mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 16.doc

بسم الله الرحمن الرحيم      

تحدثنا في محاضرة سابقة عن العمليات التربوية التي ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار عندما تتوفر على معالجة الانحرافات في السلوك، أو عندما تتوفر على علاج الأمراض النفسية، وفي حينه قلنا أن التصور الأرضي من حيث علاجه للأمراض أو الانحرافات النفسية يتوافق في جانب ما مع الاتجاه الإسلامي ولكنه يفترق تماماً من جانب آخر عن الاتجاه الإسلامي حيث أن الإسلام ينظر إلى السلوك البشري من خلال وقوفه على طبيعة التركيبة التي أبدعها الله سبحانه وتعالى وما واكبها من المبادئ التي تترافق وطبيعة التركيبة المشار إليها، بمعنى أن التصور الإسلامي له مبادئه الخاصة التي يضطلع بها في علاجه للانحراف أو للسلوك السلبي ونجاح ذلك بالقياس إلى ما نجده من الفشل الأرضي في علاج الانحرافات بالنحو الذي حدثناكم عنه في لقاءٍ سابق، وقد انتهينا من ذلك إلى أن التصور الأرضي إنما فشل في علاجه لانحرافات السلوك لأنه نظر إلى الواقع من خلال ما هو كائن فحسب، وقد انعزل تماماً عن السماء التي أبدعت الكائن الآدمي، ورسمت طرائق العلاج لانحرافاته.

وانتهينا أيضاً إلى أن المشرع الإسلامي عندما يقدم توصياته المتنوعة في علاج الأمراض أو الانحرافات إنما ينطلق في ذلك من خلال تفسيره أولاً لمهمة الكائن الآدمي في الأرض، وثانياً من خلال التزام الشخصية الإسلامية بمبادئ السلوك التي رسمها الله سبحانه وتعالى، وبدون الالتزام المشار إليها لا يمكن أن يتم أي نجاح في تعديل السلوك البشري.

وأخيراً انتهينا إلى أن التفسير المشار إليه يقضي بأن وجود البشر هو وجود هادف، وأن المهمة العبادية تحددها السماء من خلال مبادئ الواجب والمندوب وترك المحرم والمكروه.. الخ. وأشرنا أيضاً إلى أن الوجود البنيوي يتميز بأنه مؤقت أولاً، وبأنه وسيلة وليست غاية، وكونه مؤقتا لأنه قبال الحياة الأبدية، وكونه وسيلة فهو من أجل تحقيق الحياة المشار إليه، ومن ثم فإنه مجرد اختبار يشبه الاختبار المدرسي لتسلم درجة النجاح أو الرسوب ثم ما يترتب على هذا الاختبار من مواجهة الشخصية لشدائد أو إحباطات، وأخيراً لكي يمضي الاختبار بنجاح يتعين على الشخصية أن تمارس نمطاً من السلوك هو تأجيل شهواتها وإبدال ذلك باللذة العقلية التي أشار الإمام (عليه السلام) إليها.

وقلنا في حينها أن اللذة أو الإمتاع أو الإشباع يتحقق عبر أشكال ثلاثة هي: اللذة الحسية، واللذة النفسية، واللذة العقلية، وانتهينا إلى أن اللذة النفسية والعقلية هي أشد فاعلية من اللذة الحيوية، وإن كانت اللذة الحيوية هي أشد إلحاحاً، وحتى اللذة الحيوية من الممكن استبدالها بلذة نفسية أو عقلية من خلال الوسيلة التي تتم بها إشباع الحاجة وذلك كالطعام مثلاً، حيث أن الحاجة إلى الطعام تجسد ضرورة لا مناص منها، إلا أن نمط إشباع هذه الحاجة يقترن بلذة عقلية أو نفسية حدثناكم عنها في حينه.

المهم نبدأ الآن فنتحدث بشيء من التفصيل عن مفهوم تأجيل اللذة وما ينطوي عليه من معطيات في ضوء التصور الإسلامي لهذا الجانب، ومدى انعكاساته على تعديل السلوك وهذا ما نبدأ فنحدثكم عنه الآن، وفي هذا الميدان نقول:

عبر التقسيم الذي حدده الإمام علي (عليه السلام) عن التركيبة الدافعية للفرد أي ثنائية الشهوة والعقل، يمكننا بأن نقرر بأن كلاً من اللذائذ الحسية والنفسية والعقلية تنشطر إلى ما هو شهوي ذاتي أو عقلي موضوعي، ومعيار الشهوة أو الذات هو الإشباع المطلق كما كررنا وأما معيار العقل أو الموضوع فهو الإشباع المقيد.

من هنا فإن حديثنا عن اللذة أو الإشباع سيتحدد وفقاً لمصطلح الشهوة والعقل ما دامت اللذائذ المنحصرة في طرائقها الثلاث أي الحسية والنفسية والعقلية، لا تخرج عن كونها بحثاً ذاتياً عن اللذة أو بحثاً موضوعياً عنها، أي بحثاً عقلياً عن اللذة أو بحثاً شهوانياً عنها، وذلك في ضوء المعيار المتقدم. ونكرر الآن تقديم الأمثلة لتوضيح الموضوع:

أولاً: الحاجة إلى الطعام كما تلاحظون ذلك تجسد بحثاً عن إشباع حسي للذة، فحين تبحث الشخصية الآدمية عن الإشباع المطلق لهذه اللذة كأن تغتصب أو تلتهم الطعام بدون رعاية لآداب الأكل، حينئذ يكون إشباعها شهوياً، أما حين تبحث الشخصية عن الإشباع المقيد أو العقلي حينئذٍ تتناول الطعام وفق الآداب المقررة.

المثال الثاني الذي نقدمه هو الحاجة إلى التقدير الاجتماعي، حيث قلنا أن التقدير الاجتماعي من الممكن أن يتحقق من إشباع ذاتي أو إشباع عقلي، فإذا افترضنا أن كائناً ما قد سلك وسائل مشروعة للوصول إلى تسلّم سلطة سياسية، حينئذٍ يكون إشباعه للذة النفسية المتمثلة في أنه ينتزع التقدير الاجتماعي نتيجة لهذا المنصب، فهذا الإشباع يكون موضوعياً، لأنه خضع لمبادئ مرسومة في عملية تسلم السلطة، أي أنه سلك وسائل مشروعة وليست وسائل غير قانونية، أما لو سلك الكائن المذكور وسائل غير مشروعة كتزوير الانتخابات مثلاً حينئذٍ يكون إشباعه للذة التقدير النفسية إشباعاً ذاتياً، والأمر نفسه فيما يتصل باللذة العقلية.

إذن يمكننا أن نكرر من جديد وأن نقول أن إشباع اللذائذ حسية كانت أم عقلية أم نفسية يحكمها طبعان شهوي وعقلي أو ذاتي وموضوعي، الأول يجسد مرضاً أو عصاباً أو حوماناً على الذات، أما الآخر فيجسد السوية أو النبذ للذات.

والآن أضفنا إلى ذلك كله أن تأجيل اللذة وهذا ما نود أن نخصص محاضرتنا في الحديث عنه، أن تأجيل اللذة هو المعيار في تحديد ما هو ذاتي، حينئذ نخلص إلى حقيقة مؤداها أن الشخصية السوية هي التي تمارس التأجيل في إشباع لذائذها متمثلاً في اختيارها للدافع العقلي بدلاً من اختيارها للدافع الشهواني.

والآن مع انتهائنا إلى أن تأجيل اللذة يظل هو الخيار الوحيد للكائن الآدمي ليس لأن الطبيعة الكونية لا تسمح بالإشباع المطلق فحسب، وليس لأن الإشباع المطلق يفضي إلى تدمير الآخرين فحسب أيضاً، وليس لأن الإشباع المطلق يفضي إلى تدمير الباحث نفسه عن الإشباع بل مضافاً إلى ذلك يظل الإشباع المطلق في الواقع عاملاً يسلخ الإنسان من دائرته التي يتميز بها عن الذوات الأخرى الحيوانية، فإننا إذا افترضنا إمكانية أن يصاغ مجتمع يبحث أفراده بأكملهم عن إشباع مطلق لحاجاتهم دون الأخذ بنظر الاعتبار لأية قيمة تقف قبال الاجتماع، حينئذٍ نواجه مجرد مجتمع حيواني فحسب، وحتى هذا المجتمع من المتعذر تحقيقه ما دمنا نلحظ بوضوح أن الصراع والتنافس والافتراس يطبع المجتمع الحيواني، مما يفصح عن أن تحقيق الإشباع لا يمكن أن يتم بنحوٍ مطلق حتى في مجتمع الحيوان، وإلا لما كانت أية دلالة للصراع أو التنافس أو الافتراس في المجتمع المذكور.

إنه لو لم تكن ثمة حقيقة غير الموت لأمكن التدليل بها على أن الإشباع المطلق لا يمكن تحقيقه البتة لأن الموت كما وصفه الإمام علي (عليه السلام) هو هادم اللذات، بحيث يضع حداً لأية محاولة تهدف إلى الإشباع المطلق.

والآن مع إقرارنا بهذا كله يمكننا أن ندرك سر القاعدة النفسية الضخمة التي صاغها الإمام علي (عليه السلام) في رسمه للتركيبة الآدمية القائمة على ثنائية الأصل النفسي، أي ثنائية العقل والشهوة، حيث ما لم يكن ثمة تجاذب بين طرفي اللذة لما أمكننا أن ندرك دلالة تأجيل اللذة، ذلك أن التأجيل يعني ممارسة النشاط العقلي أي إن الكائن الآدمي لا مناص له من ممارسة التأجيل بحيث ينبغي أن يغلب عقله شهوته حتى يصبح أفضل من الملائكة كما قال الإمام علي (عليه السلام) دائماً.

إننا نكرر التنبيه على هذه القاعدة ونستهدف من ذلك أن نذكر أولاً بحقيقة التركيبة الآدمية، ثانياً نذكر بالسر الذي تنطوي عليه عملية التأجيل ما دام الكائن الآدمي مضطراً لمواجهة الإحباط لأسباب انتهينا من تفصيلها الآن، وأن نخلص ثالثاً إلى حقيقة جديدة هي افتراق التصور الإسلامي عن التصور الأرضي في صياغتهما لمبادئ تأجيل اللذة وهو أهم ما نستهدفه في هذه المحاضرة، لذلك نلفت انتباهكم إلى هذا الجانب ونؤكد هذا الجانب من خلال القول إلى أن علم النفس الأرضي أو التربية الأرضية تقر مع الإسلاميين بوضوح مبدأ تأجيل اللذة، ولكن مع ذلك أن البحث الأرضي في توصياته المختلفة يخفق في الوصول إلى نتائج إيجابية بينما نجد التصور الإسلامي ينجح في صياغته للكائن الآدمي السوي الذي يتعامل مع اللذائذ وفقاً للإشباع الموضوعي لا الشهواني.

أي نكرر السؤال القائل: لماذا أخفق البحث الأرضي في توصياته المختلفة بالرغم من إخلاصه العلمي في صياغة هذه المبادئ أو التوصيات؟! لماذا أخفقت العيادات النفسية في انتشال مرضاها؟ مما يلاحظ تفاقم أرقامها، لماذا أخفقت العمليات التربوية المختلفة في إنجاح الشخصية السوية المطلوبة؟! كل هذه الأسئلة نطرحها وسوف نجيبكم عنها الآن في ضوء التصور الإسلامي لمبادئ تأجيل اللذة وانعكاسات هذا التأجيل على السلوك البشري.

في هذا الصدد نقول: إن الواقع هو أن الإجابة تكمن في طبيعة مبادئ التأجيل للذة، وتحديد أنماط ذلك، وفرز ما هو مؤتمر مع طبيعة التركيبة عما هو خارج عن إمكانات هذه الطبيعة، فمثلاً إن البحث الأرضي بسبب من عزلته عن السماء نجده مضطراً إلى أن يرسم مبادئ للتأجيل لا بد أن تتسم بخطأ، لأنه أساساً منعزل عن المصدر الذي صاغ التركيب الآدمي وصاغ مبادئ تأجيل ذلك، فالسماء هي التي صاغت الأصل النفسي أي البحث عن اللذة، وصاغت ثنائية العقل والشهوة، وصاغت مبادئه أيضاً أي مبادئ التأجيل التي نعتزم دراستها الآن. ومما لا شك فيه أن تجاهل هذا المصدر - مصدر السماء - يعني تجاهل أية توصية حية واقعية وإبدالها بتوصيات مثالية لم تنبع من أرض الواقع، وهذا هو سر الفشل الذي غلف البحوث الأرضية في رسمها لمبادئ تأجيل اللذة.

ولكن الآن لنتجه إلى مبادئ تأجيل اللذة لنتبين ما فيها من قيم خاصة نود أن نتعرّف عليها الآن:

1- من أول مبادئ تأجيل اللذة هو أن ثمة تأجيلاً معوضاً؛ أي أن تأجيل أي لذة حسية كانت أم نفسية إنما يعوض عنها بلذة من نمطها الحسي أو النفسي في الدار الآخرة، أو حتى في الدار الدنيا ولكن في زمان لاحق. مثلاً إن الجوع الذي يعانيه الإنسان أو الفقر يعوض الله عنه شبعاً أخروياً أو شبعاً دنيوياً لاحقاً، كذلك الصبر على الشدائد يعوض عنه راحة في الآخرة أو حتى في الدنيا في زمن لاحق، بحيث تنفرج الشدة في يوم من الأيام وهكذا..

2- وهذا ما نطلق عليه مصطلح التأجيل المعوض، أي إن الشخصية عندما تؤجل لذة حالية إنما يعدها الله سبحانه وتعالى بلذة يعوضها عما فاتها من اللذائذ الدنيوية،وهذا وحده كاف بأن يحسس الإنسان بقدر من التوازن، فإذن المبدأ الأول هو التأجيل المعوض. أما المبدأ الثانوي فهو التأجيل المثمن، الذي نعني به أن تأجيل اللذة يقترن بتقدير وتثمين من الله تعالى بغض النظر عن التعويض الأخروي أو الدنيوي له، فمجرد وعينا بأن الله سبحانه وتعالى يعي واقعنا حين نلتزم بمبادئه ويثمن الله سبحانه وتعالى هذا الالتزام، فإن تثمين الله سبحانه وتعالى كاف بجعل الشخصية آمنة من أن يثمن قرار تأجيلها، وهذا من نحو من يتحسس باللذة حينما يجد أن الآخر يثمن الإنجاز الذي قدمناه على حساب راحتنا، كأن نقضي حاجته مثلاً فيشكرنا على ذلك بالرغم من الأذى الذي يلحقنا من السعي في قضاء حاجاته، فأنت حين تؤجل مثلاً سفرة ممتعة من أجل أن تخدم مريضاً ثم يثمن المريض تأجيلك هذا بكلمات الشكر حينئذٍ تتحسس باللذة التي يقدمها الشخص المذكور من خلال حجم الشكر المشار إليه.

إذن تقدير الله سبحانه وتعالى وتثمينه للعبد بسبب من تأجيله لشهوات الدنيا العابرة،مجرد هذا التثمين كاف بأن يحسس الشخصية بتوازنها الداخلي دون أن تحس بالتوتر الذي يحس به الكائن الدنيوي الذي لا يثمّن تأجيله لشهواته.

3- التأجيل القيمي؛ ونعني به أن الله سبحانه وتعالى يحمل دلالة لها قيمتها الموضوعية من إرادة وعلم وإبداع وإحسان وو.. الخ. من صفات الله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أن إدراكنا لهذه الحقيقة وحدها يكفي لأن نحقق لذة عقلية من نحو اللذة العقلية التي نحققها في استكشاف الحقائق وكشفها دون أن ننتظر من الحقائق المكتشفة تعويضاً أو تثميناً، وهذا كله على العكس من مبادئ التأجيل في تصورها الأرضي، حيث تفتقر هذه المبادئ لفاعلية التثمين من الله، إما لعدم وجود الآخرين مثل غياب القانون أو لإمكاناتهم المحدودة أو لأنهم جزء من مجتمعنا المريض الذي لا يستوعب قيمة التأجيل الذي تقدمه الشخصية أو افتقارها لفاعلية القيمة ما دامت أساساً لا تعي قيمة السمع.

والآن لكي نحدد مستويات هذا التأجيل يتعين علينا بسط وتفصيل بعض المفاهيم الأٍساسية، من حيث التأجيل وصلة ذلك بالتعويض والتقدير والقيمة حيث أوضحنا أن التأجيل يقترن بثلاث حقائق هي:

1- التعويض؛ فالإنسان ما لم يعوض بلذة آجلة حينئذٍ يظل عرضة للصراع لأنه لا يجد معنى لأن يؤجل لذة وجدت أساساً في تركيبته الباحثة عن اللذة.

2- التثمين؛ فما لم يتسلم الكائن الآدمي تقديراً وتثميناً لتأجيل لذته لم يجد أي معنى للتأجيل المذكور.

3- القيمة؛ ما لم يعي الكائن قيمة السماء لم يجد معنى بدوره للتأجيل.

وخارجاً عن هذا فإن مطالبة الآدميين بالتأجيل تظل في الواقع حلاً مثالياً لا واقعية له، لأن الشخصية الأرضية سوف تقع في أحد خيارين:

أولاً: الصراع؛ فما دام تأجيل اللذة لم يقترن بالإشباع حينئذٍ يستتبع وقوع الشخصية في صراع لا يهدأ له قرار، وهذا وحده كاف لأن تعرض الشخصية إلى أنواع العصاب والأمراض النفسية.

ثانياً: البحث عن الإشباع المطلق؛ وهو أمر لا يمكن تحقيقه ما دامت تركيبة الحياة قائمة على الإحباط، مما يستتلي أن تصبح الشخصية إما شخصية منحرفة لا اجتماعية، بحيث لا تراعي مبادئ الآداب العامة، ولكن حتى في هذه الحالة فإن القانون لا يسمح لها بإشباع حاجاتها، مما يعرضها من جديد لمواجهة الإحباط وما يستتلي الإحباط من صراع كإيداعها في السجن مثلاً، حيث يعرضها السجن إلى مواجهة إحباط فصراع جديد وهكذا.. ففي الحالتين يظل الإحباط والصراع هو القدر الوحيد للكائن الأرضي ما دام لم ينطلق من التصور الإسلامي لمبادئ تأجيل اللذة.

إن الأبحاث الأرضية تجمع على أن الشدائد أو الإحباط هو السبب الكامن وراء الأمراض النفسية وتوصياتها في هذا الميدان تتمثل في مطالبتها بأن تتحمل الشخصية شدائد الحياة، ولكن تحمل الشدائد يعني إما الرضا بقدر محدود من الإشباع أو إبدال ذلك بإشباع آخر، أو التقبل أساساً لهذا الحرمان أو الإحباط.

مثال ذلك طالب جامعي أنهى دراسته وبدأ البحث عن وظيفة تتسق مع اختصاصه لكنه لم يجد الوظيفة التي يطمح إليها حينئذٍ يواجه ثلاثة خيارات: إما تقبل وظيفة محدودة من حيث الدرجة، أو إبدال ذلك بعمل حر لا علاقة له باختصاصه، أو أن يبقى بلا عمل. وفي الحالات جميعاً لابد له من التقبل لهذا الواقع الذي لم يشبع حاجاته، غير أنه لو لم يذعن لهذا الواقع فسيواجه صراعاً وستبدأ شخصيته بالتوتر حتى يستسلم في نهاية المطاف إلى المرض النفسي.

والآن انظروا تجدوا أن المطالبة بتحمل أمثال هذه الشدائد هي الحل الوحيد الذي يملكه البحث الأرضي في هذا الميدان، ولكن الملاحظ أن الشخصية الأرضية لم تنج من الوقوع في براثن المرض النفسي مع أنها تعي تماماً بصواب التوصيات الإرشادية في هذا المجال، إذن ما هو السر الكامن وراء ذلك؟ إن الإجابة تتبلور بوضوح إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن التعويض والتقدير والقيمة وهي المبادئ الثلاثة التي حدثناكم عنها قبل دقائق، هذه هي المبادئ التي سوف تسعف الشخصية على مواجهة الإحباط التي تعاني منه، فالطالب المذكور حينما يدرك أن الحياة هي مجرد اختبار حينئذٍ يتحمل أياً من الخيارات الثلاثة إذ يعوض أخروياً لما يفوته دنيوياً، أو يثمّن تحمله لواحد من الخيارات الثلاثة أو يجد لذة عقلية في مجرد كونه قد التزم بمبادئ السماء، مضافاً إلى ذلك أنه نظراً ليقينه بأن السماء تملك وسائل الإشباع حينئذٍ سيطمئن إلى أن حاجاته ستتدفق أي أنه سوف لا يموت جوعاً أبداً، فضلاً عن يقينه بأن الطعام هو في الواقع مجرد وسيلة لاستمرارية العمل العبادي عند الإنسان، بحيث يكفيه أي مقدار أو نوع يسد الحاجة دون أن يبحث عن إشباع زائد عن حاجته، وعندئذٍ يصبح شخصاً مطمئناً متوازناً لا يحمل  أي توتر أو صراع، ولكنه لو لم يخضع نفسه لمبادئ التعويض والتقدير والقيمة هل يمكن لهذا الطالب المتخرج أن يواجه الإحباط المذكور لمجرد وجود قيمة اجتماعية مستمدة من مبادئ الأرض التي هي مجرد مبادئ مثالية لا واقعية لها.

إن مواجهة الإحباط لا يمكن أن تتم إلا إذا ارتكنت إلى أرض صلبة تستمد الشخصية منها المثال الواقعي الذي يمدها بالقناعة، ولكن الطالب المذكور لا يمكنه أن يواجه الإحباط ما دامت المبادئ الثلاثة، أي التعويض والتثمين والقيمة تفقد فاعليتها. أما التعويض فإنه منتفٍ أساساً فما دام هذا الطالب لا يؤمن بالله وباليوم الآخر، وما دام لا يؤمن بأن الله سيشبع حاجاته في زمن لاحق من العمر، نقول ما دام كذلك حينئذٍ فإن التفكير بالتعويض منتف أساساً. وأما التثمين فإنه بدوره يفقد أية فاعلية ما دام تسلّمه يتم إما من قيم اجتماعية مبهمة في مجتمعه، أو أفراد محددين لا قيمة لهم، مثلاً هذا الطالب الجائع أو المنحط اجتماعياً لا يمكنه أن يقيم وزناً لمجموعة من الأفراد تطالبه أن يتحمل الشدائد، في حين يواجه مجتمعاً بأكمله يتعامل مع الآخرين من خلال لغة الزهو والتعالي والطبقة الاقتصادية و.. الخ. كيف يمكن لهذا الطالب أن يطفئ دوافعه الذاتية في مناخ اجتماعي متورّم يعنى بالبهرج والزخرف والشكل في نمط الوظيفة وفي الدار، وفي هندستها وتأسيسها وسعتها وموقعها، عندما تواجه الشخصية الأرضية فرداً من طبقتها قد أتيح له تحقق المركز والمسكن في مستوياته الفخمة، في حين تحرم هذه الشخصية من ذلك لا شك أن مثل هذه الشخصية ستظل عرضة للصراع وستظل محاصرة بالقهر ولا يمكنها أن تمارس عملية التأجيل ما لم تنطلق من وعي عبادي حاد.

إن القهر ليحاصرها حينما تجد نفسها محرومة من تملك المركز والدار الفخمة، ويحاصرها القهر بنحو أشد لو حرمت حتى من المركز أو الدار البسيطة، بل إن القهر ليحاصرها بنحو أشد حينما تواجه مجتمعاً يتعامل معها بالزهو والتعالي نتيجة لتملكهم مثل ذلك المركز أو الدار الفخمة وهو أمر يفجر لدى هذه الشخصية الإحساس بالدونية والضعة والهوان دون أدنى شك.

وحيال هذا جميعاً فإن مثل هذه الشخصية أمام خيارين، فإما أن تكف عن إشباع حاجتها إلى التقدير الاجتماعي وهو أمر يتنافى مع حبها لذاتها، أو أن تكف عن إشباعها إلى الطعام لقلة ذات اليد وهو أمر يستتلي وقوعها في الصراع ونتائجه المرضية!!، وأما أن يقتادها إلى البحث المضني عن المركز وهذا يقتاده إلى الإحباط فالصراع كما قلنا، وكذلك المادة وتوفيرها، وهذا الأخير يقتادها إلى تحمل ما لا يتناسب والدخل الفردي لديها، فإذا انساقت إلى الحل الأخير فحينئذٍ إما أن يركبها الدين وناهيك عن الصراع الذي يخلفه وإما أن تلجأ إلى الطرق غير المشروعة واللجوء إلى الطرق غير المشروعة يفضي إلى الوقوع في براثن المرض النفسي، لأن الضمير أو الأنا الأعلى بحسب مصطلح الأرضيين أنفسهم كافٍ بأن يفجر لديهم الإحساس بالذنب.

إذن في الحالات جميعاً لا مناص من وقوع الشخصية الدنيوية في وهدة الصراع ما دام تثمين الآخرين مفقوداً لديها إلا في نطاق أفراد يتقنون فاعلية تأثيرهم قبالة فاعلية مجتمع مريض بأكمله.

أما إذا عدنا إلى الطالب المذكور الجائع والمنحط اجتماعياً بمقدوره أن يوازن الإحباط من خلال تسلمه تثميناً اجتماعياً قائماً على ما مجموعة ما يسمى بالقيم التي درّبت الشخصية عليه، بحيث يحمله هذا المثال على أن يحترم المبادئ التي ينطوي عليها، حينئذٍ يظل العمر محكوماً بنفس الطابع، لماذا؟ لأن المثال نفسه لم يتسق بفاعلية حقيقية تماثل أو تضارع الواقع الاجتماعي المريض الذي يفرض هيمنته على الشخصية.

إن المثال أو الجهاز القيمي لدى الشخصية إنما يتسم بفاعليته في حالة ما إذا اقترن بتقدير الآخرين، أما إذا افترضنا أن المثال منتزع من واقع لا صلة له بقوى واقعية تخلق عليه قيمة ما، كالله سبحانه وتعالى الذي يخلع على الظاهرة قيمة ما حينئذٍ فإن التعامل يظل مجرد تعامل وهمي مع الحقائق.

والآن لنقدم أيضاً مثالاً في هذا الميدان نقول: إن أي مثال أرضي أو قيمي ينبغي أن تحمل ثلاث سمات على الأقل حتى تكتسب الفاعلية، وهذه السمات هي:

1- الوعد.

2- الإرادة.

3- الكمال.

والمثال الأرضي فاقد لهذه السمات بأجمعها، لأنه يستمد من ضمير جمع مبهم لا يملك وعياً محدداً، أي مجرد قيم اجتماعية مبهمة لا تتمثل في أشخاص بأعيانهم وهذا كبنود القانون المكتوبة على الورق حيث لا فاعلية للورق في تحديد أية قيمة. كما لا يملك فعلاً إرادياً تنفذه أيدٍ محددة، أي القانون المعطل عندما لا يملك فعلاً إرادياً تنفذه أيد محددة يظل تماماً معطلاً عن أية فاعلية، وأخيراً فإن مبادئ هذا المثال لا تتسم بقيمة عقلية ذات أصالة أو كمال، لأن هذا المثال الأرضي صاغه أفراد يلفهم القصور معرفياً بالضرورة، فأنت حينما تواجه مثالاً يصوغه أفراد مثلك ينتسبون إلى العضوية الإنسانية حينئذٍ لا يمكنك أن تكسب المثال المذكور أية قيمة أصيلة، لأننا إذا افترضنا أن ذاتك تملك وعياً أصيلاً ومع اقترابك لهذا الامتلاك للوعي المطلق فإن المشكلة تنتفي أساساً ولا يبقى معها معنى للمرض أو التفكير في انتشال الذات من الصراع لأن الشخصية نفسها يمكنها أن تحسم مشكلتها، ولكن هذا الفرض الأخير أي أنك تمتلك وعياً مطلقاً، هذا الفرض يستلزم الوقوع في نفس الدائرة التي بدأت الشخصية منها وهي أن الآخرين غائبون عن المثال المذكور ومن ثم فإنه يفتقد فاعليته ما لم يقترن بوجود آخرين يخلعون عليه القيمة.

إذن في الحالات جميعاً لا يمكن للطالب الجائع والمتخلف اجتماعياً أن يتقبل الإحباط بتوازن داخلي، وهذا على العكس من المثال العبادي حيث يحمل المثال العبادي خصائص السمات الثلاث التي ذكرناها وهي أنه يمتلك فاعلية بالغة القوة لأن السماء واعية بسلوك الشخصية وذات إرادة في تحقيقها للتثمين الذي تسلم الشخصية كما أنها تتسم بالكمال في صياغتها للمبادئ التي تصوغها.

أخيراً قبل أن نختم حديثنا عن المثال العبادي نود أن نشير إلى أن التزامنا بمبادئ الفعل العبادي من حيث مواجهة الشخصية لشدائد الحياة، هذا الالتزام في الواقع يحدد إشباعاً للشخصية حتى في حالة كونها تواجه إحباطاً صرفاً أي عدم إشباع حاجتها أساساً بل إن ما يسمى بالحاجات في نظر التصور الأرضي تنتفي في الواقع دلالته عند الشخصية الإسلامية في حالة كونها قد التزمت بمبادئ السماء حتى تتحول حاجاتها جميعاً إلى حاجات عقلية صرفة، وقد تتساءلون عن كيفية ذلك؟ حينئذٍ يمكننا أن نستشهد ببعض الأمثلة العبادية أي ببعض الأمثلة المرتبطة بالسلوك العبادي وهي أمثلة ثلاثة هي: التوكل، الزهد، التعامل العقلي مع السماء.

إن الركون إلى هذه الأنماط الثلاثة من الظواهر سوف يحقق توازناً داخلياً للشخصية دون أن تعاني أي صراع أو اضطراب أو نزاع داخلي، فأما التوكل يعني أن إشباع الحاجات موكول إلى السماء، وقدرات السماء على أن تحقق ذلك عملية، ومن البين أن اطمئناننا إلى أن الإشباع سيتحقق سوف يزيح أي توتر يسببه الإحباط، فالطالب الذي استشهدنا به حينما يتاح له مرتب وحينما يتدفق مرتبه حتى عند تقدم سنه وإحالته على التقاعد، حينئذٍ يتوازن داخلياً ولا يحيى أي صراع ذي بال من حيث تأمين حاجاته الشخصية. وإذا نقلنا هذا التأمين إلى السماء وصلة الشخصية العبادية بالسماء، أمكننا أن ندرك أن السماء هي مصدر قوة تتكفل بإشباع الشخصية ليس في نطاق محدود كما هو شأن الدولة في تحديد المرتب مثلاً بل في نطاق لا حدود له حيث ترزق السماء من تشاء بغير حساب، ومن حيث لا تحتسب الشخصية، وأما بالنسبة إلى الزهد فيشكل فاعلية أخرى في تحقيق التوازن. فالزهد أساساً ينطلق من المبدأ القائل أن الدنيا بأكملها متاع عابر، لا قيمة له قبالة العطاء الأخروي الذي لا حدود له فانطلاقك مثلاً لدار فخمة أو منصب اجتماعي كبير يظل إشباعاً عابراً مقابل الإشباع الأبدي الأخروي، وهذا ما يقود الشخصية إلى أن تقلل من قيمة الدار أو أهمية المنصب مكتفية من ذلك بالإشباع بقدر حاجتها. أما المنصب فإن الشخصية العبادية لا تعنى به أساساً ما دامت لا تريد علواً في الأرض بقدر ما تستهدف ممارسة المهمة العبادية.

إذن فاعلية الزهد بأي إشباع زائد عن الحاجة تمسح كل الآثار المترتبة على الصراع الذي يسببه الإحباط في إشباع الحاجات الدنيوية.

وأما التعامل العقلي من السماء فيظل ما دام كل دون التوكل والزهد يتصلان بالبحث عن إشباع الحاجة كما لو كان الطالب المذكور يكل هموم رزقه إلى السماء حينئذٍ يظل هناك إشباع عقلي تعوض به الشخصية المسلمة حاجاته الحيوية أو النفسية، بحيث تؤثر السماء بما لها من قيمة موضوعية بغض النظر عن صلة ذلك بالإشباع الحيوي والنفسي الدنيويين.

وقد سبق أن قلنا أن الإمتاع العقلي أشد فاعلية من الإمتاع الحسي في المثال الذي قدمناه عن المضربين عن الطعام فالجائع حينما يلتجأ إلى السماء في المطالبة بإزاحة الجوع فإن ألم الإحباط يخف حينما يعي الجائع أن السماء واعية لمشكلته مثمنة توجهه نحوها، لا أنها تهمل أو لا تملك وعياً حيال مشكلته المذكورة كما هو طابع البحث الأرضي، كما أن مثل هذا الشخص عندما يواجه ذلاً اجتماعياً فإن الإحساس المذكور بالذل سيخف أو يزاح أساساً حينما يعي هذا الشخص أن السماء تحترمه وتثمن توجهه نحوها.

لكن يظل الإشباع في قمته في الواقع متحققاً في تلك المشاركة الوجدانية والعقلية مع السماء مع ما تنطوي السماء عليه من قيمة موضوعية كالعلم والقدرة والإدارة والإبداع والهيمنة وو.. الخ.

على أية حال يجدر بنا أن نختم حديثنا عن ذلك كله بعنوان عابر قد نعود إليه لاحقاً إنشاء الله وهو الحديث عن مبادئ الصحة النفسية في التصورين الإسلامي والأرضي؛ وحينما نذكركم بنموذج الطالب الذي سبق الحديث عنه بحيث أنه يمثل التعامل مع أقوى دافعين في تركيبة الآدميين وهما دافع الطعام ودافع التقدير الاجتماعي، حينئذٍ لو تابعنا سائر الدوافع أو الحاجات وطريقة تنظيمها في التصور الأرضي نجدها محكومة بنفس الطابع من حيث افتقارها إلى فاعلية التعويض والتثمين والقيمة، مع أن غالبية حديثنا سيشدد في الواقع على طريقة التصور الإسلامي في تنظيمه للدوافع، أي أن محاضراتنا اللاحقة سوف تنصب جميعاً على هذا الجانب لأنها تمثل العملية التربوية المهمة من حيث طريقة التنظيم للدوافع الحيوية والنفسية لدى الكائن البشري، إلا أننا الآن نود أن نشير عابراً إلى عقم العلاج الأرضي في توصياته الإرشادية ما دمنا في صدد البحث عن طرائق العلاج للأمراض النفسية في تصورها الأرضي.

نأخذ على سبيل المثال هذه التوصية الواردة عند بعض الأرضيين فيقول: على الشخصية أولاً أن تبوح بالأسرار لشخصية حكيمة عاقلة أن تهرب من ملعب الحياة أن تضع تخطيطاً لمنشطاتها التوضيحية، أن تستنفر الغضب بالقيام في عمل ما، أن تستسلم بغير عناد، أن تفكر بعدم ضرورة تحقيق المعجزة، أن لا تكون قاسية في النقد، القيام بدور المبادئة.. الخ.

هذه التوصيات نجد أن التصور الإسلامي بدوره يقدم توصيات متنوعة في هذا الصدد يجدر بالطالب مراجعتها في الكتاب الدراسي المقرر، ولكننا نود فقط أن نشير إلى بعض المبادئ التي لا فاعلية لها أو أنها تنطوي أساساً على خطأ واضح في رسم المبادئ، فمثلاً بالنسبة إلى المنشط الترويحي يرى البحث الأرضي أن تحقيق السعادة أمر ضروري في حياة الإنسان إلا أن التصور الإسلامي على عكس ذلك حيث يرى أن السعادة لا يمكن تحقيقها البتة ما دامت الحياة أساساً هي مجرد جسر أو اختبار لا مناص من اقترانه بالشدائد لأن السعادة أساساً هي في الحياة الآخرة لا الدنيا، لذلك فإن البحث الأرضي سوف يخفق تماماً في علاجه للأمراض ما دام يطالب بتوصية غير ممكنة أساساً ألا وهي تحقيق السعادة أو تحقيق المناسك الترويحية التي لاحظناها في التوصية المذكورة.

على أية حال سوف نعقب على أمثلة هذه التوصيات في محاضرات لاحقة إنشاء الله، ونبدأ في محاضرتنا الآتية بالحديث المفصل عن أهم العمليات التربوية التي يستهدفها الإسلام من خلال تنظيمه للدوافع المركبة فينا وهذا ما نبدأ به إنشاء الله في المحاضرات اللاحقة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..