mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 21.doc

نتابع حديثنا عن الدوافع النسبية والطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك بالنسبة إلى تنظيم هذه الدوافع حيث حدثناكم في لقاءات سابقة عن دوافع متنوعة في مقدمتها الدافع إلى الانتماء الاجتماعي والدافع إلى التقدير الاجتماعي وبيّنا مدى مشروعية أو عدم مشروعية هذين الدافعين بالنسبة إلى التصور الإسلامي وافتراق ذلك عن التصور الأرضي، ثم حدثناكم عن دوافع أخرى كالسيطرة أو الفوقية،وسوى ذلك من الدوافع التي ترتبط بما هو نفسي في تركيب الشخصية.

أما الآن فنواصل حديثنا عن هذه الدوافع ونقف عند دافع نفسي مهم هو ما يطلق عليه (الدافع إلى التملك) أو نستطيع أن نقدم مصطلحاً آخر هو الحاجات الضرورية ونمطية الدافع حيال هذه الحاجات الضرورية، وفي هذا الميدان نقرر الحقيقة القائلة بأن الدافع إلى التملك يجسد واحداً من الحاجات الضرورية التي اعتاد البحث الأرضي أن يدرجها في قائمة الدوافع البشرية، وأما إسلامياً فإن التملّك مثل سائر أدوات الحياة يأخذ مشروعيته من خلال الضرورة أو من خلال الإشباع بقدر الحاجة، بحيث لا يتوارى ذلك صعيد التوظيف العبادي للشيء.

لقد أشار النص القرآني الكريم إلى ظاهرة التملك وصلة هذه الظاهرة بالرغبات غير المشروعة في تركيبة الإنسان، وذلك عبر قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب)، فالملاحظ أن التزين هنا عبر قوله (زين للناس) جاء في سياق الرغبة غير المشروعة للحاجات بدليل المصطلح الذي استخدمه النص القرآني الكريم وهو (الشهوات) وقد سبق أن قلنا أن الإمام علياً (عليه السلام) عندما تحدث عن تركيبة الشخصية الآدمية في قطبيها الذاتي والموضوعي أو الشرير والخير أشار إلى مفهوم الشهوة لتعني الجانب السلبي من التركيبة وهذا ما نلحظه الآن في النص القرآني الكريم عندما يستخدم حب الشهوات ليشير إلى البعد السلبي من طرفي التجاذب من السلوك البشري، أي العقل والشهوة.

وهذا يعني أن تملك هذه الثروات التي أشار إليها القرآن الكريم وهي: المال والنساء والقناطير المقنطرة من الذهب والخيل المسومة والأنعام.. الخ، جاء في سياق الرغبة غير المشروعة كما قلنا بنحو يمكن الذهاب إلى أنه لا يجسد حاجة مشروعة بقدر ما يجسد ما هو زائد عن الحاجات أي ما هو ترف لا ضرورة له، كما أن مفهوم الزينة الذي استخدمه القرآن الكريم أيضاً عندما قال (زين) هذا المظهر يشكل بدوره عنصراً من عناصر الشهوة المشار إليها، وفق ما ورد في نص قرآني آخر يقول: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) وهذا بصفة أن الزينة محلٌّ لاختبار وامتحان الشخصية وفق ما ورد أيضاً في تفسيرها عبر آية قرآنية كريمة تقول: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً). وهذا يعني أن الزينة من الممكن أن تنبهر الشخصية بها فتغفل عن أداء وظيفتها العبادية بحيث تجرّها إما للوقوع في ما هو محرّم منها، كما لو اكتسبت الشخصية الثروة بطرق غير مشروعة، أو تجرّها في الوقوع في المكروه بل حتى في المباح في حالة ما إذا كان المباح يشغل الشخصية ويصرفها عن أداء الأحسن من العمل. والحق أن ظاهرة التملك بالشكل الذي أشرنا إليه أفصحت عنه دراسات علماء الأقوام، ولعلكم تتذكرون إشارتنا إلى هذه الدراسات في بداية محاضراتنا حيث قلنا أن علماء الأقوام في بعض المواقع أشاروا بوضوح إلى أن طائفة أو أكثر من المجتمعات تتعامل مع ظاهرة المال والأرض وسائر أنواع التملك من خلال التنازل عن ممتلكاتها بدلاً من التعامل على حيازة الممتلكات المذكورة، مما يعني أن التنازل عن الممتلكات في بعض المجتمعات تدلل بوضوح على عدم فطرية هذه الحاجة فعلياً، بل فطريتها بالقوة فحسب.

طبيعياً نحن لا يعنينا ما يدرسه علماء الأقوام في استدلالهم على عدم فطرية التملك ما دمنا إسلامياً لا نعنى إلا بوجهة النظر التي يقدمها المشرع الإسلامي، بيد أننا نعتزم الإشارة إلى أن التجريب الأرضي أيضاً بالرغم من كونه منعزلاً عن الله تعالى، لقد أمكنه أن ينفي صفة الحاجة أو الدافع عن التملك ومن ثم فإن الشخصية الإسلامية تظل أجدر بأن تعيى الحقيقة التي أشرنا إليها بخاصة أن التوصيات الإسلامية تشير إلى أن الأرض وما فيها ملك لله تعالى؛ وإن منحها للإنسان يظل استثماراً لأداء الوظيفة العبادية ومع التسليم بهذه الحقيقة فإن الأرض أو المال مثلاً سوف يخفت بريقهما في نظر الشخصية الإسلامية فتزهد عن الأرض وتكتفي بما هو ضروري لها وتزهد عن المال وتنفقه في حالة كونه فائضاً بالوجوه التي حددها لنا المشرع الإسلامي.

إذن الضرورة وعدمها هي المعيار الذي ينبغي أن ننظر إليه في مشروعية التملك وعدمه، لذلك نجد في سياقات متنوعة تشدداً في المطالبة بالتملك لنفس التشدد الذي نلاحظه في المطالبة بعدم التملك، فمثلاً نجد نصوصاً مثل قول المعصوم (عليه السلام): (من باع أرضاً أو ماءً ولم يضع ثمنه في أرض وماء ذهب ثمنه محقاً) ومثل قول المعصوم  (عليه السلام): (لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكف به وجهه) لاحظوا هذا التأكيد على ضرورة التملك، تملك الأرض والماء والمال من أجل أن يكف به الإنسان وجهه عن الاستجداء والحاجة إلى الآخرين.

لكن مقابل ذلك نجد نصوصاً على التضاد من ذلك، مثل قول المعصوم (عليه السلام): (لا يجتمع المال إلا لخصال خمس: بخل شديد، أمل طويل وو... الخ) ومثل قول المعصوم (عليه السلام): (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).

إن هذه النصوص تطالب بجمع المال أو العقار وتحذر من جانب آخر من جمع المال أو العقار، مما يعني أن الأصل هو عدم الاهتمام بالتملك، بيد أن تملك المال أو العقار قد يفرض ضرورته لاعتبارين لا مناص منهما؛ أحدهما تأمين استمرارية العيش والآخر تحقيق عنصر العز الذي يسم الشخصية الإسلامية فيما فوّض الله تعالى إليها كل شيء إلا إذلال ذاتها، لكن خارجاً عن الاعتبارين المذكورين يظل عنصر التملك موضع حظرٍ بالغ الشدة كالتهديد مثلاً بالويل لمن جمع مالاً وعدده كما ورد ذلك في القرآن الكريم والتهديد بالويل لمن يكنز الذهب والفضة كما ورد في القرآن الكريم أيضاً.

والآن إن ما يعنينا من هذه الحاجة التي تحدَّد بقدر ما يستطيع به الإنسان أن يجسد استمرارية حياته لممارسة المهام العبادية أن العمليات التربوية التي نعنى بها الآن من حيث استخدامها في الطرائق التي تنظم هذا الدافع إلى التملك، حيث يمكننا أن نقول أن طرائق التنظيم للتملك يتم من جانب وفقاً للاعتبارين المشار إليهما، أي التأمين والعز. كما يتم من جانب آخر لمفهومات عبادية تأخذ أبعاداً مختلفة تتجه التوصيات الإسلامية من خلالها إلى تنظيم الفائض منه بعد أن كانت التوصيات السابقة تتناول تنظيم ما هو ضروري منه.

ومن البيّن أن تنظيم الفائض من التملك يتمثل في عملية الإنفاق بمختلف أشكاله، إلزاماً أو ندباً، أما الجانب الإلزامي منه فيتمثل في ظواهر الخمس والزكاة والكفارات ونحوها.. وأما المندوب منه فإن لسان التوصيات الإسلامية يشدد في هذا الجانب لدرجة تقترب من الإلزام، بيد أننا لنجد أن الآية الكريمة التي تقول: (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) إنما تشير إلى أن الحق وهو صفة شبه إلزامية لا يقصد منها ما هو الواجب، بل كما تقول النصوص المفسرة ما هو الخارج عن ذلك.

ومن البين أن عملية الإنفاق لا ترتبط بمجرد تحقيق العدالة الاجتماعية أو تحقيق التوازن للمجتمع البشري فحسب؛ بل ترتبط أيضاً - وهذا ما تعنى به البحوث النفسية - بالبناء النفسي للشخصية عبر تدريبها على تعلم السلوك السوي من خلال نبذ الذات والاتجاه من الآخرين فيما يعد مثل هذا السلوك أهم المعايير التي تفرز الشخصية السوية عن الشخصية المضطربة أو المريضة نفسياً كما هو واضح.

بهذا ننتهي من الحديث عن الحاجة إلى التملك وموقف التصور الإسلامي من التملك، ونتجه إلى عرض حاجة أخرى هي الحاجات الجمالية، ومع أن الإحساس بالجمال من الممكن أن ندرجه ضمن الحاجات الحيوية، أي الحاجات الجسمية، ولكننا أبرزناه الآن ضمن الحاجات النفسية لأكثر من سبب لعلّ في مقدمة هذه الأسباب هو أن الشخصية في الواقع تتعامل مع الجمال من خلال البعد النفسي الذي تسلكه في التعامل مع العنصر المشار إليه.

ومهما يكن من أمر سواء أكانت الحاجات الجمالية مدرجة ضمن ما هو بيولوجي أو ضمن ما هو نفسي، المهم أن نشير إلى أنه يجسد واحداً من المسائل التي يدرجها علماء النفس في قائمة الدوافع البشرية، ولكنهم يضعون هذه الحاجة في المرحلة الأخيرة من سلّم الحاجات. وسرّ ذلك من الوضوح بمكان حيث الحاجات الحيوية الأخرى كالحاجة إلى الطعام والشراب أو النوم أو.. تشكل حاجات لا مناص من إشباعها وإلا يتعرّض الكائن الآدمي إلى الموت، بينما نجد الحاجة الجمالية كحاجة الشخصية إلى أن تبتهج بمناظر الطبيعة فأمر من الممكن أن يؤجل إشباع هذه الحاجة بل من الممكن أن تلغى أساساً ولا تعنى به الشخصية، مع أنها حاجة مركبة فطرياً فيها.

المهم أن المشرع الإسلامي - وهذا ما يعنينا الآن أن نحدثكم عنه - يأخذ هذا الجانب كالتصور الأرضي بنظر الاعتبار ولكن يمنحه بعداً عبادياً مثل سائر الحاجات، ويمكن لفت نظركم إلى جانب من النصوص الإسلامية التي تحسسنا بحاجة الإنسان أو بالأحرى إلى مشروعية هذه الحاجة في تركيبة الشخصية، وهذا من نحو قوله تعالى: (قل من حرّم زينة الله) ومثل التعقيب الوارد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على رجل وجده شعث رأسه وسخ ثيابه سيئة حاله فقال: (من الدين المتعة).

كما أن نصوصاً قد استفاضت في تأكيد المقولة المعروفة من أن (الله جميل يحب الجمال)، كما أن سورة النحل التي ركزت الاهتمام بالثروة الحيوانية والطبيعية طرحت مفهوم الجمال في سياق الثروات المشار إليها مثل قوله تعالى: (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) ومثل قوله تعالى: (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها)..الخ.

لكن ينبغي أن نقول أن إشباع هذه الحاجات لا يتم كما أشرنا منعزلاً عن الاستثمار العبادي لها، فالنص القرآني الكريم يقرن ظواهر الجمال المذكورة وغيرها بضرورة الشكر لمعطيات الله تعالى، كما أن النصوص الحديثية التي أشارت إلى أن الله جميل يحب الجمال قرنت ذلك بالمفهوم العبادي أيضاً، مثل قوله (عليه السلام): (إن الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعيمه على عبده)، ومن الواضح أن مجرّد ربط الإشباع بعملية التواصل مع الله سبحانه وتعالى وإدراك معطياته يشكل مشاركة فكرية ووجدانية لمفهوم الوظيفة العبادية التي أوكلها الله تعالى إلى الإنسان، أي أن مجرد شكر الإنسان لهذه النعم يعد تواصلاً مع الله سبحانه وتعالى وانشداداً إليه لا انعزالاً عنه، أو الاستمتاع بالجمال بمنأى عن تصوّره العبادي المذكور.

من هنا فإن أية ممارسة تتجاوز هذا الصعيد العبادي تظل موضع حظرٍ، نلاحظ في الوقت نفسه الذي تطالبنا به التوصيات الإسلامية بإشباع الحاجات الجمالية كالنصوص المشار إليها أو كالنص القائل (فإياك أن تزين إلا في أحسن زي قومك) نقول في الوقت الذي تطالبنا مثل هذه التوصية بأن نلبس أحسن الزي، لكن التوصية الأخرى في الوقت ذاته توصينا بأن الله يبغض شهرة اللباس، وتقول في نص آخر (كفى بالمرء خزياً أن يلبس ثوب الشهرة). حيث تطالب هذه التوصيات الأخيرة بأن لا نلبس ما يميزنا عن غيرنا، بل تطالبنا توصيات أخرى بأن يكون خير لباس لكل زمان هو لباس أهله، فالملاحظ في هاتين التوصيتين أن البعد النفسي قد سدد المشرع الإسلامي فيه بنحو ملحوظ فطالب بأن يكون الملبس متوافقاً مع مستوى البيئة الاجتماعية، تحسيساً بعدم الفارقية وطالب بأن لا نلبس ما هو متميز لأننا إذا لبسنا ما هو متميز حينئذٍ فإن أمثلة هذا الملبس تحسسنا بحب الزهو وبحب علوّنا وتفوّقنا على الآخرين، وهو قمة المرض النفسي وقمة الابتعاد عن الله سبحانه وتعالى، وقمة التشبث بزينة الحياة الدنيا.

والأمر نفسه يمكننا أن نلاحظه بالنسبة إلى التعامل مع المسكن، حيث نجد نصوصاً متنوعة تطالبنا من جانب بأن نختار المنزل المتسم بالسعة، لأن النص يقول: (للمؤمن راحة في سعة المنزل) حيث أخذت هذه التوصية الراحة النفسية بعين الاعتبار وذلك من خلال المطالبة بسعة الدار، ولكن التوصيات الإسلامية من جانب آخر تقول: (كل بناء ليس بكفاف فهو وبال على صاحبه يوم القيامة).

ويقول أحد النصوص موضحاً ما ليس بكفاف بأنه (استقالة على جيرانه ومباهاة لإخوانه) لاحظوا هذه التوصية الأخيرة حيث تعد ملاحظة عيادية بالغة الدلالة لأنها تشير إلى طابع المرض أو الشذوذ الذي يتبع الشخصية في حالة اهتمامها ببناء المسكن خارجاً عن ما هو ضروري حيث تستهدف من ذلك أن تستطيل على الجيران وأن تباهي به الآخرين، تعبيراً عن أن نزعة التعالي والزهو والكبر وسائر اشكال التورم الذاتي المفصح عن اضطراب الشخصية وأحاسيسها بالنقص فيما تعوض ذلك بالنزعة المتعالية المستطيلة على الآخرين فتتخذ من البناء الشاهق بالقياس إلى أبنية المنازل الأخرى، تتخذ طبقتين أو ثلاث أو أربع طبقات لتتعالى به أو لتزهو به على الجيران تعبيراً عن نزعتها المتعالية المزهوّة وهي نزعة كما أشار إليها الإمام الصادق (عليه السلام) لها جذور نفسية مرضية هي إحساس مثل هذه الشخصية بالذل، فتعوض ذلك بالتعالي من خلال عمليات التكبّر ومنها التكبر من خلال المنزل، أو من خلال الملبس أو من خلال أنماط السلوك الأخرى.

على أية حال إن الأمر ذاته بالنسبة إلى وسيلة النقل التي يمتلكها الشخص أيضاً، يشير المشرع الإسلامي إليها حيث يقول إن الاستخدام لهذه الوسيلة بنحو متميز عن الآخرين كالدابة التي يمتطيها وهذا ما ينطبق في الواقع أيضاً على وسائل النقل التي يمتلكها بعض الأشخاص ممن يعنى بالبهرج والزخرف، وممن يعنى بزينة الحياة الدنيا، فنجده أيضاً يتخذ من وسائط النقل ما هو خارج عن الضرورة، إنه يتخذ العرض الذي تشكل فارقية ملحوظة بينها وبين العرضات العادية التي يألفها المجتمع.

المهم الآن أمكننا أن ندرك بوضوح أهمية وخطورة هذه التوصيات الإسلامية التي تتناول حاجات ليست ملحّة بالنسبة إلى قائمة الدوافع البشرية الأخرى إلا أنها نظراً لارتباطها بالبناء الشخصي والنفسي والعبادي تظل ذات خطورة ملحوظة في الميدان التربوي أي في ميدان السلوك وتعديله إلى ما هو أضبط.

بهذا ننتهي من الحديث عن الحاجات المشار إليها، أي الحاجة إلى التملك بمختلف مستوياته، ونتجه الآن إلى حاجات جديدة وهي ما يصطلح عليه بالحاجات الأمنية.

 

 الحاجات الامنية

إذن لنتحدث عن عنوان جديد هو (الحاجات الأمنية).

في هذا الميدان نقول: من الدوافع التي يدرجها علماء النفس ضمن قائمة الدوافع؛ الدافع المسمى بـ(الحاجة إلى الأمن) ومن الواضح أن الحاجة الأمنية من الممكن أن نتصورها في ظواهر ثلاث هي:

1- الأمن بالنسبة إلى الحياة. أو الأمن الحياتي إذا صح التعبير.

2- الأمن النفسي.

3- النفس الحيوي، أو الجسدي.

طبيعياً إن الأمن الجسدي يندرج ضمن الحاجات البيولوجية كالطعام والشراب والصحة وو.. الخ، حيث تشكل حاجات مستقلة لا مناص من إشباعها حتى يمكن أن تستمر صيرورة الكائن الآدمي، أما الأمن النفسي فيشكل بدوره حاجة ملحّة لا تصل بطبيعة الحال إلى ما هو حيوي لكنها قد تشكل في بعض الأحيان فاعلية أشد من الحاجات الحيوية ما دامت ترتبط من جانب بتدفق ما هو حيوي، فالسجين مثلاً يضطرب إشباع حاجاته للنوم والطعام، كما أنه من جانب آخر يؤثر في إشباع حاجاته حرية التحرك من الانتماء إلى الآخرين وانتزاع الحب والتقدير منهم، بل وممارسة الحرية أساساً حيث يفقد مع فقدانه للحرية معنى وجوده أساساً وحينئذٍ حينما يفقد معنى وجوده أساساً، أي حينما يفقد حريته في الواقع يظل هذا الفقدان أشد فاعلية مما لو فقد حياته أساساً، كما أن المندوب اجتماعياً، أي الشخصية التي تهان وتنبذ وتحط اجتماعياً بحيث لا يحترمها أي شخص من الفصائل الاجتماعية، أو الشخصية المحاطة بأعداء يتربصون بها السوء ليل نهار، أمثلة هذه الشخصية يتعرض توازنها الداخلي لتواتر شديد من الصعب أن يتحمل عادةً مما يقتاد مثل هذه الشخصية في حالات كثيرة إلى الانتحار مثلاً.

وهذا بالنسبة للأمن النفسي، وأما الحاجة إلى الحياة نفسها فإنها تشكل قمة الحاجات الإنسانية كما هو واضح، فالآدميون بغض النظر عن الشدائد التي يواجهونها في الحياة يحسون بالحاجة إلى الحياة حتى في حالات المرض والجوع والشدائد النفسية، وهذا يعني أن الحاجة إلى الحياة تشكل القمة من هرم الحاجات الإنسانية، ومن البين أن الحاجة المذكورة لو لم تكن بمثل هذا الإلحاح لفقد الإنسان معنى وجوده أساساً ولانتفى كل نشاط يبحث عن إشباع حاجاته الشخصية الأخرى، ومع ذلك فإن الحاجة إلى الحياة من الممكن أن يمسحها الإنسان من ذاكرته في حالتين:

الحالة الأولى: حالة انتصار القيم العقلية التي يؤمن بها، مثل الموت من أجل حرية الوطن الذي ينتمي إليه الشخص.

الحالة الثانية: حالة تفاقم المرض النفسي إلى درجة اقدام الشخصية إلى الانتحار.

المهم يعنينا من ذلك أن نشير إلى أن الحاجات الأمنية المذكورة؛ الحاجة الحياتية والنفسية والحيوية، نقول: يهمنا من هذه الحاجات ملاحظة كل من التصور الأرضي والإسلامي حيالها ومدى الفارقية بين التصورين المشار إليهما في هذا الميدان.

ونقرر سلفاً بأن الحاجة إلى الأمن الحيوي أو البدني أو الجسمي سوف لن نتعرض له في هذا الحقل ما دمنا نفرد له حقلاً خاصاً في محاضراتنا بالنسبة إلى تنظيم الحاجات البيولوجية، ما دمنا قد أوضحنا سابقاً بأن الحاجة المذكورة تظل مجرد وسيلة لغاية معينة هي الخلافة في الأرض، حيث يظل البحث عنها في نطاق ما هو ضروري فحسب وهو أمر كما قلنا نفصل لكم الحديث عنه لاحقاً إنشاء الله، وأما الحاجة إلى الأمن النفسي والحاجة إلى أمن الحياة فهل تظل موضع معالجتنا الآن ونبدأ ذلك بالحديث إلى العنوان القائل (الحاجة إلى الأمن النفسي).

لعلكم تتذكرون أننا أوضحنا عبر حديثنا عن الدافعين؛ دافع الانتماء والتقدير الاجتماعيين، أن الشخصية الإسلامية تفترق عن الشخصية الأرضية في إلغاءها لأهمية التقديرين المذكورين ما دامت تعوضهما بانتماء إلهي، وتقدير إلهي، مما يعني أن الشخصية الإسلامية ليست بحاجة إلى حماية نفسية من الآخرين إلا في نطاق ما حددته التوصيات الإسلامية الرابطة بين ذلك وبين حماية الله سبحانه وتعالى أساساً للشخصية.

لكن هذا لا يعني أن الحماية النفسية أو الأمن النفسي لا يشكل لدى الشخصية حاجة بقدر ما يعني أن تحديد هذه الحاجة يصحبه تصور خاص يختلف عن تصور العلمانيين له، ويمكننا في البدء أن نقرر أهمية مثل هذه الحاجة ومشروعيتها في التصور الإسلامي متمثلةً في النص الآتي للإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أي الإمام السجاد حيث قال في الوثيقة النفسية المهمة التي تحمل عنوان (دعاء مكارم الأخلاق) رسم في هذه الوثيقة مبادئ الصحة النفسية بشكلٍ ملحوظ قد نعرض لها إنشاء الله في محاضرات لاحقة لكننا الآن نستهدف أن نشير من هذه الوثيقة فحسب إلى الجانب المتصل بالحاجة المشار إليها عبر التصور الإسلامي للحاجة المذكورة.

يقول الإمام السجاد (عليه السلام): (اللهم صلّ على محمد وآل محمد وابدلني من بغض أهل الشنآن المحبة ومن حسد أهل البغي المودة ومن ذمة أهل الصلاح الثقة ومن عداوة الادنين الولاية ومن حقوق ذوي الأرحام المبرة ومن ظلم الأقربين النصرة ومن حب المدارين تصحيح المقة ومن رد الملابسين كرم العشرة ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة).

هذا النص يتضمن تسعة حاجات أمنية هي: الأمن أو الحماية من الحاقدين، والحساد، والمتهمين، وعداوة القريبين، وقطع العدة والأرحام، وخذلان الأقارب والحب الزائف، والقسوة ، والظلم، فهذه الحاجات التسع تبدو وكأنها حاجات فعلاً تحس الشخصية الإسلامية بأهمية توفرها فهي تطالب بأن يحبها الآخرون، بدلاً من أن يحقدوا عليه، وتطالب بأن يودها الآخرون بدلاً من أن يحسدوها وأن يحسنوا بها الظن بدلاً من توجيه التهم إليها، وأن يعنوها اشد عناية الخ. الأدنون وذوي الأرحام والأقرباء بدلاً من العداوة والقطيعة والخذلان وأن تعيش بمنأى عن التي يلحق بها ظالمون كالسلطة أو الجماعة أو فرد يعرض هذه الشخصية لأذى ما.

أكثر من ذلك فإن الشخصية الإسلامية لا تحس بالحاجة إلى الحماية والأمن من الآخرين فحسب بل تطالب بأن تنتصر على الآخرين أيضاً، وهذا ما يجسد قمة الحاجة إلى الأمن النفسي، ولنتابع الآن الدعاء المشار إليه (دعاء مكارم الأخلاق) حيث نقرأ:

(اللهم صلّ على محمد وآل محمد واجعل لي يداً على من ظلمني ولساناً على من خاصمني وظفراً لمن عاندني وهب لي مكراً على من كايدني وقدرة على من اضطهدني وتكذيباً لمن مقتني وسلامة ممن توعدني ووفقني لطاعة من سددني ومتابعة من أرشدني).

ونحن إذا استثنينا الحاجتين الأخيرتين أي الطاعة والمتابعة للمسدد والمرشد، حينئذٍ نواجه سبع حاجات تطالب جميعها بأن ننتصر على أية قوة تهدد أمننا الشخصي، فالشخصية الإسلامية من خلال حاجتها  إلى الأمن لا تكتفي بالمطالبة بأن يبدل ما يهدد أمنها بدل تطالب بالانتصار على القوة التي تهددها أيضاً، إنها لا تريد أن تأمن شرور الظالمين فحسب بل تطالب بأن تكون لها يداً على الظالمين، وهذا يعني جميعاً يعني بما لا تشكيك فيه أن حاجة الشخصية إلى الأمن والحماية ليس أنها مشروعة فحسب بل إنها حاجة ملحّة في ضوء ما قرأناه من النصوص، لكن السؤال هو الآن: كيف يمكن أن نوفق بين ذهابنا إلى أن الشخصية الإسلامية لا تحس بالحاجة إلى الحماية من الآخرين وبين ذهابنا إلى مشروعية وإلحاحية الحاجة إلى الحماية من الآخرين كما لاحظنا الآن؟!.

والحق إن ههنا تأمل في هذا الصدد سوف يحسم لنا الموقف بوضوح حينما نقرر بأن المطالبة بتوفير الأمن لم يكن في حد ذاته غاية أو هدفاً، كما هو طابع البحوث الأرضية التي تقرر أهمية مثل هذه الحاجة ما دامت متصلة بتوفير الحياة التي لا تملك سواها. وإنما تظل المطالبة بتوفير الأمن عبر التصور الإسلامي مرتبطا بهدف آخر ليس هو الحياة الدنيا من أجل الحياة، بل الحياة من أجل الهدف العبادي أو الخلافي في الأرض، فلكي يتوفر للشخصية الإسلامية مناخ ملائم لتحقيق ممارساتها العبادية يتعين حينئذٍ أن يتوفر لديها دافع الأمن ما دامت القوى المهددة لاستقرارها تحتجزها عن متابعة عملها العبادي في شروطه الملائمة، لا أن ذلك نابع من مجرد الحاجة إلى توفير الأمن ولو كان الأمر كذلك لما كان للمطالبة بتحمل الشدائد ومواجهة مختلف الإخفاقات والتضحية حتى بالعمر من أجل الله لما كان لها أي دلالة من التوصيات الإسلامية.

إذن الدافع إلى الأمن لدى الشخصية الإسلامية يفترق تماماً عن الدافع إلى الأمن لدى الشخصية العلمانية، الشخصية الإسلامية تستثمر حاجاتها الأمنية لكونها مجرد وسيلة لهدف آخر هو الممارسة العبادية التي خلق الله الإنسان من أجلها، أما الشخصية الأرضية أو العلمانية فإن حاجتها إلى الأمن تظل هدفاً بذاته لأنها لا تملك غير هذه الحياة الدنيا التي تريد أن تستثمرها لتأمين حاجاتها. ويترتب على هذا الفارق أن أية تهديد لأمن الشخصية يفقدها توازنها الداخلي ويفقدها دلالة الحياة أساساً حتى تقع في نهاية المطاف في وهدة المرض النفسي أو تقدم في حالات مرضية شديدة على الانتحار!!.

أما الشخصية الإسلامية فلا يعنيها أي تهديد لأمنها ما دام الأمر مجرّد وسيلة إلى غاية، ففي حالة التهديد الفعلي مثلاً، كإيداعها في السجن أو مطاردتها أو تضييق الخناق عليها، أو محاربتها بشتى الوسائل النفسية، في أمثلة هذه الحالات كيف تستجيب الشخصية الإسلامية حيال ذلك؟!

إنها تستجيب بالصبر وذلك من أجل الله تعالى وتعد ذلك واحداً من مختلف الإحباطات التي تواجهها في الحياة العابرة، معوضةً ذلك بثمن آخر هو الثواب الأخروي وانتزاع التقدير من الله تعالى والتثمين للحقيقة الموضوعية التي تنطوي عليها قيمة السماء في حد ذاتها.

وهنا نذكركم بأن الشخصية الإسلامية في الواقع على مستويين:

المستوى الأول: هو المستوى الذي يطمح إلى تعويض ما هو دنيوي بما هو أخروي.

المستوى الثاني: هو أعلى درجة من النمط السابق ألا وهو الذي يعوض ذلك ليس بالثواب الأخروي المتمثل بالظفر في الجنة، بل يتمثل ذلك في كونه يتعامل مع الله سبحانه وتعالى أي يحرز رضا الله، أي إحراز رضا الله هو الأساس في المسألة.

المهم في الحالات جميعاً ينبغي قبل أن نتجه إلى الحديث عن النمط الآخر إلى الحاجة وهي الدافع إلى الحياة أن نشير إلى أن الأمر فيما يتصل بالحاجات الأمنية يظل محكوماً بالطابع المشار إليه وأما الحاجة الأخرى التي نود أن نحدثكم عنها وهي الحاجة إلى الحياة أو دافع الحياة يظل محكوماً بالطابع ذاته ولكنه يتطلب بطبيعة الحال تفصيلاً آخر نعدكم إنشاء الله بالتوفر عليه في محاضرة لاحقة.

أما الآن فنستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..