mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 23.doc

الدوافع الحيوية

 

انتهينا في محاضرتنا السابقة من الحديث عن الدوافع النفسية والطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك في تنظيم هذه الدوافع، أما الآن فنتجه إلى النمط الآخر من الدوافع ألا وهي الدوافع الحيوية أو البيولوجية والعمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك حيالها والدوافع الحيوية تمثل دوافع متنوعة في مقدمتها الدافع إلى الطعام والشراب والنوم والجنس وما إلى ذلك.. حيث يتطلب إشباع هذه الدوافع صيغاً نفسية خاصة تساهم في بناء الشخصية العبادية المطلوبة وفق التصور الإسلامي للصيغ المذكورة، ومن الحقائق الواضحة في حقل الحقائق النفسية، أن الكائن الآدمي لا تنفصم دوافعه النفسية الخالصة عن دوافعه الحيوية بقدر ما تحكم ذلك قوانين الوحدة بين نمطي الدوافع، أي الدافع النفسي والدافع الجسمي، ويتمّ ذلك عادةً إما من خلال عملية تحويل ما هو بيولوجي إلى ما هو نفسي أو عملية تصعيد لما هو بيولوجي أو تأجيل لإرضاء الحاجات المشار إليها، وإخضاعها إلى جهاز القيم المعنوية لدى الإنسان.

ولعل أوضح نموذج للنمط الأول من وحدة كل من السلوكين الحيوي والنفسي هو سلوك الطفل، فأنتم تلاحظون مثلاً أن الطفل يبدأ في مستهل حياته بالبحث عن إشباع حاجته إلى الطعام، والأم عادة تجسد مصدر إشباعه المذكور، وبمرور الزمن تحدث علاقة ارتباطية بين الحاجة وهي الحليب وبين مصدرها وهي الأم فتتحول محبة الطفل لحليب الأم إلى محبةٍ للأم في نهاية المطاف.

إلا أن التأجيل للحاجات الحيوية وهو نمط آخر من وحدة السلوك النفسي والجسدي يظل في الواقع هو الصياغة المثلى لسلوك الإنسان بعامة، متمثلاً في تدريب الطفل وتربيته على تنظيم أوقاته للطعام مثلاً وتحديد مقاديره، واختيار النوع الملائم له، وكلها تتطلب تأجيلاً متواصلاً لحاجات الطفل حيث يضطر إلى أن يصبر حتى يحين الموعد ويضطر إلى أن يتناول مقداراً خاصاً من الطعام لا مطلق ما يشتهيه ويضطر إلى تناول النوع الذي يتلاءم وصحته، لا مطلق ما يحبه من الطعام وهكذا..

وما يقال عن الطعام يتسرّب أيضاً إلى سائر الحاجات الحيوية الأخرى كالجنس والنوم ونحوهما.. مما يعني أن إشباع الدوافع لا مناص من إخضاعها لعملية تنظيم تربوي يتكفل البعد النفسي من الشخصية بممارسته وهو أمر يسهم في صياغة الكائن الآدمي بنحوٍ له أثره في محددات كل من مفهومي السوية أو العصاب، وانعكاس ذلك على مجمل سلوك الشخصية، وبما أن هدفنا الآن من هذه المحاضرات هو رسم المبادئ التربوية المجسّمة لما هو صحي أو رسم مبادئ الصحة النفسية وفق التصور الإسلامي لها من خلال تنظيم ما هو حيوي من الدوافع حينئّذ يتعين علينا عرض عمليات التنظيم التي رسمها المشرع الإسلامي للحاجات الحيوية وانعكاساتها على الصحة العقلية والنفسية كلتيهما.

ونبدأ بالحديث عن الحاجة إلى النوم، نكرر العنوان الجديد وهو (الحاجة إلى النوم). ومن هذا العنوان سوف نطرح جملة من الموضوعات التي اعتادت التربية وعلم النفس طرح ذلك في مختلف المجالات المتصلة بظاهرة النوم وما يتطلبه من صيغ خاصة وما يواكبه من أكثر من سلوك نبدأ الآن فنتحدث عنه ونقول:

النوم يشكل واحداً من الحاجات ذات الأصل الحيوي لدى الكائن الآدمي؛ بحيث يجسد حاجة أولية لا مناص من إشباعها، ولا يمكن ممارسة أي تأجيل حيالها، أي لابد من أن تنام الشخصية مقداراً من الزمن وإلا تعرضت الحياة إلى تلف، ومن البين أن بعض الدوافع الحيوية كالدافع الجنسي مثلاً من الممكن أن يمارس تأجيل حياله دون أن يترتب على ذلك تلف جسمي أو عقلي، بخلاف النوم حيث يتطلب حداً أدنى من الإشباع، بحيث تتوقف حياة الكائن الآدمي عليه جسمياً ونفسياً وعقلياً، وقد أشارت التصورات والأبحاث الأرضية إلى هذا الجانب عبر أكثر من تجريب قدمته في هذا الصدد ومنه الدراسة التي أجراها أحد علماء النفس والتربية حيث أوضح من خلال هذه الدراسة التجريبية أن انعدام النوم ليومين مثلاً يسبب هلوسة، أي مرضاً عقلياً، واستمرار ذلك لأربعة أيام يسبب فقدان الذاكرة أساساً واستمرار ذلك لأسبوع يشل الشخصية عن فاعليتها الجسمية والعقلية والنفسية.

هذا إلى أن أحد الاتجاهات الأرضية وهو الاتجاه الشرطي الذي يمثل إحدى مدارس علم النفس والتربية المعاصرة، هذا الاتجاه جعل من النوم بصفته كفاً وقائياً حسب مصطلح هذا الاتجاه لخلايا النصفين الكرويين للدماغ جعله واحداً - أي النوم - من أهم أشكال العلاج الفعّال للأمراض النفسية والعقلية ورتّب عليه آثاراً خطيرة في هذا الميدان، المهم يمكننا الآن أن نتمثل ذلك في نصوص متنوّعة تشير إلى عدم إمكان التأجيل في إرواء هذه الحاجة ونقصد بالنصوص بطبيعة الحال هنا النصوص الإسلامية بعد أن أوضحنا النص الأرضي الذي يجسد هذه الحقيقة، وبعد أن عرفنا جميعاً أو أن كل واحد منا يعرف تماماً من خلال التجريب اليومي أننا لا يمكن أن نستغني عن النوم البتة كما لا يمكن أن نستغني عن الطعام والشراب والتنفّس وما إلى ذلك..

نقول نتجه إلى التصور الإسلامي لملاحظة ما يشير إليه من التقريرات أو الملاحظات العيادية حيث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع) هنا يسري الإمام الصادق (عليه السلام) جملة دوافع ومنها (النوم واليقظة) كما أن القرآن الكريم ألمح إلى ضرورة ذلك في قوله تعالى: (وجعلنا نومكم سباتاً) مشيراً بذلك إلى أهمية النوم من حيث سكون الروح والبدن حتى يستطيع معاودة نشاطهما. وحسب إشارات الطب الجسمي فإن هذا السكون يتمثل في إزاحة إفرازات كيميائية خاصة تتجمّع في الدماغ بحيث يتسبب عدم إروائها في إلحاق أنماط من الأذى بالكائن الآدمي، إلا أن إرواء هذه الحاجة يظل في التصور الإسلامي محكوماً بقدر الحاجة وأما الزائد عليها فيتحول في الواقع إلى نتيجة مضادة تماماً، أي إن النوم يظل مجرد وسيلة للعمل العبادي يتحدد مقداره بمقدار الحاجة إليه فإذا زاد عن الحاجة المذكورة تحول النوم إلى ممارسة سلبية، لذلك نجد أن التوصيات الإسلامية تحذر من النوم الزائد عن الحاجة، وهذا من نحو ما ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أي موسى بن جعفر (عليه السلام) قوله: (إن الله عز وجل يبغض العبد النوّام الفارغ) وكذلك قول الصادق (عليه السلام): (كثرة النوم مذهبة للدين والدنيا)، بصفة أن الزائد عن الحاجة يختزل من فرص الحياة والآخرة من حيث توفر الإشباع.

وأياً كان فإن ممارسة النوم تظل في التصور الإسلامي محكومة بقدر الحاجة، أي بقدر ما يحقق التوازن الحيوي والنفسي للشخصية وحرصاً على تحقق مثل هذا التوازن يجيء تنظيمه في التصور الإسلامي أمراً لافتاً بحيث يرسم توصيات مختلفة في هذا الميدان تتصل خاصة بتنظيمه زمنياً وانعكاس هذا التنظيم على كلٍّ من الصحة النفسية والعقلية. إذن لنتقدم إلى هذه التوصيات ونبدأ ذلك بالحديث عن النوم وصلة النوم بالليل تحت عنوان (النوم والليل).

يلاحظ أن ثمة اتجاهاً يذهب إلى أن النوم يكتسب فاعليته في زمان الليل طبقاً لبعض التوصيات المرتبطة بالطب الجسمي والنفسي العلمانيين، وقد يرتكن هذا الاتجاه أيضاً إلى إشارة القرآن الكريم عبر قوله تعالى: (يتوفاكم بالليل) حيث تشير الآية بوضوح إلى الموقع الزمني من النوم، لكن هل أن القناعة بهذا الاتجاه، أي فاعلية النوم في الليل، لا تعني أن النوم في كل حالاته ينحصر من حيث الفاعلية في زمان الليل بقدر ما تعني واحدة من أزمانه، أي أن الليل هو واحد من أزمان الليل لا أن النوم ينحصر في الليل، ودليلنا على ذلك هو القرآن الكريم نفسه، حيث يشير في آية أخرى إلى اشتراط كل من الليل والنهار في فاعلية النوم، تقول الآية الكريمة: (ومن آياته مناكم بالليل والنهار) هذا يعني أن النهار أيضاً يشكل زماناً يتحقق فيه إرواء الحاجة إلى النوم، هذا إلى أن التوصيات التي سنقف عندها مفصلاً تطالبنا بممارسة النوم وتطالبنا بعدم ممارسته أيضاً في أزمان معينة من الليل ومن النهار، رابطة بين الحالات الممنوعة والحالات المندوب إليها، وبين انعكاساتها على الصحة العقلية والنفسية مما يعني أن انحصار النوم في أحدهما يسبب تضييعاً لمعطيات صحية أو إسهاماً في فرض سمات وأعراض مرضية نشير إليها في حينه إنشاء الله.

أكثر من ذلك تجيء التوصيات الإسلامية مطالبة بقيام الليل بدلاً من النوم فيه؛ وهذا كله يقودنا إلى التشكيك بالاتجاه الأرضي المذكور وضرورة صياغة قناعة مضادة تماماً هي أن النوم من حيث انحصاره وما يترتب على ذلك من المنعكسات العقلية والنفسية في أزمنة خاصة من اليوم موزعة على الليل والنهار بنحو يجيء النوم أو عدم ذلك فيها إما سبباً لظهور أعراض مرضية أو تضييعاً لسمات صحية، ولعلّ أول ما يطالعنا في هذا الميدان هو المطالبة بقيام الليل بنحوٍ عام، حتى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوضح الحقيقة المذكورة حينما قال: (ما زال جبرئيل يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لن يناموا) وفي توصية أخرى ورد القول: (إياك وكثرة النوم بالليل) وفي توصية ثالثة: (شرف الرجل قيامه بالليل)، انظروا إن هذه التوصيات مضافاً إلى توصيات أخرى تطالب بإحياء الليل وتبارك الأشخاص الذين يتسمون بالجفون الذابلة فضلاً عن التوصيات المشيرة إلى أن قلب المؤمن أقوى من بدنه، أولئك جميعاً توضح أن قيام الليل وليس النوم هو الذي يكسب الشخصية طابع الصحة، أي قوة القلب حسب إحدى التوصيات مما يعزز ذلك كله الذهاب إلى أن الليل كما كررنا عديم الفاعلية وأنه من الممكن أن يعوّض بالنهار طبقاً لتوصيات أخرى سنقف عندها بعد قليل إنشاء الله تعالى.

على أن التوصية بقيام الليل لا تعني انعدام فاعليته بنحو مطلق بل يجيء واحداً كما قلنا من آناته موضع التوصيات الإسلامية ألا وهو النوم المبكّر، إذن سوف نختار عنواناً جديداً هو (النوم المبكر) ونسلط الأضواء على هذا النوم وما تترتب عليه من فاعليات نفسية وعقلية.. الخ.

في دراسة تجريبية حديثة عن مراحل النوم ودرجات عمقه أظهر الجهاز الملتقط للتيارات الكهربائية الصادرة عن المخ عدة مراحل للنوم، كانت من خلاله مرحلة النوم قبل أن ينتصف الليل تأخذ سمة العمق بالقياس إلى سائر مراحل النوم في الليل، كما أظهر التجريب الأرضي المذكور أن عمق النوم يستغرق مسافة زمنية في هذا الزمن أكثر من سواها، ونحن لا يعنينا في الواقع من هذا التجريب الأرضي إلا تأكيده على التوصية الإسلامية التي تقرر على لسان الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (إن شيعتنا ينامون أول الليل) من حيث انعكاس وعمق إرواء الحاجة إلى النوم وانعكاس ذلك من ثم على الصحة العقلية والنفسية وهو أمر يمكننا أن نستخلصه بوضوح حينما نتابع التوصيات المختلفة التي تتناول بخاصة انتصاف الليل. إذن سوف نتجه الآن إلى عنوان جديد هو (انتصاف الليل)، فماذا نجد من التوصيات الإسلامية حيال هذه الظاهرة؟!.

ثمة توصية تقول على لسان المعصوم (عليه السلام): (إنما على أحدكم إذا انتصف الليل أن يقوم وو..الخ) كما أن توصيات متنوعة تشير إلى السحر كالآية الكريمة: (وبالأسحار هم يستغفرون)، وتشير نصوص إلى الثلث الأخير من الليل وامتداده إلى طلوع الفجر مما يعني انعكاس ذلك على الصحة النفسية والعقلية والجسمية، وهو أمر توضحه بجلاء توصيات من نحو قول الإمام الصادق (عليه السلام) بالنسبة إلى صلاة الليل في الأزمنة المذكورة أنها (تحسّن الوجه وتحسّن الخلق وتطيب الريح وتذهب بالهم وتجلو البصر) إن هذا النص ينطوي على الإشارة إلى جملة من السمات النفسية مثل حسن الخلق وجلاء الهم وهما من أبرز السمات التي يرسمها علماء النفس العياديون عن الشخصية السوية، فأولهما وهو (حسن الخلق) يظل سمة الشخصية المتوافقة اجتماعياً وثانيهما وهو (ذهاب الهم) يجسد خلو الشخصية من التوتر الداخلي أي الشخصية المتوافقة داخلية وكلتاهما تمثلان كما قلنا سمة الاستواء، وهذا كله فيما يتصل بالمعطيات النفسية أما فيما يتصل بالمعطيات الجسمية لقيام الليل فأمر أشارت التوصية المذكورة إلى جملة منها مما لا يدخل الآن في نطاق دراساتنا النفسية لأن الطب الجسمي شيء والدراسات التي نتحدث عنها بالنسبة إلى الظاهرة النفسية والتربوية شيء آخر.

وهذا كله كما قلنا يتصل بالمعطيات النفسية بالنسبة إلى قيام الليل في الأوقات المشار إليها، وذلك يقتادنا إلى أن نستخلص من أن فاعلية النوم في أول الليل لها أهميتها وإلى أن قيام الليل منذ انتصافه إلى نهايته يسهم في تحسين الصحة النفسية والجسمية على نحو ما أشارت التوصيات الإسلامية إليه وعلى نحو ما انتهى إليه التجريب الأرضي في بعض تصوراته. وهذا جميعاً يتصل بالليل.

أما النوم والطريقة التنظيمية في النهار فيظل محكوماً بدوره بتوصيات مماثلة من حيث انعكاس ذلك على الصحة النفسية حيث نلحظ ثمة توصيات تطالب بعدم النوم في بعض الأوقات من النهار وتطالب به في أوقات أخرى موضحة أن ذلك إما أن يقترن بتسبيب أعراض مرضية كالنوم بين طلوع الفجر والشمس وكالنوم عصراً أو يقترن بالأعراض المذكورة في حالة عدم ممارسة نوم خاص في زمن خاص يطلق عليه نوم القيلولة.

والآن لنقف عند هذه الأزمنة الثلاثة لملاحظة انعكاساتها النفسية والعقلية على الشخص في ضوء التصور الإسلامي لتربية وتنظيم هذه الحاجة، نقف أولاً عند زمن بين الطلوعين؛ وننتخب هذا العنوان وهو (بين الطلوعين) فنقول:

هذه المرحلة الزمنية تظل موضع تشدد بالغ المدى في لسان التوصيات الإسلامية من حيث المطالبة بعدم النوم فيها حتى أنها لا تقف عند مجرد تضييع فرص الاستواء للشخصية كما هو الشأن مع عدم قيام الليل، بل تتسبب في بروز الأعراض المرضية النفسية والجسمية ولنقرأ على سبيل المثال تحذير الإمام الصادق (عليه السلام)  في قوله: (نوم الغداة شؤم يحرم الرزق ويصفر اللون) وهناك تحذير آخر يقول: (النوم أول النهار خرق) والخرق هو الغلظة والفظاظة، ولا تعليق لنا على التوصيتين اللتين تشيران إلى أعراض جسمية وهو اصفرار اللون وعرض نفسي هو الغلظة فضلاً عن الإشارة لظاهرة أخرى تتصل بالدافع إلى التملك أي الرزق والإشارة إلى الشؤم بنحو عام، هذا فيما يتصل بالنوم بين الطلوعين حيث جاءت التحذيرات متنوعة لكننا نكتفي بما قدمناه ونذكر الطالب بأن التجريب الأرضي أيضاً انتبه على هذا الجانب فخصص هذا الوقت بين الطلوعين الممتد ساعة ونصف أو أكثر أخضعه لتجارب متنوعة تبين من خلالها أثر فعاليات الجلوس في مثل هذا الوقت مما لا يدخل الآن في نطاق دراساتنا حول العمليات التربوية المنظمة للنوم.

وأما فيما يتصل بأبرز سمة عقلية تحذرنا التوصيات الإسلامية منها تتمثل في زمان آخر من أزمنة النهار ألا وهو العصر، إذن لننتخب عنوناً جديداً هو (العصر) لنتحدث عنه من خلال التوصيات الإسلامية في تصوراتها لنوم العصر.

تقول إحدى التوصيات: (النوم بعد العصر حمق) والحماقة كما هو بين عرض نفسي وعقلي لا يحتاج إلى التوضيح بقدر ما يتصل الأمر بضرورة التنبيه على أمثلة هذه التوصيات التي لا يزال علم النفس التربوي الأرضي غائباً عن اكتشاف أسرارها واستخلاص البعد البيئي وصلته بالأعراض النفسية المذكورة. المهم إن الأعراض المذكورة إذا كانت ناجمة بسبب من النوم في أزمنة محددة كالزمن بين الطلوعين والعصر فإنهما على العكس تماماً من النوم في أحد أزمنة النهار وهو منتصفه حيث أن التوصية الإسلامية تشير إلى أن النوم في هذا الوقت يسهم في تنمية بعض المهارات العقلية المتمثلة في تقوية الذاكرة، وهذا ما يصطلح عليه بنوم القيلولة، ولعل هذا النمط من مرحلة النوم في منتصف النهار يجسد موضع مطالبة خاصة في لسان النصوص الإسلامية بحيث يسهم كما قلنا في تنمية المهارة العقلية الذاكرة، وبعكسه أي عدم النوم في الوقت المذكور يسبب عرضاً مضاداً للذاكرة ألا وهو النسيان، ولنقرأ هذا النص الوارد عن المعصوم (عليه السلام):

(أتى أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إني كنت ذكوراً وإني صرت نسياً؟ فقال: أكنت تقيل؟ قال: نعم. قال: وتركت ذلك؟. قال: نعم. قال: فعد. فعاد فرجع إليه ذهنه).

هذه التوصية تلاحظون أنها تتضمن علاجاً طبياً لظاهرة إدراكية هي النسيان كما تتضمن إرشاداً طبياً إلى ما يضاد السمة المذكورة وهو زيادة الحفظ كما رأيتم.

خلاصة الكلام هو أن التصور الإسلامي لظاهرة النوم وطريقة تنظيمه يظل كما لاحظتم متصلاً بسمات عقلية ونفسية وجسمية تأخذ محدداتها إيجاباً أو سلباً بقدر مراعاة التنظيم المذكور أو عدمه على نحو ما فصلنا الحديث عنه وهو تنظيم تظل التصورات الأرضية على صلة به في بعض دراساتها في حين يظل البعض الآخر غائباً عن معطيات التصور الإسلامي في هذا الميدان.

والآن وقد انتهينا من الحديث عن النوم بصفته واحداً من الدوافع الحيوية المركبة في الطبيعة البشرية، ننتقل بعده إلى حديث آخر يتصل بما يواكب هذا النوم من فعاليات لها أيضاً أثرها في العمليات التربوية التي تضطلع بتنظيم دوافع الإنسان ألا وهو ظاهرة الأحلام، إذن سوف نقف عند عنوان جديد هو (الأحلام).

إن الأحلام في التصورات الأرضية المعاصرة تعد فعالية لاشعورية تحدث خلال النوم؛ أي فعالية خارجة عن رقابة الشعور ومع أن الاتجاهات النفسية تتمايز فيما بينها من حيث تفسيرها لمادة الحلم وبطانته إلا أن هذه التصورات العلمانية تتفق جميعاً على أن الحلم تتألف مادته من أحداث أو ذكريات قريبة أو بعيدة أو مترابطة أو أن بطانته، أي محتوى الحلم، هي رغبات أو أفكار تأخذ سمة التشوش وانعدام المنطق في حالة تشكلها حلماً، إلا أنها في الحالات جميعاً تعبّر عن دلالة ذات صلة منطقية بمواقف الشخص وتركيبته. فالاتجاه التحليلي مثلاً يرى أن الأحلام تعبير مقنّع عن رغبات مكبوتة، تأخذ طريقها إلى الظهور عند غياب الوعي، أي عند النوم. وأما الاتجاه الشرطي فيرى أن الأحلام حصيلة ذكريات قديمة يفرضها مظهر فسلجي عابر هو النوم بحيث تأخذ شكلاً عشوائياً نتيجة لتفكك الأداء الوظيفي للمخ في حالة النوم المذكورة.

وتقر هذه الاتجاهات الأرضية بفائدة الحلم بنحو عام سواء أكانت هذه الفائدة متصلة بمعرفة الرموز التي ينظمها الحلم أم كانت الفائدة جسمية يحققها الحلم للشخص، وقد أوضحت إحدى التجارب المعاصرة  مبلغ الحاجة إلى الحلم وانتهت إلى حرمان الشخصية من الحلم يفضي إلى التوتر وهبوط الذاكرة وما إليهما من الأعراض، فضلاً عن انعكاس ذلك على حاجات حيوية كالطعام وسواه.

هذا فيما يتصل بالتصور الأرضي ومدارسه حيال الأحلام ولكن ما هو التصور الإسلامي في هذا الصدد نقول: التصور الإسلامي للحلم يتلاقى في بعض خطوطه مع التصور الأرضي المذكور، ولكنه يفترق عن التصور الأرضي في سائر الخطوط التي يلمّ بها، حيث يظل البحث الأرضي وهو منعزل عن السماء غائباً عن هذه التصورات.

وإليكم الآن ما يوضحه أو يحدده الإسلام بالنسبة إلى الأحلام، حيث نجد توصيات متنوعة تشير إلى الأحلام وتقسيماتها ونبدأ ذلك بالحديث عما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (الرؤيا ثلاثة: بشرى من الله وتحذير من الشيطان والذي يحدث الإنسان به نفسه فيراه في منامه) لاحظوا أن هذا تقسيم ثلاثي للأحلام،وسنرى تقسيماً ثلاثياً آخر بعد قليل إنشاء الله، المهم أن النمط الثالث من هذا التقسيم، أي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (والذي يحدث الإنسان به نفسه فيرى في منامه) هذا النمط من التقسيم الإسلامي للرؤيا هو الذي أشار البحث الأرضي إليه، وأما النمطان الآخران؛ أي الحلم الذي هو بشرى من الله والحلم الذي هو تحذير من الشيطان فإن البحث الأرضي الحديث لا يفقه عنهما شيئاً كما هو واضح،لكن لنعد الآن إلى النمط الثالث للحلم ونقارنه بالتصور الأرضي نجد أن التصورين الإسلامي والأرضي يعدان الحلم فعالية لاشعورية، فما يحدث الإنسان به نفسه ويراه في منامه حسب التصور الإسلامي يعني أن مادة الحلم هي الأحداث اليومية التي أشار البحث الأرضي إليها، وأن بطانته أي مادته هي الرغبات أو الأفكار التي حدث به الإنسان نفسه فانعكس ذلك على منامه، لكن نجد أن نقاط الافتراق بين التصورين الأرضي والإسلامي للحلم حتى في نطاق هذا التقسيم الثالث، نجد الافتراق بين التصورين يبدأ من التقويم الذي يخلعه كل من التصورين على الحلم، فالبحث الأرضي يخلع على الحلم قيمة نفسية وجسمية كما أشرنا إلى ذلك عابراً، بينما يرى الإسلام أن هذا النمط من الحلم مجرد رغبة أو فكر لا فاعلية لهما في تحرك الشخصية إنه أضغاث أحلام كما عبر عن ذلك نص إسلامي آخر في تقسيم ثلاثي آخر للحلم هو التقسيم الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: (الرؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن، وتحذير من الشيطان، وأضغاث أحلام).

إذن ما يحدث الإنسان به نفسه فيراه في المنام حسب النص الأسبق هو أضغاث أحلام حسب النص الآخر، وهذا يعني انعدام فاعلية هذا النمط من الأحلام التي قالت بعض التصورات الأرضية عنها من أنها تعبير صريح أو مقنّع عن رغبة وقالت عنه تصورات أخرى أن حرمان الشخص منها يفضي إلى توتره وهبوط ذاكرته وتضئيل شهيته إلى الطعام وما إلى ذلك..

طبيعياً إن الأضغاث لا تخلو من دلالة قد تكون جنسية وقد تكون عدوانية وقد تكون رغبات أخرى لا صلة لهما بالتفسير الضيق الذي أشارت إليه المدرسة التحليلية وقد تكون أيضاً مفتاحاً لفهم الشخصية من حيث شذوذها كما أشارت إليه التصورات الأرضية المذكورة، ولكن فاعليته تظل منحصرة في فهم الرغبات أو الأفكار التي لا تختلف عن سائر أنماط السلوك اللاواعي عند الشخصية حيث سبق أن حدثناكم عن ذلك في محاضرات متقدمة من أن استحضار مفهومات اللاشعور لا تسهم في الحالات جميعاً حظر التعرف على مصدر الخبرات المذكورة لا تسهم في إزالة أعراض المرض.

على أية حال لا يمكننا أن نتغافل عن فائدة الحلم في نمطه الذي أشارت إليه بعض التصورات الأرضية إلا أنها فائدة تنحصر في مجرد التعرف على رغبات أو أفكار قد يكون الشخص قد خبرها واعياً، وحينئذٍ لا فائدة ذات بال من إعادة معرفة يعيها الإنسان في يقظته، وهذا من نحو من يرى حلماً صريحاً أو رمزياً لتطلعاته وأشواقه ورغباته المختلفة في لحظة، ما فائدة ذلك؟! نعم تنحصر فائدة الحلم في حالة ما إذا أقرنا بفاعلية الخبرات اللاشعورية وتسللها إلى النائم غفلة عن الرقيب، بيد أننا نشكك في صحة تعميم ذلك على كل أنماط السلوك فضلاً عن أننا نشكك بقيمة استحضار مفهومات التحليل التي تهتدي إلى تعرف الرمز وتركيب النتائج الفاعلة عليه.

إذن تنحصر فائدة الحلم في النمط الذي أشار التصور الأرضي إليه في مجرد التعرّف على الرغبات أو الأفكار التي يعيها الشخص، أو اللاواعي منها مما قد يستجرّه مثلاً إلى تعديل سلوكه في بعض الحالات، لكن خارجاً عن ذلك فإن أضغاث الأحلام أو ما يحدث الإنسان به نفسه فيراه في المنام تظل عديمة الفاعلية في التصور الإسلامي.

هنا يثار السؤال الآتي: إذا كان التصور الأرضي الحديث لا يرى إلى الأحلام إلا نمطاً واحداً هو القسم الثالث الذي أشار التصور الإسلامي إليه، فهل يعني هذا أن البحث الأرضي غائب عن إدراك النمطين الآخرين البشرى من الله والتحذير من الشيطان بحيث يعدهما رافداً واحداً من الرغبات والأفكار التي تشكل حلماً لا يختلف في مادته عن النمط الذي سبق الحديث عنه؟!.

طبيعياً أن يعد البحث الأرضي كل أشكال الحلم منتسبة إلى المظهر المذكور مما يفسر لنا سبب إخفاق التحليليين أو مطلق المفسرين الأرضيين للحلم في استخلاصهم الرمز أو الجمود أو التضارب في هذا الاستخلاص، والحق أن فرز ما هو مجرد رغبة عن ما هو بشرى من الله تعالى وعما هو تحذير من الشيطان، لا يمكن للبحوث الأرضية أن تهتدي إليه ما دامت غائبة عن السماء وصلة السماء بالإنسان.

إن البحث الأرضي كما كررنا يتسلّم الكائن الآدمي عينة جاهزة لا يعرف أدنى شيء عن مصدر إدراكها ودوافعها مفسراً سلوكه في ضوء تعرفه القاصر الذي يسلم به، وأياً كان فإن التصور الإسلامي في ضوء تقسيمه الثلاثي للحلم يضطلع بسد الخلل العلمي الذي وسم بحوث الأرض عن الأحلام من حيث مصادرها وفاعلياتها وتفسيرها وهو أمر نحاول متابعة الحديث عنه الآن.

طبيعياً ينبغي أن لا يفوتنا أن ننبهكم على أن بحوث الأرض التقليدية ونعني بها التصورات السلفية للحلم بدءاً من عصر الأغارقة وانتهاء بمشارف العصر الحديث ألمحت إلى مصادر الحلم وفاعليته وتفسيره بما يشبه التصور الإسلامي من حيث صلة بعض الأحلام بالسماء وصلة البعض الآخر برغبات الإنسان وأفكاره، فضلاً عن تلميحها بمنبهات جسمية وخارجية لها منعكساتها في إحداث الحلم بحيث تطبعه بسمة الأضغاث ويفرغها من أية فاعلية.

كل أولئك خبرته بحوث الأرض وأفاضت في الحديث عنه، إلا أن الاتجاه الحديث المعاصر يتحاشى الإشارة إلى أي عنصر يرتبط بالسماء من حيث فاعلية السماء في تكييف الحلم حاصراً ذلك في منبهات عضوية أو نفسية من حيث التكييف المذكور فالمنبهات العضوية عديمة الفاعلية ما دامت لا تتجاوز وصل الحلم بتهيجات العضو كالصداع وانعكاسه سقفاً تعشعش فيه خيوط العنكبوت، أو وهن الصدر وانعكاس ذلك طيراناً.. الخ، حيث تبقى الفائدة منحصرة في المنبه النفسي الذي أشرنا إليه والتدليل على نمط الأمراض أو الأعصبة التي يمكن أن يتعرفها الحالم معدلاً سلوكه في ضوء التعرف المذكور..

وهذا التعرف كما سبقت الإشارة إليه لا ينفيه الإسلام، لكنه لا يقرّ بفاعليته على النحو الذي يحققه النمطان الآخران من الأحلام ونعني بهما البشرى والتحذير، وحتى هذا الأخير يفتقد فاعليته إذا ارتكنا إلى النصوص الإسلامية التي توصي بعدم ترتيب أي أثر نفسي عليها، وضرورة عدم الالتفات إلى مصدرها الذي لا يتجاوز ظاهرة الإيحاء فحسب، ويبقى حينئذٍ النمط المبشر، أو النمط الصادر من السماء، محتفظاً بفاعليته في تعديل السلوك، وهذا يعني أن الأحلام في التصور الإسلامي لا تخلو من إحدى حالتين: إما أن تكون ذات فاعلية وإما أن تكون عديمة الفاعلية، حيث تشمل هذه الأخيرة كلاً من الأضغاث والتحذير الذين يعني أولهما أن الحلم مجرد صدى لمنبه نفسي أو جسمي ويعني ثانيهما أنه مجرد إيحاء بالشر، وأما الفاعلية الحلمية فتنحصر كما قلنا في نمطها الصادر من السماء.

ما تقدم هو التفسير أو التقسيم الثلاثي للحلم وهناك تفسير ثنائي للحلم عبر التصور الإسلامي أيضاً نؤجل الحديث عنه إنشاء الله إلى محاضرة لاحقة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..