mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 41.doc

بسم الله الرحمن الرحيم  

حدثناكم في محاضراتنا السابقة عن ظاهرتي الحب والتوافق الاجتماعي انطلاقاً من الحديث عن المظاهر العامة التي ينبغي أن تسلكه الشخصية في صياغة علاقتها مع الآخرين، وكان هذا الحديث في الواقع منصباً على الحديث بالنسبة إلى السمات الاجتماعية حيث أوضحنا الطرائق التربوية التي تنظّم هذه العلاقات، أي علاقة الأشخاص بعضهم مع الآخر في شتى المستويات، وأما الآن فنتجه إلى طرح موضوعٍ آخر يتصل بالتربية أيضاً ألا وهو التربية العامة متمثلةً في جملة من المؤسسات الاجتماعية التي تتجاوز النطاق الفردي إلى النطاق الجماعي، ولعلكم تتذكرون جيداً أن أحاديثنا أو محاضراتنا كانت منصبة على علاقة الشخص مع ما يطلق عليه في مصطلح علم الاجتماع بالجماعات الأولية، من أسرة وقرابة وجوار وصداقة وما إلى ذلك.. أما الحال في الحديث يتجاوز هذا الجانب من العلاقات التي تسمى بعلاقات المواجهة أيضاً، أي أن الشخص يواجه شخصاً آخر في علاقاتها متجاوزاً ذلك إلى ما يسمى بالعلاقات غير المباشرة متمثلة في عدة مؤسسات كالمؤسسة الحكومية مثلاً أو المؤسسة الاقتصادية هما إلى ذلك من المؤسسات الأكثر عموماً كالأمة الإسلامية مثلاً أو مطلق الأمم.. الخ، إن الإسلام كما قدّم لنا توصياتٍ خاصة بالجماعات الأولية قدم لنا بدوره توصيات متنوّعة بالنسبة إلى الجماعات الثانوية متمثلةً في المؤسسات الاجتماعية المشار إليها.

من هنا نتحدث الآن عن مختلف أشكال التربية الجماعية كالتربية السياسية والتربية الاقتصادية والتربية العسكرية والتربية العامة.. الخ.

ونبدأ ذلك بالحديث عن العلاقات العامة حيث نتجاوز الآن العلاقات الخاصة التي حدثناكم عنها في محاضراتنا السابقة ونتحدث عن علاقات عامة نبدأها بالإشارة إلى مبدأ مهم يضعه الإسلام في الذروة من سلوك الشخصية تربوياً ألا وهو مبدأ (المؤمنون أخوة).

إن هذا المبدأ يعني أن التعاطف بين الإسلاميين يطال الهيكل الاجتماعي أو البناء بعامة بغض النظر عن العلاقات المباشرة فالأخوّة هي تحسيس على صعيد الأمة وليس على صعيد الجماعة أو المؤسسة أو الإقليم فحسب؛ بحيث يدرك كل واحد من المسلمين أنه مرتبط بعلاقة أخوة مع الأفراد الآخرين جميعاً، حتى لو لم تكن علاقة مباشرة فيما بينه وبينهم، وفي هذا الصعيد يواجهنا المبدأ المعروف القائل بما مؤداه بأن مثل المسلمين فيما بينهم كالجسد إذا تداعى عضو منه تداعى له سائر الجسد.. الخ، إن البناء الاجتماعي يظل بمثابة جهاز عضوي يتأثر كل عضو منه بالآخر، من خلال عمليتي التعاون أو التنافر اللتين تعكسان أثرهما على الجهاز المذكور، وإذا كانت بعض الاتجاهات الأرضية تنظر إلى المجتمع ككل من خلال كونه شبيهاً بالجهاز العضوي فإن التصوّر الإسلامي لهذه العضوية يظل موضع تأكيد لا تشكيك فيه، حيث أن التوصيات الإسلامية تأخذ هذه العضوية بنظر الاعتبار ما دامت السماء وهي قد أبدعت المجتمع البشري قد رسمت له طرائق سلوكه المفضية إلى تحقيق التوازن من خلال مختلف النظم الاجتماعية التي تترابط فيما بينها، بحيث إذا اختلّ أحد النظم كالأسرة مثلاً أو الاقتصاد ترك تأثيره على النظم أو المؤسسات الأخرى والأمر ذاته بالنسبة إلى إحدى الشرائح الاجتماعية المتصلة بالعلاقات العاطفية العامية، ونحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن تحقق المجتمع الإسلامي متعذر بسبب عزلة الأرضيين عن مبادئ السماء أو بسبب عدم التزام الإسلاميين بالمبادئ المذكورة حينئذ فإن ما هو ممكن ومتاح يفرض على الإسلاميين أن يتوفروا على تحقيقه وفي مقدمة ذلك مبدأ الأخوة العامة، حيث يعني هذا المبدأ أولاً أن يتعاطفوا فيما بينهم ويعني ثانياً أن تترتب الآثار الاجتماعية على التعاطف المذكور متمثلاً في مساعدة بعضهم الآخر.. كما لو علم بعضهم بوجود جائع في مكان ما مثلاً أو بوجود مدين أو صاحب شدة.. الخ.

طبيعياً يظل تحقيق التوازن الاجتماعي يظل نسبياً بقدر توفر الوعي أو الالتزام بالمبادئ الإسلامية من جانب وبقدر مساهمة الأجهزة الاجتماعية في ذلك من جانب آخر، فإذا كانت بعض الأجهزة الاجتماعية لا وجود لها كالدولة، أو إذا كانت فاعليتها محدودة كالمرجعية مثلاً حينئذ يتعذر تحقيق التوازن الشامل إلا في نطاق محدود نشير إليه عند حديثنا عن التربية الاقتصادية نظراً لترابطها مع الفاعليات الفردية وهذه الأخيرة أيضاً تظل فاعليتها نسبية بقدر حجم الأفراد الملتزمين بمبدأ الأخوة الإسلامية، وسوف نقتصر بالنسبة إلى هذه الظاهرة على الحديث عن المؤسسة الاقتصادية والمؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية ونتجه بعد ذلك إلى الحديث عن التربية العبادية متمثلة في جملة شعائر كالصلاة والصوم والحج.. الخ، حيث نكتفي بطرح بعض الشعائر تاركين الحديث عن الشعائر الأخرى إلى الطالب ذاته لأن الحديث عن الشعائر يتطلب عشرات المحاضرات لأن الشعائر ذاتها هي عشرات من الظواهر المرتبطة بكافة شؤون الحياة.

على أية حال نبدأ الآن فنتحدث بشيء عابر بطبيعة الحال لأن محاضراتنا لا تسع أكثر من ذلك فنتحدث أولاً عن المؤسسة الاقتصادية أو عن الطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك في التعامل الاقتصادي والحديث عن التعامل الاقتصادي في الواقع ينطوي على مستويين، مستوى العلاقة المباشرة ومستوى العلاقة العامة، وما دمنا نتحدث عن العلاقة العامة فينبغي أن نتحدث عن العلاقات الاقتصادية العامة، إلى أن الحديث عن ذلك ينبغي أن يلمّح من خلاله إلى العلاقة الخاصة أيضاً ونخصّ ذلك ببعض الحديث تمهيداً للحديث عن العلاقة العامة، ونقصد بهذا الأفراد الذين يتعاملون فيما بينهم من خلال العلاقات الاقتصادية التي يرسمها المشرع الإسلامي لهم، وهذا ما نسميه بالعلاقات الخاصة أي الخاصة بفردين أو أكثر كالبائع والمشتري مثلاً وأهمية مثل هذه العلاقات في الواقع لا تفترق عن سائر العلاقات التي حدثناكم عنها سابقاً من حيث البعد العبادي الذي يحكم هذه العلاقات وما يواكبه من قيم إنسانية تصب في نفس الأهداف التي لاحظناها.

العلاقات الخاصة

إن هذه العلاقات تترك في الواقع في مجالاتها التجارية والصناعية والزراعية وغيرها.. تستتبع في الواقع وجود علاقات خاصة بين البائع والعامل والأجير والمزارع والمحترف.. الخ، وبين الأطراف التي يتعامل وإياها، ومن الطبيعي أن لا نتعرض لهذه العلاقات ولا لمستوياتها التي تمسّ البحث الاقتصادي فحسب، بل نتعرض إلى الخطوط التربوية التي تخصنا في هذا الجانب، ونعني بها العلاقات التي تصب في رافد خاص هو الحب كما أشرنا إلى ذلك في محاضراتنا السابقة.

إن الحب وما يواكبه من عمليات التنازل عن الذات والإيثار والتعاون يظل في الواقع مجسداً لآلية ملحوظة في الأنماط الاقتصادية التي يطالبنا المشرّع الإسلامي بالتعامل حيالها، ويمكننا أن نكرر بأن الطابع الرئيس الذي يسم العلاقات الاقتصادية هنا هو عنصر التنازل عن الذات، فالنصوص الإسلامية تشير إلى أن يكون الإنسان سهلاً في بيعه وشراءه وقضاء دينه واستقضاءه.. الخ. كذلك تشير هذه التوصيات إلى أن يأخذ المشتري ناقصاً ويعطي البائع زائداً، وتشير هذه التوصيات إلى أن يربح البائع قليلاً، وتشير هذه التوصيات إلى عدم التلقي للركبان، وتشير هذه التوصيات إلى عدم بيع هذا لبادٍ.. الخ، فضلاً عن تحريمها أساساً لتعاملات استغلالية كالربا والاحتكار والغش وما إلى ذلك..

إن هذه المستويات من العلاقات التسامحية أو التنازلية عن الذات تصب في أهداف تربوية بالنحو الذي لاحظناه في جميع المظاهر التي حدثناكم عنها، أي جميع أو كل أنماط العلاقات التي تربط الأطراف الاجتماعية فيما بينها، وحين نتجه في الواقع إلى سائر أشكال التعامل الاقتصادي حيث ندع العمل التجاري مثلاً إلى العمل الزراعي نجد نفس القيم التي تحكم هذا النمط من التعامل فمثلاً النصوص الإسلامية تمنع من بيع النخل إذا حمل قبل جو إلا إذا كان لأكثر من سنة، نظراً لإمكانية أن يتلف الحمل لسنة واحدة مثلاً، وإمكانية تلافيه إذا كان لأكثر من سنة، كما تمنع استئجار المزرعة قبل إثمارها إلا لأكثر من سنة أيضاً للسبب ذاته، فالبيع والإجارة هنا محكومان بنفس القيم الأخلاقية التي تجعل من العلاقات سمة إنسانية تعتمد المحبة وتصدير الحب بدلاً من الانغلاق حول الذات وممارسة الاستغلال الاقتصادي، ويلاحظ أن الحرص على جعل البعد الإنساني هو الطابع العام للعلاقات الاقتصادية يبلغ قمته حينما نجد مثلاً أن بعض التوصيات تشير إلى ضرورة تحديد السعر في العمل الاستئجاري، ثم إعطاء الزيادة عليه بعد التسعيرة حتى لا يتحسس الأجير بأية إمكانية لأن يكون مغبوناً، بل نجد بعض التوصيات تطالب أحد الشريكين بعدم إغرار شريكه في حالة ما كان شريكه قد مارس خيانة حيال أخيه، المهم إن أمثلة هذه العلاقات مع أنها تصب في مسائل اقتصادية ولكن البعد الإنساني أو البعد القائم على تصدير الحب وليس البعد المادي القائم على الانغلاق حول الذات هو الذي يتحكم في صياغة ذلك..

والآن ننتقل إلى البعد الاقتصادي أو التربية الاقتصادية من حيث العلاقات العامة التي تطبع أو بالأحرى العلاقات الاقتصادية التي ينبغي أن يسلك حيالها عمل تربوي لتنظيمها بالنحو الذي يتطلبه الموقف الإسلامي، ونحن نعلم جميعاً أن الاقتصاد كظاهرة اجتماعية ينبغي أن تعالج هنا من خلال العلاقات التي تفرزها طبيعة العمليات القائمة على الإنتاج والتوزيع والتداول والاستهلاك، ومن حيث الظواهر الاقتصادية المترتبة على هذه العلاقات، وجميعاً نعلم أن الحاجات الحيوية كالحاجة إلى الطعام والشراب والحاجات المادية ذات الطابع الضروري كالمسكن والملبس وأدوات المنزل.. الخ، ما دامت هذه الحاجات تتطلب إشباعاً لا مناص منه حينئذ فإن تنظيمها وفق خطوط تربوية محددة يأخذ ضرورته أيضاً، من هنا نجد الاقتصاد يأخذ أهميته التربوية من خلال معالجته لمختلف أشكال العلاقات المترتبة على الضرورة المشار إليها.

ويلاحظ أن البحوث الأرضية تتفاوت في تحديد وجهات النظر حيال البعد الاقتصادي وما يفرزه من علاقات وظواهر إلا أن هناك شبه إجماع على أن البعد الاقتصادي يشكل أهم الأبعاد الاجتماعية من حيث فاعليته كما أن ارتباطه بالنظم الاجتماعية الأخرى يظل من الوثاقة بمكان كبير بحيث لا يكاد ينفصل عن أي نظام في هذا بخاصة النظام السياسي حيث يظل مرتبطاً بالنظام الاقتصادي بنحو يتعذر فصله أحدهما عن الآخر إلا في نطاق خاص.

المهم يعنينا أن نتجه إلى التصور الإسلامي لهذا الجانب من حيث إبرازه للعلاقات المترتبة اقتصادياً حيث أن المشرع الإسلامي في الواقع لا يفصل كما لاحظنا ما هو اقتصادي عن ما هو عبادي، فما دامت كل أشكال النشاط البشري توظف من أجل الممارسة العبادية حينئذٍ فإن البعد الاقتصادي تظل ممارسة للممارسة العبادية حينئذ فإن البعد الاقتصادي يظل بدوره موظفاً للممارسة المذكورة وهذا ينفي طبعاً عن الاقتصاد ذلك الحجم الذي يتحدث عنه الأرضيون ويضعونه في صدارة الظواهر المهمة  في الحياة، نقول إن التصور الإسلامي خلاف التصور الأرضي الذي لا يملك سوى هذه الحياة حيث يضطر فيها إلى أن يحقق إشباعه الاقتصادي بخاصة ولذلك يمنح هذه الظاهرة - أي البعد الاقتصادي - لا تضارعها أية أهمية للمؤسسات الأخرى، نقول إن الإسلام ما دامت الوظيفة العبادية تشكل الهدف لديه حينئذ يظل البعد الاقتصادي مجرد وسيلة إلى تحقيق هذا الهدف. ويمكن أن نقول بشكل عام أن التصور الإسلامي لمطلق حاجات الإنسان في الواقع ينطلق من مبدأ عام هو الإشباع بقدر الحاجة أو ما يطلق عليه مصطلح الكفاف ولذلك فإن تأمين الحاجات الفردية بطبيعة الحال في صعيد ما هو كفاف يظل هو المستوى الذي يعكس درجة الأهمية للبعد الاقتصادي، حيث لا يكتسب تلكم الدرجة التي يبالغ فيها الأرضيون الذين يبحثون عن الإشباع الزائد عن الحاجة بل يكتسب درجة تتناسب مع الكفاف أو الإشباع بقدر الحاجة، ومن الواضح أن المبدأ الاستهلاكي وهو الإشباع بقدر الحاجة يحتجز بطبيعة الحال من بروز أية مشكلة اقتصادية في ميدان البيع أو التداول أو التوزيع  بعكس المبدأ الآخر الذي هو إشباع زائد عن الحاجة وهو مبدأ أرضي ونعني به الإشباع المترف حيث يستتبع الإشباع المترف مشكلات منها:

1- تبديد الثروات العامة.

2- استنزاف دخول الأفراد.

3- حرمان فئات كبيرة من الإشباع العادي.

4- بروز ممارسات استغلالية من أجل زيادة الدخل كالربح الفاحش والربا والاحتكار والغش وما إلى ذلك..

طبيعياً إن مبدأ الإشباع بقدر الحاجة لا يضاد في الواقع ما نطلق عليه مصطلح الإشباع الكمالي أي الإشباع المعتدل الذي لا يصل إلى الترف إذا كان الإشباع الأخير أي المعتدل يتحقق مع المعطيات التالية:

1- يتعادل مع طبيعة الثروة العامة وتوزيعها العادل.

2- يقترن بشكر العبد لله سبحانه وتعالى على معطياته.

3- يتم هذا الإشباع بعد أن تنفق الشخصية ما عليها من واجبات كالإنفاق الواجب وحتى الإنفاق المندوب.

إن ما ينبغي أن نؤكد عليه هو أن الإشباع بقدر الحاجة يظل مبدءاً شخصياً يعكس أثره على الفرد دون أن يعني بالضرورة أنه ينسحب على الآخرين في ميدان التوزيع وحتى في ميدان الإنتاج، فالشخصية الإسلامية بصفتها فرداً مدعوة إلى أن تشبع الآخرين ما وسعها ذلك، دون أن تقتصر على ما هو ضروري سواء أكان ذلك في نطاق العائلة أو النطاق العام، أي أن الشخصية الإسلامية تمارس تطبيقاً للمبدأ المذكور، أي مبدأ الإشباع بقدر الحاجة وتطبق هذا المبدأ على ذاتها فحسب، لا أنها تطبقه على الأفراد الآخرين، كل ما في الأمر أن الآخرين أيضاً إذا اتجهت إليهم الوظيفة نفسها وهي ممارسة مبدأ الإشباع بقدر الحاجة عندها عندما يلتزم كل فرد بممارسة هذا المبدأ حينئذ يسحب أثره على الكل الاجتماعي، فمثلاً الفقير عندما يتسلم حصة زائدة على حاجته من خلال مطالبته بالإنفاق المندوب ثم ينفقها على الآخرين كذلك يظل مبدأ الإشباع بقدر الحاجة يظل سلوكاً عاماً يعكس أثره الذي أشرنا إليه وهو عدم استتباعه تبديد الثروة العامة.

إن ما يترتب عليه إمكانية الرفاه الاقتصادي العام والانتقال من ثم من مبدأ الإشباع بقدر الحاجة إلى مبدأ الإشباع الكمالي تساوقاً مع الآية الكريمة التي تقول: (قل من حرم زينة الله..) واقتران ذلك بطبيعة الحال بضرورة ممارسة الشكر لله سبحانه وتعالى، وأما في ميدان الإنتاج فإن مبدأ الإشباع بقدر الحاجة في الواقع لا يحتجز الشخصية من ممارسة مزيد من الإنتاج أو بالأحرى لا يحجزها عن البحث عن زيادة الدخل إذا كان ذلك بهدف الصالح الاجتماعي العام، بل يتعين عليها حيناً على نحو الفرض وحيناً آخر على الندب أن تتجه إلى زيادة إنتاجها إذا كان ذلك منصباً على الصالح الاجتماعي العام، حتى في صعيد البحث عن زيادة الدخل لا حرج في ذلك إذا كان الأمر مقترناً بممارسات عبادية كالحج مثلاً أو بهدف إنفاقي كمساعدة الآخرين، بل حتى لو كان الأمر لمجرد التعرض لمعطيات الله تعالى، فإن البحث عن زيادة الدخل يظل محكوماً بالطابع ذاته أي يظل عملاً مندوباً بصفته كونه عملاً استثمارياً يعكس أثره على الصالح العام، وهذا ما توفر عليه أحد قادة التشريع وهو الإمام الصادق (عليه السلام) حينما دفع بأموال لديه إلى أحد الأِشخاص ليتجر بها على نحو المضاربة قائلاً له بما معناه بأنه (عليه السلام) يهدف إلى التعرّض لمعطيات الله تعالى.

ننتهي من هذا جميعاً إلى أن الإشباع بقدر الحاجة في صعيد ما هو ذاتي أو أن الإشباع الكمالي في صعيد ما هو غيري وأحياناً حتى في صعيد ما هو ذاتي في سياقات عبادية خاصة يظل مبدءاً اقتصادياً تربوياً يعكس درجة الأهمية التي يهبها الإسلام للبعد الاقتصادي من حيث ضآلة أو ضخامة الدرجة، فمن حيث كونه مجرد وسيلة مادية حينئذ لا يكتسب تلك الأهمية التي يبادر الأرضيون بها إلا في حالة كونه يسحب أثره على أداء المهمة العبادية حيث تتضخم درجة أهميته بقدر إسهامه في تحقيق المهمة المشار إليها.

المهم أن الإشباع بعامة ما دام يجسد وسيلة للمهمة العبادية فلأن تأمينه يظل محوراً للنشاط الاقتصادي وبالمقابل فإن عدم تأمين ذلك يستجر في الواقع إلى بروز المشكلات الاقتصادية التي تجسدها ظاهرة الفقر، والحق أن الإسلام رسم خطوطاً واضحة لتلافي المشكلة المذكورة، بل إنه أخضع الطبيعة وثرواتها لتكييف خاص يتكفّل بتأمين الحاجات الاقتصادية فالنصوص الإسلامية تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى سخّر ما في الكون من الموارد لصالح الإنسان بحيث تتكيف هذه الموارد مع حاجاته مطلقاً، كما طالبت النصوص الإسلامية بممارسة العمل الاستثماري للموارد المذكورة، سواء أكان ذلك في ميدان الصناعة أو الزراعة أو التجارة أو الخدمات بعامة، مما يعني أن الثروات الكونية والقوى التي وهبها الله تعالى للإنسان ينبغي أن تستثمر لتأمين حاجاته وفي حالة العجز أو البطالة مثلاً فإن المشرع الإسلامي خطط لهذا الجانب وذلك من خلال الإنفاق للفائض من أموال الأغنياء حيث تشير النصوص إلى أن الله تعالى جعل الفائض من أموال الأغنياء بنحو يتناسب مع حاجة الفقراء بحيث إذا أدى الأغنياء ما عليهم من الزكوات والأخماس ونحوهما يتحقق الإشباع لدى الفقهاء جميعاً، بل إن المشرع الاقتصادي خطط أيضاً للحالات الطارئة التي يمكن في حالة ما إذا لم يلتزم البعض من أغنياء المسلم بأداء حقوقهم في هذه الحالة قد يشيع الموقف الفقر أو قلة الدخل لذلك خطط لها الإسلام من خلال مطالبته بالإنفاق المندوب تجسيداً للمبدأ القائل: (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) حيث أجاب المعصوم (عليه السلام) عن هذا الحق موضحاً أنه حق يتصل بالعمل المندوب وإلا فإن العمل أو الإنفاق الواجب شيء لا تعقيب عليه لأنه ضروري ولا يمكن أن يستغني الشخص عنه، وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى الحق المعلوم للسائل والمحروم ليشير بذلك إلى الإنفاق المندوب.

هذا كله في صعيد الممارسات الفردية، أما في صعيد التربية الرسمية أو المرجعية حينئذ فإن المؤسسة الاقتصادية تتكفل أساساً بسد الحاجات المشار إليها، أي الدولة أو المرجعية، إن الدول لتضطلع بتأمين الحاجات المرتبطة بتقوية المؤسسة السياسية في المجالات الأمنية والعمرانية وغيرها من جانب وتوفير الإشباع للموطنين من جانب آخر. مع ملاحظة أن مهمات الدولة الإسلامية في مجالات الاقتصاد تتحدد وفق خطوط خاصة من حيث تدخّلها ومستوياته، منحصرة في تحقيق الصالح الاجتماعي العام، وأما خارجاً عن ذلك فإن الحرية الاقتصادية للفرد تظل هي المظهر الاقتصادي لمجتمع الإسلام، أي أن مبدأ تدخل الدولة يفرض ضرورته في سياقات خاصة تصب في الصالح الاجتماعي العام، لذلك فإن الموارد الطبيعية مثلاً يظل بعضها ملكاً للدولة وبعضها للمواطنين جميعاً ما دام استثمارها غير ممكن للفرد من جانب واستتباع ذلك تجميعاً للثروة الطائلة من جانب ثان وحرمان الآخرين من حقوقهم من جانب ثالث، لذلك نجد أن قسماً من الثروات العامة تتملكها الدولة كالمعادن العامة مثلاً، وقسماً آخر يتملكه المواطنون وتشرف عليه الدولة من خلال إعطاءهم حصصاً معينة من محصولاتها كالأراضي الزراعية المفتوحة مثلاً وأهمية مثل هذا التدخل تتبع من خلال جملة خطوات  تصب جميعاً في الواقع في المصلحة العامة كما قلنا، ومن جملة الموارد التي تحقق المصلحة العامة منها مثلاً تأمين الميزانية للمؤسسة استثمار هذا المورد بدلاً من تبديد الثروة، إتاحة العمل للمواطنين، استهلاك نتاجها من قبل جميع المواطنين، أو إخضاعها لظروف خاصة مثل إعطاء هذه الأرض لمن يستثمرها أو انتزاع هذه الأرض من الشخص الذي أهملها أو اقترانها بضرائب أو المشاركة بحصص منها للدولة وهكذا..

إن هذه الشروط التي وضعها الإسلام لا مناص منها لبداهة أن المشاركة أو الضريبة ضروريتان لميزانية الدولة وإن إعطاءها لمن يستثمرها هي إفادة للمواطن وانتزاعها من المواطن إذا كان مهملاً لها إفادة للمواطنين الآخرين، فالأول يستفيد منها من حيث دخله الفردي والآخر ينتفع منها من حيث استهلاكه وهكذا..

إن هذا المبدأ من التدخل يمثل مبدءاً ثابتاً في الحالات جميعاً، وهناك نمط من التدخل يتسم بكونه طارئاً حيث تفرضه ظروف خاصة كقلة الطعام مثلاً أو قلة مطلق الحاجات الضرورة حيث تتدخل الدولة هنا لتمنع من عملية الاحتكار تأميناً لحاجات الناس.

هنا ينبغي أن نقول بأن التدخل في الواقع يظل محكوماً بمتطلبات المصلحة العامة وأن الحرية الفردية خارجاً عن هذه السياقات  تظل هي الطابع العام للعلاقات الاقتصادية التي تربط الأطراف جميعاً.

أخيراً ينبغ أن نضع في الاعتبار أن البعد الاقتصادي في الواقع لا يتميز عن الأبعاد الأخرى بكونه يفرض على الإسلاميين أن يتحركوا تربوياً من خلال ما هو ممكن ومتاح، ففي حالة غياب المؤسسة الحكومية أي الدولة الإسلامية التي تتكفل بالمهمات المشار إليها في ميدان تأمين الحاجات تظل المرجعية متكفلة بذلك، وفي حالة حدود المرجعية أو محدوديتها تظل العلاقات الفردية هي المتكفلة بتحقيق ذلك ما دام المبدأ الإسلامي القائل بأن الفائض من أموال الأغنياء يتكفل بإشباع الفقراء يحسم كل خلاف في وجهات النظر الاقتصادية التي تربط ذلك بالدولة وتخطيطها مضافاً إلى أن التوصيات الإسلامية الذاهبة مثلاً إلى أن توزيع الأخماس والزكوات والكفارات وما إليه يبدأ من داخل المدينة التي ينتسب إليها أصحاب الأموال إلا في حالة عدم وجود الفقراء فيها إنما تأخذ بنظر الاعتبار طبيعة التوزيع السكاني الذي يتناسب مع طبيعة التوزيع الاقتصادي المشار إليه، كذلك إن التحديد الذاهب إلى توجيهها حسب الانتساب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو العامي يأخذ بدوره طبيعة التوزيع السكاني بنظر الاعتبار أيضاً من زاوية عامة. إن أمثلة هذا التوزيع تظل بطبيعة الحال غائبة عن التصورات الأرضية المنعزلة عن مبادئ السماء.

أخيراً ينبغي أن نضع في الاعتبار أيضاً أن الإشباع الاقتصادي مثله مثل سائر الظواهر العبادية في الإسلام يرتبط من جانب بالهيكل العام للمجتمعات وبالممارسات الفردية من جانب ثان وبالتجربة العبادية من جانب ثالث، فإذا كان التلكؤ في الصعيد الفردي كما لو امتنع الأغنياء مثلاً عن أداء ضرائبهم، أو كما لو تكاسل الناس عن المضي في مناكب الأرض حينئذ فإن أمثلة هذا السلوك يسهمه دون أدنى شك في إشاعة الفقر، لأن ممارسة الانحراف تفضي إلى أمثلة هذه النتيجة حيث أن التقريرات أو بالأحرى التوصيات أو الملاحظات العيادية الإسلامية تشير بشكل واضح إلى أن الجزاءات الجمعية أو الفردية التي تصيب البلاد أو الأفراد تظل ذات ارتباط بنمط المعاصي أو الذنوب أو الانحرافات التي يصدر عنها الأفراد أو المجتمعات، لذلك فإن السماء ترتب أثراً اقتصادياً على هذه الانحرافات سواء أكان هذا الأثر مباشراً كالجدب مثلاً أو غير مباشر كما لو تسلط المفسدون في الأرض وتسببوا في إتلاف الثروات الطبيعية مثلاً، يضاف إلى ذلك أن التجربة العبادية وهذا ما يجسد سمة إيجابية بطبيعة الحال تفرض في سياقات خاصة ظواهر للفقر بعامة أو نقصاً في الثمرات اختباراً للتجربة العبادية التي تمتحن البشر في مواجهتهم للشدائد، لذلك إن التخطيط الاقتصادي تربوياً في مجتمعات الأرض يرتطم بغيابه عن تفقه هذه المفهومات العبادية في معالجتها للفقر مثلاً أو في تثمينها أحياناً للفقر في سياقات خاصة أو في تكييفها الاختباري أو الامتحاني من حيث التفاوت بين الأفراد بالنسبة إلى دخولهم الاقتصادية فيما تشير النصوص الإسلامية إلى أن الله تعالى وسّع أو قتّر على البشر أرزاقهم تبعاً لمتطلبات الحكمة أولئك جميعاً ينبغي أن يضعه المربي الاقتصادي في الاعتبار عند معالجته للظواهر والعلاقات الاقتصادية في الإسلام.

بهذا نكتفي بالحديث عن ظاهرة الاقتصاد وما ينتظمه أو ما تنتظمه من علاقات بين مختلف الأفراد والجماعات والمؤسسات وما يترتب على ذلك من عمليات تربوية ينبغي أن تسلك على كافة الصعد حتى ينتظم الاقتصاد بشكله الإسلامي المطلوب. بعد هذا نتقدم إلى الحديث عن مؤسسة أخرى هي المؤسسة السياسية ونخصّها بشيء من الحديث العابر أيضاً.

الدولة

يمكن أن نقرر هنا في هذا الجانب أن المؤسسة السياسية أو الدولة تظل ظاهرة مرتبطة أيضاً بالعلاقات الاجتماعية بين مجموعة من الناس يعيشون في أرض محدودة وبين مؤسسة خاصة ترعى مختلف شؤونهم أمنياً وإدارياً ورعاية عامة، وأهمية دراستنا لأمثلة هذا الجانب تتمثل في ذهاب المعنيين بشؤون الدولة وبخاصة علماء الاجتماع في إشارتهم إلى أن الدولة تمثل ضرورة لا مناص منها في قيام المجتمعات واستمراريتها وتوازنها، وإن قيام الدولة قد خبرته مختلف المجتمعات قديماً وحديثاً حيث قدم هؤلاء العلماء وجهات نظر مختلفة في تفسير مفهوم الدولة كإرجاع بعضهم ذلك مثلاً إلى مشيئة الله تعالى من خلال مهمة الأنبياء (عليهم السلام) ومثل ذهاب البعض إلى أنها شكل للتنظيم العائلي والتنظيم القبلي.. الخ، ومنه ذهاب البعض إلى أنها نتيجة للغلبة العسكرية التي تستتلي قيام مؤسسة تنظم شؤون الناس حفاظاً على مصالحهم، ومنها التفسير التقليدي المعروف الذي يرجع ذلك إلى نظرية العقد الاجتماعي.. الخ.

أما إسلامياً فهذا هو ما يهمنا أن نعرض له حتى ننظم الوسائل التربوية لهذه المؤسسة فنقول:

لا ترديد في أن مهمة الأنبياء منذ أول تجربة في الأرض متمثلة في آدم (عليه السلام) وخلفاءه وانتهاء بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واستمراريتها إلى آخر الحياة، هذه المهمة قد اقترنت بقضايا التنظيم لمختلف السلوك البشري بشكل أو بآخر، ولا أدلّ على ذلك من ملاحظة حكومة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث جسّدت مفهوم الدولة ووظائفها بجلاء في شتى الميادين، سياسياً وإدارياً وعسكرياً واقتصادياً.. الخ، كما أن التوصيات الإسلامية تؤكد ضرورة قيام الدولة بشكل أو بآخر تحقيقاً للأهداف التي تمت الإشارة إليها، كل ما في الأمر أن التصور الإسلامي للدولة يتميز عن التصور الأرضي لها بكونه ينطلق من مبادئ عبادية لابد من مراعاتها انسجاماً مع سائر المؤسسات الاجتماعية التي تنظمها المبادئ المشار إليها، لذلك فالمستوى العملي من الممكن أن يتحقق وجود الدولة بمعناه الإسلامي في حالة التزام المسيطرين عليها بمبادئ الإسلام كما أنه من الممكن أن تبرز مجتمعات إسلامية دون أن تتوفر أركان الدولة فيها ما دامت الدولة مقترنة بقوى عسكرية تفرض هيمنتها على المجتمعات، لكن دون أن يمنع ذلك قيام مؤسسات خاصة تضطلع بتنظيم شؤون الناس كالمؤسسة المرجعية مثلاً.

على أية حال إن الإسلام في الواقع في الحالات جميعاً يشير إلى مبدأ اجتماعي عام هو ضرورة قيام الدولة سواء أكانت إسلامية أو حتى منحرفة ما دامت طبيعة الحياة الاجتماعية تفرض على المجتمعات أن تسيطر عليها مؤسسة تضطلع بتنظيم شؤونها، لذلك نجد أن الإمام علياً (عليه السلام) قد أطلق كلمته المشهورة في نقاشه مع الخوارج في هذا الميدان من أنه لا مناص للناس من إمام بر أو فاجر لتنظيم شؤونهم، طبيعياً إن هذا لا يعني إضفاء المشروعية على قيام الدولة المنحرفة بقدر ما يعني الإشارة فحسب إلى مبدأ اجتماعي لا مناص منه في قيام المجتمعات واستمراريتها وإلا فإن التصور الإسلامي للدولة يقوم على ضرورة قيامها وفق المبادئ الإسلامية حيث لا تجوز المشاركة في قيام الدولة المنحرفة أو إدارتها بل العكس نجد أن التوصيات الإسلامية تطالب بأن لا نتعاون مع أية مؤسسة غير إسلامية وهذا من الوضوح بمكان كبير.

المهم إن العمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك حيال هذا الجانب سنحدثكم عنها إنشاء الله في محاضرات لاحقة..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..