محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 33
نتناول في هذا الفصل موضوعين هما؛ توقيت الثورة والعوامل التي ساهمت في قيام الإمام الحسين (عليه السلام) في عهد يزيد، ولم يُعلن ثورته في عهد معاوية بالإضافة إلى ذكر مبررات الثورة الحسينية.
والموضوع الآخر؛ هو الأسباب التي جعلت من العراق الموقع المناسب الذي اختاره الإمام (عليه السلام) مسرحاً لنهضته.
المبحث الأول: زمان الثورة
يقتضي الحديث في هذا الموضوع التطرّق إلى الحالة الإسلامية والاجتماعية في عهدي معاوية ويزيد حتى نستطيع أن ندرك خلفية التوقيت.
أولاً: زمن معاوية.
ذكرنا في الفصل الأول الأساليب والطُرق التي اتبعها معاوية في تنفيذ سياسته والسؤال الذي يبدو طبيعياً هو ماذا سيكون حال المجتمع وهو يُواجه مثل هذه السياسة؟ فالمجتمع الذي يتعرض لموجة من المخاوف وعمليات الإرهاب والتصفيات الجسدية، والمجتمع الذي يتعرض لسياسة التضليل والتجهيل ماذا سيكون حاله؟ والمجتمع الذي يتعرض للإغراءات السلطوية في الوقت نفسه يتعرض إلى التجويع والحصار الاقتصادي، ماذا سيكون وضعه؟ والمجتمع الذي يُدفع باتجاه مخالف لروح الرسالة الإسلامية ويعطي للأقليات المسيحية حرية الحركة في هذا المجتمع ماذا سيكون مصيره؟
والمجتمع الذي يقوم حاكمه بالسيف ويؤمن بأنه مبعوث من قبل الله وأنّ الله أرادهم حكاماً بمشيئته فماذا ستكون نهايته؟
والمجتمع الذي يتعرض إلى حملة تمزيق وبث الفُرقة والاختلاف، هذا المجتمع الذي بات فيه التمييز والتفضيل وهو يقوم على أساس عرقي أو قبلي، والذي أصبح فيه الاختلاف منهجاً وهدفاً للساسة الحاكمين.
هذا المجتمع الذي غلب عليه الجانب المادي فأصبح يركض خلف المنافع والمصالح بعد أن كانت المناقبية هدفاً لكل فرد من أفراده، هذا المجتمع الذي شهد التجزئة، والطبقية والخوف والجوع والتهديد بالقتل والذي بات لا يعرف ماذا يجري من حوله، والذي ترك حكامه يفعلون ما يحلو لهم، هذا المجتمع الذي اعتبر أولئك الحكام أئمة له وحماةً للدين فماذا سيكون واقعه السياسي والاجتماعي؟
حاول بعض المؤرخين الإجابة على هذا السؤال بشيء من الوضوح ولعل أفضل من استطاع أن يُعطينا وصفاً للمجتمع الشامي في عهد معاوية في ظل تلك السياسات هو المؤرخ المسعودي في كتابه مروج الذهب، فقد أجاد في وصف هذا المجتمع وهو يتعرض إلى سياسات معاوية قائلاً: "وبلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أنّ رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حالة منصرفهم عن صفين فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أُخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينه يشهدون أنها ناقة، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله إنه جملٌ وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكمٌ قد قضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه، وبرَّه، وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً أني أقاتلُه بمائة ألف ما فيهم من يُفرّق بين الناقة والجمل، وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أن صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: إنّ علياً هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لَعْنَ عليّ سُنّة، ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير(1).
يتناول هذا النص التاريخي أهم معالم المجتمع الشامي في ظل حُكم معاوية بن أبي سفيان، فقد اتصف هذا المجتمع بهذه المعالم:
1- الجهل المطلق، وهو جهلٌ لا يحدُّ بحدود ويكاد يصبح هذا المعلم عاماً لدى غالبية أهل الشام تقريباً.
2- التسليم المطلق والطاعة المطلقة إلى تلك الحدود التي يذكرها المسعودي في حادثة إقامة صلاة الجمعة في يوم الأربعاء.
3- الانسياق الكامل في تنفيذ سياسات معاوية دون أدنى تردد أو استنكار، وإزاء هذا المجتمع بهذه المعالم كان بوسع معاوية أن يفعل ما يُريد، أن يفتري على الحقائق وينسف أية محاولة لتوعيته وتثقيفه.
هذا هو الواقع الاجتماعي في الشام، أما في العراق فليس هو بأفضل حالاً من الشام.
وهناك صورة نلتقطها من أرشيف المؤرخين تبين واقع المجتمع العراقي في عهد معاوية ذكروا أن عبد الله بن أبي محجن الثقفي قدم على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين إني أتيتك من عند الغبيّ الجبان البخيل ابن أبي طالب، فقال معاوية: لله أنت، أتدري ما قُلت؟ أما قولك الغبي فوالله لو أن ألسن الناس جمعت فجُمعت لساناً واحداً لكفاها لسان عليّ، وأمّا قولك إنه جبان فثكلتك أمك، هل رأيت أحداً قط بارزه إلاّ قتله؟ وأمّا قولك إنه بخيل، فوالله لو كان له بيتان أحدهما من تبر والآخر من تبن لأنفذ تبره قبل تبنه، فقال الثقفي: فعلامَ تقاتلهُ إذاً؟ قال: على دم عثمان، وعلى هذا الخاتم الذي من جعله في يده جازت طينته وأطعم عياله وادخّر لأهله؟(2).
تُبين لنا هذه الحادثة جانباً من النفسية المنافقة، وازدواجية الشخصية في المجتمع العراقي، وهي نتيجة طبيعية في ظل تلك السياسة التي انتهجها معاوية في منح الإغراءات، وقد آتت هذه السياسة أكلها، إذ استطاع معاوية أن يشتري ذمم القادة والزعماء وأن يجعلهم في خدمة البلاط الأموي، والفرق بين المجتمعين، أنّ المجتمع العراقي كان يعرف الحقيقة لكنه في ظل سياسة التهديد والوعيد والتجويع لم يكن بمقدوره البوح بها، بل كان يتظاهر على عكس ما أبطن من آراء ومعتقدات، وقد نجم عن هذه العوامل حالة من الازدواجية فاقت التصوّر حتى أصبح أهل الكوفة الذين دعوا الإمام إلى المجيء إليهم في قباله وجهاً لوجه.
وبالرغم من أنّ حالة الازدواجية عمّت المجتمع العراقي فإنّ هناك نماذج وصوراً تكاد تكون فريدة من نوعها وغير قابلة للتكرار في عهود الدكتاتورية والاستبداد منها موقف صعصعة بن صوحان وتحدثه عن فضائل أميرالمؤمنين (عليه السلام) في مجلس معاوية، وهجوم عدي بن حاتم على معاوية وهو في مجلسه(3).
أمّا لماذا لم يثر الإمام الحسين (عليه السلام) في عهد معاوية، فلعدة أسباب هي:
1- احترام العهود والمواثيق التي بينه وبين معاوية:
فعلى أثر خنوع المجتمع العراقي وإذعانه اضطر الإمام الحسن (عليه السلام) أن يُصالح معاوية، ذلك الصلح الذي جنّب أهل العراق الكثير من ويلات الحرب، وقد حاول بعض شيوخ أهل العراق الدفع بالحسين (عليه السلام) بالثورة ضد معاوية بعد مصالحة الإمام الحسن له منهم سُليمان بن صُرد، وكانَ جواب الإمام الحسين له: ليكُن كل رجلٍ منكم حلساً من أحلاس بيته، ما دام معاوية حياً؛ فإنها بيعة كنتُ والله لها كارهاً، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتمُ، ورأينا ورأيتم(4).
ومنهم أيضاً: عدي بن حاتم الطائي عندما طالبه بالثورة على معاوية قال له الكلام نفسه: "أنا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل لنقض بيعتنا(5).
وظلَّ على هذا الموقف ثابتاً حتى بعد وفاة الإمام الحسن (عليه السلام)، يقول الشيخ المفيد: "روى الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السير قالوا: لما مات الحسن (عليه السلام) تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين (عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه، حتى تمضي المدة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك(6).
فقد احترم الإمام الحسين (عليه السلام) العهد الذي بينه وبين معاوية بن أبي سفيان على رغم خروقاته المستمرة له، إذ أراد الإمام ومن خلاله التزامه ببنود الاتفاقية أن يحقق ما يلي:
1- أن تكون ثورته ثورة مشروعة من جميع النواحي الشرعية والقانونية، فالثورة أية ثورة هي الخروج على المألوف وانقلاب على الحالة السائدة لكن عليها أن تحافظ على العهود والمواثيق، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا في حفاظه على الاتفاقيات والمواثيق التي أبرمها مع المشركين، وأقرّ المواثيق التي أبرمت في العهود الجاهلية.
2- تفويت الفُرصة على معاوية، فلو كانت الثورة قد انفجرت في عهد معاوية لكان قد سارع إلى استغلال ذلك ولأعلن على الأشهاد بأن الإمام الحسين (عليه السلام) خرق المواثيق، ولتمكن أن يجهض على الثورة عسكرياً ثم يُفقدها التأثير خلال إعلامه المضاد فقد آل الإمام الحسين (عليه السلام) على نفسه أن لا يضع بين يدي أعدائه أيّ مبرر وحجة لإظهاره وكأنه خارجي مارق تمرد على القانون والشريعة.
2- قدرة معاوية على تصفية الثورة مُنذ اللحظة الأولى.
فقد عُرف معاوية بقدرة هائلة على التآمر، وعبقرية في تصفية منافسيه، فقد ذكرنا في الفصل الأول جانباً من أساليب الاغتيال التي مارسها معاوية ضد خصومه، فوُصف بأنه كان يضع السُمَّ في العسل، وكان أيضاً يستخدم التناقضات السياسية والمذهبية والعرقية للتخلص من خصومه كما تخلص من ابن أثال وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في عملية مُدبرة تخلص من الاثنين معاً، فلو كان معاوية قد أحسّ بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) يُريد الثورة لكان قد أقدم سريعاً على قتله بتلك الأساليب المعروفة لديه ولكانَ دمه قد ذهب هدراً.
ولا شك أن معاوية كان يُحصي أنفاس الإمام الحسين (عليه السلام) وقد جعل عليه العيون في كل مكان يكتبون إليه بتحركاته وسكناته وبمجرد أن أحسن بعدم الرضا بعث إليه بهذه الرسالة: "أما بعد، فقد انتهت إليّ منك أمور لم أكن أظنك بها رغبة عنها إنّ أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك، في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلى قطيعتك واتق الله، ولا تردن هذه الأمة في فتنة، وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون(7) وهذه الرسالة فيها دلالة واضحة بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يجلس في بيته صامتاً بل كان يعدُّ العدة للثورة ويمهّد الطريق أمام تحرك واسع مسؤوليته الأولى هو نشر الوعي حتى عند معاوية، ففي الرسالة الجوابية على رسالة معاوية جاء فيها: "أما بعدُ، فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور، لم تكن تظنني بها، رغبة بي عنها، وإن الحسنات لا يهدي لها، ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى؛ وأمّا ما ذكرت أنه رقى إليك عني، فإنما رقاه الملاقون، المشاءون بالنميمة المفرّقون بين الجميع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً، إني لأخشى الله في ترك ذلك، منك ومن حزبك، القاسطين المملين– حزب الظالم وأعوان الشيطان الرجيم، ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين، اللذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلماً وعدوناً من بعدما أعطيته من العهود ما لو فهمته ا لعصم نزلت من شعف الجبال، أو لست المدعيّ زياداً في الإسلام، فزعمت أنه ابن أبي سفيان، وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ثم سلطتّه على أهل الإسلام، يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم على جذوع النخل، سبحان الله يا معاوية لكأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك، أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنه على دين عليّ (عليه السلام)، ودين علي هو دين ابن عمه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين، رحلة الشتاء والصيف، فوضعها الله عنكم بنا، منةً عليكم، وقلت فيما قلت، لا تردّ هذه الأمة في فتنة، وإني لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمدٍ، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإنّ أفعل فإنه قربة إلى ربي، وإن لم أفعله فأستغفر الله لديني، وأسأله التوفيق لما يحبُّ ويرضى، وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك أن لا تضرّ إلا نفسك، ولا تمحق إلاّ عملك، فكدني ما بدا لك، واتق الله يا معاوية، واعلم أن لله كتاباً لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وأعلم أنّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنة وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبياً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب ما أراك إلاّ وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية والسلام..
في هذه الرسالة تتجلى استراتيجية الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو في الوقت الذي يلتزم المواثيق التي وقعها مع معاوية ويؤكد على التزامه بها لا يرى بُداً من محاسبته على كل صغيرة وكبيرة ارتكبها بحق الإسلام والمسلمين:
والنقاط التي أثارها الإمام الحسين (عليه السلام) في رسالته هذه هي:
1- إشارة إلى التصفيات الجسدية التي مارسها معاوية ضد زعماء الشيعة.
2- سياسة القتل بالظنة والأخذ بالتهمة.
3- سياسة العنف التي يُمارسها ستكون عاملاً من عوامل ظهور الفتنة.
4- إشارة إلى أن البيعة ليزيد شارب الخمر واللاعب بالكلاب بيعة باطلة.
5- خرقه للأحكام الدينية متمثلاً في إلحاقه زياداً بعائلة أبي سفيان.
6- إشارة إلى قتله كل من كان على دين عليّ.
وتعطي هذه الرسالة الدليل على عدم سكوت الإمام الحسين (عليه السلام) على ما يرتكبه الحُكم مِن جرائم، لكن في الوقت نفسه لم يكن يرى أن الوقت مناسب للثورة للأسباب التي ذكرناها.
3- قدرة معاوية على التضليل.
جنّد معوية كل من حوله بمجموعة كبيرة من وعاظ السلاطين الذين أخذوا يفتعلون الأحاديث والروايات في مدح بني أمية، على رٍأس هؤلاء يقف أبو هريرة، فقد وصل به الطمع في عهد معاوية أن افتعل أحاديث كاذبة فيه وفي بني أمية، ذكرنا طرفاً منها.
ولم يكتفِ وعاظ السلاطين باختراع الأحاديث في مدح معاوية بل افتعلوا الأحاديث للنيل من أمير المؤمنين، على رأس وعاظ السلاطين سمرة بن جُندب.
كتب إلى عماله: إن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضائل أبي تراب وأهل بيته" وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل في الفصل السابق.
واستناداً لذلك فإنّ أية حركة من قبل الإمام الحسين (عليه السلام) كانت ستواجه بالتشويه وحتى بافتعال الأحاديث الكاذبة، ولما كان الناس بتلك الصفة التي ذكرناها حيث كانوا أميين جاهلين عما يجري فإنهم قد ينخدعون بتلك الأباطيل، ومعنى ذلك أنّ الثورة ستفقد وهجها وسيقل أثرها في النفوس، ولما كانت غاية الإمام من الثورة هي توعية الناس وإيقاظهم فإن المحاولات المنتظرة من معاوية ستؤثر حتماً على نتائج الثورة.
ثانياً: زمن يزيد بن معاوية.
وفي عهد يزيد بن معاوية تغيرت أمور كثيرة.
1- انهيار معاهدة الصلح مع معاوية.
فبموت معاوية قضت معاهدة الصلح نحبها، وكان من المفترض أن تسلّم السلطة بعده إلى الإمام الحسن ومن بعده إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، ومعنى ذلك أن قيد المعاهدة الذي كان يحدد حركة الإمام الحسين (عليه السلام) قد زال إلى الأبد، وأصبح بمقدور الإمام الحركة في هذه المرة باتجاه أهدافه.
2- شخصية يزيد المهزوزة.
فهي شخصية غلب عليها اللعب والمجون، وبات لا يعطي عواقب ما يفعل حتى أن البلاذري قال عنه في معرض تحليله لشخصية يزيد، لا يهم بشيء إلاّ ركبهُ(8).
ووصفه العلامة شمس الدين: وأسلوبه في معالجة المشاكل التي واجهته خلال حكمه يعزز وجهة النظر هذه: أسلوبه في معالجة ثورة الحسين، وأسلوبه في معالجة ثورة أهل المدينة، وأسلوبه في معالجة ثورة ابن الزبير(9).
3- سقوط الدعاية الدينية.
كان منهج معاوية الظهور بالمظهر الديني وكسب الشرعية الدينية من خلال الأحاديث الكاذبة التي دفع في مقابلها الأموال الطائلة، فكان هذا الأمر يعنيه كثيراً لأنه كان يرى نفسه في تنافس مع الأئمة الشرعيين من آل البيت فلا بُدّ أن يتخذ هذا الموقف، أما يزيد فإن تربيته المسيحية البدوية، وانحلاله الأخلاقي وعدم اعتقاده بأيّ مبدأ جعله غير مهتم بهذا الأمر، فلا هو يُريد أن يظهر نفسه بالمظهر الديني ولا يُريد أن يُظهر أعدائه وكأنهم أعداء للدين، فالأمر الوحيد المهم لديه هو أن يحكم وأن يُحافظ على كرسي حكمه حتى لو اقتضى منه استخدام السيف.
4- الاعتراف العام على بيعة يزيد.
فقد واجهت معاوية حالة رفض عارمة عندما حاول تنصيب ابنه للخلافة من بعده، ولم يفلح في إقناع التيار المعارض على البيعة، بل كانت المعارضة تزداد يوماً بعد آخر لتشمل جناحاً واسعاً يضمُّ إلى جانب الهاشميين عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وسعد بن أبي وقاص، وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يتابع الوضع السياسي والظروف الاجتماعية للدولة الأموية وكان على يقين بأنّ مجيء يزيد إلى الحكم سيواجه برفضٍ واسع خلافاً لما كان عليه الوضع في عهد معاوية حيث كان أغلب الناس قد بايعوه، إما خوفاً أو طمعاً أو تقية درءً لدماء المسلمين.
من هنا فإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) في عهد يزيد لم يكُن يواجه المشكلة التي كان يواجهها في عهد معاوية، والتي واجهها أخيه الحسن (عليه السلام) وهي الخشية من تحريف تحركه في وعي الناس باستخدام الأساليب التي ذكرناها.
وبالإضافة إلى العامل السياسي المناسب ساعدت الظروف الاجتماعية أيضاً على قيام الثورة الحسينية، فقد بعث أهل الكوفة برسالة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) جاء فيها بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن علي، من سليمان بن صُرد، والمسيب، ورفاعة بن شداد، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، أما بعدُ: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي اعتدى على هذه الأمة، فانزعها حقوقها، واغتصبها أمورها وغلبها على فيئها، وتأمّر عليها على غير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، فبُعداً له كما بعدُت ثمود، إنه ليس علينا إمام فأقدم علينا لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى، فإنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجتمع معهُ في جمعة ولا نخرج معهُ إلى عيد، ولو قد بلغنا مخرجك أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام والسلام(10).
ويذكر الطبري: أنهم لم يكتفوا بهذه الرسالة فبعثوا إليه برسالة أخرى جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين أما بعدُ فحيَّهلا فإنّ الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك فالعجل العجل والسلام عليك.
وكتب شبث بن ربعي وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رُوَيم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزُبيدي ومحمد بن عمير التميمي، أما بعدُ فقد أخضر الجناب وأيْنعت الثمار وطمت الحمام فإذا شئت فأقدم على جُندٍ لك مجنّد والسلام عليك(11).
وأخذت هذه الرسائل تترى على الحسين (عليه السلام) وهي تدعوه للقيام ضد الحكم الأموي بلغ عددها حسب رواية ابن الأثير زادت على مائة وخمسين كتاباً(12).
لكن حتماً كان عددها أكثر من ذلك بكثير، ونستطيع أن نتصور عدد هذه الرسائل عند تأمّل هذه الرواية التي أوردها المؤرخون عندما أظهر حر بن يزيد الرياحي عدم إطلاعه على هذه الرسائل، فقال الإمام الحسين (عليه السلام) لأحد أصحابه: يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين أيديهم(13). فكم من الرسائل احتواهما الخرجان، قطعاً كانت أكثر مما ذكره ابن الأثير، ولربما بلغت الإثنا عشر ألف رسالة كما ذكر البعض(14).
أضف إلى ذلك أنّ هذه الرسائل جاءت موقعة من قبل عدد كبير من الأفراد، وهذا يعني أنّ استنفاراً كبيراً حدث في الرأي العام الكوفي ضد الحكم الأموي مشكلةً بذلك أرضية خصبة للثورة، وتلك الأرضية لم تكن قائمة في السابق على عهد معاوية بن أبي سفيان.
الهوامش:
1- المسعودي: مروج الذهب، 3/41.
2- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، 1/114.
3- ذكر المسعودي في مروج الذهب عدداً من هذا الصدر في الجزء الثالث.
4- الإمامة والسياسة: 1/165.
5- الأخبار الطوال: ص203.
6- الإرشاد، ص182.
7- الإمامة والسياسة: 1/179.
8- البلاذري: أنساب الأشراف، 4/1.
9- شمس الدين: ثورة الإمام الحسين، ص165.
10- الإمامة والسياسة: 2/4.
11- الطبري: 4/262.
12- ابن الأثير: 3/266.
13- الطبري: 4/303.
14- انظر ثورة الإمام الحسين للشيخ شمس الدين: ص186.