mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 15.doc

علاج الانحرافات

تحدثنا في لقاءات سابقة عن الشذوذ أو الاضطراب أو السلوك العصابي وتصوّر كلٍّ من الإسلام والبحوث الأرضية لمفهوم العصاب أو الشذوذ أو الاضطراب في السلوك وما يترتب على فهم هذه الجوانب من مهمات تربوية تتجه إلى تعديل السلوك، أو بالأحرى تحدثنا عن مفردات السلوك الشاذ والآن ينبغي أن نتحدث عن العلاج التربوي لهذه الأنماط التي تمت الإشارة إليها في محاضرات سابقة، وهذا ما نبدأ به الآن تحت عنوان (علاج الانحرافات) أو علاج الشذوذ أو علاج الأمراض النفسية أو علاج مطلق السلوك السلبي، وذلك من خلال العمليات التربوية التي ينبغي أن تأخذ بنظر الاعتبار كل ظاهرة سلوكية وما ينبغي أن يتخذ حيالها من أساليب تربوية لعلاج الانحراف أو السلوك السلبي.

وفي هذا الميدان يمكن الذهاب إلى القول بأن من المسلم به أن الأمراض النفسية أو مطلق الشذوذ تنشأ عادة عن سبب أو أكثر من الأسباب الآتية: منها الوراثة ومنها التنشئة الطفلية ومنها الضغوط أو شدائد الحياة التي تمر بالإنسان ومنها طبيعة الثقافات المنحرفة التي يواجهها الإنسان عبر محيطه الدراسي أو الاجتماعي أو الثقافي بعامة، إن هذه الأسباب يقرّها البحث الأرضي جميعاً على تفاوت بين الاتجاهات من حيث التركيز على هذا السبب أو ذاك، وأما بالنسبة إلى التصور الإسلامي فإنه يقرّ الأسباب المذكورة حيث لاحظنا في لقاءات سابقة توصياته المختلفة فيما يتصل بالتحسين الوراثي كما لاحظنا توصياته المتصلة بالتنشئة الطفلية في مرحلتها المتأخرة، وأما الضغوط أو الشدائد مضافاً إلى الثقافة المنحرفة فإن المشرع الإسلامي يملك حيالهما تصور تربوي خاص بحيث تنبني أسس الصحة النفسية بنحوها السليم على هدى هذا التصور لكل من الضغوط أو الشدائد والثقافة المنحرفة، ولعلّ ما يفرّق بين التصوّر الإسلامي والأرضي أساساً هو هذا التصور لمواجهة الضغوط والثقافة المنحرفة، بحيث يمكن أن نفسر أسباب الفشل أو العلاج في علاج الأمراض النفسية في ضوء الفارق بين التصور الإسلامي والتصور الأرضي لهذا الجانب.

إن البحوث الأرضية تقدم توصياتها المختلفة لمواجهة ضغوط الحياة كما أنها تقدم تصورات خاصة للثقافة التي تحقق في نظرها مبادئ الصحة النفسية، بيد أن النتائج التي انتهت إليها تلكم التوصيات من حيث فشل العلاج النهائي يفصح عن أن التصور الأرضي للثقافة السوية ولمواجهة الضغوط هو تصور خاطئ أو مخطئ دون أدنى شك، كما أن نظرة علماء الأرض لبعض عناصر الوراثة ولبعض عناصر التربية الطفلية تقف وراء فشل العلاج المذكور، طبيعياً ليس فشل العلاج وحده مفصح عن خطأ هذه التصورات العلمانية بل إن وجهات النظر المختلفة في ميدان العلاج تفصح بدورها عن ذلك.

والآن ما يعنينا هو أن نتقدم بوجهة النظر الإسلامية عن نشأة الأمراض النفسية أو السلوك الشاذ وتصور الإسلام لمبادئ الصحة النفسية أو لمبادئ السلوك السوي، ولكن ذلك في الواقع يسوقنا إلى الوقوف أولاً عند البحوث الأرضية في هذا الميدان.

ولا نريد أن ندخل في التفصيلات بقدر ما نريد أن نلقي الإضاءة على هذا الجانب، لذلك نقول هناك على الأقل ثلاث طرق لعلاج الأمراض أو الشذوذ في البحث الأرضي:

أولاً: العلاج التحليلي.

ثانياً: العلاج السلوكي.

ثالثاً: العلاج الإرشادي.

طبيعياً ثمة أمراض أخرى من العلاج إلا أن هذه الأنماط لا فاعلية لها بالقياس إلى هذه الأنماط الثلاثة التي ذكرناها، ونبادر إلى القول بأن المشرع الإسلامي في الواقع لا يناهض هذه الطرائق من المعالجة بقدر ما يمكن القول بأن التوكأ على أحدها دون الآخر ينطوي على إدراك غير صائب في تفسير نشأة المرض وتشخيصه وعلاجه.

هنا قبل أن نواصل حديثنا عن هذا الجانب بالنسبة إلى التصور الإسلامي للعلاج، نود أن نشير إلى نقطة مهمة ينبغي لفت الانتباه اليها ألا وهو أن الإسلام يسلك طريقين في تناوله لأية ظاهرة من ظواهر الحياة، الطريقة الأولى هي التوكأ على النصوص المختلفة التي يقدمها الإسلام في توصياته، وأما الطريقة الأخرى فهي الصمت عن كثيرٍ من الظواهر لا لأن المشرع الإسلامي لا يملك تصوراً حيالها وإنما لهدف تربوي مهم هو أن طبيعة التغيرات التي تطال الأفراد والمجتمعات تفرض على الباحث أياً كان نمطه سواء كان باحثاً في ميدان الفقه أو كان باحثاً في ميدان السلوك أو كان باحثاً في أي ميدان آخر، هنالك في الواقع مبادئ جعلها الإسلام مفتوحة حتى يستطيع الباحث في ضوء الظروف التي يواجهها أن يتحكم أو أن يصدر حيالها حكماً بهذا الشكل أو بذاك.

مضاف إلى ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد ألهم البشرية جميعاً مبادئ الفجور والتقوى، ومبادئ الخير والشر، أي ألهمها قدرة إدراكية على معرفة كثير من الحقائق مما يعني أن الإنسان بمقدوره أن يصوغ جملة من الحقائق حسب ما تمليه عليه الظروف الفردية والاجتماعية.

من هنا نكرر الإشارة إلى أن التصور الإسلامي عندما يقف ساكتاً أو عندما ينسج صمتاً خلال كثير من الحقائق إنما ينسج هذا الصمت للأسباب التي ذكرناها، أي أنه ترك للبشرية مجالات يستطيع البشر خلالها أن يصوغ جملةً من النظريات التي تفرضها عليه الظروف المشار إليها، لذلك عندما نقول أن الإسلام لا يناهض هذه الطرائق للعلاج، أي العلاج التحليلي أو العلاج السلوكي أو العلاج الإرشادي، فلأنه نسج صمتاً حيال أمثلة هذا العلاج تاركاً ذلك كما قلنا للظروف ذاتها، ومن هنا نكرر أيضاً الإشارة إلى القول بأن المشرع الإسلامي لا يناهض الطرائق التي تقدمت الإشارة إليها بقدر ما يمكن القول بأن التوكأ على أحدها دون الآخر ينطوي على إدراك غير صائب في تفسير نشأة المرض وتشخيصه وعلاجه.

ولكن في تصورنا يظل العلاج الإرشادي هو الطريقة التي يختطها المشرع الإسلامي في هذا الصدد، ولكن الإسلام حينما يختط الطريق المشار إليها فهذا لا يعني أن العلاج التحليلي أو السلوكي لا يقرّهما المشرع الإسلامي، بقدر ما يعني أن أية وسيلة لا تأخذ مسألة الوعي بنظر الاعتبار فإنها لا محالة تبوء بالفشل ويظل كل من العلاج التحليلي والسلوكي عناصر مساهمة في نجاح المعالجة إلا أنهما وحدهما لا يشكلان مصدراً للنجاح، وسبب ذلك في الواقع هو أن الإسلام نفسه ما دام قد قدم لنا العلاج الإرشادي حينئذٍ فإن سواه من الطرائق لا يمكن أن نعتمد عليها كل الاعتماد وندع الطريقة التي انتخبها المشرع الإسلامي.

وبكلمة أكثر وضوحاً أن المشرع الإسلامي عندما ينتخب طريقة من الطرائق فهذا يعني صواب هذه الطريقة دون أدنى شك، وأما الطرائق الأخرى فيمكن أن تتسم بالصواب ويمكن أن تتسم بالخطأ، وفي ضوء دراستنا لهذه الأنماط أو الطرائق لاحظنا أن هذه الطرائق كالعلاج التحليلي والسلوكي ينطوي كل منها على فائدة دون أدنى شك، إلا أن الاعتماد على واحدٍ من ذلك أو التخلي عن الطريقة التي رسمها الإسلام لنا وهو العلاج الإرشادي يعني ذلك فشل أية طريقة في المعالجة.

على أية حال لنقف الآن عند هذه الطرائق ونمر عليها مروراً عابراً ونبدأ ذلك بالحديث عن الاتجاه التحليلي، هذا الاتجاه يتناول أكثر من طريقة تبعاً لتفاوت مدارس التحليل النفسي، فالتحليلي النفسي بدأ مع بداية القرن الحالي ولكنه انشعب على نفسه أي أن تلامذة المؤسس لهذا الاتجاه نفسه، انشقوا عليه في حينه، ثم بدأت الانشقاقات داخل هذا التيار ممتدة إلى فترتنا المعاصرة أيضاً مما يعني أن ثمة تيارات متفاوتة تسلك  طريقة التحليل النفسي في علاج الشذوذ.

المهم إن الطريقة الأشد مفارقةً من هذا الاتجاه هي طريقة المؤسس للاتجاه التحليلي الذي يظل في الواقع كما قلنا أشد الطرائق وقوعاً في المفارقات التي تصدر عنها. والسبب في ذلك عائد إلى تشدد هذا الاتجاه أولاً على الفعاليات اللاشعورية بخاصة، ثم تشدد هذا الاتجاه على خبرات الطفولة، ثالثاً توكأ ذلك على ظاهرتي العدوان والجنس بخاصة.

والحق أن المشرع الإسلامي قد ألمح إلى اللاشعور من حيث دلالته العامة، ولسوف نرى لاحقاً أن معالجة الإسلام لمسائل الحلم والمزاح والتكبر وهفوات اللسان ونحو ذلك تقوم جميعاً على الإشارة إلى هذا الجانب الخفي من الشخصية، أي اللاشعور، ولكن الإسلام لا يرى اللاشعور مصدراً مفسراً لكل أنماط السلوك، كما أنه لا يراه علاجاً أوحداً للظاهرة المرضية، إنه مجرد وسيلة عابرة فحسب؛ حيث أنه من الممكن حين تستعير بعض مفاهيم اللاشعور من الممكن أن تساهم في تخفيف الظاهرة الشاذة، ولكن يظل النجاح أولاً وأخيراً قائماً على الطريقة الإسلامية وهي طريقة الإرشاد، أي على وعي الشخصية بواقعها، أو على الطريقة السلوكية التي يجنح إليها كثير من المعاصرين في هذا الميدان، ونحسب أن تقديم مثال في هذا الميدان هو الأكثر فائدة كما عودناكم على ذلك في محاضراتنا السابقة حيث اعتمدنا على الأمثلة في توضيح أية ظاهرة تربوية.

مثلاً: ثمة كثير من الأشخاص قد يكونون أطفالاً وقد يكونون راشدين يمتلكهم الخوف من الظلام مثلاً، وهذا الخوف يشكل حالة مرضية واحدة من الحالات التي سبق أن عرضنا لها وقلنا إن البحث الأرضي في تصوره للعصاب يصنف العصاب إلى جملة أشكال ومنها ما يسمى بعصاب الخوف، والآن إذا أردنا أن نستحضر مفاهيم اللاشعور وصلة هذه المفاهيم بالمرض المذكور، أمكننا القول مثلاً بأن نقول بأن المريض قد عانى في طفولته خبرةً مؤلمة تتمثّل في أن مربيته تركته ذات يوم في غرفة مظلمة وحده مما جعله في تلك اللحظات يمرّ بانفعال مؤلم هو انفعال الخوف! ثم نسي الطفل هذه الحادثة إلا أن لا شعوره قد احتفظ بها دون أدنى شك، نظراً لما صاحبها من الانفعال المؤلم وكبته إياه منذ ذلك الحين.

والآن إن استحضار مفاهيم اللاشعور يعني أن نبصّر المريض بخبرته الانفعالية المذكورة، وذلك بأن نجعله بوسيلة ما أن يتذكّر الحادثة وما صاحبها أيضاً من الانفعال وبهذا يتحرّر المريض من خوفه أو من مكبوتاته.

إن استحضار مثل هذا المفهوم فعلاً قد ينجح المريض في تحريره من مخاوفه، ولكنه هل يتحقق في الحالات جميعاً؟ بطبيعة الحال كلا، لأن الأطباء التحليليين أنفسهم يقرون بأنهم واجهوا كثيراً من المرضى الذين استبصروا بمصادر متاعبهم ولكن التحليل لم ينفعه البتة، إنهم يتذكرون جيداً مصدر الخوف والانفعال المصاحب له وإقرارهم بسخف مثل هذا الخوف، أي أن المريض نفسه يحس بأن هذا الخوف خوف سخيف لا واقع له، ومع ذلك لا يستطيع المريض الفكاك من مخاوفه، أكثر من ذلك في حالات خاصة تتصل بالخبرات المخجلة مثلاً، أي الجنسية، أو المحرمة، قد يتضاعف حجم المرض عند الشخصية بعد الاستبصار بخبرته المؤلمة.

طبيعياً إن هذا الإخفاق قد يكون عائداً إلى بناء الشخصية المضطرب أساساً، أي البناء النفسي للشخصية، وقد يكون ذلك نتيجة لتعقد خبراته واشتباكها العميق، وقد ينجم عن اضطراب عضوي أيضاً ولكنه حتى في الحالات التي لا تسمها الطوابع المشار إليها، فإن مجرد استحضار مفهوم اللاشعور لا يشكل أداةً وحيدة للعلاج بل يظل مجرد أداة قد تنجح في تحرير المريض من مكبوتاته وقد لا تنجح، ونحن لا نحتاج في التأكيد من ذلك إلى إقرار بعض التحليلين أنفسهم بالفشل الذي واجهوه في علاج مرضاهم بل إن التجارب اليومية تفصح عن ذلك بوضوح مما تكفينا عناء الرد على ذلك، وهذا فيما يتصل بالاتجاه التحليلي.

وأما فيما يتصل بالاتجاه الثاني وهو الاتجاه السلوكي، وهذا مما لا شك فيه يحمل صواباً في المعالجة وفي الغالب يتحرر المريض من متاعبه، ففي المثال المتقدم، أي عصاب الخوف من الممكن أن ينطفأ الخوف دون الحاجة أن نستحضر مفاهيم اللاشعور ونبصر المريض بمصدر خبرته، كأن نعرضه في هذا الميدان بشكل غير مباشر للظلام ونكرر التجربة في هذا الصدد حتى يتم إزالة مخاوفه تدريجاً، والحق أن التجارب اليومية المألوفة في إزالة مخاوف الأطفال وفق هذه الطريقة أمر لا يتردد اثنان في نجاحه فنحن نستخدم هذه الطريقة في مناسبات مختلفة وننجح تماماً في إزالة مخاوف الأطفال ونجد أن التوصيات الإسلامية أيضاً قد تشير إلى هذا النمط من العلاج بالنحو الذي هو مأثور عن الإمام علي (عليه السلام) في ذهابه إلى ما مؤداه من أنك إذا ما أخذت شيئاً فلتقع فيه، فإن توقيك منه أعظم من الوقوع فيه، فالوقوع فيه يعني تدريب الشخصية على أن نعرضه للمصدر الذي يخاف منه،ومثال ذلك كما قلنا الخوف من الظلام أو عبور النهر أو الخوف من بعض الحيوانات أو .. الخ.

المهم إن المطالبة بوقوع المريض فيما يتخوف منه يعني نمطاً من العلاج السلوكي الذي تتجه المدرسة السلوكية الحديثة إليه، يستوي في ذلك أن تكون الحالة ذات طابع بيئي كما هو الحال في قضية التجربة المؤلمة التي عاناها طفلاً، أو تكون الحالة ذات طابع وراثي، فالمريض الذي يرث من خلال ما أسميناه بـ(الوراثة الطارئة)، حينما يضفي ظاهرة الخوف أو الانفعال الحاد عامة سوف يفيد من الطريقة الإرشادية أو السلوكية في تعديل سلوكه. مثلاً إن التوصية الإسلامية القائلة: (إن لم تكن حليماً فتحلم) تعني بوضوح إمكانية تعديل حتى لما هو وراثي فضلاً عن البيئي، ذلك أن التدريب على التحلم كما أشارت التوصية الإسلامية إليه، يقتاد الشخصية إلى أن تصبح ذات يوم حليمة بالفعل، سواء أكان عدد التحلم من حيث المصدر قد نشأ من الأصلاب أم مرحلة الحمل أم مرحلة النفاس أم مرحلة الرضاعة أم مرحلة الطفولة بعامة؛ أي وراثياً وبيئياً، بيد أن المهم هو في الحالات جميعاً أن تعديل السلوك من الممكن أن يتم وفق الطريقة الإرشادية أو السلوكية حسب ما تستدعيه حالة المريض، ومع ذلك فإن الفشل من الممكن أن يجتاح هذه الطريقة أو تلك مثلاً، بخاصة إذا كان المريض محكوماً بنفس الطوابع التي سبق ذكرها، أي محكوماً ببناء عصبي يتسم بالاضطراب أو بتعقد خبراته واضطراباته العضوية. والمهم في الحالتين النجاح يعتمد أولاً وأخيراً على وعي المريض بشذوذ حالته، يستوي في ذلك أن يقترن بمعرفة مصدر الشذوذ أو بعدم معرفته، وهذا يعني أن التشدد ينبغي أن يتم على الوعي وليس على الطريقة، وهذا هو العلاج الإرشادي الذي يبصّر المريض بمبادئ عامة عن الخوف أو عن سواه من الأعراض ومثله العلاج السلوكي الذي تقدم الحديث عنه.

ففي الحالة المذكورة يبصر المريض بحقيقة الظلام وعدم انطوائه على أي مسوّغ للخوف فلا أشباح ولا حيوانات ولا أفراد يتعرضون له بالأذى تماماً كما هو الحال فيما يتصل بالأماكن غير المظلمة، أو نعرض المريض إلى مصدر الخوف على نحو ما ألمح الإمام علي (عليه السلام) عليه.

طبيعياً من الممكن أيضاً أن لا تزول المخاوف بهذا التبصير أو الطريقة السلوكية أو الإرشادية ولكن عدم إزالة ذلك يعني أن المريض تسمه طوابع معقدة لم يستطع التحليل أو السلوك أن يطفئ مخاوفه كالاضطرابات العضوية التي يعاني منها، أو تعقد التجارب أو تعقد الخيوط النفسية واشتباكاتها التي يحياها طيلة حياته، وهذا كله فيما يتصل بنمطٍ من العصاب هو عصاب الخوف، وأما سائر الأعصبة كعصاب الوسواس أو الكآبة أو الهستيريا أو نحو ذلك، فإن استحضار مفاهيم اللاشعور أو العلاج السلوكي أيضاً يتعطل عن فعاليته تبعاً لقوة أو تشابك الحالة التي يعاني منها المريض.

مثلاً المريض الذي يعاني عصاب التسلط القهري مثلاً من الممتنع أو لنقل من العسير أن يتحرر من غسل يديه مرات عديدة، أو يقلع عن مضغ الأفكار أو الألفاظ لمجرد أن نلفت انتباهه إلى أنه يعاني عقدة ذنب مثلاً، ونبصره بمصدر الإحساس بذنبه أو أن هذا الإحساس هو رغبة محارمية أو كراهية للأب كبتتا في لاشعوره مثلاً، أو أنها نتيجة تثبت عند إحدى المراحل وهي المرحلة الثانية من مراحل النمو الطفلي، مثل هذا التبصير فضلاً عن سخفه من حيث كونه تفسيراً لحالة المريض يرتطم بمقاومة أشد من المريض في أية محاولة لإزالة التسلّط عليه. كما أن العلاج السلوكي يرتطم بصعوبة أكثر شدة في مثل هذه الحالة التي يعدها السلوكيون تعلماً خاطئاً من الممكن أن ينطفئ بتعلم جديد في هذا الصدد.

على أننا إذا تجاوزنا حالات العصاب الحادة التي يفشل الاتجاه التحليلي أو السلوكي أو حتى الإرشادي في إزالتها أو تعديلها حينئذٍ فإن الاتجاه إلى الحالات الخفيفة من العصاب أو إلى الحالات العامة التي تسم الآدميين في ظواهر سلوكهم المرتبطة بالقلق والتوتر والكآبة والصراع وما إلى ذلك، أو بعض حالات السلوك المتصلة بما يسمى في لغة علماء النفس التحليلي بآليات الدفاع من تبرير ونكوص وإسقاط وو.. الخ. بل في مطلق السلوك السلبي المتصل بالممارسات اليومية التي يحياها البشر من كذب وخيانة وحقد وعدوان وو.. الخ. نقول: إذا اتجهنا إلى مثل هذه الحالات وهي في الواقع موضع تشدد المشرع الإسلامي حينئذٍ نلحظ بأن العلاج الإرشادي هو الأسلوب الأمثل في هذا الميدان، والمشرع الإسلامي حين يشدد في هذا الجانب فلأن هذه الأعراض تمثل غالبية الآدميين الذين قد تشكل نسبتهم أكثر من ثلاثة أرباع البشر، ولأنها تتصل بصميم السلوك الذي يتعامل معه يومياً ولأن شطراً منه يبدو وكأنه لا يحمل سمة المرض في تصور الباحثين الأرضيين ولأنه في نهاية المطاف يخضع لعمليات التعديل والعلاج بعامة، وذلك من خلال الإرشاد المتواصل بخلاف الحالات الحادة التي تفتقر في الواقع إلى وسائل أخرى من العلاج كالعقاقير مثلاً، وما إلى ذلك.

إن المشرع الإسلامي يقدم لنا توصياته المتنوعة في هذا الصدد من خلال تفسيره أولاً لمهمة الكائن الآدمي في هذه الأرض وبدون هذا التفسير لا يمكن في الواقع أن يتم أي نجاح في تعديل السلوك، ويتم ذلك ثانياً من خلال التزامنا بمبادئ السلوك الإسلامي في كل مستويات الشخصية وبدون ذلك أيضاً لا يمكن أن يتم أي نجاح في تعديل السلوك.

ويحسن بنا أن نعرض ولو عابراً لهذا التفسير فنقول: تنطلق الشخصية الإسلامية من تصور خاص لدلالة وجودها في هذه الحياة المحدودة.

أولاً: هذا التصور يقضي بأن لها وجوداً له هدفيته أي أنه يرتبط بالقيام بمهمة خاصة هي الخلافة في الأرض، أو ممارسة العبادة تبعاً لقوله تعالى: (ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).

ثانياً: المهمة العبادية المشار إليها إنما تحددها السماء عبر تمثل ذلك في الالتزام بجملة من المبادئ التي رسمها الله تعالى لنا، أي فعل الواجب والمندوب وترك المحرم والمكروه والخيار بين السلوك الذي لا يتسم بأمر أو نهي وهو المباح وحتى هذا المباح من الممكن تحويله إلى سلوك مندوب.

ثالثاً يتميز الوجود المشار إليه بأنه وجود مؤقت أولاً وبأنه وسيلة وليس غاية ثانيا، أما كونه مؤقتاً فقبال الحياة الأبدية هي الحياة الحقيقية ونعني بها الدار الآخرة، أما كونه وسيلة فلأنه من أجل تحقيق الحياة الأخرى كما هو واضح.

رابعاً: إنه مجرد اختبار يشبه الاختبار المدرسي الذي يحياه الطالب حتى يتسلم درجة النجاح أو الرسوب في اجتياز الشخصية للدار الآخرة.

خامساً:يترتب على الاختبار أن تواجه الشخصية شدائد أو إحباطات للذة، أي تعاني صراعاً بين الشهوة والعقل، وبين الذات والموضوع بالشكل الذي حدثناكم عنه سابقاً.

سادساً: لكي يمضي الاختبار بنجاح يتعين على الشخصية أن تمارس نمطاً من اللذة هو اللذة الموضوعية، التي أشار إليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام) في محاضراتنا الأولى التي تحدثت عن تركيبة الشخصية، وبكلمة أخرى يتعين على كل شخصية أن تمارس تأجيلاً للذتها الذاتية أو لذتها المطلقة بغية تحقيق تلكم اللذة في الدار الآخرة بعد تخرّج الشخصية من الدار الدنيا.

وهذا يعني أن عملية تأجيل اللذة الذاتية يظل هو الخيار الوحيد لمن يطلب اجتياز درجة النجاح، فالطالب مثلاً يقلل من ساعات نومه ويقلل من فرص لقائه بالآخرين، ويقلل فرص استراحته حتى يوفر له بعد أن يتخرج حياة سعيدة وبدون أمثلة هذا التأجيل لا يمكن في الواقع أن نحدد أية دلالة للطبيعة الثنائية المركبة في البشر. فما دام ثمة شهوة مطلقة تكون ثم مطالبة بإيثار العقل عليها، أي ثمة مطالبة بتأجيل اللذة الذاتية وإبدال ذلك باللذة الموضوعية،مما يعني أن خياراً واحداً هو الذي نتملكه في الحياة، ألا وهو تأجيل اللذة.

يبقى أن نتساءل ما هي فاعلية هذا التأجيل؟.

قلنا أن ثمة أصلاً عاماً محركاً للسلوك الإنساني وهو البحث عن اللذة، وقلنا أيضاً أن الأصل ذو طابع ثنائي هو الشهوة أو العقل، وأنهما يتجاذبان سلوك الإنسان وإنهما يحققان اللذة له، وقلنا إن اللذة العقلية أو الموضوعية تتوازن مع اللذة الذاتية أو الشهوية، ولكنها تتميز بقدرٍ أشد إمتاعاً من اللذة الشهوية.

وأما الآن فنحدد مستويات هذه اللذة ومكان التأجيل منها حتى نصل إلى العملية التربوية التي تفضي في نهاية المطاف إلى أن تنجح الشخصية في تأجيل لذائذها الشهوية أو الذاتية، إذن لنتحدث أولاً عن أشكال اللذة فنقول:

من المسلم به أن اللذة أو الإمتاع يتحقق عبر ثلاثة أشكال هي اللذة الحسية، واللذة النفسية، واللذة العقلية. اللذة الحسية مثالها الحاجة إلى الطعام حيث يتم إشباع أو تحقيق هذه اللذة من خلال تناول وجبة من الطعام يتاح التقلص العضلي للمعدة من خلال ذلك، وأما مثال اللذة النفسية فالحاجة إلى التقدير الاجتماعي مثلاً، ومع أننا نتحفظ في مثل هذه الحاجة حيث نحدثكم عنها لاحقاً من خلال التصور الإسلامي ولكن سنفترض أن الحاجة إلى التقدير الاجتماعي هي حاجة لها أهميتها لدى الشخصية، حيث يتم إشباع هذه الحاجة بتحقيق الحب، أي الحب الذي يخلعه الآخرون علينا، أو المكافأة أو السمعة الاجتماعية التي يخلعها الآخرون علينا، وأما مثال اللذة العقلية فتتجسد هذه اللذة في معرفتنا أو في تطلعنا إلى أن نعرف كثيراً من الحقائق وأن نستكنهها حيث يتم إشباع هذه اللذة بالوصول إلى كشف الحقائق المشار إليها.

إن علم النفس الأرضي أو التربية الأرضية لا تفصل اللذة الحسية عن الصيغ التي تمت من خلالها أية عملية نفسية خالصة، فمثلاً إن البحث عن الطعام أو الجنس لا يمكن إشباعه إلا من خلال صيغ نفسية، يتعلمها الإنسان منذ أن يظهر وعيه الشخصي بما يحيط به من الحالات الاجتماعية التي يحياها. فالطفل وحده وهو يولد سوف يبحث عن الإشباع المطلق لحاجته إلى الطعام، لكنه مع السنوات الأولى التي يبدأ لديه التمييز أو الوعي يبدأ بتأجيل لذته بحيث يخضعها لأوقات خاصة تحددها مربيته يتعلم خلاله أن يكف عن البكاء أو المطالبة بالطعام كما يتعلم من خلالها أن يصبر على الحاجة المذكورة، واضح أن الكف عن البكاء أو الكف عن مطالبته بالطعام والصبر عليه، هذا النمط من السلوك يعد عملية نفسية خالصة يستبدل بها الطفل عن اللذة الحسية لذة نفسية تتمثل في انتزاعه للتقدير من مربيته. وحتى مع افتراضنا أن الطفل مضطر إلى تأجيل لذته ليس بسبب من انتزاع التقدير بل لتأمين حاجته من الطعام في الموعد المحدد فإن عملية التأجيل ذاتها تحقق لذة عقلية هي اكتشاف الطفل للحقيقة الذاهبة إلى أن الصبر سيوفر له حاجته إلى الطعام في الموعد المحدد.

هذا في مرحلة الطفولة وأما في المرحلة الراشدة فإننا جميعاً نخضع اللذة الحسية للطعام أو الجنس إلى تأجيلات متنوعة من حيث تنظيم الزمان والمكان والطريقة، بحيث نحقق إمتاعاً نفسياً وعقلياً بدلاً من الإمتاع النفسي الصرف، بل قد يصل الأمر إلى أن البعض قد يضرب عن الطعام ويتقبل الموت بدلاً عن الحياة عندما يخضع العملية للذة نفسية أو عقلية هي القيم الدينية أو السياسية أو الاجتماعية التي ينطلق من خلالها المضرب عن الطعام بحيث يستبدل اللذة الحسية وهو الطعام إلى ما هو لذة نفسية أو عقلية ألا وهو الإضراب عن الطعام لأن الإضراب يجسد لذة للقيم التي يؤمن بها المضربون عن الطعام.

إذن نستخلص من هذا المثال عدة حقائق:

1- إن اللذة الحسية تقترن من خلال إشباعها بلذة نفسية أو عقلية تبعاً لنمط الثقافة التي تحيط الباحث عن اللذة الحسية.

2- اللذة الحسية من الممكن أن تستبدل أساساً بلذة نفسية أو عقلية بحيث يؤجل المضرب عن الطعام ليس رغبته العادية في تناول الطعام بل حاجته الملحة على نحو لا يتناوله إطلاقاً، حيث يقتاد إلى تقبل الموت وهو قمة التأجيل للذة الحسية.

3- اللذة الحسية هي أشد الحاجات إلحاحاً، لأن استمرار حياة الكائن الآدمي متوقفة على إشباع حاجته إلى الطعام، ولكنها بالرغم من كونها أشد إلحاحاً من اللذة النفسية أو العقلية، تظل في الواقع أضعف الفاعلية من اللذة النفسية والعقلية بصفة أن اللذتين النفسية والعقلية بمقدورهما أن تتحولا إلى لذة نفسية وعقلية أشد تأثيراً وفاعلية من اللذة الحيوية متمثلة في الإضراب عن الطعام.

طبيعياً ينبغي أن نشير إلى جانب مهم هو أن طبيعة الحياة تقتضي بضرورة أن نحيط علماً بأن هذه الحياة من حيث طبيعتها لا يمكن أن تحقق إشباعاً للشخصية أياً كان نمط هذه الشخصية فللإنسان تطلعاته وحاجاته التي لا نهاية لها، فإذا قدر للإنسان أن يحقق كل حاجاته حينئذٍ فإن طبيعة الحياة أساساً سوف تتغير من حالتها التي نحياها، لذلك يضطر الإنسان إلى أن يؤجل لذته العابرة إلى لذة عقلية أو نفسية أو لذة أيضاً حيوية ولكن بشرط التأجيل لها، أي تحقيق الإشباع الآجل بدلاً من الإشباع العاجل.

والآن مع فهمنا لهذه الحقيقة ينبغي أن نؤكد بأن عملية التأجيل للذة تظل هي الطابع الذي يسم الكائن الآدمي تبعاً للتركيبة التي صاغتها السماء، وطالبت خلال ذلك كما قرر الإمام علي (عليه السلام) بأن تسيطر الشخصية على شهواتها من خلال التحكم العقلي في ذلك، والواقع أن هذه الحقيقة تتلاقى عندها كل من وجهات النظر الإسلامية والأرضية، ولكنهما يفترقان من الفارقية التي تبدأ بين نمطين من الثقافة، فالثقافة الإسلامية في الواقع تختلف تماماً عن الثقافة الأرضية من حيث تحديدهما لمبادئ اللذة العقلية والنفسية وليس من حيث إيمانهما بضرورة اللذة العقلية والنفسية، بل الفارق هو المبادئ التي تحقق اللذة العقلية والنفسية هي التي تضع فارقاً ملحوظاً بين تصور الأرض وبين التصور الإسلامي للسلوك حيث ينعكس هذا الفارق على نشأة الأمراض النفسية وينعكس على طرائق علاجها وينعكس على فشل البحوث الأرضية في هذا الميدان.

ولسوف يتبين لاحقاً أن فشل البحث الأرضي في الواقع يعود إلى جهله بمبادئ اللذة العقلية والنفسية وفي مقدمة ذلك كما سنوضح لاحقاً هو أن التصور الإسلامي للحياة يفترق تماماً عن التصور الأرضي لها، حيث أن التصور الأرضي يخيل إليه أن السعادة من الممكن أن تتحقق لدى الإنسان ولو نسبياً، بينما نرى  أن التصور الإسلامي للحياة لا يقوم على أساس السعادة فيها، بل يقوم على أساس الاختبار والاختبار بطبيعته يتطلب شدائد وضغوطاً وتوترات وو..الخ. كل ما في الأمر أن نمط تأجيل اللذة هو الذي سيحقق التوازن النفسي للشخصية والتوازن العام للمجتمعات على نحو ما نتحدث عنه في مناسبات لاحقة إنشاء الله تعالى.

من هنا سوف نبدأ في محاضرتنا اللاحقة إنشاء الله فنتحدث عن مبادئ تأجيل اللذة والمقارنة بين التصورين الأرضي والإسلامي لهذه المبادئ حتى نقف بالتفصيل على ما تنبغي ممارسته في العملية التربوية المشار إليها.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..