mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 44.doc

بسم الله الرحمن الرحيم  

لا نزال نتحدث عن السمات العبادية أو عن التربية العبادية حيث بدأ الحديث عن هذه التربية أو السمة متمثلاً أولاً في مفردة الإيمان ويقابلها الكفر ثم في مفردة الطاعة وتقابلها المعصية، بعد ذلك تحدثنا عن ظاهرة مستقلة هي الهدف أو النية وانعكاس ذلك على الشخصية من حيث المعطيات المترتبة على تحديد الهدف أو النية كما وازنّا بين مفهوم النية أو الهدف وبين بعض التصورات الأرضية التي اهتدت مؤخراً  إلى هذا المفهوم وضرورة توفره لدى الشخصية حتى تكتسب بذلك السمة السوية في السلوك، انتهينا من ذلك كله ووصلنا إلى ممارسات خاصة من الشعائر الإسلامية وفي مقدمتها الصلاة حيث تحدثنا عابراً عن هذه الظاهرة وانتهينا إلى ظاهرة جديدة وهي ظاهرة الصوم، وهذا ما نحدثكم عنه الآن بشكل عابر فنقول:

الصوم

إن الصوم بدوره أي مقايسةً مع الصلاة يجسّد نمطاً من الممارسات الجسمية التي تقترن بمعطيات متنوّعة في حقل الصحة البدنية مما لا تدخل بطبيعة الحال في نطاق دراستنا التربوية بقدر ما نعتزم تبيين معطياتها النفسية فحسب؛ ولعلّ التدريب على ممارسة التأجيل لشهواتنا بخاصة في ما يتعلق بأقوى دافع بيولوجي في التركيبة البشرية ألا وهو العطش والجوع، لعل التدريب على تأجيل الإشباع الحيوي لهذه الحاجة يعد أكثر مساهمة في حقل الصحة النفسية من حيث اكتساب سمات السواء، لقد وجدنا عند حديثنا عن الحاجات الحيوية وطرائق تنظيمها إسلامياً أن الحاجة إلى الطعام والشراب ومساهمة هذه الطرائق في تحسين الصحة العقلية والنفسية حيث يجيء الصوم إحدى الطرائق المشار إليها بالنسبة إلى التدريب على تأجيل الإشباع المتصل بالحاجة إلى الطعام والشراب. وأهمية هذا التدريب تكمن أولاً في كونها متصلةً بأقوى الدوافع الحيوية كما قلنا بحيث يترتب على ذلك أن يتم لدى الشخصية استعداد لتأجيل شهواتها وهذا وحده كافٍ لأن ينسحب على سائر ممارسات الشخصية التي تتطلب تأجيلاً متواصلاً ما دام الإحباط هو السمة التي تطبع الحياة بحيث لا يمكننا أن نتصوّر إمكانية أن تحقق الشخصية أياً كانت كل ما تتطلع إليه، وهو أمر يضطرها إلى أن تتقبل الإحباط. فإذا أدركنا أن تقبل الإحباط قد يتم حيناً على حساب الصحة النفسية، أي ترتب آثار الصراع والتوتر عليه حينئذٍ فإن التدريب على مواجهة الإحباط هو الذي يدع الشخصية متوازنة محتفظة بتماسكها وقدرتها على ذلك، بحيث يجيء الصوم على نحو الإلزام وعلى نحو الاستحباب أيضاً عنصراً مساهماً في تكييف الشخصية على تقبّل الإحباط.

أما المساهمة الأخرى لممارسة الصوم في حقل التدريب على عنصر الاستواء النفسي فهي التعامل مع الآخرين، معناه أن الانفتاح على الآخرين أو العنصر الغيري أو المشاركة الوجدانية أو الإيثار يعد كما حددت ذلك كل الاتجاهات النفسية والتربوية واحداً من أهم المعايير التي تفرز الشخصية السوية عن الشخصية الشاذة، فالإحساس بالجوع وبالعطش يدع الشخصية متحسسة لشدائد الآخرين ومن ثم يدفعها ذلك إلى أن تفكّر بمدّ يد المساعدة إليهم، ومجرد هذا الإحساس يكفي بأن يجرّب الشخصية على ممارسة السلوك الغيري أي التنازل عن الذات والتوجّه نحو الآخر وهو ما يكسبها صحة نفسية تتطلع إليها دون أدنى شك، وأما المساهمات الصحية الأخرى مما تتصل باستحضار صور اليوم الآخر وشدائده التي يجيء الجوع والعطش واحداً منها، وما تلمحه إلى ذلك توصيات الإسلام فإن لها لخطورة كبيرة في حقل التعديل وتدريبها على مزيدٍ من الإخلاص في ممارسة وظيفتها العبادية ما دامت الوظيفة المشار إليها تجسّد أعلى درجات الاستواء في السلوك على النحو الذي كررنا الحديث عنه.

ويلاحظ أن ممارسة الصوم تقترن بجملة من التوصيات الإسلامية التي تتجاوز نطاق التأجيل المتصل بدافعي الطعام والشراب إلى تأجيل سائر الحاجات المشروعة والشاذة، فالدافع الجنسي مثلاً مع أنه من حيث الإشباع يظل مشروعاً من خلال الحياة الزوجية إلا أن المشرع الإسلامي منعه على الصائم نهاراً وهنا أيضاً ينبغي أن لا نغفل عن معطيات متنوعة تتصل بتحسين الصحة العقلية والنفسية لممارسة الصوم ومنها على سبيل المثال ما يتصل بتنظيم الدافع الجنسي حيث ألمحت التوصيات الإسلامية إلى أن الشبق الجنسي هو في بعض أشكاله ينتسب إلى المرض إذا جاوز الحد المعتدل، كما تشير إلى ذلك ملاحظات الطب النفسي، إلى ذلك حيث أنه من الممكن أن تتم معالجة هذا الجانب وهو الشبق الجنسي من خلال كثرة الصوم، أي إن الصوم المندوب مثلاً وهذا واحدٌ من معطيات ما هو مندوب من الممارسات العبادية التي قلنا أنها تنشطر إلى ما هو إلزام وما هو ندب، يساهم في علاج بعض الأعراض كما يفسّر لنا جانباً من أهمية ما هو مندوب بالقياس إلى ما هو واجب.

هذا ولا نغفل عن أن الصوم بشكل عام يساهم في تحسين الصحة العبادية بنحوٍ ملفت، ألا وهو ما تضطلع به الإشارة التي يحرص المشرع الإسلامي على تأكيدها ألا وهي الإشارة القائلة بما مؤداه أن الصائم ينبغي أن لا يكتفي بصوم جوارحه أي ينبغي أن لا يكتفي الصائم بامتناعه عن الطعام والشراب، بل ينبغي أن تصوم جميع جوارحه النفسية أو العبادية بمعنى أن الصائم ينبغي أن يمتنع عن ممارسة أي سلوك سلبي في سياق ممارساته التي يعايشها في حياته اليومية. كأن يمتنع عن جميع المعاصي، يمتنع عن الغيبة والبهتان والكذب والغش والخداع والخيانة وو.. الخ.

على أية حال يظل الصوم كما لاحظتم الآن وسيلة لتدريب الشخصية على أن تكتسب سمة السواء بالنحو الذي حدثناكم عنه عابراً.

الحج

وبهذا نكتفي بالحديث عن الصوم لنتجه إلى الحديث عن شعيرة أخرى ألا وهو الحج، إن الحج يعد ممارسة حركية وفكرية ذات فاعلية كبيرة في تدريب الشخص على تعلّم السلوك السوي، ويجيء الإحرام أول ممارسة من أفعال الحج حيث يتمثل بزيٍّ عادي تتساوى فيه كلّ الطبقات الاجتماعية. إن بساطة الزي من جانب وردم الفوارق الطبقية بين الآدميين من جانب آخر يسهم بنحوٍ فعّال في صياغة الشخصية من حيث تقويمها لذاتها، ونحن إذا عدنا إلى معايير علم النفس الأرضي للسمات السوية لاحظنا أن التواضع أي عدم تورّم الذات، وعدم نزوعها عن نزعات السيطرة والاستعلاء والزهو يمثل واحداً من المعايير التي تفرز الشخصية السوية عن الشخصية الشاذة، ومن المعلوم أن سحق الذات من خلال تدريبها على الزي المتواضع الذي لا يشي بالزهو يعد خطوة في طريق اكتساب السمة السوية، فإذا أضفنا إلى ذلك عنصر التماثل والتساوي بين الطبقات الاجتماعية وسحق الحدود الطبقية بينهم من خلال تماثلهم جميعاً في الزي المذكور، حينئذٍ فإن خطوة جديدة في طريق اكتساب السوية ستأخذ موقعها من السلوك لدى الشخصية مما يعني في نهاية المطاف أن الشخصية ذات الإحساس المتورّم، أي المريضة ستمارس تدريباً علاجياً على تعديل سلوكها، أي ستمارس علاجاً سلوكياً في تعلّم خبرات جديدة وانطفاء لخبرات خاطئة على حدّ تعبير أو المصطلح الذي يستخدمه السلوكيون من علماء النفس والتربية.

فإذا أضفنا إلى ما تقدم سائر التوصيات المتصلة بمبادئ الإحرام لاحظنا أن التوصيات الإسلامية تحرم على المحرم كل أشكال الزهو الاجتماعي والذاتي بدءاً من تزيين الشعر وتدهينه وتعطيره مروراً بانعكاسات الزهو من خلال النظر إلى المرآة وهي تعبير عن إحساس الشخص بالاهتمام بذاته مروراً بألبسة الزينة أياً كانت، وانتهاءً بممارسة الأعمال الشاقة التي لا تتوافق مع البحث عن إمتاع الذات مثل عدم التظليل ومثل التغطية، أي تعريض الذات الجسمية إلى حرارة الشمس وإلى برودة الجو إمعاناً في تدريبها على أن تتنازل عن ذاتها وتدريبها على أن تتحمل شدائد جسمية ونفسية بالنحو الذي أشرنا إليه، أولئك جميعاً لو لاحظها الخبير التربوي لوجد أن هذا النمط من العلاج السلوكي، أي العلاج الذي يتبناه علم النفس السلوكي يشكل علاجاً فعالاً في تعديل السلوك وفي دفعه كخطوات متقدمة في طريق التخلص من أعراض المرض النفسي المتصل من تورم الذات وبأحاسيس الزهو والتعالي وبعشق الذات وبسائر ما يتصل بالتعلم الجديد، على اكتساب أحاسيس الاستقلال والجدارة والصبر والشجاعة وتحمّل الشدائد.

للمرة الجديدة نكرر بأن الخبير التربوي وحده بمقدوره أن يثمّن أهمية هذه الممارسات المتصلة بواحدٍ من أفعال الحج وهو الإحرام، في ميدان العلاج السلوكي للشخصية. أما إذا تابعنا سائر أفعال الحج لوجدنا أن التدريب المذكور على اكتساب خبرات جديدة في طريق السلوك السوي تظل من الوضوح بمكان كبير، سواء أكان ذلك يتصل بممارسة الأعمال الشاقة، أو بممارسة العمليات الوجدانية المتواصلة مع السماء أو حظر الذات عن ممارسة إشباعاتها المختلفة، فيما ألمح الإمام الرضا (عليه السلام) إلى جانب منها في إحدى ملاحظاته العيادية لعلل بعض الأحكام ومنها أحكام الحج حيث أشار (عليه السلام) إلى ذلك قائلاً: (مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد وحظر الأنفس عن الذات شاخصاً في الحرّ والبرد ثابتاً ذلك عليه دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل..) لاحظوا إن هذا النص يشير إلى حظر اللذات وتعب الأبدان والخضوع النفسي، أولئك جميعاً تعد تشخيصاً لما سبق أن أوضحناه من ممارسة الأعمال الشاقة والوجدانية وتأجيل الإشباع.

والآن نكتفي بهذا القدر من الحديث عن السمات الشعائرية أو عن التربية الشعائرية في بعض الممارسات الحيوية أو الحركية، ونتجه الآن إلى ما نطلق عليه بالتربية العسكرية بصفتها واحدةً من أنماط الممارسات الحركية من حيث صلاتها بالشعائر الإسلامية ألا وهو الحديث عن الجهاد، وهذا الحديث سوف نطيل كلامنا عليه بعكس ما حدثناكم عن الممارسات السابقة كالصلاة والصوم، بل سوف نطيل الحديث عن هذا الجانب لأسباب تتصل بطبيعة النظام العسكري وانعكاسات هذا على الشخصية بصفة أن الممارسة العسكرية تعد بالقياس إلى سواها من الممارسات ممارسةً خاصة تقترن بتعامل خاص مع الطرف الآخر بحيث قد يخيل لمن لا خبرة له نفسية و تربوية بأن التعامل مع الآخر من خلال النزعة المعادية للآخر سوف تفترق بطبيعة الحال عن التعليمات التي أشرنا إليها طوال محاضراتنا ونقصد بها التوصيات الإسلامية المطالبة بتدريب الشخصية على الحب وعلى التوافق حيث يبدو وكأن الحب والتوافق يغيبان من خلال التعامل مع العدو، ولكننا سنثبت الآن أن التعامل العسكري، أي إن هذه الممارسة التي تبدو وكأنها تحيى بمنأى عن الحب وعن التوافق الاجتماعي أو التكيف سنؤكد أو بالأحرى سنبرهن من خلال حديثنا عن هذا الجانب بأن الأمر في الواقع لا يختلف البتة عن أية ممارسة إيجابية يمارسها الشخص حيال ظاهرةٍ من ظواهر الحياة أو الحياة العبادية بتعبير أصح.

التربية الجهادية

إذن لنتحدث عن هذا الجانب وسننتخب عنواناً هو الجهاد، أو عنواناً آخر هو التربية العسكرية، وفي هذا الميدان نبدأ حديثنا فنقول:

لا نحتاج إلى أدنى تأمل في ملاحظتنا بأن الجهاد يمثل أقصى عملية تأجيل لإشباعات الشخصية، إنه تأجيل لدافع الحياة ذاته فيما تندرج كلّ الدوافع البيولوجية والنفسية والمعرفية ضمن الدافع الرئيس وهو الحاجة إلى الحياة، ومجرّد استعداد الشخصية لأن تمارس عملية تأجيل لدافع الحياة كافٍ لأن يدربها على أن تكتسب سمة السواء متمثلةً في تحمّل الشدائد في أكبر أشكالها حجماً، ولقد حدثناكم في محاضرات سابقة عبر معالجتنا التربوية لظاهرة تنظيم الدوافع ومنها التنظيم لدافع الحياة حيث حدثناكم عن ذلك مفصلاً وقارنا بين التصور الإسلامي لدافع الحياة وبين التصور الأرضي ومدى الفارقية الضخمة بينهما من حيث الانعكاسات المترتبة على كلٍّ من التصورين في هذا الميدان.

المهم نود أن نشير الآن إلى أن تأجيل الدافع إلى الحياة من خلال الجهاد الذي يعني دفع الشخصية إلى سوح المعركة ومن ثمّ الاستعداد لتقبل الموت وهو الجانب المضاد تماماً للحاجة إلى الحياة، نقول إن تأجيل هذا الدافع لا يمكن أن يحقق فاعليته المطلوبة إلا إذا اقترن بتعويض أخروي يحقق إشباعاً للشخصية أكبر حجماً ونعني به الإشباع الذي يحققه الله سبحانه وتعالى للشخصية في اليوم الآخر وهو أمر يفسّر لنا سبب احتفاظ الشخصية الإسلامية التي تمارس عملية تأجيل لدافع الحياة سبب تماسك وتوازن هذه الشخصية بالقياس إلى الشخصية الأرضية التي لا مناص لها بحكم طبيعتها التركيبية الدافعية المنحصرة في إشباع الحياة فحسب من أن تكابد صراعاً وتوتراً ناجمين من فقدانها للتعويض المذكور وهو تعويض حدثناكم عنه مفصلاً في أكثر من مناسبة.

أولئك جميعاً تعني أن المشرع الإسلامي أخذ بنظر الاعتبار طبيعة الدافع البشري موازناً بين مطالبته بأن يؤجل أحد دوافعه المهمة وبين أن يعوّضه بإشباع آخر، وإلا فإن المطالبة بتقبّل الشدائد بخاصة التضحية بالعمر دون أن تعوّض بإشباع مماثل أو أشد حجماً كما هو شأن التوصيات الأرضية المطبوعة بسمة المثالية وليس الواقعية، نقول يظل مثل هذا الأمر عديم الفاعلية بحيث لا يحقق التوازن الداخلي أو السمة السوية التي ينبغي أن تطبع الشخصية في مختلف أشكال تعاملها، المهم إن المشرع الإسلامي في مطالبته بممارسة الجهاد واستتباع ذلك تدريباً على السلوك السوي بالنحو الذي ألمحنا إليه يتابع توصياته المتصلة بممارسة السلوك المذكور في شتى الصعد التي تسهم بتعديل السلوك بدءاً من المقدمات التي تتطلبها ممارسة الجهاد وانتهاءً بسائر أشكال التعامل التي تتطلبها الممارسة المذكورة، ونحن إذا دققنا النظر في التوصيات الإسلامية في هذا الميدان لاحظنا مدى فاعلية ممارستها في ميدان التدريب أو التربية أو تعلم السلوك السوي بحيث تضع الشخصية المجاهدة في تجربة التعديل للسلوك، وهذا كله من حيث انعكاسات ذلك على الشخصية المجاهدة، أما انعكاسات ذلك على الطرف الآخر ومن ثم على ما نطلق عليه مصطلح القيم الإنسانية التي يفرزها أو تفرزها عملية الجهاد في التصور الإسلامي فأمرٌ آخر يتصل كما قلنا بظاهرة الحب وظاهرة التكيف حيث قلنا أن الملاحظ العابر قد لا يستطيع أن يصل بسهولة بين توصيات الإسلام الآمرة بالحب وبالتكيف وصلة هذا الحب وهذا التكيف بممارسة تبدو وكأنها مضادة تماماً للحب وللتكيف ألا وهي الجهاد بصفة أن الجهاد يعني بغض العدو ومن ثم يعني عدم التكيف مع العدو.

إذن في هذا الميدان من غير الممكن أن يثار أكثر من سؤال يحوم على العملية المشار إليها إلا أننا سنبرهن كما أشرنا سابقاً على أن الجهاد في هذا الميدان سيبرز أو سيفرز دلالاته النفسية والإنسانية بنحوٍ لم يخطر على بال التربية الأرضية، ولذلك سننتخب لكم عنواناً الآن هو عنوان (الجهاد في دلالاته النفسية والإنسانية) تعبيراً عن أهمية الجهاد من حيث منعكساته النفسية من جانب على المجاهد، ومن حيث دلالاته الإنسانية التي يتحسسها العدوّ نفسه من جانب آخر، ومن ثمّ نقدّم المسوّغات المتنوّعة التي تجعل الجهاد في الواقع عملاً إنسانياً وليس عملاً عدوانياً، وهذا ما نبدأ بتوضيحه الآن.

نبدأ حديثنا عن الجهاد في دلالاته النفسية والإنسانية من الإشارة إلى واحدةٍ من الحقائق المعروفة في حقل الاجتماع البشري أو بالأحرى علم الاجتماع، حيث أن هذه الحقيقة تشير إلى أن ثمة عمليتين في السلوك الاجتماعي، هاتان العمليتان يطلق عليهما مصطلح الضبط أو العقاب الاجتماعيان بحيث تشكلان هاتان العمليتان ضرورة لا مناص منها في المجتمعات بعامة، أياً كانت تركيباتها وأنساقها الحضارية، والسرّ في ذلك يعود إلى أن الدوافع البشرية ومنها الدافع إلى الأمن حيث حدثناكم عن الدافع إلى الأمن مفصلاً عند محاضراتنا عن تنظيم الدوافع الحيوية وبينا في حينه كيف أن هذا الدافع يحرّك الشخصية وفق مستوياتٍ تكاد لا تتماثل مع الحديث عن الدوافع الأخرى من حيث الأهمية المرتبطة بحجم الإشباع لهذا الدافع.

المهم نقول يعود السر في ذلك إلى أن الدافع إلى الأمن ومطلق الدوافع الملحّة والحرص على تدفّق هذه الحاجات واستمرارية ذلك، كل ذلك يتطلب نمطاً من التفاهم الاجتماعي على رسم المبادئ والقوانين التي تضطلع بمهمة التنظيم للحاجات الأساسية المذكورة.

إذا كنا جميعاً على إحاطة كاملة بأن الكائن الإنساني تبعاً لتركيبته القائمة على الاصطراع بين نزعتي الخير والشر لا يكاد يكف عن إشباع رغباته غير المشروعة حينئذ فإن الحاجة إلى ضبط هذه الممارسة، أي إلى ضبط السلوك القائم على الاصطراع بين نزعتي الخير والشر ومحاولة إشباع الرغبات غير المشروعة حينئذ فإن الحاجة إلى ضبط هذا الإشباع بالنسبة إلى الرغبات غير المشروعة والحد منها، أو التقليل منها أو إزاحتها أساساً تظل من الضرورة بمكان بحيث يفسّر لنا سبب التفاهم الاجتماعي المذكور وإجماع البشرية جميعاً على هذا النحو الذي لا يتخاصم فيه اثنان ونعني به عملية ضبط الشخصية البشرية عن ممارسة إشباعاتها غير المشروعة.

وتجيء النزعة العدوانية في مقدمة الرغبات غير المشروعة لدى الكائن البشري كما أن نزعات السيطرة والعلوّ وسائر أشكال التأكيد على الذات تظل في الصميم من تحركات قوى الشر في أعماق الإنسان، تبعاً لما يفرزه المحيط من ثقافات منحرفة في صياغة الإنسان، وما تفرزه الوراثة حيناً وفق حالات طارئة من الانحراف أيضاً فيما يستتلي ذلك جميعاً كما أشرنا صياغة عمليات الضبط أو العقاب اللذين يفرضهما الإنسان نفسه لتأمين حاجاته في الواقع.

وهذا كله في نطاق مجتمع محدد يتمثل من حيث أكبر وحداته في شكل دولة مثلاً، أما في نطاق المجتمع الدولي فإن عمليات الضبط والعقاب قد تنحصر فاعليتها بعض الشيء نظراً لتفكيك الروابط الاجتماعية بين الأسرة الدولية وخضوعها لطابع الاستقلال، إلا أن مبادئ الضبط ومبادئ العقاب لا أقل في نطاق النظر تفرض هيمنتها على الدول متجسدةً فيما يعرف بالمواثيق الدولية التي نألفها في عالمنا المعاصر. إلا أن الملاحظ أن مبادئ الأرض المضادة عن مبادئ السماء تظل مطبوعة بالانحراف وهو أمر لا ينفصم في الواقع عن شخصية أصحابها الذين يجذبهم أحد طرفي الصراع وهو الشر مما يفقد مبادئ الضبط والعقاب فاعليتها بالنحو السليم أو على الأقل في حالة افتراضنا بوجود نماذج سوية من البشر فإن القصور المعرفي الذي يغلفهم بسبب عزلتهم عن السماء يجعل مبادئ الضبط أو العقاب مطبوعة بالسمة ذاتها أيضاً، أي ضآلة فاعليتها ما دامت لم تقف عند حقيقة التركيبة البشرية وطبيعة وظيفتها وصلتها بمبدع الكون واليوم الآخر.

إن ما نستهدفه من الملاحظات المتقدمة هو أن نشير إلى مشروعية كل من عملية الضبط والعقاب بما تستتبعانه من ممارسات خاصة وفي مقدمتها استخدام القوة، سواء أكان ذلك متصلاً بقوانين الأرض أو قوانين السماء، وضرورة مثل هذا الاستخدام في تحقيق الحاجة إلى الأمن واستمرارية تدفق سائر الحاجات المشروعة الأخرى.

والحق أنه ليس إزاحة العدوان وحده يتكفل بانتظام حاجتنا إلى الأمن، أو حاجتنا إلى الحياة، بل إن نمط الثقافة أو القيم التي تشبع الدوافع البشرية في أشكالها المشروعة، عبر تحقيقها التوازن الداخلي للشخصية والتوازن الاجتماعي للأفراد والرهوط والمجتمعات، نقول هذه القيم أيضاً تتطلب استخدام القوة في حالة الانحراف الذي يعصف بالتوازن الفردي والاجتماعي اللذين لا مناص من تحقيقهما وإلا لانتفت دلالة الحياة والإحساس بالحاجة إليها.

إذن في الحالتين، أي في حالة الحاجة إلى الأمن والحاجة إلى الحياة أساساً لا مناص من الالتزام بمبادئ عامة تستلزمها مصلحة الآدميين من حيث تحقق التوازن الفردي والاجتماعي لهم، حيث يجيء استخدام القوة في سياق خاص بطبيعة الحال أمراً لا غنى عنه البتة بخاصة حيال الشواذ الذين بلغوا قمة الانحراف سواء أكان ذلك في نطاق فردي محدود أو نطاق اجتماعي ساهمت ظروف طارئة أو مستديمة في تثبيت سمة الانحراف فيهم.

من هنا عبر الأطر الاجتماعية للانحراف تجيء الثورات السياسية مثلاً تعبيراً أصيلاً عن الحاجة إلى تصحيح القيم ومسح الانحراف بغية تحقيق التوازن الداخلي والخارجي للأفراد والمجتمعات، ويجيء الإسلام بصياغة خاصة في تصحيح القيم متمثلاً في ممارسة الجهاد في سبيل الله، بصفة أن الإسلام يجسد رسالة السماء التي أبدعت الإنسان وجعلته خليفة في الأرض مما يترتب على ذلك أن يمارس مسؤوليته بالنحو الذي يتساوق مع طبيعة التركيبة البشرية التي كيفتها السماء ورسمت طرق التعديل والضبط للسلوك الصادر عن التركيبة المذكورة.

إذن الجهاد ممارسة تعديل وضبط للسلوك سواء أكان الانحراف نابعاً من شيوع العدوان، أم نابعاً من الثقافات والقيم غير المتسقة مع خلافة الإنسان في الأرض، إلا أن الملاحظ من خلال التوصيات فضلاً عن وقائع التاريخ الإسلامي ذاته أن ممارسة الجهاد قد اكتسبت طابعاً متميزاً في دلالاته الانسانية من خطوط متنوعة قد أفرزتها دلالته المذكورة وهو ما نستهدف الإشارة إليه في هذا الحقل التربوي الذي نحدثكم عنه مع ملاحظة أننا عبر محاولتنا لإبراز هذه الدلالات لا نحرص على إفراز الجهاد الابتدائي عن الدفاع ولا قتال الكفار وإفراز ذلك عن البغاة إلا في نطاق يتصل بتحديد الدلالة الإنسانية، أي أن كل واحد منا إذا قدر له أن يقف على الفارقية بين الجهاد الابتدائي في الإسلام وافتراق ذلك عن الجهاد الدفاعي من جانب ثم قتال الكفار وإفرازهم عن البغاة، أي قتال العدو الخارجي وافتراق ذلك عن العدو الداخلي، أولئك جميعاً لو سمحنا لأنفسنا بالحديث عن تفصيلات كل هذه المستويات من الفارقية بين أنماط القتال المشار إليها نقول إذا قدر لنا أن ندخل في هذه التفصيلات فإن الحديث ليطول ولكننا سنختصر ذلك ونقف عند الخطوط العامة بالنسبة إلى الجهاد بنحوه الإجمالي وبما يفرزه أيضاً بالنحو الإجمالي من خطوط إنسانية على النحو الذي سنحدثكم به إنشاء الله تعالى في محاضرة لاحقة، حيث نبدأ حديثنا في حينه عن ممارسة الجهاد من خلال مقدمات ذات أهمية خاصة وهي مقدمة سلمية تماماً ونعني بها الإشارة أو التوصيات الإسلامية المتنوعة التي تحرص تماماً على أن تبيّن للبشر جميعاً بأن المقاتلة أو مقاتلة العدو بطبيعة الحال ينبغي أن تسبق بممارسات إنسانية متمثلة في أول ما تتمثل به نقنع العدو أولاً إلى أن يستجيب لرسالة الإسلام وألا نبدأ بقتاله البتة إلا إذا بدأ هو ذلك أولاً.

المهم سوف نبدأ حديثنا عن هذا الجانب وعن سائر الجوانب التي تشع بالإنسانية على النحو الذي ستلاحظوه إنشاء الله وإلى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..