محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 34 - مكان الثورة
المبحث الثاني: مكان الثورة
لم يكن انتخاب المكان بأقل أهمية من انتخاب الزمان، إذ كان الإمام الحسين (عليه السلام) يتحرك بصورة دقيقة وهو يحمل بين كفيه تجارب الثورات التي سبقته، وأهم عامل في نجاح كل ثورة هو الاختيار المناسب للزمان والمكان، وقد عرفنا في المبحث السابق أنّ الوقت الذي ثار فيه الإمام الحسين (عليه السلام) كان هو الوقت المناسب، وقد برهن على ذلك صحة نتائج الثورة التي سنتناولها في الفصول القادمة إن شاء الله تعالى، واختيار المكان المناسب هو أيضاً من الأمور الحساسة في كل الثورات، وسنتطرق إلى الثورات التي فشلت عندما انطلقت في كل من المدينة المنورة ومكة المكرمة. أما الإمام الحسين (عليه السلام) فقد اختار العراق مكاناً لإعلان ثورته لأسباب عديدة سنذكرها في المبحث والسؤال الذي يبدو مناسباً للطرح هو لماذا لم يختر الإمام المناطق التالية: اليمن، المدينة المنورة، مكة المكرمة، بدلاً عن العراق.
أولاً: المدينة المنورة.
أول مدينة أعرض عنها الإمام الحسين (عليه السلام) هي المدينة المنورة عندما رفض مقترح البقاء في مدينة جده وكان ممن اقترح عليه ذلك أم سلمة، وكان سبب رفضه هو:
1- استيلاء معاوية ومن بعده يزيد على أكثر أراضيها بشراءها من أصحابها، فكانت ثروات المدينة بيد السُلطة أما الناس فقد كان حظهم هو الفقر المدقع فلم تصلح لتكون منطلقاً للثورة وإقامة جبهة معادية للحكم الأموي فيها.
2- وجود المعارضة التقليدية المتمثلة بعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، فهؤلاء يمثلون قنابل موقوتة من المحتمل أن تنفجر في أيّ وقت من الأوقات مثلما حدث في حرب الجمل حيث انقلب طلحة والزبير على أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن كان إلى جانبه.
3- الأغلبية الساحقة من أهل المدينة كانوا يبغضون الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) وأهل بيته، فقد ورد على لسان الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): "ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا(1) فكيف كان باستطاعة الإمام إعلان الثورة في بيئة مضادة له، وقد تغيرت الأمور بالطبع بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام).
ثانياً: مكة المكرمة.
وأعرض الإمام الحسين (عليه السلام) عن مكة المكرمة عندما طلب منه البقاء في مكة أكثر من واحد جاءه عبد الله بن الزبير عندما سمع بسفره قائلاً له: أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس (ويقصد المسجد الحرام) ويذكر أيضاً أنه قال له: إن شئت أن تُقيم أقمتُ فوليت هذا الأمر فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك فقال له الحسين: "إنّ أبي حدثني أن بها كبشاً ويستحلّ حرمتها فما أحبُّ أن أكون أنا ذلك الكبش(2).
وجاء امتناع الإمام من البقاء في مكة للأسباب التالية:
1- فيها بيت الله الحرام وأن آل أمية لا يتورعون في هدم أقدس بقعة من بقاع المسلمين عندما يضطرون إلى ذلك، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) على يقين تام بأنّ الأمويين سوف يفعلون كل شيء من أجل الانتقام من خصومهم، وقد فعلوها فعلاً في ثورة الزبير حيث ضربوا بيت الله الحرام بالمنجنيق.
2- انعدام الوعي السياسي في مكة، فقد كان أهل الكوفة أصحاب تجارة ولا هم لهم سوى الترحّل من مكان إلى مكان، فكانوا أبعد الناس عن السياسة وشؤون الحُكم لذا ما كان الإمام الحسين (عليه السلام) سيجد أنصاراً في مكة، بل ما كان سيجد بين أهلها من يعتقد بضرورة الثورة أو حتى متحمساً لعملية التغيير نتيجة نقصان الوعي السياسي والانشغال في جمع المال.
3- كانت مكة مركز قُريش وهم أنصار بني أمية وحلفائهم الطبيعيين وكانوا يبغضون أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده لأنه قَتَل شيوخهم وزعمائهم في بدرٍ وحنين والخندق، يقول أبو جعفر الإسكافي: "أما أهل مكة فكلّهم كانوا يبغضون علياً، وكانت قُريش كلها على خلافه، وكان الجمهور مع بني أمية(3).
فكيف يمكن للإمام أن يتخذ من هذا المكان مقراً له ومنطقاً لثورته بعد أن تبين له أنه لن يجد في مكة أرضية شعبية تتعاطف معه.
4- وكان في مكة عبد الله بن الزبير، وكانت المواجهة بينه وبين بني أمية قد باتت حتمية بعد أن بعث يزيد بجيش كبيرة بقيادة عمرو بن الزبير وهو أخٌ لعبد الله وكان بينهما بغضاء وأحقاد قديمة.
ومن المؤكد أنّ هذه المواجهة ستؤثر بشكل سلبي على ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) سواء لو أعلنت قبل أو بعد قيام المواجهة المحتملة بين ابن الزبير ويزيد.
5- تعرضه للاغتيال سيكون أقوى احتمالاً في مكة المكرمة سيما في موسم الحج حيث يحرم الجميع، فمن غير المستبعد استغلال بنو أمية هذه الفُرصة للتآمر على حياة الإمام وقتله في الأماكن المُقدسة منتهكين قداسة هذه الأماكن، وقد أشار الإمام الحسين (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة في جوابه على طلب عبد الله بن الزبير.
ثالثاً: اليمن.
وكان من الذين حثوا الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ترك فكرة الرحيل إلى العراق أخيه محمد بن الحنفية الذي طلب منه الهجرة إلى اليمن قائلاً له: "يا أخي إن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالك حال من مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنك أعز من بالحرم وأمنعهم".
فأجابه الإمام: "خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية فأكون الذي تُستباح به حُرمة هذا البيت، فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فإنك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد فأجابه الإمام: انظر فيما قلت(4).
وخلفية هذا المقترح الذي قدمه ابن الحنيفة هو وجود أعداد كبيرة من الشيعة في اليمن من المحتمل أن يدافعوا عنه، لكن الإمام أعرض أيضاً عن اليمن للأسباب الآتية:
1- انعزال اليمن؛ فموقع اليمن الجغرافي في نهاية جزيرة العرب يجعله بعيداً عن المُدن الإسلامية الرئيسية، ولما كانت الثورة بحاجة إلى اشعاع من الإعلام المؤثر فإنّ قيامها في اليمن سيجعلها بمنأى عن التأثير في الوعي الشعبي الأمر الذي يفقدها أهم أهدافها الحقيقية ويجعلها مجرد عملية عسكرية لا بُعد لها في الجوانب الثقافية والاجتماعية.
2- قيام أيِّ تحرك في اليمن لا يستطيع أن يترك أي تغيّر سياسي أو عسكري في السلطة المركزية وذلك بسبب بعده عن مركز السلطة، وثانياً بعده عن مركز القرار.
3- المجتمع اليمني مجتمع فقير مستضعف وقد اندفع نتيجة لحالته الاقتصادية الرديئة إلى الهجرة، وبالأخص إلى العراق، ومعنى ذلك أن اليمنيين عاجزون عن تقديم الدعم المالي الذي تتطلبه أية ثورة لشراء السلاح وتأمين حاجات الجنود.
4- أهل اليمن ليسوا أهل قتال فلم يتمرسوا الحرب في حياتهم مثل أهل المناطق الإسلامية الأخرى، وعندما غزى بسر بن أبي أرطأة اليمن سارع أهل اليمن إلى الاستسلام أمام زحف القوات الأموية مما زاد فيهم قتلاً ونهباً وهتكاً للأعراض، فتجربتهم في الحرب لا تشجع أي قائد عسكري على اتخاذ بلادهم منطلقاً لثورته التي لا يُعرف مداها الزمني.
5- صحيح أن أهل اليمن كانوا محبين لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأبنائه، لكن أكثرهم هاجروا إلى الكوفة واستوطنوها في عهد أمير المؤمنين، والإمام الحسن (عليه السلام)، فهؤلاء الذين جاؤوا إلى الكوفة كان أكثرهم من أهل اليمن وهم موصوفون بحب أهل البيت(عليهم السلام).
وقد حاول أحد الكتّاب أن يتعرض إلى هذا الموضوع وهو (علي حسين الخربوطلي) الذي أراد أن يُخطئ الإمام الحسين (عليه السلام) عندما رفض نصيحة ابن الحنفية بالذهاب إلى اليمن قائلاً: ومما يؤخذ على الحسين تخليه عن اليمن والحجاز وبهما أنصاره الحقيقيون وشيعة أبيه المخلصون، وكانت اليمن تمتاز ببعدها عن مركز الخلافة ومناعة حصونها وكثرة شعابها، فكان بوسع الحسين أن يبث دعاته في الأمصار وهو آمن مطمئن(5).
وهذا الرأي بحاجة إلى المناقشة المستفيضة، فأولاً: أنصار الحسين الحقيقيون كانوا في الكوفة وليس في اليمن، بالرغم من أن غالبيتهم ينحدرون من أصول يمنية، والأمر الثاني: ذكر الخربوطلي (بُعد اليمن)، وهو عامل في ضرر الثورة لأنه بمقدور يزيد القضاء على الإمام الحسين (عليه السلام) دون أن يعرف أحد بذلك، كما أن بعد اليمن عن المركز يصعب التأثير في الحكومة القائمة في الشام. أما مناعة حصونها وكثرة شعابها فهي تنفع لمن يريد أن يبدأ حرب العصابات فلا تنفع من يريد أن يثور على حُكمٍ ظالم متعسف، أنّ نظرية الخربوطلي تصح في حالة واحدة هي عندما يُريد الإمام الحسين (عليه السلام) الانعزال عن الحياة السياسية ويبتعد عن الأجواء المتشنجة فيذهب إلى اليمن، وهذا ما كان يريده ابن الحنفية عندما طلب منه الذهاب إلى اليمن، أراد منهُ أن يبتعد عن عيون بني أمية عندها يأمن شرهم، فقد ذكر له بعدما رفض البقاء في الحجاز: "فإن خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فإنك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد(6).
من هنا فاليمن لا يصلح كملجأ يستطيع فيه الإمام الحسين (عليه السلام) حماية نفسه فلا ينفع كمنطلق للثورة للأسباب التي ذكرناها.
وبعد أن أعرض عن هذه المواقع وجّه أنظاره نحو العراق.
العراق كله وليس الكوفة فقط.
ثمة حقيقة لا بُدّ من ذكرها في ابتداء الحديث عن الموقع الذي اختاره الإمام للإعلان عن ثورته بأنّ وجهته كانت الكوفة، لكن حركته كانت أوسع من الكوفة فقد شملت العراق بأسره، وهذه الحقيقة نلمسها من الرسائل التي بعثها إلى أهل البصرة، يقول ابن الأثير: "وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخةً واحدة إلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مِسمَع البكري، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمر بن عبد الله بن مَعْمر، يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأنّ السنّة قد ماتت والبدعة قد أحييت(7).
وكانت هناك قاعدة عريضة للثورة في البصرة يجتمعون في بيت إحدى النساء الشيعيات، يقول ابن الأثير: "واجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يُقال لها مارية بنت سعد، وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدثون فيه(8).
ولم يذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) راسل غير أهل الكوفة وأهل البصرة، وهذا يعني أنه كان ينظر إلى العراق كوحدة أقيلمية واحدة، وكان يُريد أن يفتح جبهة عريضة ضد الحُكم الأموي، تبتدئ من الكوفة التي تشمل أيضاً المناطق المجاورة لها وحتى البصرة.
وتتجلى الحكمة في هذه الاستراتيجية؛ أن تحرير الكوفة لا يكفي في ديمومة الثورة طالما كانت الجبهة المتاخمة لها وهي البصرة خارجة عن سلطة الثورة. حيث يسهّل الالتفاف حولها وإسقاطها في النهاية، وقد أثبتت تجارب الثورات أن الكوفة وحدها لا تصمد كثيراً إذا كانت البصرة في الموقع المعادي. نلاحظ ذلك في ثورة المختار، وثورة الزبير في البصرة من هنا كانت خطة الإمام الحسين (عليه السلام) أن يصنع من العراق جبهة عريضة ضد الحُكم الأموي على أن تكون الكوفة هي العاصمة والقاعدة للانطلاق، أما لماذا وقع الاختيار على العراق فلهذه الأسباب:
1- العراق هو مركز التشيّع ففي الكوفة ظهر التشيع ونمى منذُ أوائل تأسيسها وذلك على أيدي ولاتها الموالين لأمير المؤمنين من أمثال عمار وعبد الله بن مسعود اللذين زرعا بذور التشيع في هذه المدينة منذُ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قد اختارها عاصمة له لأنها كانت تمثل قاعدة عريضة للتشيع قبل أن يتولى الإمام زمام الخلافة في الدولة الإسلامية، وكان يقول لهم: يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق، ومُحبي إلى جهاد المحلين، بكُم أضرب المدُبر، وأرجو إتمام طاعة المقبل(9).
وعندما دعاهم إلى قتال أصحاب الجمل قالوا له: سر بنا إلى أمير المؤمنين حيث أحببت فنحن حزبك وأنصارك، نُعادي من عاداك ونشايع من أجاب إليك وإلى طاعتك فسر بنا إلى عدوك كائناً من كان، فإنك لن تؤتى من قلة ولا ضعف، فإنّ قلوب شيعتك كقلب رجلٍ واحد في الاجتماع على نصرتك، والجدّ في جهاد عدوك، فأبشر يا أمير المؤمنين بالنصر، واشخص إلى أيّ الفريقين أحببت، فإنا شيعتك التي ترجوا في طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب من الله، وتخاف من الله في خذلانك، والمتخلف عنك شديد الوبال(10).
وطالما أشاد أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة قائلاً: "الكوفة كنز الإيمان، وجمجمة الإسلام، وسيف الله ورمحه يضعُه حيث يشاء(11).
وقد خرجّت الكوفة أجيالاً من الشيعة الذين نشروا التشيع في كل مكان من بلاد العرب وبلاد فارس، فلا غرو أن يختار الكوفة بصورة خاصة والعراق بصورة عامة كمنطلق ثورته الكبرى.
2- أهل العراق يتصفون بالوعي السياسي أكثر من الشعوب الإسلامية الأخرى، وقد أقرّ المؤرخون بذلك فقال ابن الفقيه في وصف أهل العراق: "أهل العراق هم أهل عقول صحيحة وشهواتٌ محمودة وشمائل موزونة، وبراعة في كل صناعة مع اعتدال الأعضاء واستواء الأخلاط وسمرة الألوان(12) لذا كانت دائماً مركز للتيارات العلمية والسياسية والفكرية، فمنها انتشرت علوم العربية، ومنها انطلق الاعتزال والمنادين بحرية الإرادة البشرية، ومنها انطلقت أكثر الثورات ضد الحكم الأموي والحكم العباسي. وكانت تبدو للعيان وكأنها تحملُ في أعماقها بذور التحولات الكبيرة في المجتمع الإسلامي، فالأمة التي تتصف بالوعي السياسي هي أمة حُبلى بالأحداث الجسام، ومنذ الوهلة الأولى كانت تبدو الكوفة لأمير المؤمنين (عليه السلام) كبركان يثور ثم يسكن وهكذا قال فيها وصفاً ما أروعه في دقة الملاحظة: "كأني بك يا كوفة تمدِّين مدّ الأديم العُكاظَيّ، تُعْرَكينَ بالنوازِل وتُرْكبينَ بالزلازلِ، وإني لأعَصَمُ أنه ما أرادَ بكَ جبارٌ سُوءاً إلاّ ابتلاهُ الله بشاغِل ورماهُ بقاتِلٍ(13).
3- يُعتبر العراق قلب العالم الإسلامي جغرافياً واقتصادياً، فموقع هذا البلد بين بلاد فارس وآذربيجان وبلخ من ناحية الشرق وبلاد الشام ومصر من ناحية الغرب، ومن بلاد تفليس شمالاً حتى اليمن جنوباً جعل من العراق بحق قلب العالم الإسلامي، فجميع الطرق بين شمال العالم الإسلامي وجنوبه وبين شرقه وغربه لا بدّ وأن تمرّ بالعراق بالأخص الكوفة. وبالإضافة إلى الموقع الجغرافي فإنّ العراق يُعتبر أيضاً قلب العالم الإسلامي من الناحية الاقتصادية، ففيه الثورة الزراعية والحيوانية فيه أنواع الفواكه والتمور(14).
يذكر لنا اليعقوبي حجم خراج العراق في عهد معاوية فيقول: "وكان خراج السواد مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم، وإذا أضفنا إليه خراج كور دجلة وهو عشرة آلاف ألف درهم(15)، فيصبح المجموع: 130 مليون درهم.
وكان قسمٌ من هذه الأموال يذهب لخزينة معاوية الخاصة وتسمى بمال الصوافية، وقد بلغت مائة ألف ألف درهم(16).
بينما بلغ خراج اليمن ألف ألف ومائتي دينار، وقيل تسعمائة ألف دينار(17).
وبالمقارنة بين اقتصاد العراق واقتصاد اليمن يتبين لنا أنّ الوضع الاقتصادي في العراق أفضل (130) مرة عن الوضع الاقتصادي باليمن، وهذا عامل مهم من عوامل اختيار الإمام الحسين (عليه السلام) للعراق، مكاناً للانطلاق في ثورته. فهو بحاجة إلى أناس يتمكنون من المشاركة في الثورة مع أموالهم حتى لا ينشغل بتهيأة العُدة التي تُكلِّف مبالغ طائلة كما أنّ وجود العراق في قلب العالم الإسلامي يُسرع في إيصال أخبار الثورة إلى الشعوب الإسلامية المختلفة.
4- التنوع السكاني في العراق، فقد كانت الكوفة موطن لأكثر العشائر العربية المتعايشة بالإضافة إلى وجود أعداد كبيرة من الموالي، فقد كانت الكوفة مقسمة إلى أحياء تعيش فيها القبائل العربية، قبيلة ثقيف، وكانت تعيش بالقرب من جبانة الثوية، وبالقُرب منها قبيلة طيء تعيش حول جبانة بشر، وعلى حافة القنال كانت تعيش مُزينة والمناة.
وفي قلب الكوفة كانت تقطن قبيلة همدان اليمنية وهي تعيش بالقُرب من جبانة السبيع، ثم قبيلة بجيلة، وإلى جانبها قبيلة تميم، وعلى مقربة من الكناسة كانت تقطن قبيلة أسد بالقُرب من السجن، وخارج الكوفة كانت قبيلة أزد ثم مذحج، وعلى حافة الخندق المحيط بالكوفة كانت تقطن قبيلة النخع وبالقُرب من جبانة كندة كانت تعيش قبيلة كندة، فالقيسيون الذين كانوا يعيشون بين ثقيف وكندة بالقُرب من قصر الإمارة، وفي الطرف الآخر من حي القيسيين خارج الكوفة كان يعيش الموالي (انظر إلى التخطيط التقريبي لمدينة الكوفة صفحة 119) هذا هو التوزيع الجغرافي لمدينة الكوفة، فهي تضم مختلف القبائل العربية، فمن كل قبيلة هناك تجمعٌ سكاني في الكوفة يقوم بتمثيل هذه القبيلة.
من هنا فالتعامل مع هذه القبائل كان يعني الانتشار داخل جميع القبائل العربية وهذه الميزة لا نجدها في أيِّ بلدٍ آخر فالتنوع السكاني هو من مختصات مدينة الكوفة.
5- الكوفة حامية عسكرية وأهلها هم قوات في الخدمة أو قوات احتياطية وهم في الأصل القوات التي اشتركت في فتح بلاد فارس ثم استقرت في هذه المدينة بعد أن أمصرتها، وكان أهل المدينة حملة سلاح وعلى أهبة الاستعداد للقتال في أي وقتٍ ولذا نجد في الكثير من المعارك والحروب هذه العبارة ترد في المصادر التاريخية "وأمدوهم بأهل الكوفة(18) فقد كان الخلفاء والولاة يستنجدون بأهل الكوفة لأنهم كانوا رجالاً فرساناً وشجعاناً على استعداد للقتال، فمن الطبيعي أن يختارهم الإمام الحسين (عليه السلام) كمادة للثورة، فأكثر الذين جاؤوا إلى كربلاء كانوا ممن اشتركوا في الحروب الإسلامية المختلفة.
6- كان العراق بصورة عامة والكوفة بصورة خاصة مركز المعارضة ضد الدولة الأموية، وقد بدأت المعارضة في العراق منذُ حكم عثمان بن عفان، منذُ اللحظة التي هتف فيها والي عثمان سعيد بن العاص قائلاً: "إنما هذا السواد بستان قُريش، وكان بين الجمع مالك الأشتر فوقف قباله ليقول: أتزعم أن السواد الذي أفاده الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك(19).
منذُ ذلك الوقت والمعارضة يَشتّد أوارها ضد الحكم الأموي ولم تفتر يوماً واحداً، وبعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقف عدي بن حاتم أمام عثمان ليقول له: "والله إنّ قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا(20).
وفعلاً كان العراق كالبركان الذي كان ينتظر لحظة الانفجار، وما كانت تزيده سياسات معاوية إلاّ توهجاً وتأججاً، فقد مارس معاوية بحق أهل العراق أشدّ أنواع الظُلم والجور، ونصب على حكومته كُلّ من هبَّ ودبّ من أمثال المغيرة بن شعبة وزياد ابن أبيه الذين بالغوا في الظُلم والتعسف والذي كان يُزيد في المعارضة التي كانت تغلي في النفوس، وطالما أراد أهل العراق الثورة على معاوية لكن في كُلِّ مرة كان الإمام الحسين (عليه السلام) يأمرهم بالخلود في البيوت وانتظار موت معاوية، وها هو ذا معاوية قد مات، وأخذت الكُتب والرسائل تترى على الإمام الحسين (عليه السلام) الذي وجد نفسه وهو يواجه بركاناً عاصفاً، فإذا لم يتقدّم فسرعان ما يتفجر هذا البركان ليترك آثاره الوخيمة على العالم الإسلامي بعد أن يفقد الأمل الأخير في التغيير.
7- تلقى الإمام الحسين (عليه السلام) الرسائل من أهل الكوفة وهي تطالبه بالمجيء إلى العراق، وقد تضمنت تلك الرسائل على مواقف صريحة من قبيل: ليس علينا إمام فأقدم علينا، وفي رسالة أخرى، فإنّ الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك فالعجل العجل.. فإن شئت فأقدم على جُندٍ لك مُجندة إلى آخر هذه العبارات التي فيها استنجاد واسترحام ومطالبة ملحّة بالمجيء إلى العراق، بينما لم يحصل الإمام على رسالة واحدة من بلاد أخرى فماذا كان يجب على الإمام فعلُه؟ غير الاستجابة لمطالب أهل الكوفة والقبول بدعواتهم المكررة التي كانت تُمثل حجة واضحة على الإمام.
الهوامش:
1- شرح نهج البلاغة: 4/104.
2- الطبري: 4/289.
3- شرح نهج البلاغة: 4/103.
4- الدر المسكون: 1/109.
5- تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي: ص120.
6- الدر المسكون: 1/109.
7- ابن الأثير: 4/23.
8- ابن الأثير: 4/21.
9- الإمامة والسياسة: 1/145.
10- المصدر نفسه: 1/146.
11- ابن الفقيه: البلدان، ص113.
12- المصدر نفسه: ص199.
13- نهج البلاغة: خ47.
14- ابن الفقيه: البلدان، ص52.
15-16- تاريخ اليعقوبي: 2/233.
17- المصدر نفسه: 2/234.
18- راجع حروب بلاد الشام وآذربيجان في عهد الخلفاء.
19- ابن الأثير: 3/138-139.
20- المسعودي: مروج الذهب، 3/23.