المادة: العقائد
الملف: Microsoft Office document icon 033.doc

9- ويرى بعض المتصوفة: أن للفعل الاختياري نسبتين: نسبة ذاتية، ونسبة اعتبارية. فالفعل له نسبة ذاتية إلى الله، أما نسبته إلى الإنسان فهي اعتبارية.

10- مذهب الإمامية: القدرة وجميع العوامل الطبيعية المؤدية إلى الفعل من الله، غير أن استغلال تلك العوامل والاستفادة منها منوط بالإنسان، وهذا هو مذهب (الأمر بين الأمرين) الذي أخذوه من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

  ثلاثة اتجاهات:

ونستطيع اختصار الاتجاهات الأساسية في هذا الموضوع إلى ثلاث:

1- الجبر ومؤداه أنه لا أثر لإرادة الإنسان واختياره في أفعاله.

2- التفويض ومؤداه أنه لا أثر للقدرة الإلهية في أفعال الإنسان الاختيارية.

3- الأمر بين الأمرين ومؤداه أن القدرة على الفعل وسائر المقدمات من الله، أما الاختيار فإنه من الإنسان.

 مساجلة شعرية:

لقد كان بين أصحاب مذهب الجبر، وأصحاب مذهب الاختيار مناقشات طويلة. واحتجاجات كثيرة... زخرت بها الكتب الكلامية. واعتمدت الاحجاجات بالدرجة الأولى على الآيات القرآنية التي سنأتي على ذكرها إن شاء الله... ثم تجاوزتها إلى مساجلات شعرية بين الفريقين.

لقد أنكر المعتزلة على الأشاعرة والجهمية قولتهم وسخروا من مذهبهم بالبيتين الآتيين:

ما حيلة المرء والأقدار جارية       ***        عليه في كل حين أيها الرائي

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له       ***        إياك إياك أن تبتلّ بالماء

فردّ عليهم شاعر الأشاعرة (غير مكترث) بالبيتين الآتيين:

إن حفه اللطف لم يمسسه بلل      ***       ولم يبال بتكتيف والقاء

وأن يكن قدّر المولى بغرقته         ***       فهو الغريق ولو ألقي بصحراء

 سر الاختلاف:

والذي أعتقده أن سر هذا الاختلاف يكمن في نقطة واحدة في أن كلاً من الطرفين نظر إلى مسألة حرية الإرادة من زاوية واحدة مغفلاً الزاوية الأخرى...

في حين أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عالجوا المسألة من كلتا الزاويتين، وسلطوا الأضواء الإلهية على هذا الموضوع فقالوا قولتهم الخالدة: (لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين).

  نفي الجبر:

وإذا اتضح ما ذكرنا من المقدمات، نبدأ بمعالجة (شبهة الجبر) وأول ما نقوله هنا هو التمييز بين أفعالنا الاختيارية وأفعالنا الاضطرارية.

 إن أبسط الناس إدراكاً وفهماً يعلم الفرق بين ما هو واقع تحت اختياره من الأفعال وما هو خارج عن نطاق اختياره، ولو كان مجبراً على أفعاله ولم تكن له إرادة يعملها، لم يكن معنى لهذه التفرقة.

ولنضرب مثلاً بعملية الأكل، فإن الإنسان يمد يده إلى اللقمة، ويضعها في فمه، ثم يمضغها بأسنانه ويديرها بلسانه، ثم يدفعها إلى البلعوم، فتنزل إلى المريء... كل هذه الحركات اختيارية له، إن شاء فعلها وإن شاء تركها.

أما إذا نزلت اللقمة إلى المعدة، فإن الغدد تفرز اللعاب للمساعدة على الهضم أراد الإنسان أم لم يرد، والمعدة تدور فتسحق الطعام شاء الإنسان أم أبى، واندفاع الغداء إلى الأمعاء يحصل من دون تأثير لإرادة الشخص في ذلك...

وهكذا التصفية في الكبد، وامتصاص الدم لخلاصة الطعام، كل ذلك خارج عن إرادة الإنسان.

ومن قبيل الأفعال الاختيارية للإنسان الذهاب إلى المعمل أو المكتب أو السوق، والجلوس وراء المنضدة أو الوقوف وراء الماكنة، والمطالعة والكتابة... حيث يصدرها الإنسان بإرادته واختياره.

وكلنا ندرك جلياً الفرق بين النزول من السطح بواسطة السلالم وبين السقوط من الأعلى إلى الأسفل، فالأول اختياري يستطيع الإنسان الاستمرار عليه ويمكنه التوقف، في أن الثاني خارج عن اختياره، فإذا زلت قدمه يسقط ولا يستطيع الامتناع عن السقوط وهو في الاثناء.

هناك كلام لأبي الهذيل العلاف يندد فيه بالجبريين الذين يدعون أن أفعالهم غير مقدورة لهم وخارجة عن اختيارهم، (حمار بشر أعقل من بشر، لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول كبير وضربته فإنه لا يطفره ويروغ عنه، لأنه فرّق بين ما يقدر على طفره وبين ما لا يقدر عليه، وبشر لا يفرق بين المقدور له وغير المقدور).(1)

ــــــــــ

الهامش

(1)- العلامة الحلي: استقصاء النظر في الجبر والقدر ص 8