المادة: العقائد
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 007.doc

طريقة علماء الكلام

تتكون هذه الطريقة من قياسين منطقيين، تقع نتيجة أحدهما مقدّمة للقياس الثاني على النحو التالي:

(1) - العالم متغيرّ.

(2) - وكل متغيّر حادث.

إذن العالم حادث.

أمّا دليلنا على أن العالم متغيّر، فهو ما نشاهده في الكون وما يجري فيه من تغيير وتبديل فالتغيير في الكواكب وأوضاعها، والحيوانات، والنباتات، وحتى الجمادات.

ومن هذا تبدل الليل والنهار، وتعاقب الشمس والقمر، والجزر والمدّ في البحار، والفيضان والصيهود في الأنهار، وتكّون الالتواءات والتعاريج في مسير الأنهار واختلاف فصول السنة.

والمراحل التي يمرّ بها الإنسان، من كونه نطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى جنين، ثم طفل يولد في الحياة، ويتكامل حتى يصبح شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم يموت. وكذلك النباتات نجدها تارة مورقة وتارة ذابلة..الخ.

هذه كلها تدلّنا على أن (العالم متغير).

وأما دليلنا على أن كل متغيّر حادث، فهو أن كلّ حالة جديدة فهي تأتي بعد انعدام الحالة السابقة، وفي نفس الوقت فهي لم تكن عند وجود الحالة السابقة.

والآن نجعل النتيجة مقدمة لقياس آخر فنقول:

(1) - العالم حادث

(2) - وكل حادث يحتاج إلى مُحِدث.

إذن: العالم يحتاج إلى مُحدث.

هذا المُحِدث لا يمكن فرضه حادثاً، لأنه سيحتاج إلى مُحدث أيضاً، فإن كان مُحدثه الحادث الأول لزم الدور وهو باطل، وإذا كان مُحدثه أمراً حادثاً ثالثاً احتاج هو الآخر إلى مُحدث، فإن كان حادثاً احتاج إلى مُحدث، وهكذا حتى يتسلسل، وقد ثبت بطلان التسلسل في محلّه.

إذن لابد أن يكون المُحِدث للعالم قديماً غير مسبوقٍ بعدم، وهو الذي نسميّه بـ (الله) أو (خالق الكون)، أو (العلّة الأولى).

وبمناسبة الحديث عن المقدمة الثانية من القياس الثاني (أي أن كلّ حادث يحتاج إلى مُحدث)، ربما يثار السؤال التالي:

ما الحاجة إلى فرض مُحدث لكل حادث؟!!

قد توجد الأشياء في هذا الكون بصورة تلقائية وعن طريق الصدفة، فما المانع؟! ولذلك فمن الضروري أن نفصلّ القول في نفي الصدفة فنقول: يمكننا الاستعانة بحساب الاحتمالات لهذا الغرض، وبموجب هذه الطريقة نجد أن احتمال حدوث شيء بسيط من طريق الصدفة يتوقّف على وقوع ملايين الملايين من المحاولات حتى يتم المطلوب.

لقد أبدع أحد المؤلفين وهو (أ. كريسي موريسون)(1) في توضيح حساب الاحتمالات، ونحاول الاستعانة به، ولكن بصورة أخرى في المثال الآتي(2).

لنفرض كتاباً علمياً يحتوي على 100 ورقة مرتّب حسب أرقام الصفحات، فإذا فرقنا أوراق الكتاب وخلطناها ثم أعطينا الكتاب بيد رجل أعمى أو أمي وطلبنا منه أن يرجعه إلى صورته الأولى فماذا سيكون منه؟

إنه أعمى أو أميّ… وعلى أي حال فلا يمكنه قراءة الأرقام ولا تمييز الصفحة الأولى من الثانية، فيلتقط من بين تلك الأوراق إحداها أملاً بأنها الورقة الأولى، فمن البديهي أن تكون نسبة عثوره على الورقة الأولى من بين الأوراق المائة 100/1.

ثم يلتقط ورقة أخرى أملاً بأن تكون هي الورقة الثانية فنسبة إصابته إلى خطأه تكون 99/1.

فإذا أراد أن يلتقط الورقتين الأولى والثانية بالتوالي فلابد وأن تكون نسبة إصابته إلى خطأه 100/1×99/1=9900/1.

أي ينبغي أن يقوم بتسعة آلاف وتسعمائة محاولة ريثما ينجح في إحداهن لالتقاط الورقة الثانية بعد الأولى مباشرة وإذا التقط ورقة أخرى أملاً بأن تكون الثالثة فالنسبة من بين البواقي هي 98/1. أما عثوره على الأوراق الثلاث تباعاً فيحتاج إلى:

100/1×99/1×98/1=970200/1.

وعلى هذا الترتيب تتصاعد النسبة، وأخيراً فإنه لا يستطيع من إرجاع صفحات الكتاب المشوشة إلى صورتها الأولى إلا بعد عددٍ هائل غير متناهٍ هو العدد (1) وأمامه (200صفر).

ولأجل أن ندرك عظمة العدد السابق نفرض أننا بعثنا كل شخص من أفراد البشر وهم الآن يبلغون ثلاث مليارات إلى كرة من الكرات السماوية ليعيشوا هناك، ولنفرض أن كلاً منهم تناسل فأوجد بقدر نفوس العالم الفعلي فيصير مجموع نفوس الكرات العدد (9) وأمامه (18 صفر)، وبعد أن تحملنا عبء عدّ هؤلاء، لنفرض أن كلاً منهم أوجد نفوساً بقدر العدد السابق فصار المجموع العدد (81) وأمامه (36 صفر).

والآن نفرض أن رجلاً ثريّاً أراد أن يعطي جميع أمواله إلى واحدٍ من هؤلاء جميعاً بقيد القرعة وكنت أنت أحد هؤلاء الذين يحتمل حصولهم على المال... فكّر في ضعف إصابة القرعة باسمك من بين هؤلاء جميعاً.

ستقول إن العدد (81) وأمامه (36 صفراً) عدد قريب من اللانهاية واحتمال الإصابة فيه ضعيف جداً.

هذا كله فيما كانت الاحتمالات بقدر 36 صفراً فكيف لو كانت 200 صفراً كما في مثال ترتيب صفحات الكتاب؟

إنه عدد يطيّر العقل ويطشّ اللب.

نستنتج من هذا المثال أن تمكن الرجل الأعمى أو الأمي من ترتيب صفحات كتاب يحوي مائة ورقة (عن طريق الصدفة) يكون قريباً من الصفر، إلى درجة يجعله من المحالات.

فكيف بك لو طبقت هذه الفرضية على خلق الإنسان بما هو عليه من دقة وإبداع وغيره من الموجودات.

وهل الإنسان وحده هو الموجود الذي تختفي في داخله الأسرار العظيمة والبراهين الساطعة على وجود الخالق القدير؟

اعتراض آخر: حيث يدّعي الخصم بأن الموجودات تكونت عن صدفة ومن غير شعور ولا تدبير يقع في مأزق حرج، إذ أننا نجابهه بقولنا: لو كان ذلك حقاً فلماذا لا تخلق الصدفة اليوم شيئاً؟

لو كان النظام الشامل تابعاً للصدفة، ولا يوجد هناك خالق للعالم وللنظام الذي فيه، فمعنى ذلك إبطال قانون العلّية العامة التي يذكرها الفلاسفة. والآن نقول: هل الصدفة حدثت مرة واحدة في حياة الموجودات أم أن الموجودات لا تزال تابعة للصدفة؟

لو اختار الخصم الفرض الأول فقد أثبت سخفه لأننا نجد موجودات حادثة وجديدة يوماً بعد يوم، فمن أين أتت؟

ولو اختار الفرض الثاني طالبناه بموجود واحدٍ في عصرنا كان وليد الصدفة.

وبهذا يثبت القائلون بالصدفة عدم استنادهم إلى دليل معقول..

ويختصر الفيلسوف الإسلامي الكبير العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي دليل المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى في الجملة التالية:(3)

((النظرة الفاحصة المدعمة بالتحقيق العلمي توصلنا إلى ارتباط أجزاء العالم فيما بينها ارتباطاً وثيقاً... هذا الارتباط لا يختص بطائفة من أجزاء الكون بل يُشاهد بصورة أدقّ وأكمل كلّما نفذنا إلى المسالك الدقيقة والأجزاء الموغلة في الصغر، وحتى أولئك الذين تمسكوا بقانون التكّيف مع البيئة فراراً من إثبات الغاية في الوجود لا مفر لهم من إثبات هذا الارتباط بين أجزاء الكون.

هذا الارتباط ليس موهوماً، بل يحكي عن حقيقة مستقلّة منفصلة عن أذهاننا، وعلى ذلك فإن العالم يكّون مع أجزائه وحدة خارجية.

هذه الوحدة الخارجية دائمة التغيّر والتحوّل، أي أنها اتصفّت بالوجود بعد العدم، لأنها حركة دائبة عامة (الحركة الوضعية والمكانية، أو الحركة الجوهرية - الذاتية -) والحركة وجود بعد العدم، أو هي وجود مشوب بالعدم.

ثم إن قانون العلّية العام يقتضي أن يكون لكل موجود حادث (الموجود الذي لم يكن ثم كان) علّة موجدة وحتى لو لم نفرض الكون أو شطراً منه متغيّراً فلا مفرّ من إثبات علّة موجدة له، لأن كلّ موجود ممكن وإن لم يكن متغيّراً فهو محتاج إلى العلّة.

نستنتج مما تقدّم أن هذا العالم يحتاج إلى علّة موجدة خارجة عنه)).

ــــــــــــــ

الهامش

(1) - راجع: العلم يدعو للإيمان، ترجمة محمود صالح الفلكي.

 (2) - المثالي الذي يذكره (كريسي موريسون) يتعلق بعشر قطع من النقود يضعها الرجل في جيبه بعد ترقيمها ثم يحاول إخراجها بالتسلسل، والمثال الذي يذكره الأستاذ أحمد أمين في كتابه (التكامل في الإسلام) يتعلق بترتيب جملة (إنسان يقظان) عن طريق الصدفة من علب الحروف المطبعة.

(3) - أصول فلسفة وروش رئاليسم ج5/89، ويعتبر الأستاذ مرتضى المطهري عن هذا البرهان بالبرهان السينوي نسبة إلى ابن سينا حيث يعتبر هذا البرهان أعلى البراهين وأدقها ج5/60.