول: ماذا يعني هذا جميعاً؟.

إنه يعني بوضوح أن البشر وهو منعزل عن السماء لا يمكن أن يصل إلى مرفأ محدد ما دام القصور يتبع العقل الإنساني بعامة، من هنا نجد أن التوصيات الإسلامية في حالة ممارسة تطبيقها بطبيعة الحال وإلا فإن الفهم النظري لهذه التوصيات دون أن تنعكس عملياً في سلوكنا اليومية لا فائدة فيها البتة، ولكن من خلال الممارسة العملية لهذه المبادئ سوف نجد أن العكس تماماً هو الذي يسم مجتمع الإسلاميين لسبب واضح هو أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق البشر وركّب فيهم هذه التركيبة الخاصة وأوجد فيهم الطرائق التي تحقق إشباع حاجاتهم بحسب ما يتوافق مع التركيب المشار إليه، أي إن الله سبحانه وتعالى هو الذي نسج هذه التركيبة وهو الذي رسم طرائق إشباعها، وهو متسم بالكمال حينئذ فإن التوصيات الإسلامية هي التي تحتفظ فحسب بفاعليتها الصائبة في هذا الميدان.

من هنا نكرر أن أحد أو بالأحرى أن في مقدمة الطرائق التي رسمه الله سبحانه وتعالى لنا في ممارساتنا اليومية هو ما أسميناه بالشعائر أو الطقوس أو السمات التعبدية، فقد لاحظتم مثلاً ما يتصل بعلاقة الفرد مع ذاته وبعلاقته مع الآخرين، ويبقى بعد ذلك أن نتحدث عن علاقة الفرد مع الله سبحانه وتعالى ومع الشعائر التي طالبنا أن نمارسها وذلك لانطوائها دون أن نعيا ذلك إلا نادراً نقول لانطوائها على معطيات تتساوى أو تتماثل تماماً مع ما لاحظتموه من المعطيات التي رسمها الإسلام لنا في ميدان التركيبة البشرية وتنظيمها وفي ميدان العلاقات البشرية وتنظيمه وفي سائر الميادين الاقتصادية والسياسية وو.. الخ.

المهم إن ما نود لفت الانتباه إليه من جديد هو أن ظاهرة الشعائر كالصلاة والصوم والحج ونحو ذلك تظل ممارسات بمنأى تماماً عن وعي الأرضيين لها، إن الأرضيين حيث لا يمارسون معنى شعائرياً كشعائرنا نحن الإسلاميين حينئذ سيظل سلوكهم بالضرورة قاصراً عن أن يصل إلى النتيجة المطلوبة، أو بالأحرى لنقل أن الطرائق التربوية التي يرسمها الأرضيون للبشر ستظل فاقدة لفاعليتها ما دامت منعزلةً عن هذه الشعائر التي رسمها الله سبحانه وتعالى وهي واحدة في الواقع من مطلق المبادئ التي رسمها الله لنا ولكنها تتسم بأهمية خاصة لعل الإسلاميون أنفسهم يظلون بمنأى عن وعيهم بها، ويمارسون للصلاة وهم بالملايين قد لا يعون أهمية هذه الصلاة من حيث منعكساتها النفسية كما أن الملايين يمارسون الصوم ولا يعرفون المنعكسات الصحية نفسياً وبدنياً وعبادياً، أو لا يعون المنعكسات الصحية المترتبة على ذلك والأمر نفسه بالنسبة إلى الحج وسواه من الممارسات العبادية التي تشكل مظهراً خارجياً إلا أن هذا المظهر الخارجي له معطياته الداخلية بالشكل الذي نحدثكم عنه إنشاء الله في محاضراتنا اللاحقة وهي محاضرات معدودة نبدأ ذلك أولاً بالحديث عن الطابع العام الذي يغلف هذه الشعائر ونعني به الإيمان وما يقابله من الكفر.

ثم نتحدث بعد ذلك إنشاء الله عن مفردات عبادية محدودة أيضاً نقتصر فيها على كلٍّ من الصلاة والصوم والحج والجهاد والدعاء ونسبق ذلك بالحديث عن الهدف أو النية حيث يجسد الهدف أو النية في الأعمال العبادية معطى صحياً ضخماً قد توفر الأرضيون على دراسته من حيث كونه مجرد هدف يرسمه الشخص لسلوكه، إلا أن انسحاب البعد العبادي عليه سيظل دون أدنى شك هو المالك للفاعلية الحقة للسلوك الصحي المطلوب.

المهم إننا سنحدثكم عن ذلك كله إنشاء الله في محاضرات لاحقة ونستودعكم الله سبحانه وتعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..