mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 20.doc

الاحساس بالذنب

تحدثنا في محاضرة سابقة عن مصطلح التقدير الذاتي حسب التصور الأرضي والإسلامي لهذا المصطلح، وبينا أهمية الفارق بين التصورين المشار إليهما، وأما الآن فنتقدم إلى بحث آخر يظل مرتبطاً بالتقدير الذاتي وعدمه أيضاً ألا وهو عنوان جديد يحمل دلالة عبادية أسميناها بمصطلح (الإحساس بالذنب).

إن الإحساس بالذنب كمصطلح يعد في تصور علماء النفس الأرضيين مصطلحاً يختلف عن مصطلح الإحساس بالذنب العبادي، ففي التصور الأرضي يعد الإحساس بالذنب مظهراً من مظاهر التقدير السلبي للذات، والمقصود بهذا النمط من الإحساس، ليس هو الإحساس بالذنب بمعناه العبادي أي ممارسة المعصية التي ينهانا الله سبحانه وتعالى عنها، أو الندم الواعي عن ما تنهانا السماء عنه، بل المقصود هو الإحساس المرضي بذنب أو خطأ لم يرتكبه الإنسان عمداً أو بوعي منه، بل حتى إذا ارتكبه الإنسان باختيار منه في لحظة من لحظات ضعفه فإن الإحساس به ينبغي أن يمر في أعماق الشخص عابراً، ويقرر الشخص بعده عدم العودة إليه ثم تحسم المشكلة.

ولكن بعض الأشخاص نجد أن إحساسهم بخطأ ما مارسوه من سلوك يظلون من خلاله يحاسبون أنفسهم ليل نهار ويسرفون في اللوم عليها ويرثونها ويشفقون عليها مع أن المفارقة أو الخطأ لا تشكل ذنباً تعورف عليه بالنحو الاجتماعي، ومثل هذا الإحساس بالذنب يعد عرضاً مرضياً كبيراً تتوفر عليه آثار شتى، لعل أبرز هذه الآثار هو كما يقرر علماء النفس أن يعاقب الفرد ذاته تكفيراً منه عن الخطأ الذي مارسه كأن يعرض المرء نفسه للأذى أو يمارس أفعالاً لا شعورية كتطهيره للكف مثلاً بدون مسوغ، ونحوه من الممارسات التي يسود البحث الأرضي في معالجته لهذه الظاهرة المرضية بخاصة الاتجاه التحليلي في علم النفس.

والحق يقال أن البحث الأرضي في الاتجاه المذكور يحمل الظاهرة المذكورة أكثر مما يحتملها الواقع، كما أنه يقدم أكثر من تفسير لا يكاد يقرّه اليقين العلمي البتة، فضلاً عن أنه لا يكاد يميز بوضوح بين نمطين من الإحساس؛ الإحساس السلبي والإحساس الإيجابي مما يترتب على ذلك وقوع البحث الأرضي في مفارقات تعكس أثرها على الصحة النفسية دون أدنى شك.

وأما التصور الإسلامي لهذه الظاهرة فيقوم على أساس التفرقة بين نمطين من الإحساس بالخطأ أو الذنب من جانب كما يرسم نمط الإحساس الذي ينبغي أن تخطته الشخصية الإسلامية لها من جانب آخر، وهناك نمط من الإحساس بالخطأ يظل مرضياً دون أدنى شك، وهذا مثلاً من نحو من يقصر في خدمة أحد ضيوفه أو يصدر منه سلوك غير عمدي في إهانة صديقه، حينئذٍ نجد مثل هذا الشخص قد يطول بأكمله محاسباً نفسه على هذا التقصير مسرفاً في اللوم عليها نادباً حظه الذي أوقعه في مثل هذا الخطأ، حيث يظل هذا الإحساس بخطئه ملازمة لشخصيته فيما يصبح فيما بعد مؤثراً لوقوعه في هوّة الأمراض العصابية.

مثل هذا الإحساس المرضي بالخطأ يفترق عن نمط آخر من الإحساس يعد سوياً دون أدنى شك، ألا وهو الإحساس العبادي بالذنب من نحو من يمارس عملاً محرماً مثلاً ثم يظل الندم على ذنبه ملازماً له حتى يصح أن تنطبق على أحاسيسه، تلك الحقيقة التي أشار النبي (ص) إليها ذات يوم عندما أوضح بأن المؤمن يحس بأن ذنبه جاثم على صدره كالجبل، وأما الفاسق فيتحسس ذنبه وكأنه ذبابة عابرة مرّت على وجهه، في مثل هذا النمط من الإحساس بالذنب تظل شدة الإحساس به أكثر سوية من حيث الصحة النفسية من الإحساس العابر به، أي أنه على العكس تماماً من الحالة السابقة، والسر يعود في هذا في الواقع إلى طبيعية إلهامية الخير والشر في تركيبة الآدمي، حيث ينفر الآدمي من الذنب بقدر وعيه السليم بمفارقته مصحوباً بالتصميم على عدم العود إليه بعكس الحال السابق التي تعطل الشخصية عن أداء وظيفتها بالنحو السليم.

والحق أننا سنتحدث مفصلاً في محاضرات لاحقة إنشاء الله عن الظاهرة التربوية ومعطياتها الصحية وصلة ذلك بالإحساس بالذنب، ولكن الأمر الآن يظل مجرد إشارة عابرة إلى هذا الجانب لكي ننتقل منه إلى موضوع آخر يرتبط بموضوعنا السابق أيضاً. وهذا الموضوع هو  أن نتابع مسألة الإحساس بالخطأ في تصوريها الإسلامي والأرضي في تفصيلات أخرى غير ما أجملناه الآن، ويتعين علينا أن نقف أولاً على بحوث الأرض فنقول:

يتجه بعض علماء النفس والتربية إلى ربط الإحساس بالذنب من حيث مصدره بظاهرة الكبت بما يحمله الكبت من دلالة جنسية في تصور هذا البعض، وهذا التصور يقوم على فهم أسطوري يربط بين الإحساس بالذنب وبين إرث فطري تسلّمته الحضارة من إنسان ما قبل التاريخ حينما مارس عملية قتلٍ للأب المستأثر جنسياً بالإناث، وحينما كبت رغبته المحارمية بعد العملية المذكورة وتضاف إلى هذا الإرث خبرات الطفولة حيث تسهم بدورها في تضخيم أو تضئيل الإحساس بالذنب من خلال نمط التربية متمثلاً في الجهاز القيمي لدى الشخصية أي (الأنا الأعلى) حسب المصطلح لدى الجهاز المذكور حيث يستمد فعالياته من الإرث الفطري والخبرة الطفولية المذكورة.

وأما غالبية الاتجاهات الأرضية الأخرى خارجاًً عن النظرية المذكورة فتظل في شتى اتجاهاتها ومدارسها مشددة في صلة الإحساس بالذنب بالتنشئة الطفلية بعامة من حيث خضوعها لطابع التزمت أو الصرامة أو المبالغة في تأجيل ما يمارسه الطفل من سلوك مخطئ، مما يجعل جهاز قيمه متزمتاً بدوره يحاسبه على كل سلوك كبرت أخطاؤه أو ضئلت.

إن هذه الاتجاهات النفسية بأكملها تقع في وهم علمي حينما تردم الفوارق بين الخطأ الذي لا مناص من صرامة التأديب عليه، وبين أخطاء ينبغي أن يتهاون فيها ما دامت لا تعكس آثارها على المرحلة الراشدة إلا إذا بولغ في التدريب عليها، ومع ذلك فنحن الآن نضطر إلى أن نكرر ما سبق أن كررنا ونكرره لاحقاً أيضاً من أن التنشئة الطفلية الأولى المبكرة وهي موضع تشدد الأرضيين لا تعكس آثارها على المرحلة الراشدة بل إن المرحلة الثانية أي الطفولة المتأخرة هي التي يمكن أن تعكس أثرها في نطاق محدد، وإن المرحلة الراشدة هي المتكفلة في الحالات جميعاً بتعديل ما اعوج من السلوك، وإلا فإن التربية الراشدة المخطئة أو البعد الوراثي يظلان هما المسؤولين عن انحراف الشخصية.

وأياً كان الأمر فإن الإحساس بالذنب في ضوء الاتجاهات النفسية بأكمله يظل من حيث المصادر ومن حيث النتائج موضع تساؤل عن مدى جدية ما ينطوي عليه من فعالية، أي الإحساس بالذنب وما يترتب عليه من آثار بالغة الخطورة على الشخصية، فمن حيث المصدر ينبغي أولاً إلغاء التصور الأسطوري لنشأة الإحساس بممارسة الذنب، أي النظرية الجنسية من حيث كونه ميراثاً فطرياً من إنسان ما قبل التاريخ ناجماً عن عمليتي القتل والرغبة المحارمية، أقول: ينبغي إلغاء مثل هذه التصورات الأسطورية وإبدال ذلك بالتصور الإسلامي الذي يربط بين الإحساس بالذنب أو مطلق الخطأ، وبين إلهامية الخير والشر، فالفرد يرث بالقوة مثل هذا الإدراك لإيجابية الخير وسلبية الشر تبعاً لقوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها) أي أن الله سبحانه وتعالى ألهم البشر فطرياً ما هو خير وما هو شر، وحينئذٍ مع هذا الإلهام فإن الشخصية بالضرورة ستتحسس خطأ المفارقة التي صدرت عنها، وليس بالشكل الأسطوري الذي هذر به الباحث الأرضي المذكور. ونحن في الواقع لا نجدنا بحاجة إلى إعادة القول في تبيين مدى التناقض في التصور الأسطوري المشار إليه لنشأة الأحاسيس بالذنب ما دمنا في حينه أوضحنا ذلك، بل أردنا أن نشير فحسب إلى تحديد مصادر الأحاسيس بالذنب أياً كانت هذه الأحاسيس سوية أو مرضية، وأن نصلها بإلهامية الخير والشر، وموقع ذلك من عملية التنشئة الاجتماعية أو الثقافية التي تغلف المناخ الفردي وتنشئه، ثم نتحدث عن طرائق العلاج الإسلامي لما هو مرضي من الإحساس وما هو سوي منه.

والآن لنأخذ بعض الأمثلة التي اعتاد البحث الأرضي على تقديمها في هذا الميدان، خذ لذلك مثلاً كراهية الفرد للأب بسبب استحواذه الجنسي وكبته للكراهية المذكورة خوفاً من العقاب، وذلك من خلال الرغبة المحارمية وما يستتبع كلاً من الكراهية والرغبة المحارمية من إحساس بالذنب نتيجة لجهاز القيم أي (الأنا الأعلى) فيما يقتاد الفرد إلى جملة من أمراض العصاب ومنها تحسسه بالحاجة إلى العقاب الذاتي، وتلذذه بهذا العقاب تكفيراً للذنب المشار إليه. للمرة الجديدة لا نريد التذكير بالتناقض القائم بين الذهاب إلى أن الفرد - أي إنسان ما قبل التاريخ - قد تحسس بالخطأ في قتل الأب وخطأ الرغبة المحارمية، وبين الذهاب إلى أن تاريخ ما قبل القتل والرغبة المحارمية غير مسبوق بالإرث وإنما بدأ الإرث مع عملية القتل، مما يعني بالضرورة أن الإرث في الحالتين متحقق بالقوة لدى الفرد وإلا لم يكن ثمة ما يدعو إلى أن يتحسس بالخطأ ما لم تكن لديه قوة موروثة، إذن نحن بغض النظر عن هذا التناقض يمكننا في ضوء مبادئ النظرية الجنسية ذاتها أن نتوقع نتيجة مضادة للعلاج الذي يستهدفه التحليل النفسي في محاولاته لإزاحة الأحاسيس المرضية بالذنب، فالمريض عندما يتعرف على مناشئ إحساسه بالذنب في ضوء التحليل النفسي ونقل ذلك من مخابئ اللاشعور إلى سطح الشعور سيقع في دائرة جديدة من الإحساس بالذنب بدلاً من إماتة إحساسه الأول، فاللاشعور وفقاً للأسطورة إذا كان قد كتب هذه الرغبة فإنه على الأقل قد خفف من وطأة إحساسه بها، وعندما يبدأ بتسليط الوعي عليها أي المريض من خلال التحليل النفسي سيبدأ عنده إحساس جديد بواقع ما تنطوي عليه أعماقه من رغبة وكراهية، ما دام (الأنا الأعلى) يشجب ويستنكر فطرياً مثل هذه الرغبة المحارمية وكراهية الأب.

من هنا فإن تسليط الوعي على هذه الظاهرة يساهم من خلال الإيحاء بواقع الإرث المذكور في تضخيم أعراض المرض ومنه الإحساس بالذنب في حالة كون الشخصية مريضة كما أنه يساهم في توتيرها وتأزيمها في حالة كونها شخصية سوية، ولحسن الحظ أن الاتجاهات الأرضية الأخرى قد تكفلت كما قلنا بالرد على النظرية المذكورة، وما تحمله من خطأ وانحراف فضلاً عما تسببه من تضخيم للأعراض العصابية، ولعل أبرز هذه الردود يتمثل في الذهاب إلى أن الرغبة المحارمية تظل من نصيب الشواذ ممن ورثوا عصباً منحرفاً شأنه شأن أية شخصية منحرفة ترث الانحراف أو البيئة الشاذة التي يلد الانحراف في نطاقها، ومنها بيئة صاحب النظرية نفسه، حيث أن مؤرخ هذه الشخصية يشير إلى أن انحراف بيئته واستمداده نظرياته من البيئة المنحرفة المشار إليها.

على كل إن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة يظل من الوضوح بمكان كبير حيث ينطلق هذا التصور كما قلنا من إلهامية الخير والشر وحينما يشير هذا التصور إلى أن الزواج من أي نمط من المحارم محكوم بالرفض الحاد، وهو رفض قائم ليس على أساس إن الالتزام بمبادئ ترتضي الشخصية الإسلامية مفروضية الالتزام بها، بل المشرع نفسه يقدم لنا أكثر من نموذج فطري على كراهية الشخص ونفوره من المحارم، وليس على الرغبة، ومن ذلك النموذج المتمثل في الابن الذي ولدته أمه سفاحاً وأنكرته أمام القضاء عندما طلبت الزواج منه وأعلن أمامها بصراحة بأنه ينفر من هذه المرأة بسبب لا شعوري، ثم انكشف الواقع عندما أقرت المرأة بجريمتها عبر محاكمة الإمام علي (عليه السلام) إياها. فهذا النموذج يفصح بوضوح عن أن الفرد يرث عنصر النفور وليس الرغبة حيال المحارم، كما كان هذا الابن ينفر من أمه عندما طالبته بالممارسة.

مضافاً إلى ذلك أن هذه الرغبة تمثل الشذوذ أو الانحراف الذي طالما نبه المشرع الإسلامي إلى بعده الوراثي والبيئي ضمن شروط خاصة سبق التحدث عنها في محاضرات متقدمة.

إذن من حيث مصادر الإحساس بظاهرة الذنب نجد أن المصدر أساساً منتفٍ فيما ينتفي معه الإحساس أيضاً وهذا يعني أن مصدر الإحساس بالذنب لابد أن يتجسد في ظاهرة أخرى غير الظاهرة الأسطورية المتصلة بالرغبة المحارمية وقتل الأب بل بظاهرة متصلة في نظر الاتجاهات النفسية الأخرى بنمط التربية الطفلية وما يصاحبها من الصرامة والقسوة والتزمت ونحو ذلك..

والحق أن الصرامة في تأديب أو تدريب الطفل من الممكن أن تنمي في داخله مشاعر الأحاسيس بالذنب لو انحصر الأمر في عملية العقاب فحسب، دون أن تكون مشفوعة بالثواب مثلاً، أو لو انحصر الأمر في إنماء مشاعر النقص لدى الطفل على نحو يقترن بالإحساس بأن أخطائه من المتعذر أن تتجاوز ما دام النقص يقف حائلاً دونها، مثل هذه المشاعر من الممكن أن تتنامى في الواقع في نطاق التنشئة المشار إليها، لكن ينبغي أن لا نغفل أولاً إمكانية وجود الأساس العضوي للإحساس العصبي بالخطأ، أي إمكانية أن يرث الطفل جنبة عضوية لإحساسه المرضي بالخطأ، كما ينبغي أن لا نغفل فاعلية الوعي في المرحلة الراشدة، وهي فاعلية كفيلة بأن تمسح آثار الطفولة جميعاً في حالة عدم افتراض وجود الإحساس العضوي للمسألة، فإذا افترضنا أن سرقة ما قد تمت في الطفولة وإن الطفل قد كبت هذه السرقة في أعماقه بما يقترن الكبت من إحساس بالذنب نتيجة للسرقة وبما واكبها من صرامة في التأنيب على الفعل المذكور، حينئذٍ حين ننقل هذه الحالة الطفلية التي تمت السرقة فيها إلى وعي الطفل وقد أصبح راشداً وعندها في ضوء الوعي الإسلامي لدى هذا الراشد يدرك أن السرقة تمت في عام الطفولة حيث لا عقاب من الله عليها، وإلى أن الأب أو ولي الطفل مطلقاً كان قد أخطأ في تشدده على الطفل، مثل هذا الوعي يكفي بأن يمسح المشاعر التي اقترنت بالسرقة الطفولية حيث يتحرر الراشد من كل مكبوتاته ويحسم الأمر.

ثم إذا افترضنا أن الصرامة المذكورة قد اقترنت بأسطورة كراهية الأب، نظراً للقسوة التي مارسها الأب حيال الطفل وانعكاس هذه القسوة في كراهية لاشعورية للأب، وما تستتبع هذه الكراهية من خوف العقاب الذي يلحقه الأب بالابن وتجسده من ثم في إحساس بالذنب نتيجة للكراهية المذكورة.

أقول مع هذه الافتراضات جميعاً فإن الوعي الإسلامي للراشد كفيل بأن يمسح جميع الآثار اللاشعورية للخبرة المذكورة فالراشد سيدرك أن الأب كان حريصاً على تنشئته إسلامياً بل حتى مع افتراض خطأ الأب فإن الراشد سيدرك إخلاص أبيه في قسوته المذكورة بل في افتراض عدم إخلاص الأب، فإن إدراك الراشد لوظيفته حيال الأب كاف بمسح الآثار التي تنمي الكراهية حياله.

إذن يتلاشى لدى الراشد أي إحساس بالذنب لمجرد تملكه للوعي الإسلامي بأن الطفولة لا عقاب عليها وبأن قسوة الأب يتسامح حيالها ما دامت السماء تطالب باحترام الأب، وعندها يتحرر الراشد من خبراته المؤلمة تماماً.

بقي أن نشير إلى أن بعض بحوث الأرض عندما تصل بين مصادر الإحساس بالذنب ونتائجه وعندما تشدد في استتلائه الحاجة إلى عقاب الذات فإنها لا تقف عند هذا العرض المرضي بل تتجاوزه إلى أعراض تتصل بعصاب الكآبة والقلق والتسلط القهري بل تقف وراء حالات ذهانية مثلما تقف وراء انحراف الشخصية اللاجتماعية أيضاً.

على أية حال يظل الإحساس بالنقص والإحساس بالذنب بدلالتهما المرضيتين من أبرز أشكال التقدير السلبي للذات، وما دمنا نتحدث عن التقدير السلبي للذات فإننا نتجه إلى نمط آخر من التقدير السلبي للذات وهو ما نصطلح عليه بعبارة (رثاء الذات) حيث نحدثكم عن ذلك الآن.

وفي هذا الصدد نقول: لعل الرثاء للذات بشكل عام يظل هو المظهر المحدد لأية نظرة سلبية ينسجها الفرد حول ذاته، سواء أكان الرثاء للذات أو الإشفاق على الذات مرتبطاً بأحاسيس النقص أو الذنب أو كان مرتبطاً بسواه من أشكال النظرية السلبية للذات وتحديد ما هو مرضي منه وما هو صحي من ذلك.

بالنسبة إلى التصورات الأرضية نجد أن هذه التصورات تمتلك إدراكاً أحادي الجانب في نظرة الفرد عن ذاته من حيث رثاؤه للذات المذكورة، وهذا التقويم السلبي للذات يظل حاملاً طابعه المرضي، وأما التصور الإسلامي فإنه يمتلك تفسيراً ثنائياً لا أحادياً لهذه الظاهرة، التفسير الأول هو إكساب التقدير السلبي للذات طابع المرض، ولكن في أية حال في حالة كونه تقديراً قائماً على جملة من السمات العصابية كالشك والتردد والاستسلام والتبعية والجرم والتهويل وما إلى ذلك من أنماط السلوك الذي طالما نبهت النصوص الإسلامية إلى طابعه المرضي، وقد مرّت بنا جملة من التصنيفات الإسلامية للعصاب حيث كانت تنسب مفردات السلوك التي أشرنا إليها الآن، تنسبها إلى المرض فيما لا حاجة إلى إعادة الكلام فيها.

والتصورات الأرضية تلتقي مع وجهة النظر الإسلامية في هذا النمط من النظرة السلبية التي ينسجها الفرد حول الذات، إلا أن نمطاً آخر من التقويم السلبي للذات وهذا ما ينبغي لفت النظر إليه هو الذي ينفرد به التصور الإسلامي ويكسبه طابعاً صحياً فيما تظل الأرض غائبة عن ذلك تماماً وهذا ما نود التشدد فيه ونكرر الإشارة إليه ونلفت النظر إليه حتى يتبين لكم مدى الفارق بين التصورات الأرضية والتصورات الإسلامية فيما يتعين علينا أن نغير نظراتنا التي نسجتها التصورات الأرضية مع الأسف حول هذا الجانب، ولذلك نبدأ فنقول:

إن التصور الإسلامي في جانبه الإيجابي لنظرة الشخصية حيال ذاتها يرى أن نظرتنا لذواتنا ينبغي أن تكون سلبية راثية للذات، مشفقة على الذات، متحسسة بقصور الذات، ولكن ليس من حيث العمل الوظيفي للذات لأن العمل الوظيفي للذات هو عمل يقوم ضد الشك والتردد والتبعية والجبن والتهويل والاستسلام وو.. أي على عكس ذلك تماماً، لذلك ينبغي أن نفسّر نظرتنا لذواتنا السلبية من حيث ارتباطها أو تفاعلها مع الله سبحانه وتعالى مع الآخرين في ميدان المهمة العبادية الملقاة علينا.

ولنقرأ هذا النص للإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في توسله بالله تعالى قائلاً: (لا ترفعني في الناس درجة إلا حطتني عند نفسي مثلها ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلاً باطناً عند نفسي بقدر ) إن هذا النص يطلب من الله سبحانه وتعالى بأن يجعل الشخصية ناسجة النظرة السلبية حول ذاتها، وذلك بأن تتحسس الذل والحطة بدلاً من الإحساس بالرفعة، ولكن لنلاحظ أن الإحساس بالذل والحطة إذا أخذناه بدلالته الأرضية أو بدلالتها المرضية التي شرحناها سابقاً من حيث صلتها بالجهاز النفسي أي الوظيفي، إن هذا النمط من الإحساس يظل ذا طابع عصابي فأنت حينما تتحسس ذاتك وكأنك عديم الكفاءة حيال إنجاز عمل ما أو حيال التعامل مع الآخرين يكون حينئذٍ تقديرك السلبي لذاتك تقديراً مرضياً، وهذا على العكس تماماً عندما تتجه إلى الله سبحانه وتعالى وتجد نفسك أنك قاصر في أداء وظيفتك العبادية.

ولكي نقارن بين هذين التصورين، أو بين هذين النمطين من الإحساس يحسن بنا أن نقدم مثالاً:

لنفترض أنك كلفت بمهمة للتدريس أو الالتحاق بدائرة رسمية أو القيام بمهمة سياسية حينئذٍ سيكون تقديرك السلبي لذاتك مرضياً في حالة ما إذا تحسست بعدم الجدارة أو الكفاءة بإنجاز ما أوكل إليك، كما لو أصابك الخجل أو الخوف من عملية التدريس، وكما لو قدمت رجلاً أو أخرت أخرى في الالتحاق بالدائرة الرسمية خوفاً من إخفاقك في التعامل مع الآخرين، أو أن يصيبك التلعثم أو اصفرار اللون أو احمرار اللون أو الاضطراب بعامة عندما تجلس على مائدة التفاوض مع الآخرين، فالخجل أو الخوف وما يصاحبهما من الاضطراب اللفظي والحركي ينجم من النظرة السلبية التي نسجتها حول ذاتك، وهي نظرة مرضية قائمة على إحساسك بعدم الكفاءة، على إحساسك بالدونية والضعف والتبعية والذل و.. الخ.

إن هذا المرض من الإحساس المريض يظل متميزاً عن نمط آخر من الإحساس السلبي حيال الذات حينما تتحرك على صعيد آخر هو التعامل مع الله سبحانه وتعالى بل وحتى التعامل مع الآخرين، وهو تعامل أشار إليه الإمام السجاد (عليه السلام) حينما طالبت أن ننسج نظرة سلبية عن ذواتنا متمثلة في الحطة والذل، أي أن الحطة والذل في سياقهما العبادي يظلان سمة صحية وليس مرضية عندما يتحسس المرء بهما حيال واجبه التي رسمته السماء على هذه الأرض، والفارق بين الإحساسين الصحي والمرضي يتحدد بوضوح عندما نخضعهما لمعيار نفسي يقره علم النفس الأرضي أيضاً ألا وهو مبدأ تقبل الواقع، فهذا المبدأ طالما تشير توصيات الأرض إليه في حقل الصحة النفسية حيث تطالب التوصيات بأن يتقبل الفرد ذاته بقدر حجمها، لا أن يبالغ في خلع التقدير عليها أكثر مما هي عليه أي يقلل من قيمتها، وحين ننقل هذا المبدأ الأرضي وهو مبدأ صائب إلى حقل تعاملنا مع الله سبحانه وتعالى أو حتى مع الآخرين من خلال المهمات العبادية الموكلة إلينا، حينئذٍ ندرك دلالة ما أشار الإمام (عليه السلام) إليه من الإحساس بالحطة والذل حيث يجسدان مبدأ تقبل الواقع، أو مبدأ التقدير الحقيقي لذواتنا.

إن مبدأ تقبل الواقع أو التقدير الحقيقي للذات يفرضان على الشخصية أن تنسج نظرة راثية مشفقة على ذاتها، أي نظرة الذل والحطة لحجم الذات قبال الله سبحانه وتعالى، وقبال المهمة التي تخوفت الكائنات الأخرى من تحمل نتائجها بينما تحملها الكائن الآدمي، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) إن هذه الآية تحسم الموقف بوضوح حينما تربط بين أداء الأمانة أو الخلافة أو المهمة العبادية وبين قصور الإنسان في الاضطلاع بمهمته، ومن الواضح أن الذات الإنسانية ذليلة الحجم منحطة قبال الله سبحانه وتعالى، وحينما ينسج المرء نظرة ذليلة عن ذاته حيال الله تعالى يكون حينئذٍ قد انطلق من المبدأ أو المعيار الصحي الذي أقرته التصورات الأرضية ألا وهو مبدأ تقبل الواقع، أي أن هذا النمط من الإحساس بحطة الذات وذلتها أمام الله سبحانه وتعالى يكتسب طابعاً صحياً على العكس تماماً من الإحساس بعدم الكفاءة النفسية في مواجهة التدريس مثلاً أو الالتحاق بالدائرة أو القيام بإنجاز العمل الذي يمارسه الآدميون وفاقاً لإمكانات طبيعية أودعها الله تعالى فيهم.

وهذا كله فيما يتصل بحجم الذات قبال الله تعالى، لكن فيما يتصل بالتقدير السلبي للذات حيال الالتزام بمبادئ السماء فإن الأمر محكوم بالطابع ذاته، ولنقرأ النص الآتي للإمام الكاظم موسى بن جعفر (عليه السلام) في مخاطبته لبعض ولده:

(يا بني عليك بالجد ولا تخرجن نفسك عن حد التقصير في عبادة الله عز وجل وطاعته فإن الله لا يعبد حق عبادته).

إن هذه الفقرة الأخيرة (إن الله لا يعبد حق عبادته) مفصحة عن دلالة ما ألمحنا إليه من مبدأ تقبل الواقع أو التقدير الحقيقي للذات فما دام الله لا يعبد حق عبادته فحينئذٍ لا مناص من الإحساس بالقصور في حجم عملنا العبادي الذي نقدمه قبالة الله تعالى.

من هنا إن أي إكساب للذات يكبر عن الحجم الحقيقي لها يظل عرضاً مرضياً بالنحو الذي تقره بحوث الأرض ذاتها، ومن هنا أيضاً ندرك الدلالة المرضية لأي تقدير زائف للذات من خلال النهي الذي تشدد النصوص الإسلامية فيه من نحو قوله (عليه السلام): (لا تستكثروا كثير الخير) فإن استكثار كثير الخير يعني أن الشخصية تنسج تقديراً إيجابياً لذاتها، وهذا التقدير الإيجابي لا واقع له إلا في ذهن المريض بصفة أن المريض يبالغ في تقديره لذاته ويمنحها حجماً أكبر من واقعها، بينما يظل تقديرها السلبي للذات مفصحاً عن سويتها الشخصية، لأنها بهذا التقدير السلبي أكسبت ذاتها حجمها الحقيقي، والأمر نفسه يمكننا أن نسحبه على شتى أنماط النشاط الذي تصدر الشخصية عنه، حيث تطالبنا النصوص الإسلامية بأن ننسج عن ذواتنا نظرات سلبية مشفقة متحسسة بالقصور حتى حيال الآخرين، ونعني بالآخرين نظرتنا عن ذواتهم من خلال نظرتنا عن ذواتنا، فالنصوص الإسلامية تطالبنا مثلاً في حالة رؤيتنا لشخص يكبرنا سناً بأن نقول لأنفسنا لقد سبقنا هذا بحسناته لكبر سنه، وفي حالة رؤيتنا لشخص يصغرنا سناً تطالبنا النصوص بأن نقول لقد سبقناه بالسيئات لأننا أكبر منه سناً لذلك فإن سيئاتنا أكبر منه حجماً.

وواضح من خلال هذه التوصية أنها تطالبنا بأن ننسج نظرة سلبية عن ذواتنا في الحالتين كلتيهما سواء أكنا قبالة شخص يكبرنا سناً أو يصغرنا وأن ننسج نظرة إيجابية عن الآخرين سواء أكانوا يكبرونا سناً أو يصغرونا، والسر في ذلك أن النظرة السلبية عن ذواتنا قبالة نظرتنا الإيجابية عن ذوات الآخرين تظل مرتبطة بنفس المعيار الصحي الذي رسمه المشرع للشخصية الإسلامية في ضرورة إحساسها بالقصور والرثاء للذات والإشفاق عليها ما دامت لم تقم حق القيام بالمهمة العبادية الملقاة عليها قبالة السماء مهما توفرت على العبادة الحقة.

إلا أن السؤال يثار على هذا النحو: إذا لم يستطع الكائن البشري أن يضطلع بالعبادة الحقة فلم ينسج نظرة سلبية للذات وينسج نظرة إيجابية للآخرين مع أن الكائنات الآدمية (أنا والآخر) متماثلة القصور؟.

والإجابة على هذا السؤال تتحدد بوضوح حين نأخذ بعين الاعتبار أن التوصية المذكورة تظل موجهة للكل، أي إلى أن ينسج كل منا نظرة سلبية عن ذاته لا أن الآخرين معفوون عن تقدير ذواتهم سلبياً مع ملاحظة أن تقويمنا للآخرين لا يعني أنهم مارسوا المهمة العبادية على الوجه الأكمل بقدر ما يعني أنهم قدموا إنجازاً عبادياً أكبر حجماً من إنجازنا. وتتحدد هذا التقدير السلبي للذات قبال التقدير الإيجابي للآخرين في ضرورة تدريبنا على تحسيس أنفسنا بالقصور حتى لا نقع في دائرة العجب التي سبق أن حدثناكم عنها مفصلاً في حقل التقدير الاجتماعي، طبيعياً من الأهمية بمكان أن نضع فارقاً بين التقدير الذاتي وصلته بتقدير الآخرين من حيث سلامة الجهاز النفسي وبين ذينك التقديرين من حيث الإدراك العبادي.

إن علماء النفس المعنيين ببحوث الشخصية وبخاصة البحوث المتصلة بنظرية الذات طالما يربطون بين نظرة الشخصية لذاتها ونظرتها للآخرين ونظرة الآخرين عنها، ومع أن الدراسات التي أجريت في هذا الصدد لم تستطع أن تثبت علاقة ارتباطية بين الثلاثية المذكورة بحيث يمكن تعميمها على الحالات جميعاً إلا أن المتيقن وجود صلة بين نظرة الفرد عن ذاتها وانسحابها عن الآخرين وانسحاب نظرية الآخرين عليه، فإذا افترضنا أن شخصية ما تتقبل ذاتها فإنها ستتقبل الآخرين وسيتقبل الآخرون أيضاً. ومع أنه من المتيقن أيضاً إمكانية أن تتقبل الشخصية ذاتها ولا تتقبل الآخرين أو تقبلهم ولا يتقبلونها، إلا أنه من المتيقن أن تقبل الذات يسحب أثره على تقبل الآخرين على الأقل دون أن نفترق تقبل الآخرين للشخصية أيضاً، فالشخصية المتسامحة أو المرنة مثلاً حينما تتقبل ذاتها وتحكم على ذاتها بالمرونة أو التسامح ستتقبل الآخرين أيضاً وتحكم على ذواتهم بالمرونة من خلال نظرتها عن ذاتها والعكس هو الصحيح أيضاً.

لكننا حين ننقل هذه الحقيقة النفسية إلى صعيد العمل العبادي فإن الأمر يأخذ مساراً آخر في عملية التقدير للذات، لأن الأمر في الواقع يرتبط بقصورنا الحقيقي حيال الالتزام بمبادئ الله سبحانه وتعالى، أي ما دام الأمر مرتبطاً بمبدأ تقبل الواقع فيما يتعين على الفرد أن ينسج نظرة سلبية عن ذاته دون أن تحدثه نفسه بأن يسحب النظرة المذكورة على الآخرين، ودون أن تحدثه نفسه بأن يقوم ذاته إيجابياً قبالة تقويمه الإيجابية للآخرين، أو تقويمه الإيجابي لذاته.

نخلص مما تقدم إلى أن التقدير الذاتي لدى الشخصية الإسلامية يتسم نمطين من التقدير أحدهما المرضي والآخر السوي، ويتمثل الطابع المرضي للإحساس السلبي للذات من حيث عدم الكفاءة والجدارة وحصول الشك والتردد والاستسلام والخوف والتبعية والتهويل وما إليها من السمات المرضية التي تشل الفرد من ممارسة عمله الاعتيادي في الحياة، وعلى العكس من ذلك فإن التقدير الإيجابي للذات يكتسب طابع السوية حينما تتحسس الشخصية بكفاءتها.

التصور الأرضي يلتئم مع التصور الإسلامي في هذه الظاهرة ويفترق التصور الإسلامي عن ذلك في نمط آخر من التقدير السلبي للذات في نطاق تعامل الشخصية مع السماء ومبادئها فيما يظل مثل هذا التقدير السلبي غائباً عن علم النفس والتربية الأرضية بسبب من غيابهما عن السماء أساساً وهو تقدير تكتسب سلبيته طابع الصحة النفسية في ضوء المعيار الأرضي نفسه أي معيار تقبل الواقع أو التقدير الحقيقي للذات أي واقع الذات في ضآلتها قبال خطورة السماء أي الله سبحانه وتعالى.

نكتفي الآن بهذا القدر من الحديث ونستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..