mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 14.doc

تحدثنا في لقاءٍ سابق عن التصنيف الذي قدمه الإمام علي (عليه السلام) بالنسبة إلى السلوك العصابي متمثلاً في قائمتين ذكر فيهما الإمام علي (عليه السلام) في كل واحدة منهما عشرين مفردة من مفردات السلوك العصابي المبتني على الكفر وعشرين مفردة من السلوك العصابي المبتني على النفاق، وقد أوضحنا كيف أن هذه الأصول جميعاً ذات طابع أو جذر نفسي حيث استنتجنا من ذلك أن كل معالم الكفر أو الانحراف الفكري إنما يستند في الواقع إلى جذور نفسية مريضة وهذه الجذور النفسية هي بإجماع علماء النفس والتربية جذور ذات طابع مرضي، مما يعني أن تعامل الشخصية الكافرة والمنافقة، أي المنحرفة، تعامل هذه الشخصية مع ظواهر الحياة التي تحياها يومياً تنعكس على سلوكها مع ظواهر الكون ومبدع الكون والموقف الفلسفي مع الكون، وهذه النقطة من الأهمية بمكان كبير من حيث استخلاص النتيجة الذاهبة إلى أن الانحراف الفكري سواء أكان كفراً أو نفاقاً أو أية مواقف لا تمت إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى بصلة، كل ذلك يعد في الواقع تعبيراً عن مرض نفسي عند الشخصية سواء أكانت هذه الشخصية تعي ذلك الجذر المرضي أم لم تعه.

على أية حال القائمة التي قدمها الإمام علي (عليه السلام) قائمة ذات ثلاث شعب؛ الشعبة الأولى تتحدث عن الكفر والشعبة الثانية تتحدث عن النفاق أما الشعبة الثالثة فتتحدث عن الإيمان، إلا أننا حذفنا الحديث عن الإيمان لأننا في صدد الحديث عن وحدة العصاب أو المرض النفسي، متمثلاً في كل من سلوك المنافق والكافر بالنحو الذي أوضحناه، أما الحديث عن الإيمان فسنؤجل كلامنا فيه إنشاء الله إلى مناسبة لاحقة.

على أية حال نتابع الآن التصنيفات التي يقدّمها الإسلام بالنسبة إلى وحدة السلوك النفسي والفكري، أي وحدة العصاب أو المرض النفسي فنحن الآن بعد أن لاحظنا القائمة المتضمنة أربعين مفردة عند السلوك عند الإمام علي (عليه السلام) نتقدم لملاحظة قائمة جديدة هي للإمام الصادق (عليه السلام) وهذه القائمة تتضمن خمساً وسبعين مفردة من أنماط السلوك، وقبل أن نتحدث عن هذه القائمة نود أن نلفت النظر إلى أن علماء النفس في الواقع عندما يتحدثون عن أمثلة هذه السمات، أو عندما يتحدثون أو عندما يقدمون قوائم يصنفون فيها السلوك فإن تقديمهم في هذه القوائم يتم على نحوين؛ إما أن يقدموا قائمة مستقلة بأحد نمطي السلوك، أي قائمة بالسلوك السلبي وقائمة بالسلوك الإيجابي. أو يقدمون قائمة واحدة تتناول التقابل بين مفردتي السلوك السوي والسلوك المرضي. وهذا النمط من التصنيف الحديث نلاحظه بشكل بين في التشريع الإسلامي حيث أن القائمة التي لاحظناها عند الإمام علي (عليه السلام) كانت تتناول سلوكاً مفرداً خاصاً بالسلوك العصابي، وأخرى قائمة خاصة بالسلوك السوي، أما القائمة التي نريد الآن أن نتحدث عنها وهي للإمام الصادق (عليه السلام) التي قلنا أنها تحمل خمساً وسبعين مفردة من أنماط السلوك، هذه القائمة تتناول السلوكين اللذين يقابل أحدهما الآخر، على نحو ما هو موجود وملاحظ في التصنيفات النفسية المعاصرة.

على أية حال هذه القائمة التي تتضمن خمساً وسبعين مفردة من أنماط السلوك، نجد فيها أن الإمام الصادق (عليه السلام) يضع كل مفردة من المفردات ويضع أمامها المفردة المضادة لها، ويلاحظ أيضاً في هذه القائمة أنها متنوعة الجذور أي أنها تتناول ما هو نفسي وما هو فكري وما هو إدراكي وما هو مزاجي وو.. إلى آخر السمات التي تحملها الشخصية.

ويمكن الذهاب إلى أن الفارق بين التصنيفين؛ أي التصنيف الأول للإمام علي (عليه السلام) والتصنيف الثاني للإمام الصادق (عليه السلام) أن كلاً منهما شامل لكل الأصول والجذور النفسية، أي لكل إفرازات الجانب الشهوي والجانب العقلي من تركيب الشخصية، وقد سبقت الإشارة إلى أن الجانب الإدراكي لدى الشخصية غير منفصل في الواقع عن الجانب الوجداني منها، كما أن العصاب النفسي غير منفصل كما كررنا عن العصاب الفكري في التصور الإسلامي، لذلك نجد أن هذه القائمة التي تتضمن أشكالاً متنوعة من السلوك، هي في الواقع تندرج ضمن إما ما هو سوي من السلوك، أو تندرج ضمن ما هو شاذ من السلوك، وهذا يؤكد بنحو واضح وحدة السلوك البشري في كل أشكاله المنحرفة،  سواء كانت أشكالاً تتصل بالجانب النفسي أو أشكالاً تتصل بالجانب الفكري أو الفلسفي من الحياة.

والآن لنتحدث أو لنتقدم ونقف عند هذا التصنيف حيث يقدم الإمام الصادق (عليه السلام) مفردات السلوك السوي قبالة السلوك العصابي، في قائمة يستهلها بالإشارة إلى مصطلحين جديدين هما مصطلح الخير والشر، حيث لاحظنا عند حديثنا عن التركيبة البشرية عند الإمام علي (عليه السلام)، أن الإمام علي (عليه السلام) يعبر عن الجانب السلبي لدى الشخصية أو الجانب المرضي لدى الشخصية يعبر عنه بمصطلح الشهوة أو الشهواني، ويعبر عن الجانب السوي أو الجانب الإيجابي من السلوك بالعقل أو بالجانب العقلي، أما الإمام الصادق (عليه السلام) فينتخب مصطلحين آخرين هما مصطلح الخير والشر، فالخير هنا يقابل مصطلح العقل، والشر هنا يقابل مصطلح الشهوة، حيث يجعل الأول منهما وهو الخير تجسيداً لجانب العقل من الشخصية، والآخر وهو الشر تجسيداً للجانب الشهوي منها.

وإليكم القائمة التي تضع قبالة كل سمة إيجابية سمة سلبية على نحو ما نلحظه في تصنيفات البحث الأرضي لسمات الشخصية، تبدأ القائمة بهذا النحو:

(الإيمان ومقابل ذلك الكفر.

العدل مقابل الجور.

الطمع مقابل اليأس.

الرحمة مقابل الغضب.

العفة مقابل التهتك.

الرهبة مقابل الجرأة.

التصديق مقابل الجحود.

الرضا مقابل السخط

التوكل مقابل الحرص.

العلم مقابل الجهل.

الزهد مقابل الرغبة.

التواضع مقابل الكذب.

الحلم مقابل السفه.

العفو مقابل الحقد.

الصبر مقابل الجزع.

التفكر مقابل السهو.

المواساة مقابل المنع.

الخضوع مقابل التطاول.

الصدق مقابل الكذب.

القنوع مقابل الحرص.

الإخلاص مقابل الشوق.

المعرفة مقابل الإنكار.

الكتمان مقابل الإفشاء.

البر مقابل العقوبة.

التقية مقابل الإذاعة.

الحياء مقابل الوقاحة

السهولة مقابل الصعوبة.

الاقلال مقابل المكاثرة.

السعادة مقابل الشقاء.

المحافظ مقابل التهاون.

الألفة مقابل الفرقة.

الرجاء مقابل القنوط.

الشكر مقابل الكفران.

الرأفة مقابل العنف.

الفهم مقابل الحمق.

الرفق مقابل العنف.

التوؤدة مقابل التساهل.

الاستسلام مقابل الاستكبار.

الصمت مقابل الهذر.

الرقة مقابل القسوة.

الصفح مقابل الانتقام.

الحفظ مقابل النسيان.

الوفاء مقابل الغدر.

السلامة مقابل البلاء.

الحق مقابل الباطل.

المهنة مقابل البغي.

الشهامة مقابل البلادة.

المداراة مقابل المكاشفة.

الجهاد مقابل النكول.

الحقيقة مقابل الرياء.

الإنصاف مقابل الحمية.

القصد مقابل العدوان.

البركة مقابل الحمق.

الحكمة مقابل الهوى.

التوبة مقابل الإصرار.

السخاء مقابل البخل.

الاستغفار مقابل الاغترار.

الأمانة مقابل الخيانة.

الدعاء مقابل الاستنكار.

الفهم مقابل الغباوة.

سلامة الغير مقابل المماكرة.

الصون مقابل النميمة.

المعروف مقابل المنكر.

النظافة مقابل القذارة.

اليقين مقابل الشك.

الغنى مقابل الفقر.

التعطف مقابل القطيعة.

الطاعة مقابل المعصية.

الحب مقابل البغض.

الراحة مقابل التعب.

العافية مقابل البلاء.

الوقار مقابل الخفة.

الفرح مقابل الحزن.

النشاط مقابل الكسل.

السفه مقابل التبرد.

هذه القائمة المتضمن خمساً وأربعين مفردةً من مفردات السلوك الإيجابي والسلبي أو الصحي والمرضي أو السوي والعصابي، هذه القائمة يلاحظ فيها أنها تتناول أصولاً عامة للعصاب كالحقد والقسوة والانتقام والبغض والخيانة والغدر والمماكرة والنميمة.. الخ. وهي جميعاً سمات لابثة بما يسمى بالشخصية العدوانية، كما أن سمات من نحو الحزن الشقاء الجزع اليأس.. الخ، تظل طوابع للشخصية التي يطلق عليها مطلق الشخصية المنطوية والمكتئبة، هذا فضلاً عن أننا نلاحظ بعض السمات المنتسبة إلى سمة الشك والجحود والإنكار والنكول فيما تظل طابعاً للشخصية التي يطلق عليها مصطلح الشخصية القلقة تبعاً لما أوضحناه في محاضرة سابقة من التصنيف الأرضي لأنواع العصاب المرتبط بعصاب القلق والكآبة وو.. الخ.

ولا يغب عن البال أن بعض السمات التي وردت في هذه القائمة تمثل طوابع عقلية كالغباء والنسيان ونحو ذلك، والذي يلفت الانتباه حقاً هو أن السمات البالغ عددها خمساً وسبعين مفردة تظل أنماطاً من السلوك العصابي الذي تألفه البحوث الأرضية في شتى تصنيفاتها لأمراض العصاب أو لسمات الشخصية المريضة، في حين لاحظوا جيداً أن السمات الفكرية أو الفلسفية الخالصة تمثل سمة واحدة أو اثنتين وردت بأول القائمة ونعني بها سمة (الكفر) ويقابلها (الإيمان) مما يعني مدى صلة الأمراض النفسية في شتى أنماطها بالمرض الفكري وهو الكفر، وتواشج الأصول النفسية بينهما، أي وحدة العصاب النفسي والفكري مقابلاً لوحدة السوية نفسياً وفكرياً تماماً بالنحو الذي لاحظناه بالقائمة التي قدمها الإمام علي (عليه السلام).

إن ذينك التصنيفين المتقدمين يشكلان أصولاً نفسية لكافة أنماط السلوك، والآن نواجه نمطاً ثالثاً من التصنيف، يتناول هذا النمط إلحاح وأهمية بعض الجذور أو الأصول بالقياس إلى سواها، كما يتناول الجانب الحيوي أو البيولوجي من الأصول والجذور من حيث طرائق إشباعها من حيث الإلحاح والأهمية، وهذا النمط الثالث من التصنيف بدوره يتناول الصلة بين العصاب الفكري والعصاب النفسي من خلال الإشارة إلى الجذور التاريخية لنشأة العصاب وانسحابه على الموقف الفكري، ولعل هذا الجانب هو أشد الجوانب وضوحاً لدى الطالب بحيث يستطيع أن يستخلص بنحوٍ لا شك فيه أن جذر الكفر هو في الواقع جذر نفسي صرف.

وإليكم الآن هذه السمات متمثلةً في جملة تصنيفات لدى المشرع الإٍسلامي، ومنها التصنيف المشير إلى أن كلاً من التكبر والحرص والحسد، وهي كما تلاحظون سمات نفسية واضحة، هذه السمات - أي التكبر والحرص والحسد - التي هي مجرد سمات نفسية كانت السبب وراء أول تمرد على أوامر السماء وتعليماتها، وفي هذا الميدان يقول الإمام السجاد (عليه السلام): (للمعاصي شعب فأول ما عصي به الله الكبر؛ معصية إبليس حين أبى واستكبر، ثم الحرص؛ وهي معصية آدم وحواء، ثم الحسد؛ وهي معصية ابن آدم  حيث حسد أخاه فقتله).

ويشير الإمام (عليه السلام) بعد ذلك إلى سمات سبع تسلسلت تاريخياً أو تعاقبت بعامة بعد السمات الثلاث المذكورة، يقول (عليه السلام): (فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو وحب الثروة فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا).

وفي نص آخر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء قوله: (أول ما عصي به الله ستة: حب الدنيا وحب الرئاسة وحب الطعام وحب النوم وحب الراحة وحب النساء).

والآن يهمنا من هذه النصوص الثلاثة المهمة جداً أنها تربط بين المعصية وهي موقف فكري يتمثل في التمرد على أوامر السماء، وبين سمات نفسية مرضية هي الكبر والحسد والحرص، ثم سمات نفسية تتصل بطرائق الإشباع المرضي لدوافع الجنس، والطعام والتفوق وما إلى ذلك.. وإلا فإن الطعام نفسه حاجة بيولوجية ملحّة لابد من مراعاتها، ولكن الأسلوب النفسي الذي يتبع في إشباع هذه الحاجة قد يكون مرضياً وقد يكون سوياً، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما أشار إلى حب الطعام وحب النوم.. إنما أشار إلى الأسلوب الشاذ في إشباع تلك الحاجات، فالجنس مثلاً من الممكن أن يشبع بطريقة سوية متمثلة في الزواج، ومن الممكن أن يشبع بطريقة غير سوية مرضية وهي الممارسة الجنسية غير المشروعة.

على أية حال إن ما نستخلصه من كل ما تقدم هو: إن جميع مستويات التمرد على السماء وتعاليمها، أي كل موقف فكري ينتمي إلى الإلحاد أو التشكيك أو اللاأدرية أو .. كل موقف من هذه المواقف ينجم في الواقع عن المرض النفسي وليس عن موقف فكري موضوعي سليم، سواء كان التمرد يتجسد في إنكار المبدع للكون، أو كان يتجسد في المعصية فالمسلم عندما يكذب أو يرتاب، أو.. الخ. أيضاً يمارس سلوكاً عصابياً لأنه يرتبط بجذور نفسية صرفة وهذا يعني كما كررنا ونكرر وحدة العصاب الفكري والنفسي في ما لا سبيل إلى فصل أحدهما عن الآخر في التصور الإسلامي، بل ذلك على العكس تماماً من التصورات الأرضية التي تنزع إلى رسم سمات السوية في سلوك نفسي صرف لا علاقة به بالموقف الفكري، وهذا هو الخطأ الذي يلفّ الأبحاث الأرضية.

والمهم بعد ذلك أن نشير إلى أن المشرّع الإسلامي في نظرته للعصاب أو للمرض النفسي يخضع العملية لأكثر من تصنيف، منها هذا التصنيف الذي يربط بين الأمراض النفسية وبين الاتجاهات الملحدة، أو غير الملتزمة بمبادئ السماء، على تنوع السمات وتميز ذلك في سمات خاصة وعامة. مع ملاحظة أكثر من باحث أرضي لحسن الحظ قد انتبه إلى مثل وجود هذه الصلة بين المرض النفسي وبين الإلحاد مثلاً، أو بين المرض النفسي وبين مطلق التمرد على المبادئ الدينية.

على أية حال إذا تجاوزنا هذا النمط من التصنيف وهو ينطوي على خطورة بالغة ما دام يلقي الضوء على الصلة بين المرض والموقف اللاديني، نقول: إذا تجاوزنا هذا النمط من التصنيف أمكننا أن نتجه إلى تصنيفات أخر تتناول المرض النفسي من الزاوية الخالصة، أي الزاوية التي يألفها البحث الأرضي في معالجاته لهذا الجانب.

طبيعياً قد يتساءل بعضكم قائلاً: ما هي الفائدة من تقديم السمات النفسية الخالصة ما دام الإسلام أساساً لا يفرق بين ما هو نفسي عن ما هو فكري؟ إلا أننا نستهدف من هذا في الواقع إلى ملاحظة شيء آخر هو أن الإسلام مع أنه يتناول هذا الجانب ولكنه من جانب آخر يقدم توصياته إلى البشرية جمعاء، إن الله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، والرحيم هي صفة من الله سبحانه وتعالى تخص المؤمنين، والرحمن صفة من الله تعالى تخص المؤمنين وسواهم، وفي الواقع فإن الإسلام يقدم توصياته للبشر جميعاً بما فيهم غير المسلمين حتى ينتفعوا دنيوياً لا أقل من أمثلة هذه التوصيات، فهو مثلاً في ميدان الطب الجسمي يقدم علاجاً لبعض الأمراض، وهذا العلاج قد يستثمره المؤمن فيستفيد منه وقد يستثمره الكافر فيستفيد منه أيضاً، ومن هنا فإن تقديم قوائم للسلوك النفسي فحسب أو تقديم قوائم للسلوك الفكري فحسب، أو تقديم قوائم توحد بين السلوك النفسي والفكري، كل هذه القوائم تضطلع بمهمات متنوعة كما قلنا.

على أية حال لنقف الآن على تصورات الموقف المشرع الإسلامي في هذا الميدان، أي الميدان الذي يتناول فيه تصنيفات تتصل بالمرض النفسي الخالص.

والآن نعود إلى القائمة التي قدمها الإمام علي (عليه السلام) عبر المحاضرة التي أوضحنا فيها معالم تلك القائمة الخاصة بالعصاب النفسي والفكري، حيث قلنا أننا رصدنا في تلك القائمة أربعين صفة مرضية، وإذا دققنا النظر في القائمة التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) أمكننا رصد خمساً وسبعين مفردة من السمات المرضية ، فهذه السمات مع تداخل بعضها مع الآخر تشكل قائمة شاملة لكلّ أنماط السلوك المرضي، سواء كانت السمات متصلة بالجانب النفسي، أو بالجانب المزاجي من الشخصية، أو كانت متصلة بالجانب الأخلاقي،أو كانت متصلة بالجانب العقلي أو الإدراك. وهذا يعني أن القائمتين المذكورتين تمثلان تصنيفاً إحصائياً لنمط من السمات التي لا ترقى إلى درجة المرض النفسي الخطير، أي المرض الذي يمثل اضطراباً وظيفياً كالهستيريا والحصر وما إلى ذلك.. كما لا يصل إلى درجة الأمراض السيكوباثية التي تشكل انحرافاً خطيراً في سلوك الشخصية، بل تبقى مجرد سمات عامة تعرض للأفراد جميعاً بنسب يختلف حجمها من واحد إلى آخر. فقد يصل تضخمها عند البعض إلى درجة المرض النفسي الخطير، وقد لا يصل إلى ذلك، والمهم أنها جميعاً تظل أعراضاً مرضية مفصحة عن عدم توازن الشخصية، أي أنها مؤشر إلى أن الشخصية يسمها طابع العصاب والمرض لا طابع السوية والصحة.

والمشرع الإٍسلامي حين يعنى بهذا الجانب ويحرص على تصنيف شامل لكل الصفات على النحو الذي لاحظناه إنما يأخذ بنظر الاعتبار عمومية هذه السمات وانسحاب ذلك على غالبية الأفراد مع ما يصاحب ذلك من إمكانية محوها وإجراء عمليات التعديل لها.

لكن خارجاً عن ذلك فإن الأمراض التي يخلع البحث الأرضي عليها طابع الخطورة، ونعني الأمراض العصابية المعروفة كعصاب الكآبة والنوستاتنية والهستيرية وغيرها، هذا النمط من الأمراض يتناوله المشرع الإسلامي من زاوية أخرى تتصل بالطب العقلي، بضمنها أمراض الجنون أو الذهان كما قلنا حيث يقوم الإسلام بتشخيصها مقدماً توصياته الطبية في معالجاتها وهو أمر خارج عن نطاق دراستنا النفسية الخالصة بطبيعة الحال، لكننا في الواقع لا نعدم الإشارة إلى بعض الأمراض الخطيرة أو غير الخطيرة مما يتصل بهذا النمط من الأعراض بحيث يتوفر المشرع الإسلامي عليها مشيراً إليها من خلال تصنيف ثنائي أو ثلاثي أو رباعي أو أكثر.. وفي هذا الصدد نلاحظ تصنيفات من نحو قول المعصوم (عليه السلام) في صدد بعض السمات التي لا تكاد تخلو منها الشخصية، يقول (عليه السلام): (ثلاثة لم ينجو منها المؤمنون التفكر في الوسوسة في الخلق والطيرة والحسد).

وفي صدد بعض السمات الجسمية وصلة ذلك بالمزاج يقول (عليه السلام): (خمسة خلقوا ناريين، الطويل الذاهب والقصير القميء وو..الخ).

وفي صدد بعض الممارسات  المتصلة بالوسواس من حيث المصاديق أو المفردات المجسدة لجانب من الوسوسة يقول (عليه السلام): (أربعة من الوسواس: أكل الطين تقليم الأظافر و.. الخ).

وفي صدد بعض الآثار الكيميائية وغيرها في انسحابها على سمة عقلية كالنسيان يقول (عليه السلام): (تسعة تورث النسيان: أكل التفاح الحامض وو.. الخ).

وفي صدد بعض الأمراض الخطيرة التي قد تصل إلى درجة الذهان وصلة ذلك بالمزاج يقول (عليه السلام): (فإذا حلّت به الحرارة أشر وبطر واهتز وبذخ، وإذا كانت باردة اهتم وحزن واستكان وذبل ونسي وأي).

إن أمثلة هذه النصوص تتناول تشخيص بعض السمات المزاجية والعقلية والبعض منها ينتسب إلى أمراض خطيرة كما قلنا، وبعضها ينتسب إلى ما دون ذلك، فالنص الأخير على سبيل المثال يجسد فيما يسميه البحث الأرضي بسمة المرح مقابل الاكتئاب، حيث يتصف المريض في الحالة الأولى بالانشراح المطلق والفكاهة والثرثرة وفي الحالة الثانية يتصف بالبلادة والخمول وو.. الخ.

ومثل هذا التصنيف تتناوله الأبحاث الأرضية عادة إما ضمن تصنيف ثنائي للنوع الإنساني كالمزاج الانطوائي أو الانبساطي أو الدوري في حالات العصاب الشديد أو الذهان، كما تتناول ضمن تصنيفات عامة للصفات ضمنها سمة المرح قبال الكآبة، كما أن النص الإسلامي الذي أشار إلى المزاج الناري أي قوله (عليه السلام): (خمسة خلقوا ناريين) يجسد هذا النص فيما يسميه البحث الأرضي بالشخصية الاهتياجية أو الاندفاعية قبالة ما يسمى بالشخصية المتسمة بهدوئها وتوؤددها ورصانتها.

هنا ينبغي لفت الانتباه على أن كثيراً من تصنيفات البحث الأرضي تخضع الأصول المرضية كما تقدم إلى البنية الجسمية، والأمر نفسه فيما يتصل بسمات الوسوسة والطيرة ونحوهما كما لاحظناه في التصنيفات الإسلامية المتقدمة، فالوسوسة مثلاً يتناولها البحث الأرضي عادة تحت ظاهرة مستقلة، وحيناً تحت ظواهر متنوعة يتسرب فيها الوسواس إلى أنماط العصاب من حصر وخوف وسواهما.. وهكذا فيما يتصل بالطيرة وأما الحسد فإن البحوث الأرضية تدرجه عادة ضمن سمات الشخصية بعامة، والذي يهمنا من ذلك كله أن نستخلص بأن المشرع الإسلامي من خلال تناوله المتقدم يتوفر لديه نمط آخر من التصنيف للسلوك العصابي قبالة التصنيف العام للسمات دون أن يربطها بالعصاب الفكري بل تظل نمطاً خاصاً من التصنيف للمرض على نحو ما نألفه في أبحاث الأرض.

والآن لا نزال نتحدث نحن عن التصوّر الإسلامي للسمات العصابية بشكلٍ عام، وإذا تابعنا هذا الحديث نجد أنماطاً أخرى لدى المشرع الإسلامي بالنسبة إلى تصنيف السلوك العصابي، تتوفر لدى المشرع الإسلامي بحيث ترد من خلال سياقات متنوعة يمكننا أن ندرجها ضمن السمات التي وقفنا عندها ولكن مع ملاحظة أن البعض منها يتناوله المشرّع من حيث ربط السمة بجذورها الأصلية، أو بنمط علاجها مما سنشير إليها إنشاء الله مفصلاً في حقول لاحقة من هذه المحاضرات.

لكن ينبغي أن نشير هنا إلى نمط ثالثٍ من التصنيف للسلوك المرضي وقفنا عليه عابراً حيث توفر المشرع الإسلامي عليه من خلال ما يسميه البحث الأرضي الدوافع أو الغرائز أو الحاجات المركبة لدى الشخصية، فلقد لحظنا قائمتين من الدوافع تحدثنا عن الجنس والطعام والنوم والسيطرة وما إليها، متمثلتين فيما رسمه النبي (ص) والإمام السجاد (عليه السلام) من صلة بين العصابين الفكري والنفسي، ويعنينا الآن من التصنيف المتقدم الجانب النفسي الصرف فيما يطبع العصاب هذا النمط من التعامل مع الدوافع البشرية، مع ملاحظة أن البعض منها يمثل حاجات بيولوجية والآخر حاجات نفسية حسب التصور الأرضي لمفهوم الحاجات أو الدوافع. أما التصور الإسلامي للظاهرة فمختلف عن ذلك تماماً حيث ينفي أن يسبغ عليها اسم الحاجة بل يعتبرها مجرد إشباع زائد عن الحاجة، وهذا هو أحد مواضع الافتراق بين التصور الإسلامي والأرضي، ولسوف نرى في أحاديث لاحقة إنشاء الله كيف أن المشرع الإسلامي لا يقرّ بعضاً من البحوث الأرضية التي ترسم دوافع محددة لدى البشر كالتقدير الاجتماعي والذاتي والسيطرة وما إلى ذلك.. المهم في حينه إنشاء الله سوف نحدثكم عن هذا الجانب حديثاً مفصلاً نظراً لأهميته الكبيرة حيث أن البحث الأرضي حينما يرسم الدوافع البشرية ويجعلها وكأنها دوافع فطرية لابد من إشباعها بشكل أو بآخر، مثل هذا الإقرار بمشروعية الدوافع المتقدمة وسواها إنما يمثل في الواقع انتكاساً فكرياً أو يقود الشخصية إلى انحرافات لا تلتفت إليها نظراً لعزلتها عن السماء، ولذلك فإننا كإسلاميين ينبغي أن نتوفر بشكل موسع على فهم هذه الدوافع حتى نفرز ما هو سوي منها عما هو غير سوي، أو بالأحرى حتى نفرز ما هو يمثل للحاجة الفطرية وما هو لا يمثل الحاجة الفطرية، بل يمثل حاجة فرضتها البيئة المنحرفة لدى الشخصية التي تحيا في هذه البيئة.

على أية حال لهذا الحديث مجال آخر، أما الآن نعود لقراءة النصين المتقدمين الذين مررنا بهما وهو النص الأول للنبي (ص) والنص الثاني للإمام السجاد (عليه السلام)، حيث قال النبي (ص): (أول ما عصي به الله ستة: حب الدنيا وحب الرئاسة وحب الطعام وحب النوم وحب الراحة وحب النساء) وأما الإمام السجاد (عليه السلام) فقد قال بعد أن ذكر أصول الكفر وهي الحرص والحسد والكذب: (فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو فصرن سبع خصال فاجتمعن في حب الدنيا).

هنا نلاحظ في هذا النمط من التصنيف:أولاً قيام هذا النمط من التصنيف على الدوافع أو الحاجات المألوفة لدى الكائن الآدمي، حيث يطلق عليها مصطلح (دوافع) تجوزاً من جانب وينبغي أن لا يطلق عليها مصطلح (دوافع) للسبب الذي ذكرنا جانباً منه وهو أن هناك في الواقع نمطين من الحاجات، النمط الأول هو الحاجة الفطرية التي تركب فينا كالحاجة إلى الطعام والنوم والجنس، والثاني نمط إشباع ذلك الدافع أو تلك الحاجة، فهناك فارق بين أن نحس بالحاجة إلى الطعام فنتناول الطعام، وبين أن نحس الحاجة إلى الطعام مثلاً فنتناوله من خلال السرقة مثلاً. المهم إن التصنيفات المتقدمة أو التصنيفين المتقدمين تقوم أولاً على ذكر الدوافع أو الحاجات المألوفة لدى الكائن الآدمي، ثانياً قيام ذلك على طرائق الإشباع للحاجات المذكور. ثالثاً وهذا ما ينبغي أن نلفت نظركم إليه نفي صفة الحاجة منها واعتبار ذلك نمطاً من السلوك المرضي أو العصابي، رابعاً تضمن هاتين القائمتين لنمطي الحاجة البيولوجية والنفسية.

والآن ندقق النظر في الملاحظة المذكورة نجد أن الطعام والنوم والجنس والراحة والثروة والكلام تعد حاجات أساسية لا غنى عنها البتة، إلا أن المشرع الإسلامي وهو يصوغ الكائن الآدمي موظفاً لمهمة الخلافة في الأرض، حينئذٍٍ فإنها تعد مجرد وسيلة لاستمرارية المهمة العبادية وهذا يعني أن إشباعها بقدر الحاجة هو الأسلوب المتسق مع المهمة العبادية المذكورة للإنسان أما الإشباع الزائد عن الحاجة فيمثل الحرص الذي لا ضرورة له وهو طابع مرضي دون أدنى شك، ما دام يجسد تمحوراً حول الذات وتأكيداً على إشباعها، وهذا كله فيما يتصل بالحاجات البيولوجية أو الحيوية، وأما السمات المتصلة بالجانب النفسي فإنها من الوضوح بمكان من حيث انتسابها إلى السلوك العصابي، وهذا بالنحو الدافع إلى السيطرة ودافع التفوق، والملاحظ مع الأسف كما أشرنا أن الأبحاث الأرضية تسبغ على دافعي السيطرة والتفوق مشروعية إشباعهما ما دام جزءاً محركاً لمجمل النشاط الإنساني، ولكننا كما قلنا نرى أن الإسلام ينفي هذه الصفة وأساساً ينفي كونها حاجة بل يجعلها مجرد سمة مرضية ولحسن الحظ أن بعض الدراسات المتصلة بعلم الأقوام أثبتت وقد أشرنا ذلك في مقدمة محاضرتنا إلى انعدام هذين الدافعين وغيرهما لدى بعض الأقوام، وهو أمر يتوافق مع الاتجاه الإسلامي في هذا الصدد.

المهم أن المشرع الإسلامي قد حسم المواقف حينما نفى صفة الحاجة إلى أمثلة هذه الدوافع، إلا في سياق موضوعي صرف نحدثكم عنه إنشاء الله في محاضرات لاحقة.

أخيراً بقي أن نشير إلى أن المشرع الإسلامي في تصنيفه لأبحاث العصاب يتناول فضلاً عما قدمناه الآن وما قدمناه في محاضرات سابقة أنماطاً أخرى من السلوك غائبة تماماً عن البحث الأرضي، ونعني بذلك كل ما هو داخل حسب اللغة الفقهية في قائمة المحرمات والمكروهات، بل وحتى في قائمة ما يطلق عليه بالسلوك المحايد أو المباح حيث أن للموقف الإسلامي حيال هذه المباحات تصور معين أيضاً نحدثكم عنه في محاضرات لاحقة إنشاء الله، ولكننا نريد أن نشير الآن بنحو مجمل وعام إلى أن كل ما هو داخل في اللغة العبادية أو في السلوك العبادي للإنسان يتضمن في الواقع مئات المفردات من أنماط السلوك العصابي المنهي عنه، مع ملاحظة أن البعض منها كالسرقة والقتل والقمار والخمر ونحوها، قد انتبهت البحوث الأرضية على سماتها العصابية والمرضية، أو الانحرافية الخطيرة، وأدرجتها ضمن ما يسمى بأمراض الشخصية السيكوباثية، ونحن سوف نلقي مزيداً من الإنارة على هذا الجانب في حقل لاحق من محاضراتنا. ولكننا نستهدف الإشارة ونكرر ذلك في الواقع ولا نمل من التكرار إلى أن المشرع الإسلامي هو الذي يفرز لنا أو يحسم لنا المواقف في غمرة ما نلاحظه من تفاوت في وجهات النظر الأرضية التي تبحث عن سمات المرض أو عن سمات الاستواء وحيث تتفاوت هذه المدارس والاتجاهات وتدخل في منحنيات متنوعة من المؤسف جداً أن بعض الباحثين ممن ينتسبون مع الأسف إلى الإسلام نجد أن أمثلة هؤلاء الباحثين الذين  لا يفقهون مبادئ الإسلام بمستوياتها جميعاً قد ينحرفون عن مبادئهم الإسلامية ويتجهون إلى القناعة بأمثلة ما يصدر من وجهات نظر الأرضيين وهي وجهات نظر خاطئة دون أدنى شك لسبب واضح كررناه ونكرر الحديث الآن عنه ونقول إن البشر أساساً لا ينتسب إلى الكمال العقلي والسبب في ذلك أو بالأحرى والدليل على ذلك أن البشرية لا تزال تتطور جيلاً بعد جيل، فلو كانت أساساً تملك سمة عقلية مطلقة لما كان هناك معنىً للتطور، والدليل الآخر هو ما نلاحظه من عشرات التفاوتتات الحاصلة بين حتى المعاصرين من علماء النفس، فهناك عشرات الاتجاهات وهناك عشرات الفروع داخل الاتجاه الواحد، كل ذلك يدل على أن البشر يظل غير متسم بالكمال، ولذلك فإن الإسلام لحسن الحظ قد حسم لنا كل تلك المواقف وقدم لنا وجهة نظره، ولذلك يتعين علينا كإسلاميين أن نعنى بالبحوث الإسلامية التي تفرز الفارق بين التصورات الأرضية والإسلامية وأن نلحّ ونبين للآخرين مدى أهمية المشرع الإسلامي في تناوله لأمثلة هذه الأبحاث حيث يحسم المواقف كما قلنا.

ونكتفي بهذا القدر من الكلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..