mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 19.doc

في محاضرة سابقة كنا نتحدث عن التقدير الاجتماعي بصفته أحد الدوافع الذي يعنى به البحث الأرضي وبصفته أحد الدوافع الذي عني به البحث الإسلامي أيضاً، إلا أنه كان يملك تصوراً خاصاً حياله حدثناكم عنه بشكل مفصل في محاضرات سابقة.

أما الآن فنتحدث عن التقدير الاجتماعي وصلة هذا التقدير بنمط من السلوك أو بنمط من الدوافع التي يعنى به البحث الأرضي ويطلق عليها مصطلح (الدافع إلى السيطرة أو الفوقية)، ولعلكم تعلمون تماماً أن هذه الظاهرة؛ أي الظاهرة التي اعتاد علماء النفس أن يدرجوها ضمن الحاجات أو الدوافع النفسية هي الحاجة المشار إليها، أي الحاجة إلى الفوقية أو التفوق أو السيطرة. ونعني بهذا الدافع الشعور الخفي أو الشعور الحاد الذي تتحسسه الشخصية بأن تتفوق على الآخرين أو أن تبسط نفوذها عليهم أو أن تصبح متميزة عنهم بشكلٍ أو بآخر، سواء أكان هذا التفوق أو النفوذ أو التميز في النطاق العلمي أو الإدارة أو السياسة أو أي نشاط اجتماعي تمارسه الشخصية.

بيد أن هذه الظاهرة على الرغم من اكتسابها في الواقع سمة الحاجة أو الدافع في نظر بعض الاتجاهات النفسية ومنها الاتجاه القصدي في علم النفس وهو مدرسة معروفة في علم النفس، تنتسب إلى إحدى مدارس التحليل النفسي، ولكن صفاً كبيراً من الباحثين الأرضيين لا يخلعون على هذه الظاهرة صفة الغريزة أو الحاجة أو الدافع بقدر ما يعدونها دافعاً أو حاجة مكتسبة تحدد درجتها بحسب نمط الثقافة التي تحيا الشخصية في نطاقاتها، والدراسات التي يقدمها هذا الصف من الباحثين تؤكد صحة افتراضهم في كون الدافع المشار إليه مكتسباً وليس وراثياً.

أما الاتجاه الإسلام فإن وجهة نظره في هذا الميدان تظل من الوضوح بمكان كبير حيث أن هذا الاتجاه أساساً يلغي الآخرين من الحساب على نحو ما تحدثنا عنه مفصلاً عن إلغاء للتقدير الاجتماعي حيث يظل البحث عن الرئاسة والفوقية جزءاً من البحث عن التقدير المذكور، إنه يرى ما يسمى بدافع السيطرة أو الفوقية ظاهرة مرضية تنتسب إلى أصول الكفر أو المعصية تشدداً من الإسلام على خطورة المفارقة التي تنطوي عليها حب السيطرة أو الفوقية، ويلاحظ كما سبقت الإشارة في محاضرات ماضية أن المشرع الإسلامي يطلق على جملة مما اعتيد على تسميتها بدوافع أو غرائز يطلق عليها مصطلح حب بدلاً من مصطلح الدافع أو الغريزة قاصداً من هذا المصطلح رغبة الإنسان غير المشروعة أو أية رغبة زائدة عن الحاجة، وهذا مثل النص الذي سبق أن استشهدنا به في محاضرات متقدمة منها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إشارته إلى أن أول ما عصي به الله سبحانه وتعالى ستة أنماط، يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أول ما عصي به الله ستة: حب الدنيا وحب الرئاسة وحب الطعام.. الخ). أو ذهاب الإمام (عليه السلام) إلى أن أصول الكفر ثلاثة فيما تشعبت منه فروع هي كما يقول الإمام السجاد (عليه السلام): (حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة ووو.. الخ) فهذا النص يشير إلى أن مصطلح حب ؟؟ مانحن الآن بصدده وهو حب الرئاسة وحب العلو، حيث يعنيان السيطرة والفوقية يدرجهما الإمام (عليه السلام) في قائمة المعاصي أو المفارقات التي لا ترتضيها السماء، مما يعني بوضوح أن هذا النمط من الإحساس أي الفوقية أو السيطرة أو الرئاسة أو.. الخ. لا تشكل أية حاجة في طبيعة التركيبة البشرية بل هي سلوك مكتسب ولعل الآية الكريمة المشيرة إلى أن الدار الآخرة هي للذين لا يريدون علواً في الأرض إنما تشير إلى هذا الدافع، أي دافع حب السيطرة وحب العلو وحب الرئاسة و.. الخ.

على أية حال إن السؤال الذي ينبغي أن نثيره الآن في ضوء ما تقدم هو: لقد ورد مصطلحا الرئاسة والعلو أو السيطرة والفوقية في اللغة الأرضية ضمن قوائم تتصل بحاجات أساسية مشروعة مثل الطعام والنساء وسواهما. فيما أطلق عليها جميعاً في النصين الواردين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام السجاد (عليه السلام) مصطلح (الحب). مما يحتمل أنهما أي الرئاسة والعلو ينتسبان إلى أساس فطري، وإلى أنهما من جانب آخر على صلة بما هو مشروع كالطعام والنساء والجنس والنوم والراحة.. الخ. فالإنسان بالضرورة يحس بالحاجة إلى الطعام وبالحاجة إلى النوم والحاجة إلى الراحة ما دامت جميعاً تمثل أصولاً حيوية لا مناص من إشباعها مما يثير تساؤلاً عن دلالة ما تعنيه النصوص الإسلامية بمصطلح الحب الذي أنكرته النصوص التي قدمناها؟!.

ونستطيع أن نجيب على هذا السؤال بوضوح إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الحب هنا في هذا المصطلح الذي قدمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام السجاد (عليه السلام) يعني الإشباع زائداً على الحاجة، وليس كون الإشباع الذي لا يعد مجرد كونه مشروعاً بل يعد ضرورة كالطعام مثلاً، فالحاجة إلى الطعام أو النوم يتم إشباعهما بأية وجبة أو فترة تزيح التوتر العضلي للمعدة أو الخلايا العصبية، حينئذٍ أما الزائد عليهما من حيث تكثير الشخصية للأكل أو النوم فإنهما يعودان بأضرار دون أدنى شك لأنها ثمار ينبغي أن تتجنب ما دامت الشخصية تنشد التوازن البيولوجي لها. والأمر ذاته فيما يتصل بالتوازن النفسي للشخصية من حيث صلة التوازن الداخلي وعدمه لظاهرتي السيطرة والفوقية، ومع ذلك فإن السؤال يثار على النحو الآتي: هل أن الأصلين النفسيين أي السيطرة والعلو يماثلان الأصلين البيولوجيين الطعام والنوم من حيث مشروعيتهما بنحو يتطلب إشباعهما بقدر الحاجة أي بقدر تحقيق التوازن النفسي، وحينئذٍ يكون الإشباع الزائد عن الحاجة لهما محكوماً بنفس الأضرار التي تترتب على الإشباع الزائد على الحاجة للطعام والنوم؟

كلا.. والحق أن ثمة فارقاً بين دافع حيوي وبين دافع نفسي من حيث درجة الإلحاح الفطري من جانب، ومن حيث إمكانية التعديل أو التحكم فيهما من جانب آخر؛ فأنتم حينما تتحسسون بالحاجة إلى الطعام أو النوم لا مناص لكم من أن تشبعوا هذه الحاجة، ولكنكم لستم محكومين بالضرورة ذاتها حينما تحسون بالحاجة إلى أن تتفوقوا على الآخرين أو أن تسيطروا عليهم، فمن الممكن أن تعدلوا أو تتحكموا في هاتين الحاجتين النفسيتين أو يمكنكم أن تسلخوهما أساساً عن ذاكرتكم كما أثبتت ذلك دراسات علماء الأقوام في هذا الميدان، والواقع أننا لا نحتاج إلى دعم الدراسات التجريبية في إكساب الحقيقة المذكورة يقيناً علمياً بقدر ما تفصح الحقائق أو التجارب عن ذلك، فنحن طالما نألف نماذج تقع تحت أبصارنا وأسماعنا ممن لا يعنون بالفوقية أو السيطرة أساساً، إنهم يخفون أسمائهم إذا أرادوا تأليف كتاب ما ويخفون أسمائهم إذا أرادوا مساعدة الآخرين ويخفون أسمائهم إذا قاموا بمشروعات ضخمة، كل ذلك يفصح بوضوح عن أن الحاجة إلى الفوقية أو التحسس بالتعالي أو السيطرة أو ما إلى ذلك تظل حاجات مريضة لا تصدر عن الشخصية السوية البتة.

لكننا بالرغم من ذلك جميعاً ينبغي أن نعالج هذه الظاهرة في ضوء التصور الإسلامي لها وتحديد موقع ذلك من الذات، أي الذات التي تبحث عن إشباع لحاجاتها المشروعة من جانب وإلغاء ما هو غير مشروع منها من جانب آخر، ومن ثم وهذا هو المهم محاولة تنظيم الدافع أو الأصل النفسي لها أي لما هو مشروع من حاجات الذات في ضوء صلتها بالفوقية أو السيطرة عبر دلالتيهما الإسلاميتين بطبيعة الحال.

وفي هذا الميدان نقول: إن المعيار الإسلامي في تحديد ما هو مشروع أو غير مشروع من الرئاسة أو العلوّ يظل مرتبطاً بما هو عقلي وما هو شهوي، أو ما هو موضوعي وما هو ذاتي، وحينئذ حين نتحدث عن هاتين الظاهرتين نجد أن البعد الذاتي فيهما من الوضوح بمكان كبير لأنهما تتصلان بنفس الأعراض المرضية التي تسم الباحث عن التقدير الاجتماعي المنفصل عن تقدير الله سبحانه وتعالى.

إلا أن هاتين الظاهرتين قد تكتسبان بعض الأحيان دلالة موضوعية فتصبحان حينئذٍ حاجتين موضوعيتين لا صلة لهما بالإشباع الذاتي المريض، إلا من حيث ارتباطهما بالإشباع الموضوعي المرتبط بالسماء أساساً ولعل أوضح نموذج للحاجة الموضوعية إلى الرئاسة تتمثل فيما نعرفه جميعاً من مطالبة يوسف (عليه السلام) حينما طالب بأن يصبح خازناً على الأرض حتى أنه زكى شخصيته خالعاً عليها سمتي الحفيظ والعليم تأكيداً للحاجة الموضوعية المذكورة، والأمر ذاته فيما يتصل بالحاجة إلى الفوقية عندما يستدعي السياق الموضوعي إبراز الشخصية الإسلامية لتمرير أهدافها المرتبطة بالسماء وليس بذاتها المريضة.

من هنا نجد الإمام علي (عليه السلام) يسم من يتصدر مجلساً علمياً بالحماقة إذا لم يكن مستهدفاً من تصدره المذكور للمجلس سلوكاً موضوعياً صرفاً، يقول (عليه السلام): (لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل وينطق إذا عجز القوم عن الكلام ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله فمن لم يكن فيه شيء منهم فجلس فهو أحمق).

واضح من هذا النص أن الإمام (عليه السلام) في صدد التحديد الموضوعي الصرف في عملية من يتصدر المجلس؟ فالفقرة الأخيرة أي القائلة ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله،تحدد لنا موضوعية الهدف من الشخص الذي يتصدر المجلس ألا وهو إبداء الرأي الذي فيه صلاح الناس وليس الرأي الذي فيه تأكيد على الذات عند من يتصدر مجلساً من المجالس ليحسس الآخرين بعلو منزلته مثلاً.

كما أن الفقرتين اللتين تتحدثان عن سؤال وإجابته، أي قوله (عليه السلام): (يجيب إذا سئل) يقول (عليه السلام): (وينطق إذا عجز القوم عن الكلام) إن هاتين الفقرتين تعززان الذهاب إلى أن التصدر في المجلس إنما يرتبط بهدف موضوعي وليس بهدف ذاتي، وذلك أن الشخصية المريضة التي تبحث عن الذات تنزع إلى الإجابة على أي سؤال دون أن تسبق بسؤال يوجه إليها، أو تتحدث لغير ضرورة في حالة ما إذا لم يعجز الآخرون عن الكلام، وهي على العكس تماماً من الشخصية السوية التي لم تتحدث إلا إذا وجدت أن الآخرين عاجزون عن الإجابة ولم تتحدث إلا إذا وجه إليها سؤال، وإلا فإنها تظل صامتة أو تظل جالسة دون موقعها من المجلس وليس في صدارة المجلس مما ينم عن أن شخصيتها تتسم بالسوية وليست تبحث عن التأكيد الذاتي أو المريض لشخصيتها.

التقدير الذاتي

بهذا ننتهي عن الحديث عن دافعي السيطرة والفوقية وصلة ذلك بالتقدير الاجتماعي، أما الآن فننتقل إلى موضوع آخر يحمل عنواناً هو التقدير الذاتي، وهذا في الواقع مصطلح يرتبط بكلمة (الذات)، حيث أن الذات من حيث المفهوم ترتبط لدى علماء النفس والتربية بالبحوث الشخصية أي هناك فرع خاص من فروع علم النفس يعنى هذا الفرع بالشخصية وسماتها، ومفهوم الذات يجسد واحداً من المفاهيم التي ترتبط بسمات الشخصية من حيث التعريف بها وبالسمات التي تحملها. وهذا من حيث المصطلح الذي عنيناه بعبارة الذات، وأما تقدير الذات أو التقدير الذاتي فيعني طبيعة النظرة التي يحملها الفرد عن شخصيته بشكل عام.

وفي هذا الميدان نقول: إن نظراتنا نحن عن ذواتنا، عن شخصيتنا، عن نفسيتنا، عن كياننا، هذه النظرة لذواتنا قد تكون إيجابية كما لو أحسسنا بأننا ذوو كفاءة وذوو ثقة وذوو استقلال وذوو تفاؤل وو.. الخ، وقد تكون نظرتنا لذواتنا سلبية من نحو الإحساس بدونيتنا وضعتنا وتبعيتنا وترددنا وو.. الخ، ومما لا شك فيه أن إدراكنا لذواتنا بهذا النحو يلتئم مع التصور الإسلامي للذات، فالمشرع الإسلامي يطالبنا بأن ننطلق من التصور الإيجابي لذواتنا، إنه يطالبنا بطرد الأحاسيس المتصلة بالشك والتردد والإستسلام والتبعية، كما أن إشارة السماء إلى أنها قد فضلتنا نحن الآدميين على الكائنات الأخرى تفضيلاً وإلى أنها أسجدت الملائكة لآدم (عليه السلام)، وإلى أنها جعلتنا خلفاء في الأرض كل ذلك يحسسنا بأن نظراتنا لذواتنا ينبغي أن تكون إيجابية لا أن تكون متسمة بالمرض تفترسها مشاعر النقص والخوف والاستسلام والرثاء والإشفاق على الذات.

لكن ما يميز التصور الإسلامي لهذه الظاهرة عن التصور الأرضي لها هو أن نظرتنا لذواتنا تحصر إيجابيتها في مجرد إحساسنا بأننا ذوو كفاءة من حيث سلامة جهازنا النفسي فحسب، ومن حيث وجود قدرات فاعلة في إنجاز المهمة العبادية التي وظّفنا من أجلها، دون أن يمتد ذلك إلى مطلق أحاسيسنا بكفاءتنا من حيث علاقتنا بالسماء أو بالآخرين، بل العكس من ذلك يطالبنا المشرع الإسلامي بأن ننسج نظرة سلبية عن ذواتنا في نطاق تفاؤلها مع الله سبحانه وتعالى، وحتى مع الآخرين، وهو أمر يفترق فيه التصور الإسلامي عن التصور الأرضي تماماً، بل إن التصور الأرضي نظراً لعزلته عن السماء لا يفقه شيئاً من هذه النظرة السلبية التي ينبغي أن ينسجها الشخص حول ذاته، وهذا هو أحد أهم معالم التفرقة بين التصورين الإسلامي والأرضي مما ينبغي علينا أن نبدأ بتوضيحه بشكلٍ مفصل.

وأما الآن فنبدأ وننتخب لكم عنواناً هو (التقدير المرضي للذات) حتى نستطيع من خلال فهمنا لهذا العنوان أن نضع يدنا على الفوارق الكبيرة بين التصورين الإسلامي والأرضي لهذه المسألة، نقول:

إن التمييز بينما هو إيجابي وبينما هو سلبي من حيث تقويمنا لذواتنا يتحدد بوضوح حينما نفرز مفردات التقويم الذاتي في نطاق أشكالها المتنوعة وحينما نفرز الطابع السوي عن الطابع المرضي في هذا الصدد، ولعلّ أبرز مفردات التقدير المرضي للذات هو ما يلي:

1- الإحساس بالنقص: يعد الإحساس بالنقص، أي إحساس الشخصية بأنها شخصية تتسم بالضعة والدونية والهوان وبعدم الكفاءة.. يعد الإحساس بالنقص في هذا الميدان مظهراً مرضياً في تقدير الفرد ونظرته عن ذاته، ونحن لو بحثنا عن الجذور الأولى لهذا الإحساس بالنص نجده نابعاً وفقاً لتصورات الأرضيين أنفسهم، إما من الإحساس الواعي بعدم قدرة الفرد على إنجاز فاعلية ما أو من الإحساس اللاواعي به حيث يضرب بجذوره إلى الطفولة وانعكاسها على سلوك الراشد، وأما الإحساس بالكفاءة أو الأهلية أو الثقة، أي عكس ذلك، فإنه يعد مظهراً سوياً في عملية تقويم الفرد ونظرته لذاته، والبحث عن جذور هذا الإحساس السوي يخضع لنفس المحددات الشعورية واللاشعورية التي يخضع الإحساس المرضي لها أي من حيث انعكاس الخبرات الراشدة أو الطفولية على الفرد. ويهمنا من الإشارة إلى هذه الظاهرة أن نحدد أولاً مصدرها المرضي ومدى ما يحمله البحث الأرضي من قيمة علمية في تفسيره لهذه الظاهرة وأن نحدد ثانياً قيمة العلاج الأرضي لهذا العرض المرضي ومدى ما يحمله من تفسير صائب أو مخطئ، وأن نحدد ثالثاً طبيعة التصور الإسلامي لهذه الظاهرة وانعكاس ذلك على الخطوط العامة التي تفرز الفارقية بين البحث الإسلامي والبحث التربوي الأرضي أو النفسي في معالجتهما لظاهرة التقدير الذاتي.

في هذا الميدان نقول: يرى أدلر وهو أحد علماء النفس التحليليين أن النشاط الإنساني قائم أساسا على الإحساس بالقصور، وأن هذا الإحساس يمتد بجذوره إلى الطفولة بطبيعتها التي تحسس الأطفال بعجزهم وضعفهم وتبعيتهم للكبار وأن هذا الإحساس يرافق شخصياتهم حتى في مراحل رشدها ما دامت مصادر الإحساس بنقصهم تواجههم في مجالات نشاطهم المختلفة. وهذا الإحساس بالنقص - يرى هذا الباحث - يدفع الشخصية إلى أن تبحث عن السيطرة في شتى مستوياتها الملائمة لمناخ الشخصية تعويضاً عن الإحساس المذكور.

وأما في حالة إحباطها فإن الظاهرة تتحول إلى عرض مرضي مركب نقص، أي في حالة إذا لم تستطع الشخصية أن تعوض إحساسها المشار إليه بالسيطرة أو الفوقية ونحو ذلك. وهنالك من الباحثين المعاصرين من يربط بينها - بين ظاهرة الإحساس بهذا النقص - وبين خبرات لا شعورية ممتدة إلى إعاقة إحدى مراحل النمو الجنسي!، وهذه النظرة كما هو واضح امتداد لأحد تلامذة فرويد المعاصرين حيث يربط بين هذه الظاهرة وبين ظاهرة الإعاقة الجنسية بالشكل الذي أشرنا إليه.

بيد أن غالبية الواقع - غالبية الباحثين - تربط بين هذه الظاهرة وبين قدرات الطفولة المتنوعة بشكل عام دون أن تخصص ذلك بمرحلة جنسية أو غيرها، أي من حيث التربية الخاطئة أو المخطئة التي يمارسها المربون حيال أطفالهم حينما يحسسونهم بأنهم عاجزون وقاصرون وتابعون وأنهم لا خير فيهم وو.. الخ، ويرى هؤلاء أنه حتى في المرحلة الراشدة التي يواجه الفرد خلالها عجزاً حيال مشكلات الحياة حينئذٍ سيتحسس كونه فاشلاً وعاجزاً وو.. الخ، وهذا ما ينمي لديه الإحساس بالنقص.

والمهم أن الاتجاهات النفسية بأجمعها تحصر الظاهرة في نمطين؛ أحدهما الإحساس الواعي بالنقص والآخر الإحساس غير الواعي بالنقص وهو ما يطلق عليه اسم مركب النقص أو عقدة النقص حسب معجم علم النفس المرضي.

وأما في ميدان العلاج النفسي لهذه الظاهرة فإن الاتجاهات التربوية والنفسية ترسم نمطين من العلاج أحدهما محاولة التعرف على جذر الظاهرة ونقلها من مخابئ اللاشعور إلى سطح الشعور وهذا في حالة كونها عقدة أو مركب نقص،وأما في حالة كونها مجرد إحساس واع بالمشكلة فإن العلاج حينئذٍ يأخذ منحيين؛ أحدهما التعويض عنه بمحاولات بديلة مثل الاتجاه إلى الكسب والتجارة مثلاً في حالة إخفاق الشخصية في الدراسة، أو مطاردة النقص نفسه بمحاولات السيطرة عليه كما لو تفرّغ الطالب للدراسة إلى حد ملحوظ. وأما الحل الآخر فهو الإقرار بالأمر الواقع وتقبله، وهذا هو مجمل التصور الأرضي لظاهرة النقص من حيث مصادره وأنماطه وعلاجه.

ولكن حينما نتجه إلى التصور الإسلامي نجد أن المشرع الإسلامي يحدد بوضوح كون الظاهرة المشار إليها منتسبة إلى المرض ومشيرة إلى أنها تتخذ هذا المظهر أو ذاك من سلوك الشخصية يستوي في ذلك أن يكون المظهر شعورياً أو لا شعورياً. فالإمام الصادق (عليه السلام) على سبيل المثال حينما يشير في إحدى توصياته العيادية قائلاً أن (المتكبر لا يتكبر إلا لذلة يجدها في نفسه) فالإمام (عليه السلام) يشير إلى أن الفرد يتحسس بنقص لديه وهو الذل فيعوض عن ذلك بأحد مظاهر السلوك المرضي وهو التكبر.

طبيعياً لا يعنينا الآن أن نتعرف على جذر الظاهرة من حيث كونها شعورية أو لا شعورية، ما دمنا قد أوضحنا في محاضرة خاصة أن استحضار مفاهيم اللاشعور لم تعد وحدها سبيلاً لعلاج الشخصية ما دامت تجارب المحللين أنفسهم أثبتت فشل استحضار مفاهيم اللاشعور في معالجة حالات كثيرة، وما دامت الاتجاهات التربوية والنفسية الأخرى قد قدمت طرائق للعلاج أخرى أوضحناها في حينه.

المهم أن المشرع الإسلامي لا ينفي في الواقع فاعلية اللاشعور بل يشير إليها في مجالات متنوعة، كل ما في الأمر أن العلاج يظل في الحالات كلها محكوماً بمبدأ الوعي في المقام الأول سواء أكان الجذر لا شعورياً أو شعورياً يعيه المريض.

والآن حينما نعود إلى المقولة التي اقتبسناها من الإمام الصادق (عليه السلام) نجد أنه (عليه السلام) قد أشار إلى العرض المرضي للظاهرة وأن هذه الظاهرة قناع تستر به المريض حتى يعوض به ما يتحسسه من النقص في داخله حيث يؤدي إلى التكبر. ومن الواضح أننا لو استعضنا مفاهيم التحليلي النفسي ولغة أصحابه أمكننا  أن نقرر ببساطة أن التكبر في ضوء مقولة الإمام الصادق (عليه السلام) المتقدمة يعد حيلة دفاعية قد توسل المريض بها بغية التخفف من خبراته اللاشعورية.

ومن الممكن أيضاً أن نقول أن المظهر المذكور يعد سلوكاً مصطنعاً تتعمده الشخصية الواعية بواقعها الذليل، إلا أنه في الحالتين لا ضرورة كبيرة لأن نستخلص ما إذا كان المظهر المتكبر مرتبطاً بفاعليات لا شعورية أو شعورية كالتدليل على مصدره بقدر ما تنحصر القيمة في ارتباط ذلك بعرض مرضي هو الإحساس بالنقص.

وعلى أية حال فما يعنينا الآن أن نلفت الانتباه عليه هو أن وجهة النظر الإسلامية قد حددت بوضوح كون ظاهرة الإحساس بالنقص هي منتسبة إلى المرض لا الصحة، ويعنينا من ثم أن نتجه إلى مصادر الإحساس بالضرر المذكورة وطرائق علاجها وهنا نقول:

مما لا شك فيه أن نمط التربية الطفلية تعكس أثرها على هذا الميدان وقد سبق أن تحدثنا مفصلاً عن مستويات التربية المذكورة وصلة القسوة أو الإهمال بتنمية الإحساس بالنقص وبسائر الأعراض المرضية، بيد أن ما شددنا فيه هو عدم إكساب التربية المذكورة ذلك الحجم الكبير من الخطورة بقدر ما تتمثل الخطورة في مرحلتي التمييز، أي الطفولة المتأخرة والمرحلة الراشدة ومن هنا فإن غياب الوعي الإسلامي يظل هو المحدد الرئيس لأي مصدر للإحساس بالنقص، كما يظل مرتبطاً بنمط العلاج الذي يحصل المريض عليه.

إن إحساس الوعي بالنقص حين نصله بوعي الشخصية الإسلامية فإن هذا الوعي كفيل بإزاحته أساساً سواء أكان نفسياً أو جسمياً أو اجتماعياً، إننا نلفت نظر الطالب إلى أهمية ما نحدثه به الآن عن هذا الجانب وهو كيفية معالجة الإحساس بالنقص من خلال الصدور عن وعي إسلامي بالقضية؟ وإلا فإن الصدور عن وعي غير إسلامي سوف لا ينجح الشخصية بالانسلاخ عن إحساسها المرضي المذكور.

لو افترضنا أن شخصية ما تحتلّ وظيفة عادية جداً حيث تمثل هذه الوظيفة نقصاً اجتماعياً كأن تكون الشخصية فراشاً في إحدى الدوائر أو خادماً فيها، أو أن هذه الشخصية ذات انخفاض ملحوظ في الذكاء يقل عن المنحني المتوسط، أو أن هذه الشخصية مصابة بإحدى العاهات كالعمى مثلاً، وهذه تمثل نقصاً جسمياً، الشخصية في الحالة الأولى تمثل نقصاً اجتماعياً وهو كونها خادماً في الدوائر، وفي الثانية تتسم بنقص إدراكي وهو انخفاض في الذكاء وفي الحالة الثالثة مصابة بعاهة العمى حيث تمثل نقصاً جسمياً.

هذه المستويات الثلاثة من الشخصيات وهي في الواقع تمثل نسبة كبيرة من الأفراد بالنسبة إلى المجتمع حينئذٍ فإن أمثلة هذه الشخصيات لو اتسمت بوعي عبادي حاد أي بوعي إسلامي أو صدرت بتعبير آخر عن سلوك إسلامي عبر استجابتها لظواهر الحياة أو المحركات التي تواجهها، حينئذٍ فإن هذا الوعي الإسلامي أو هذه الاستجابة الإسلامية حيال المنبهات المذكورة سوف تتكفل بإزاحة أي إحساس بالنقص لديها، الإسلام يردم الفارقية طبقياً حيث لا يرى فارقاً بين رئيس للدولة وبين فراش أو خادم في إحدى الدوائر إلا من حيث التقوى، لأن التقوى هي المعيار الذي تميز به الشخصية تبعاً للمقولة المعروفة (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

كما أن نظرة هذه الشخصية لعاهة ما كالعمى في المثال المذكور أو انخفاض في الذكاء في المثال الآخر، هذه النظرة أيضاً لا تتجاوز دائرة التقوى التي تظل بدورها معياراً في هذا الحقل مع الأخذ بعين الاعتبار معايير أخرى تطفأ هذه المعايير أي إحساس ولو كان ضئيلاً بالنقص، منها مثلاً التعامل مع الشخصية بقدر الوعي العبادي لديها وبقدر إدراكها العقلي للظواهر فالشخصية ذات الذكاء المنخفض أو الثقافة الضئيلة تظل في الواقع متوازنة مطمئنة آمنة بأن السماء سوف لن تحاسبها على قصورها المذكور أي على نقص في مهاراتها العقلية ما دامت هي غير مسؤولة عن هذا النقص، وما دامت السماء يشير بوضوح إلى أنه ليس على ذوي العاهات أي حرج.

إذن في الحالات جميعاً لا تحفل الشخصية الإسلامية التي تعي مبادئ السماء وتصدر عنها لا تتحسس أي شعور بالنقص لأن التقدير الإلهي وليس التقدير الاجتماعي هو الذي يحقق الفاعلية لدى هذه الشخصية، وهذا على العكس تماماً من الشخصية الأرضية المنعزلة عن السماء حيث تضطر بحكم غيابها عن السماء إلى أن تتحسس بالنقص ما دامت لا تملك إلا الثواب والعقاب الاجتماعيين، وهذان الثواب والعقاب هما إفراز لمجتمع مريض تحكمه الاستجابة المزهوة المتعالية .. الخ.

إن توصيات الأرض في الواقع تظل عديمة الفاعلية في كل ما يتصل بمحو مشاعر النقص من الشخصية، فعلماء النفس والتربويون الذين يطالبون المرضى مثلاً أو المتحسسين بالنقص بأن يعوضوا ما يتحسسونه بسلوك يمكن أن يحققوه عملياً ما دامت الإمكانات الفردية أو الاجتماعية متاحاً لهم.

والطريف أن هناك نموذجاً طالما يستشهد به الباحثون في معالجتهم لهذه الظاهرة حيث يشيرون إلى خطيب يوناني مشهور كان مصاباً بعاهة لسانية لكنه تغلب على هذه العاهة حتى أصبح من مشاهير الخطباء، والسؤال الآن هو: هل يمكن لذوي العاهات جميعاً أن يتعلموا مثل ما أتيح لهذا الخطيب اليوناني، هل أن القابليات متماثلة لدى الجميع؟ وإذا افترضنا أن القابليات متماثلة فهل أن الظروف الاجتماعية تسمح لكل ذي عاهة لسانية أن يصبح خطيباً مشهوراً على المستوى الدولي بحيث يحتل المركز الذي أتيح لواحد من بين الآلاف؟!!.

إن توصيات الأرض تظل عقيمة لا تمس حتى سطح الواقع، إلا في نطاق ضئيل المدى كالمثال المذكور، مما يفسر لنا من جديد سبب إخفاق البحث الأرضي الذي منيت به الأيادي النفسية والتربوية.

ومهما كان فإن التوصية الإسلامية وهي قائمة على جملة من المبادئ كالتقوى والمكافأة بقدر الطاقة وإلغاء التقدير الاجتماعي.. الخ. تظل توصيات واقعية حية كفيلة بأن تمسح جميع الآثار المترتبة على الإحساس بالنقص لدى الشخصية، وهذا كله فيما يتصل بالإحساس الواعي، وأما فيما يتصل بالإحساس غير الواعي أو ما أسماه البحث الأرضي بعقدة النقص أو مركب النقص، فإن الأمر يظل محكوماً بنفس المبادئ التي تتوكأ الشخصية الإسلامية عليها في محو الآثار المحسسة الواعية لنقص الشخصية. فقد سبق أن أوضحنا أن الوعي كفيل بمسح أي مكبوتات لا شعورية دون الحاجة إلى استحضار مفاهيم التحليل النفسي، فنحن لو عدنا إلى مقولة الإمام الصادق (عليه السلام) من أن المتكبر لا يتكبر إلا لذلة يجدها في نفسه، حينئذٍ نقرر بأن الإمام (عليه السلام) قد أشار إلى أن المتكبر يعاني من عقدة نقص لا يتحسسها بقدر ما يتحسس لشعور غامر يدفعه إلى أن يزهو ويتكبر دون أن يدرك مناشئ الشعور المذكور.

وعلاج الحالة في هذا الصدد يأخذ نفس الطريقة التي يأخذها الواعي بالنقص، فالمتكبر حينما نحيطه علماً بأن شعوره الغامض الذي يدفعه إلى الزهو أو التكبر إنما يعود لنمط التربية التي تعرض لها في طفولته، حيث أنمت في داخله مشاعر النقص من حيث تحسيسه بأنه عاجز وطفل وغير مدرك وأنه لا يستطيع أن يقوم بالعمل مستقلاً. الخ، بالإضافة إلى تحقيره وإهماله..  كل ذلك يجعله متحسساً بذل شخصيته وحينئذٍ فإن أول خطوة يبدأ بها المريض هي تحسسه بخطأ التربية المشار إليها ومن ثم بخطأ سلوكه المتكبر الآن.

والخطوة الأخرى تبدأ في محاولاته المتكررة في التدريب على أن يتواضع بعد أن يحيط علماً بأن ظاهرة التكبر تنطوي على مفارقات صحية وعبادية.

إذن في الحالتين، حالة الإحساس الواعي بالنقص والإحساس غير الواعي بالنقص، تظل الشخصية الإسلامية بمنأى عن الوقوع في هاوية المرض المذكور عندما يتاح لها وعي عبادي بالحالة التي تواجهها.

ننتهي من ذلك كله إلى أن الإحساس بالنقص يعد مظهراً مرضياً من مظاهر التقدير للذات، وأن التصور الإسلامي للظاهرة بالرغم من مشاركة بحوث الأرض إياه في الملامح العامة للإحساس المذكور إلا أنه يفترق عنها في طبيعة تصوره لمصادر النقص وطرائق معالجته، حيث أشرنا إلى أنه من حيث مصادر النقص يعد التصور الإسلامي مشاركاً للأرض في نظرتها الذاهبة إلى أثر التنشئة الطفلية دون أن يخلع الإسلام على التنشئة المذكورة أثراً ذا بال، كما لا يشارك بحوث الأرض في بعض تفسيراتها التي تحصر الظاهرة في البعد الجنسي أو تجعل منها أساساً للسلوك البشري بأكمله، كما هو المنطق الأيديولجي الذي يفسر النشاط على أساس من الإحساس بالقصور وأما من حيث طرائق العلاج فإن فاعليتها تنحصر في الوعي الإسلامي للظاهرة على نحو ما تقدم الحديث عنه.

ونكتفي بهذا في الحديث عن الجانب المذكور ونستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..